مما تقرر في خلق الرب ، جل وعلا ، أنه الخلق المحكم ، فثم منه ما اشتد بنيانه ، كخلق السماوات والأرض ، فصح الإنكار والتوبيخ في قول الرب الحميد المجيد تبارك وتعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) ، وقوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ) ،
وثم ما أتقن ولو ضعيفا في الخلق والهيئة ، بل وحقيرا في العين كالذباب ،
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)
فضربت الأمثلة على حد القياس الْأَوْلَوِيِّ ، فإن من لا يخلق الذباب وهو من أحقر الخلق وأصغره في الجرم لا يخلق ما فوقه من باب أولى ، فلا يملكون خلقه ، بل ولا يملكون اسْتِنْقَاذ ما يَسْلُبُهُ من غذاء إذ دق ما استلب ، وتغير بما خرج من الذباب من سائل يحور الغذاء على وجه يسهل الامتصاص فاستحالت عينه فاستحال دركه إذ زال اسمه بِزَوال جرمه ، فالأسماء والأحكام قد علقت بالأعيان والأوصاف فالأصل بقاؤها على حالها إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يَرِدَ الْمُغَيِّرُ الطارئ ، فإذا استحالت العين استحال الاسم الذي يدل على الوصف الذي أنيط به الحكم فهو العلة التي يدور معها الحكم وجودا وعدما ، فذلك قانون يطرد في الشرع والكون جميعا ،فإذا استحالت العين استحال الاسم الدال عليها ، واستحال الحكم الذي أنيط به ،
فالطعام طاهر فإذا دخل الجوف واستحال صار شيئا آخر فلا يطلق عليه اسم الطعام إذ قد زال عنه وصفه فاستحال إلى عجين مهضوم بما ركز الرب المعبود ، جل وعلا ، في المعدة والمعي من قوى الهضم ، فذلك تفتيت ما صلب من الغذاء إلى سائل لين يسهل هضمه وامتصاصه في طور تال ، فالجزيئات الصلبة تَتَفَتَّتُ إلى جزيئات أصغر ، ومن ثم تهدم وَتَتَحَلَّلُ فصارت غذاء يجري في الْعُرُوقِ فهو بالدم ممزوج ، فَزَالَ عنه ، بداهة ، وصف الطعام ، فَزَال حكمه ، فالدم قد اختلف في حكمه ، فجمهور الفقهاء على أنه نجس ، وثم من لم يحكم بنجاسته فاستدل بجملة من الآثار ، وأجيب بأن ذلك مما قَلَّ فهو مما يعفى عن يَسِيرِهِ إذ تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، فجاء التيسير الرافع للمشقة ،
فالمشقة بالاحتراز مما عمت به الْبَلْوَى ، تلك المشقة تجلب التيسير
فذلك من رحمة الرب الحميد المجيد ، تبارك وتعالى ، وهو ، من وجه آخر ، جار مجرى ما تقدم من دوران الحكم مع علته وجودا وعدما ، فالمشقة وصف أنيط به حكم التيسير فَمَعَهُ يدور وجودا وعدما ، فإذا طرأت المشقة طرأ التيسير بالتخفيف فعفي عن اليسير في مثل هذا الموضع ، وهو حكم يطرد في جميع الموائع ، فـ : "لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ" ، كما عند الدارقطني ، رحمه الله ، في السنن ، وهو كتاب غرائب فَوُجُودُ الحديث فيه مظنة الضعف ، و : "إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ" ، على كلام في إسناده إما كله وإما زيادة : "إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ" ، وهي ، مع ذلك ، مما اعتضد بإجماع أهل العلم على العمل بها ، فعفي عن يسير النجاسة إذا خالط الماء مطلقا ، قل أو كثر ، خلافا لمن حد ذلك بالماء الكثير والقليل فاستدل بمفهوم : "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ" ، فمفهومه أن ما لم يَبْلُغِ القلتين فإنه يحمل الخبث مطلقا ، غَيَّرَ الوصف أو لم يغير ، قل أو كثر ، وأجاب بعض أهل العلم ، بأن المفهوم لا يدل على ذلك ، بل هو إذا قل مظنة حمل الخبث فلا يلزم من ذلك حمله إياه فعلا حتى يَثْبُتَ بِتَغَيُّرٍ طارئ في الوصف ، وثم من فرق في أمر الدماء بين القليل والكثير فرد ذلك إلى العرف ، وثم من حد ذلك بما لا دليل عليه فجعله حدا بَيْنَ القليل والكثير ، والأمر مبسوط في كتب الخلاف ، والراجح ، والله أعلم ، رجحان ما تقدم من التَّفْرِيقِ بَيْنَ القليل والكثير ، فالحكم بالتيسير حال وَرَدَتِ المشقة أصل من أصول الشريعة الخاتمة فهي الحنيفية السمحة ، فيعفى عن اليسير بل والكثير إذا عمت به البلوى كمن به نزف لا ينقطع ، فيلحق ، من هذا الوجه ، بمن استحيضت ،
