5)) أشهر الفروقات بين صحيحي البخاري ومسلم ...
ولو أن الأمر بيدي : لوددت أن أذكر نبذة ًعن كل كتابٍمِن كتب الحديث .. ولكني سأحاول هنا فقط : إماطة اللثام عن أهم الفروقات بين صحيحي البخاري ومسلم..
---
ولكن بداية ً: إليكم هذه النبذة العامة عن تاريخ تدوين الأحاديث ..
----------
-----------------
حيث من المعروف اعتماد كل الفقهاء مِن الصحابة والتابعين في شتىفتاويهم : على القرآن أولا ً.. ثم سُـنة نبيهم ثانيا ً.. ثم سُـنة الخلفاء الراشدين المهديين مِن بعده ..... وهكذا ..
وكانوا في تناقل سُـنة النبي : بعضهم يكتب : كعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه : والذي أذن له النبي في الكتابة لمعرفته باهتمامه بما يكتب وتخصيصه لصحيفة لحديث النبي فلا تختلط بالقرآن ..
وأما أكثرهم : فكان لا يكتب .. إما لأميته وعدم معرفته للكتابة أصلا .. وإما لقلة مواد الكتابة في ذلك العصر والتي جعلتهم يدخرونها للقرآن .. فكان أولئك يحفظون سنة النبي في صدورهم ثم يتناقلونها شفاهة عند الحاجة أو الوعظ أو التعليم ..
وبالطبع كان على رأس هؤلاء أبو هريرة وأنس وعبد الله بن عمر وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم ..
وظلت السنة مفرقة هكذا (شفاهة وتدوينا) وإلى أن :
بدأ التجميع والتدوين لسُـنة النبي صلى الله عليه وسلم في سنة 99 هـ :
وكان ذلك بأمر ٍمِن الخليفة الراشد (عمر بن عبد العزيز) رحمه الله .. والذي أوكل إلى (أبي بكر بن حزم) أن يجمع مِن البلاد والأمصار : سُـنة رسول الله قائلا ًله :
" انظر إلى سُـنة رسول الله فاكتبها : فإني خفت دروسالعلم (أي اندراسه واختفائه) وذهاب العلماء (أي بالموت) " ..
فقام (ابن شهاب الزهري) رحمه الله تعالى بتلك المهمة عنهما ... وهو الذي عاصر أنس بن مالك رضي الله عنه وسهل بن سعد الساعدي وغيرهم ..!
(وهنا ليس لنا إلا أن نضحك على سفهاء الملاحدة والنصارى ومنكري السنة والعلمانيين والشيوعيين الاشتراكيين وغيرهم : أنهم حينما يريدون التشكيك في السنة والأحاديث يدعون أنها لم تكتب إلا بعد قرنين أو ثلاثة أو أربعة - ولاحظوا : مجرد كتابتها وليس حتى جمعها ! -ثم يستدلون بتاريخ حياة وموت البخاري رحمه الله !!.. وكأنه أول مَن قام بكتابة وجمع الأحاديث هكذا من نفسه !!!!.. ونسوا أن النبي كان يملي أحيانا ًالرسائل لصحابته ولرسله إلى الملوك والقبائل ! وأن من الصحابة مَن كان يكتب عنه كعبد الله بن عمرو كما تقدم ! ثم الصحابة يتناقلونها شفاهة .. ويأخذها عنهم التابعين وتابعيهم ! حتى أن أبا حنيفة نفسه في نهاية القرن الأول كان يروي الأحاديث عن حماد : عن نفر من الصحابة ! ومن بعده الإمام مالك .. ثم الشافعي ثم أحمد : ومعهم الكثير من
معاصريهم كابن معين وغيرهم !!.. وما معظم أحاديث البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والنسائي وأبي داود وغيرهم إلا من تلك المصادر ولكن مع انتقاء الصحيح منها .. وسبحان الله فعلا ًعلى الجهل) !!
