المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. هشام عزمي
إن المتأمل في فلسفة القوم في الجواب عن السؤال "ماهو الفراغ" يرى أنهم في الحقيقة لا يجدون محيصاَ من إثبات شئ أنطولوجي خفي (لايمكن للحس أن يدركه) هو المتسبب في انفصال أجرام الكون عن بعضها البعض وبقاء كل منها في مكانه بالنسبة للآخر, وهذا أمر بدهي واضح ولا شك, أي أنه من الضروري أن نعتقد بوجود شئ خفي لا نراه, ولكننا مع ذلك نجزم بأنه هو المتسبب في رفع تلك النجوم في مواضعا وتعليق الأرض في وسطها وتحريك سائر الأجرام في أفلاكها على نحو ما نرى, ونحن المسلمون نؤمن بأن في الغيب المطلق ملائكة وأسباب على نحو ما نرى, ونحن المسلمون نؤمن بأن في الغيب المطلق ملائكة وأسباب غيبية لا يعلمها إلا الله, تحفظ تلك الأجسام في مكانها بما يترك فيما بينها هذا الحيز الذي نقول له "فراغ". ولا شك أنه من المشروع لنا أن نبحث فيما نراه من مشاهدات عن أثر لأي أسباب تدخل في دائرة الحس في هذه القضية, ولكن المغالطة تظهر عندما يشرع الرياضيون والفلكيون في تصور هيئة وشكل الحيز الذي يقع فيه هذا الشئ الخفي أيا ما كان, على نحو ما وصفنا لك من تحويل المجردات الذهنية المحضة إلى كيانات واقعية في الخارج, وإذا بالفراغ الذي يقع فيه ذلك العامل السببي الخفي الذي يتفق العقلاء جميعاَ على لزوم وجوده فيه, يصبح هو العامل السببي الخفي نفسه, بمعنى أن الشئ الموجود في المكان يصبح هو عين المكان نفسه (وهو تناقض), أو يتصور أنه منتشر في جميع أنحائه, بلا حجة من حس أو مشاهدة ولا شئ سوى الدعوة الفلسفية المتناقضة أو العارية عن الدليل (كاعتقاد أن الفراغ الذي تؤثر فيه الجاذبية على الأجسام هو عين الجاذبية نفسها, وأن الجاذبية ليست إلا تأثير شكل وهيئة الفراغ نفسه على الأجسام المتحركة فيه). وتراهم يستدلون على الزعم بأن "الفراغ" كيان وجودي يتمدد, بأن نمط تباعد النجوم بحسب تأويل هابل لما يسمى بظاهرة دوبلر, يبدو وكأن النجوم والمجرات نقاط واقعة على سطح كرة كبيرة ماضية في التوسع, فهل مثل هذا الاستدلال الحسي يمكن –في العقل المجرد- أن يقدم جواياَ فصلاَ فيما إذا كان الفراغ مملوءاَ كله من أوله إلى آخره بشئ مادي وجودي يتمدد وينتفخ فتتحرك معه تلك الأجسام العالقة في بطنه (أو على سطحه) كما يعتقدون, أو ما إذا كان ثمة أشياء خفية مستقلة غير متصلة تحرك تلك الأجرام كلها على هذا النحو (تسليماَ بصحة تفسير هابل في هذا الشأن)؟ كلا ولا شك! فالمشاهد الآن بالنسبة لنا إنما هو أثر ذلك الشئ أو تلك الأشياء, والاستدلال بالأثر على وجود المؤثر شئ, والاستدلال به على حقيقة وطبيعة ذلك المؤثر نفسه شئ آخر بالكلية.
يقول الفيزيائي الأمريكي براين غرين في مقدمة برنامج وثائقي بعنوان (نسيج الكون), وهو برنامج قائم على كتاب له بنفس الاسم:
نحن نتصور العالم على أنه العالم على أنه هذا المكان المملوء بكل شئ من حولنا, السيارات والبشر والمباني والأرض والسماء .. إلخ ولكن ماذا عن الفراغ؟ هذا الشئ المحيط والمتخلل لتلك الأشياء كلها؟ ماذا لو أننا أزلنا الناس من الوجود, وأزلنا السيارات والمباني وكل شئ,.بما في ذلك الأرض والنجوم والمجرات وأدق الجسيمات الذرية, كل شئ, عندها ماذا سيبقى؟ سيقول القائل : العدم, أو لا شئ, وهو مصيب في ذلك ولكنه في نفس الوقت مخطئ! فإنما سيبقى الفراغ نفسه والفراغ ليس إلا "لاشئ". إنما هو "شئ" حقيقي, له خصائص خفية حقيقة ككل شئ نراه في حياتنا اليومية, والفراغ شئ حقيقي حتى إنه قد ينحنس, وقد يلتوي وقد يتموج, وهو حقيقي إلى حد أنه قد ساعد في تكوين كل شئ من حولنا, وتشكيل النسيج نفسه.
Bookmarks