فهي ، كما يقول أهل الفقه ، الأصل في أصحاب الأعذار فيلحق بها قياسا كل من به عذر من سلس بول أو انفلات ريح أو جرح لا يرقأ ..... إلخ ،
فيتوضأ لكل صلاة إذا دخل الوقت ويتحفظ ما استطاع ، فحاله حال ضرورة ، والضرورة تقدر بقدرها فلا يُفَرِّطُ في الاحتراز بدعوى أنه من أصحاب الأعذار ، ولا يُفْرِطُ فيه على وجه يخرجه إلى حد التَّنَطُّعِ والغلو ، فَيَحْتَرِزُ على جهة الاعتدال فيطهر المحل ويكتم الجرح ما استطاع ويتوضأ لكل صلاة إذا دخل وقتها ، ويصلي بوضوء واحد فريضة الوقت وما شاء من النوافل ما لم ينتقض وضوءه بناقض آخر ، فإذا خرج الوقت توضأ لِلْفَرِيضَةِ التَّالِيَةِ ، وإن لم ينتقض وضوءه بناقض آخر ، ففارق وضوء الصحيح من هذا الوجه ، وثم ، من أهل العلم ، من قاس وضوءه على وضوء الصحيح من كل وجه ، وهو ما رجحه بعض أهل العلم والفضل ، فيصلي به ما شاء من الفرائض ما لم ينتقض وضوءه بناقض آخر ، فوضوء الصحيح ، وهو الأصل في هذا الوجه من القياس المساوي من كل وجه ، وضوءه إذا لم ينتقض فإنه يصلي به ما شاء من الفرائض حتى يحدث فلا يتوضأ لكل صلاة ، فذلك مما نسخ على وجه ، ومما اختص به صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم إما على حد الإيجاب وإما على حد الندب فالخلاف فيه من جنس الخلاف في قيام الليل هل وجب على الجميع حولا أو يَزِيد ، ثم نسخ إيجابه في حق الجميع ، أو نسخ في حق الأمة فصار في حقها ندبا ، وأحكم في حق نبيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو واجب عليه ، فيكون ذلك مما اختص به من الأحكام ، وهو ، كما تقدم مرارا ، خلاف الأصل ، فالأصل التسوية في الحكم إلا ما اختص به آحاد من أهل التكليف
، سواء أكانوا أشخاصا بعينهم ، كما هي حال صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أحكام كالوصال في الصيام ، وكما هي حال أبي بردة بن نَيَّارٍ ، رضي الله عنه ، إذ ذبح قبل الصلاة ، فالأصل أن من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم لا نسك ، فالنسك إنما يكون بالذبح بعد الصلاة فَشُرِعَ التبكير بالصلاة بعد ارتفاع الشمس قيد رمح ، لِيَتَفَرَّغَ الناس لذبح أنساكهم ، فاستثني أبو بردة ، رضي الله عنه ، فـ : "نَعَمْ وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" ، أم أنواعا كما اختص به الذكور من أحكام القوامة والجهاد ، واختصت به الإناث من أحكام الحمل والرضاع ، والنفاس والحيض ..... إلخ ، فلكلِّ جنس من الأحكام ما يلائم حاله ، وذلك ، كما تقدم مرارا ، وهو محل الشاهد في استحالة الطعام إلى دم يجري في العروق ، ذلك من حكمة الرب ، جل وعلا ، إذ لكلِّ حال ما يلائمها من الأحكام ، ولكلِّ عين ما يلائمها من الأحكام فَتَغَيُّرُ العين يؤذن بِتَغَيُّرِ أوصافها التي أنيط بها الحكم ، طهارة أو نجاسة ، حظرا أو إباحة ، فالطعام طيب العين مباح الأكل ، والدم ، في المقابل ، نجس العين ، على الخلاف المتقدم إلا في مواضع أجمع فيها أهل العلم على نجاسته ، كالدم المسفوح ، كما في قول الرب المعبود تبارك وتعالى : (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) ، فدلالة : "أل" في