---
واختلفت مصنفات علماء الحديث .. فأكثرهم : كان يهدفلجمع كل ما يتعلق بالنبي مِن أحاديث طالما لها أسانيد : حتى ولو كانت ضعيفة (وذلك لأنه كما قلنا : يُمكن أن تتقوى بعد .. كما أن
بعض العلماء كان يجوز العمل بالحديث الضعيف فيفضائل الأعمال كالأذكار والأخلاق الحسنة ونحوه أو الاستئناس به في بعض الأحكام والأخبار .. بل وقد وصل الحال ببعضهم مِن الخوف والورع مِن الابتداع في الدين : أنه كان يُفضل العمل بالحديث الضعيف : على أن يعمل برأيه في مسألةٍ مِن المسائل !!.. على أن يحتفظ برأيه فقط في المسائل التي ليس فيها حديث صحيح أو ضعيف بقدر الإمكان) .. وعلى ذلك :
فمِن العلماء مَن عُرف بالفعل على احتواء كتابه في الحديث : على الحديث الصحيح والضعيف وغيره :
وذلك كالإمام (أحمد) رحمه الله في مسنده ..
ومِنهم مَن عُرف ذلك من تعريفه لمصطلحات كتابه .. ولهذا حذرنا كثيرا أي أحد من التقول على أهل علم الحديث وشيوخه : لو كان بغير علم !.. حيث تخدعه بعض مصطلحاتهم في كتبهم إذا لم يكن يعرف ما يقصدون بها ....
مثال 1 :
ففي (سنن الترمذي) مثلا : وعندما يحكم على خبر أو حديث بأنه (حسن غريب) :
فحسن تعني : خلو متن الحديث ومعناه من الغرابة والنكارة والشذوذ ..
ولكن غريب تعني : أن سند الحديث فيه شيء من الغرابة أو النكارة أو الإشكال : وكلها عرضة للضعف !
ولا يُعد الخبر أو الحديث عنده صحيحا : إلا إذا نص على صحته بوضوح كقوله مثلا :
صحيح .. أو حسن صحيح أو صحيح حسن .. أو صحيح غريب أو غريب صحيح .. أو صحيح حسن غريب ..
مثال 2 :
هناك مَن يُفرق بين وصف الحديث بـ (الصحيح) .. وبين وصفه (صحيح الإسناد) أو (سنده صحيح) ..
حيث صحيح تعني : استيفائه للخمسة شروط كاملة :
عدالة الرواة .. ضبطهم للحفظ .. اتصال سندهم .. الخلو من العلة .. الخلو من الشذوذ ..
ولكن صحيح الإسناد أو سنده صحيح تعني : استيفاء أول ثلاثة شروط فقط والتي تتركز في صحة السند أكثر ..
مثال 3 :
عندما يُقال على سند حديث وما فيه من الرواة : (رجاله ثقات) أو (رجاله رجال الصحيح) :
فذلك يعني استيفاء أول شرطين فقط من الخمسة .. وهما العدالة وقوة الحفظ وضبطه .. ولا يستلزم من ذلك اتصالهم ولا خلو الحديث من العلة والشذوذ ..
فإذا فهمنا مثل هذه المصطلحات :
فهمنا كيف يتلاعب بعض أهل الأهواء بأحاديث ضعيفة أو شاذة في عمل شبهات : ويكون رجالها ثقات ليخدعوا العوام ..
-------
وعلى هذا .. فعدد محدود جدا من علماء السنة : هم الذين اهتموا بإخراج كتبا ًفي الحديث : تعتني فقط بذكر أشهر وأجمع الآحاديث الصحيحة في مختلف أمور الدين (ولذلك مثلا ًسمى البخاري كتابه بـ :
الجامع المُسند الصحيح المُختصر من أمور رسول الله) أي به مجموعة من أصح الأحاديث من كل باب من أبواب الدين وليس كل الآحاديث الصحيحة في كل باب من أبواب الدين ....
فجاء على رأسهم : البخاري - كما قلنا - ومعه الإمام مسلم كذلك رحمهما الله في صحيحيهما - وهما من تلامذة الإمام أحمد بن حنبل - ..
----
أهم الفروقات بين صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله .......
بداية ً.. يجب أن نعلم أن الإمام مسلم : قد عاصر أيضا ًالإمامالبخاري وتلقى عنهرحمهما الله .. فنقول في الفرق بين صحيحيهما :
1... مِن ناحية السند ..
