فاعلمي ـ أيتها السائلة ـ أن من ضرورات الخطاب والتفاهم أن يُعبر عن كل أحد بما يخصه ويميز جنسه ، وهذه ظاهرة قديمة في اللغات البشرية .
غير أن هناك أشياء لا صلة لها بالجنس الحقيقي ، مثل الجمادات ، كالحجر والجبل ، والمعاني ، كالعدل والكرم ، وغير ذلك.
فمثل هذه الأمور
لا يلحظ فيها تذكير ولا تأنيث ، بالمدلول الحقيقي الطبيعي لهاتين الكلمتين . وكان ذلك ـ فيما يبدو ـ هو السبب الذي جعل
بعض اللغات تقسم الأسماء الموجودة فيها إلى ثلاثة أقسام : مذكر ومؤنث ، وقسم ثالث هو ما يسمى في اللغات الهندوأوربية "
بالمحايد" NEUTER وهو في الأصل ما ليس مذكرا ولا مؤنثا .
ولكن اللغات البشرية
لم تسر كلها هذا الشوط ، على نمط واحد ، فقد وزعت اللغات السامية ـ مثلا ـ أسماء القسم الثالث ، وهو المحايد ،
على القسمين الآخرين ، وصارت الأسماء فيها إما مذكرة وإما مؤنثة ...
ومثل ذلك حدث في اللغة الفرنسية ؛ إذ ليس في أسمائها إلا التذكير والتأنيث ، وكانت الإنجليزية في ذلك أوغل من الفرنسية ...
انظر : مقدمة د. رمضان عبد التواب ـ رحمه الله ـ لكتاب " البلغة في المذكر والمؤنث " ، لابن الأنباري (37-39) .
وإذا عرفنا أن تقسيم الأشياء إلى مذكر ومؤنث ـ
حتى ما لا يوصف في واقع الأمر بذلك ـ هو من خصائص
معظم اللغات ، خاصة الحية منها الآن ؛ وليس من خصائص اللغة العربية وحدها ، فلتعلمي أن الشيء ـ أي شيء ـ إذا دار بين أن يوصف في اللغة بالمذكر أو المؤنث ، ولم يكن مما يوصف في حقيقة أمره بذلك ،
فإن اللغة ترجح الإخبار عنه بوصفه مذكرا ؛ لأنه أخف عندهم ، ولأنه الأصل ، فلا يحتاج إلى علامة ، ويتفرع عنه المؤنث ، بالعلامة الدالة عليه .
يقول إمام النحو
سيبويه ، رحمه الله : "
واعلم أن المذكر أخفّ عليهم من المؤنث لأن المذكر أول ، وهو أشد تمكناً ، وإنما يخرج التأنيث من التذكير ؛ ألا ترى أن كلمة أو وصف " الشيء " يقع على كل ما أُخبر عنه ، من قَبْل أن يُعلم أذكر هو أو أنثى ، والشيء ذكر ؟! "
كتاب سيبويه (1/22) وانظر (3/241) منه .
وإذا كان الأمر يدور بين قسمين ، أو أمرين ، أحدهما أرجح من الآخر ، ولو بوجه ما :
"
وجب ضرورة اختصاص الرب بأشرف الأمرين وأعلاهما " [ وكما في الصواعق 4/1308] .
ولذلك تجد عامة من يؤمن بأن له في السماء إلاها ،
يخبر عنه بذلك الضمير " هو " الذي هو لائق به سبحانه ، وهذا أمر فطري لا يحتاج إلى بحث ونظر أو دليل ، فلا تجد عالما أو جاهلا ، موحدا لله أو مشركا به ، إلا ويخبر بذلك عن الله سبحانه ، ولو قد تكلم أحد منهم بضمير المؤنث ، كما قالت لك تلك المسكينة ، لقاموا عليه جميعا ، وعرفوه بالجهل والضلال المبين !
فكيف إذا انضم إلى ذلك
خبر الله تعالى عن نفسه ، في كتابه الكريم ، بل في كتبه المنزلة جميعا ، بمثل ذلك الضمير ؟!!..
قال الله تعالى : (
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:73)
وقال تعالى : (
وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم:27)
وقال تعالى : (
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (الزخرف:84)
Bookmarks