الدم دلالة عهد على هذا الوجه فعفي عن يسير الدماء مما يَعْلَقُ بالعروق فهو مِمَّا عفي عن يسيره ، وذلك جار على ما تقدم من العفو عن يسير النجاسة مما يشق الاحتراز منه فهو كبول الصبي الذكر إذ ينضح ولا يغسل ، فهو ، أيضا ، مما عمت به البلوى لكثرة ما يُحْمَلُ الصبية الذكور ، فعفي عن بولهم ما لم يطعموا على جهة الاشتهاء لا الاضطرار ، فالدم ، على الخلاف المتقدم ، مما نجست عينه على قول ، فتغير الحكم من الطهارة والإباحة للمطعوم قبل أن يدخل الجوف ويستحيل ، إلى النجاسة والحظر حال دخل الجوف ، فإذا قاء الآكل أو استقاء ، فقيئه نجس على خلاف في نقضه لِلْوُضوء ، فهو ، أيضا ، مما وقع فيه الخلاف على التفصيل المتقدم ، فضابطه ، والله أعلم ، ما خرج من البدن من نجاسات من مخرج غير معتاد فلا يدخل فيه ، بداهة ، ما خرج من السبيلين من دماء أو نحوه ، فقليله وكثيره ينقض بالإجماع ، ما لم يكن صاحبه من أهل الأعذار ، كما تقدم ، كمن به جرح في أحد السبيلين فدمه لا يرقأ ، فيتحفظ ما استطاع ويتوضأ لكل صلاة ، على الخلاف المتقدم ، فهو ، أيضا ، ممن يلحق بالمستحاضة فهي الأصل في الخارج الزائد من مخرج معتاد فإذا زاد على الحد شرع له ما يلائمه من أحكام العذر ، فما خرج من السبيلين على وجه غير معتاد كالدم والحصى ونحوه ينقض بالإجماع قل أو كثر ، جف أو رطب ، فضلا عما خرج من المعتاد من فضلة البدن من بول وغائط فقليلها وكثيرها ينقض من باب أولى إلا ما جرى مجرى العذر ، كما تقدم ، فمحل الخلاف ما خرج من البدن من يسير النجاسة من مخرج غير معتاد ، كالقيء ، فالقيء ينقض على وجه ، ولا ينقض مطلقا على وجه آخر ، وينقض كثيره دون قليله فقد خرج من مخرج غير معتاد ، فالفم مدخل لا مخرج ، فذلك جار على ما تقدم من التفريق بين القليل والكثير ، فالأمر تنقسم موارده ، فثم ما يخرج من المخرج المعتاد فهو ناقض مطلقا إلا على جهة العذر ، وثم ما يخرج من مخرج غير معتاد سواء أكان مما أجمع على نجاسته كالبول والغائط أم مما اختلف في نجاسته كالدم ، فثم من أهل العلم من أخرج البول والغائط فلهما حكم يخصهما فخروجهما من البدن ينقض الوضوء مطلقا ، وإن كان لصاحب العذر ، كمن حول مجرى بوله وغائطه ، وإن كان له حكم يخصه فهو يلحق بالمستحاضة ، كما تقدم ، خلافا للدم والقيء ونحوه ، ففرق بين القليل والكثير فيها ، فالكثير ينقض ، والقليل لا ينقض ، على خلاف في حد القليل والكثير فهو مما يرجع في حده إلى العرف ، فيجري مجرى السفر إذ هو اسم أناط به الشرع حكما ولم يحد له حدا فيرجع إلى العرف في ذلك ، وثم ، من وجه ثالث من حكم بعدم انتقاض الوضوء مطلقا بخروج الدم والقيء ، ولو كثيرا ، فالقيء وإن نجس إلا أن خروجه لا ينقض الوضوء ، فلا دليل في حديث ثوبان ، رضي الله عنه ، أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قاء فتوضأ ، فذلك ، كما يقول بعض المحققين ، مِمَّا وقع اتفاقا ، وقد قامت الحاجة إلى البيان فلم يُبَيِّنْ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بل سكت في موضع البيان ، والسكوت في موضع البيان : بيان ، وإن توضأ بعد أن قاء ، فذلك فعل ، والأصل في الفعل الندبُ ، كما قرر أهل الأصول ، فيحمل وضوءه على الندب ، فغاية الأمر أن يندب الوضوء بعد القيء وأما الإيجاب فهو قدر زائد يفتقر إلى دليل من خارج من نص المعصوم الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فسكوته بيان أن لا وضوء على من قاء على حد الإيجاب ، وفعله بَيَانٌ لِنَدْبِ الوضوء بعد القيء وإن لم يجب ، وأما الدم ، فالخلاف فيه يزيد فليس خلافا في قليل وكثير فحسب بل