يُعتبر الإمام البخاري أقوى في سنده لآحاديثه مِن الإمام مسلم .. لأن البخاري يشترط مع معاصرة الرواة لبعضهم البعض : ثبوت اللقيا بينهم .. في حين يكتفي الإمام مسلم بمعاصرة الرواة العدول لبعضهم البعض : حتى ولو لم تــُذكراللقيا بينهم .. لأنهم لن يدّعوا السماع في رأيه وقد عاصر بعضهم بعضا ً.. وهذا بالنسبة للآحاديث الأساسية في الأبواب : غير المتابعات .. فإذا جئنا للمتابعات : وجدنا الإمام مسلم وقد صرح بأن متابعاته : يدخل فيها غيرالصحيح .. والذي يذكره للاستشهاد أو الاستئناس أو زيادة المعنى بتعدد الروايات للحديث الواحد في مسائل الباب ...
2... مِن ناحية المُقدمة ..
لم يكتب الإمام البخاري مقدمة ًلصحيحه .. بينما فعل الإمام مسلم ذلك .. حيث ذكر فيها أهمية حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ومدى أهميته الكبيرة للدين وللأمة : ومدى أهمية حمايته مِن التحريف والكذب والوضع .. وقد نقلت منها بعض المقولات في بداية موضوعي هذا ...
3... مِن ناحية حُسن التقسيم ..
اعتنى الإمام مسلم بحُسن تقسيم الآحاديث وتبويبها اعتناءًكبيرا ً: جعل صحيحه أسهل في القراءة ومتابعة المواضيعأكثر مِن الإمام البخاري رحمهما الله .. ويرجع سبب ذلك للاعتناء الكبير مِن الإمام البخاري في المقابل : بالجانب الفقهي في صحيحه .. يُلاحظ ذلك بوضوح في أسماء أبواب صحيح البخاري .. حيث يدل اسم كل باب على نواحي فقهية في آحاديث كل باب : قد لا ينتبه إليها الكثيرون ..
ولذلك : فقد يصعب البحث في صحيح البخاري عن حديثٍبعينه لِمَن لم يقرأه أكثر مِن مرة واعتاد عليه ... وخصوصا ًوأن الإمام البخاري رحمه الله قد كرر الكثير مِن الآحاديث - أو يقتطع منها بعض الأجزاء - : ليضعها في الأبواب التي تناسبها .. مما أدى أيضا ًلتكرار الحديث الواحدبأجزائه كثيرا ًفي صحيحه .. وهو عكس ما فعله الإمام مسلم .. حيث احتفظ بالآحاديث بأكملها كما هي : ووضعها في أنسب وأعم الأبواب المناسبة لها .. مِثال :
حديث الإسلام الشهير .. وفيه عن الصلاة والزكاة والصوم والحج ... ذكره الإمام مسلم مرة ًواحدة ًفي باب الإيمان : وذلك ليشمل الجميع .. في حين ذكره الإمام البخاري في باب الإيمان مرة .. وفي باب الصلاة مرة .. وفي باب الزكاة مرة .. وهكذا
4... مِن ناحية الفقه ..
تظهر الناحية الفقهية بوضوح شديد في صحيح البخاري .. ويظهر ذلك كما قلنا بوضوح أيضا في تسميته لأبوابه ... حيث تظهر مِن كل تسمية : الناحية الفقهية التي اختاراستنباطها مِن آحاديث هذا الباب .... كما يُلاحظ تفرده واجتهاده الخاص في بعض الآراء والاختيارات الفقهية عن غيره مِن العلماء .. مما يدل على تجرده العلمي وابتعادهعن التقليد حتى ولو خالف غيره من المشاهير .. ومِن اختياراته الفقهية مثلا ً:
لا يجب الغسل مِن التقاء الختانين إلا بالإنزال (لحديث عثمانفي ذلك) : والغسل أحوط (لحديث عائشة) / فخذ الرجل ليس بعوره (لأنه انكشف عن النبي في بعض المواقف عن غير تعمد) : وستره
أحوط (لنصحه للصحابة بستره) / الماء قل أو كثر : لا يُنجس بوقوع النجاسة فيه : إلا إذا تغير / وجوب قراءة الفاتحة للمُصلي : إماما ًومأموما ً: في السرية والجهرية / جواز القنوت في الصلاة قبل الركوع وبعده / جواز إعطاء المرأة زكاتها لزوجها وأيتامها ...... إلى آخر ذلك ...