ثم ما يزيد من الخلاف في طهارته أو نجاسته ابتداء ، فإذا استحالت العين استحال الاسم الدال عليها ، واستحال الحكم الذي يناط بها ، فالطعام ، كما تقدم ، طاهر مباح فإذا دخل الجوف فهو نجس محظور ، وإن ثبت حكم الطهارة حكما بالنظر في محله فالنجاسة في الجوف لا يناط بها حكم النجاسة إلا إذا خرجت من البدن فاختلف الحكم باختلاف المحل فحكمها بعد الخروج أنها تنقض الوضوء ويجب غسلها إذا أصابت البدن أو الثوب ، ويجب غسل المحل الذي خرجت منه سواء أكان معتادا أم غير معتاد ، خلافا لحكمها في الجوف فلا يجب غسلها ، بداهة ، حال قَرَارِهَا في الجوف ، فيشبه ، ذلك ، من وجه ، اختلاف اليد في حل المال أو حظره ، فالمال في يد السارق أو الغاصب محرم ، فإذا استأجر من يعمل له عملا مباحا وهو لا يعلم أن ماله مسروق أو مغصوب ، فالمال حلال في يد العامل وإن حرم في يد المستأجِر إذ سرقه أو غصبه فاختلف الحكم باختلاف اليد فذلك جار على ما تقدم مرارا من اختلاف الحكم باختلاف الاسم والوصف الذي اشْتُقَّ منه ، فكذلك الشأن فيما استلبه الذباب فقد تغيرت العين فتغير الحكم فخرجت عن حد المسلوب ابتداء فتعذر استنقاذه ، فذلك مئنة من عجز المخلوق ، من وجه ، وقدرة الخالق ، جل وعلا ، إذ أتقن صنع الخلق جميعا ما عظم وما صغر ، فَلَنْ يخلق المخلوق مخلوقا مثله مهما صغر وحقر في العين ففيه من آلاء الربوبية ودلائل الإعجاز ما لا يحصيه إلا رب العباد ، جل وعلا ،
الذي : (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فضرب المثل ، فذلك مما أجمل تشويقا ، وحذف عامله للعلم به بداهة ، فهو الرب الخالق ، جل وعلا ، وذلك ، من وجه آخر ، مما أبان عنه التنزيل الخاتم في قول الرب الشارع جل وعلا : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ، فيجري ذلك مجرى ما تقدم مرارا من تفسير مجمل التنزيل بمفصَّلِهِ ، فأجمل المثل ثم بُيِّنَ ، فذلك مما دل عليه الحس وشهد له علم التجريب فهو ، كما تقدم ، من دلائل الإعجاز في التنزيل ، وقد استوفى السياق شطري القسمة فأطنب في سياق الْبَيَانِ لعجز آلهتم ، فذلك مما يحسن فيه الإطناب دحضا لحججهم الباطلة ، ومن ثم ذيل بالحكم ، فـ : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ، سواء أكان المطلوب هو المدعو من دون الرب المعبود ، جل وعلا ، والطالب هو داعيه إذ ضل السبيل فدعا من لا يملك له ضرا ولا نفعا ، فـ : (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) ، أم كان الطالب هو من يطلب الذباب ليستنقذ ما سَلَبَ منه ، والمطلوب هو الذباب ، والسياق يحتمل كلا الوجهين فالجمع بينهما آكد إذ إعمال الوجوه الصحيحة الصريحة أولى من إهمال بعضها ، فذلك أصل من أصول الاستدلال الصحيح في الشريعة المحكمة ، فأبطل دعواهم في آلهتهم إذ أبان عن عجزها ، فلا تتصف بأوصاف الرُّبُوبِيَّةِ خلقا وتدبيرا ، بل ولا استنقاذا لما سلب الذباب منها ، وهو من أضعف الخلق وأحقره ، فقد عجزت أن تخلقه أو تَغْلِبَهُ ، فكيف تخلق ما يَزِيدُ عليه في الخلق ، وكيف تُدْعَى من دونه فيثبت فلها من وصف الألوهية ما انتفى عنها بداهة بانتفاء سببها وهو وصف الربوبية ، فلا إله يعبد ويشرع إلا الرب الذي خلق ودبر ، فتلك متلازمة عقلية ضرورية تعم الألوهية عبادة بالجوارح فهي العبودية الظاهرة المحسوسة ، والألوهية تشريعا وحكما ، فلا يتحاكم أصحابها إلا إلى الإله الشارع بالحكمة ، المعبود بحق ، تبارك وتعالى ، فهي ، في المقابل ، العبودية الباطنة المعقولة إذ لا تنفك عن خضوع وانقياد باطن لما قضى به الرب الشارع جل وعلا .

والله أعلى وأعلم .



منقول