5... مِن ناحية الرواية ..
التزم الإمام مسلم في صحيحه تتبع آحاديث النبي : حرفا ً بحرف في الروايات المختلفة .. بينما تجوز الإمام البخاري في ذلك برواية الحديث الواحد بمعناه مِن الرواة الثقات .. فالإمام مسلم في ذلك : أضبط لحروف وكلمات الآحاديث ..
6... مِن ناحية تفسير الكلمات ..
اعتنى الإمام البخاري رحمه الله بتفسير وبيان معاني الكلمات الصعبة أو الغامضة في الآحاديث .. بعكس الإمام مسلم رحمه الله : والذي اعتنى أكثر بسرد الآحاديث ....
7... مِن ناحية التعليق على الآحاديث ..
فكما أن الإمام البخاري اعتنى بشرح الكلمات الصعبة والغامضة في صحيحه : فقد اعتنى أيضا ًبالتعليقاتالكثيرة على العديد مِن الآحاديث : فقد يذكر قصصا ً تتعلق بهذه الآحاديث .. وقد يذكر آراءً للصحابة في هذه الآحاديث أيضا ً.. وذلك بعكس الإمام مسلم الذي اعتنى أكثر بالسرد كما قلنا معتمدا ًعلى حسن تقسيمه .. وقليلا ًما يُعلق على أحد الأحاديث ..
8... مِن ناحية الصِنعة الحديثية ..
وهي تتبع صحة ألفاظ الحديث نفسه وضبطها : فالإمام مسلم في ذلككما قلنا : أكثر دقة مِن الإمام البخاري .. وذلك لاعتناء الإمام البخاري بصحة رجال السند أكثر ..
9... مِن ناحية قوة شروط الرواية ...
نجد كما قلنا أن الإمام البخاري أقوى في شروطه .. فهو مثلا ً: لا يحتج برواية (حماد بن سلمة) عن (ثابت) .. وذلك لأن (حماد بن سلمة) : قد اختلط في آخر عمره .. بينما اجتهد الإمام مسلم في قبول رواية (حماد) ...... فالإمام البخاري رحمه الله : راعى أن تكون آحاديثه :
هي أصح الصحيح : بعيدا ًعن أي شبهة تضعيف ..
ولذلك :
فإن الإمام (الدارقطني) رحمه الله عندما حاول انتقاد آحاديث الصحيحين (وقد ظهر صحتهما فيما ادعى خطأهما فيه فيما بعد) .. لاحظنا أن انتقاداته على صحيح مسلم : كانت أكثر
مِنها لصحيح البخاري ... حيث أن انتقاداته على الصحيحين : بلغت كلها (220) حديثا ً.. نصفهم (أي 110) حديث : اشترك في روايتهم البخاري ومسلم رحمهما الله .. فيتبقى (110) حديث .. انتقد مِنهم (78) حديثا ًفي صحيح مسلم .. و(32) حديثا ًفي صحيح البخاري ....
فظهر بذلك قوة شرط الإمام البخاري أيضا ًعن الإماممسلم رحمهما الله ..
(ملحوظة : يُعد أشهر كتاب جمع الأحاديث المتفق عليها بين البخاري ومسلم هو كتاب (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان) للشيخ محمد فؤاد عبد الباقي واشتمل على 1906 حديثا) ...
--------------
6)) شبهات في اختلاف روايات الصحابة ...
وأختم هذه الرسالة المتواضعة (فهي لم تحو في الحقيقةإلا القليل) : أختم ببعض الشبهات التي قد تتبادر إلى ذهن البعض : أو التي قد يستغلها البعض الآخر : في الطعن في الرواية عموما ً: أو في رواية الصحابة خصوصا ً.....
---
فأقول وبالله التوفيق ...
اختلف الصحابة في بعض رواياتهم لآحاديث النبي : لظروف خارجة عنهم .. ولاختلافٍ في اجتهاداتهم أنفسهم وكما سنرى الآن .....
---
فأما الظروف الخارجة عنهم :
1...
فهي أنهم مثلا لم يكونوا يواظبون كلهم على سماع آحاديث النبي وعظاته في كل الأوقات .. بل كانوا (وكأي بشر) : تشغلهم مُعافسة الزوجات والأبناء والزراعة والسعي على الرزق بالضرب في الأرض والتجارة والسفر أو حتى الجهاد .... والخلاصة :
أنهم تفاوتوا في مقدار سماعهم عن النبي كثيرا ً.... وذلك مِثل قول (عمر) رضي الله عنه في جزء مِن حديث صحيح (وهو حديث اعتزال النبي لنسائه قرابة الشهر) :
" وكان منزلي بالعوالي (مكان في ضواحي المدينة) فيبني أمية .. وكان لي جارٌ مِن الأنصار : كنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فينزل يوما ً: فيأتيني بخبر الوحي وغيره (أي بالجديد مِن القرآن والسُـنة) ..وأنزل يوما ً: فآتيه بمثل ذلك " ...
ومثالٌ آخر أيضا ً:
وهو عندما اختلف (عمر) و(أبو عبيدة بن الجراح) رضي الله عنهما في دخول جيوش المسلمين أرض الشام : بعدما نزل فيها الطاعون : إلى أن جاء (عبد الرحمن بن عوف) رضي الله عنه : وقد سمع حديثا ًعن الرسول في ذلك : ينهي عن دخول الأرض التي نزل بها الطاعون .. وينهيمَن فيها عن الخروج مِنها .. والشاهد مِن الحديث : أن كلا ًمِن (عمر) و(أبي عبيدة) رضي الله عنهما : لم يكن قد سمع هذا الحديث مِن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل ...
2...
كما أنهم لاختلاف أوقات سماعهم مِن النبي .. واختلاف وقت إسلام بعضهم عن الآخر : فقد يروي أحدهم حديثا ً عن النبي في النهي عن شيء : ثم لم يسمع حديث النبي بعد ذلك في إباحته .. وهو ما يُسمى بالناسخ والمنسوخ .. وهذا كما هو موجود ٌ في القرآن : فهو أكثر في السُـنة .. حيث تعلمنا مِنهما : مدى رحمةالله تعالى بالمسلمين : في التدرج بهم إلى تحريم بعض الأشياء مثلا ً: والتي كانوا يستحلونها بكثرة في جاهليتهم ! وغير ذلك من الحكم التي ليس مجال ذكرها الآن ..
وهكذا :
كان الصحابة فيما بينهم وبين بعضهم البعض :حريصين أشد الحرص على إخبار كل ٍمِنهم الآخر بمثل هذا النسخ (وذلك مثل ما حدث مع المهاجرينإلى الحبشة : فقد تغيرت في الصلاة بعض الأشياء مِن بعد هجرة النبي إلى المدينة : ولم يحضروها) .....
وخصوصا ً: وقد تفرق الكثير مِنهم في البلاد مِن بعدموت النبي : في الفتوحات الإسلامية شرقا ًوغربا ً... وكان ذلك مِن أقوى أسباب عدم تجميع الآحاديث مبكرا .. ثم بدأت تتكاثر مع الوقتومع رواية التابعين عن الصحابة الذين قابلوهم في مختلف الأمصار .....
3...
كما أن بعضهم قد يشاهد النبي في فعل ٍما (مثل الوضوء) مرة ًواحدة : يفعله بشكل ٍمُعين (كأن يتوضأ مرة ًمرة ًمثلا ًفي وقت ندرة الماء) : في حين لم يره يفعله بصورة أخرى (مثل الوضوء مرتين مرتين أو ثلاثا ًثلاثا ً) : فيظن أن الفعل : هو فقط كما رأى (وهو في مثالنا هذا :الوضوء مرة مرة) .. وأنه هو الأصل !!.. فإذا فهمنا ذلك : فهمنا بعض اختلافات رواية الصحابة في بعض أمور الصلاة وغيرها .. لأن النبي صلى الله عليه وسلم : كان يتعمد التنويع في كثير مِن الأفعال : رفعا ًللحرج والتضييق والمشقة عن أمته .. إذ لو كانت أفعاله كلها واحدة : لشق ذلك لاختلاف قدرات البشر : ولاختلاف ظروفهم ... وقد جمع النبي ذلك في قوله :
" ما نهيتكم عنه : فاجتنبوه .. وما أمرتكم به : فأتوا مِنهما استطعتم " ... رواه مسلم ..
----------
وأما الظروف التي لا دخل لهم فيها :فهي مثل تفاوت بعضهم في السِن : فيتم تقديم رواية الأكبر عن الأصغر في حديثٍ مُعين عند التعارض : لأن الأكبر : كان أوعى للفهم مِن الأصغر قطعا ً... وكتفاوت بعضهم في مقدار صُحبته للنبي : فيتم تقديم الأكثر والأقدم صحبة على غيره عند التعارض : لأنه أكثر فهما ًوفقها ًلأقوال وأفعال النبي ومراداته .. وكاختلاف صحبتهم له في مختلف أحواله : فيتم تقديم كل صحابي : في الحال الذي كان فيه أقرب للنبي ... فمَن صحبه كثيرا ًفي سفره : يتم تقديم روايته في سفر النبي عن غيره عند التعارض .. وأيضا ًمَن صحبه كثيرا ًفي غزوه .. وكذلك مَن كان يعد له وضوءه .. ومَن كان يدخل عليه في بيوتاته وهومع بعض أزواجه كـ (ابن عباس) رضي الله عنه لصغر سنه وقرابته منه ومِنهن .. وكأبناء (أسماء) بنت أبي بكر رضي الله عنها : لقرابتهم مِن (عائشة) .. وهكذا ..
فكل هذه الظروف التي يتميز فيها بعض الصحابة عنالآخر : يجب مراعاتها في تناول آحاديث النبي إذا وقعالتعارض بينها بما لم يُستطع الجمع بين رواياته ... كما أن بعض الصحابة : قد يسمع قولا عاما ًمِن النبي : ولا يعرف أن النبي قد استثنى مِنه بعض أشياءٍ في موقف آخر !
---
كما تجدر الإشارة الأخيرة هنا : إلى شيءٍ هام ٍجدا ًبخصوص بعض الشبهات :
وكثيرا ًما يستغله الأفاقون في التدليس في الدين .. (وخصوصا ًمع عدم علمهم أصلا ًبتراجم الصحابة)
ألا وهو :
أخذهم لظاهر بعض الآحاديث الطاعنة في الحجاب أو المخالطة بين الرجال والنساء إلخ :
مِن غير حتى أن يسألوا أهل العلم !!!...
---
وذلك مثل مَن يجهل مثلا ًقرابة النبي لـ (بني النجار) أخواله في المدينة : فيروي أحاديثا ًعن دخول النبي على بعض خالاته من الرضاعة (مثل أم حرام وأم سليم بنتا ملحان رضي الله عنهما)
مُستدلا ًبذلك على : جواز دخول الرجل الأجنبي على امرأة ليست من محارمه واختلائه بها !!!...
(وكما قلت لكم أن الهوى يُعمي : فلو تمعن هؤلاء الجهلةفي الحديث : ونوم رسول الله ورأسه في حِجر أم حرام رضي الله عنها بل : وتفليتها لرأسه مثلا ً: لما جرأوا على
تجويز : ما لا يرضاه أحدهم لزوجته : أن ينام رجلٌ ليس من محارمها ورأسه في حجرها !.. أو أن تفلي رأسه) !!!!...
---
ومِثل مَن يستشهد أيضا بقول صحابي أنه كان يمر هو وأصحابه على (فلانة) بعد كل صلاة جمعة : فتطعمهم !!.. فيقول الجاهل : هذا دليلٌ آخر على جواز الاختلاط بغير شرط ودخول الرجال على
النساء ..... إلى آخر هذا العبث !!.. ولو سأل أهل العلم :
لعرف أن راوي الحديث أصلا : كان طفلا ًساعتها ! والمرأة عجوز !! وهذا مما يؤكد لنا فائدة كتب (تراجم الرجال) كما قلت لكم ..!
------
والخلاصة ..
أن الله تعالى : قد رفع مِن شأن العلم والعلماء في قرآنه ....ولم يجعل الناس في العقل وتحصيل العلم سواء : وذلك لكي يلجأوا إلى العلماء فيما أشكل عليهم : فيتبين لهم فضلهم :
" فاسألوا أهل الذكر : إن كنتم لا تعلمون " ...
" ولو ردوه إلى الرسول : وإلى أولي الأمر مِنهم : لعلمهالذين يستنبطونه منهم " ......
فأرجو إن كان لأحد بعد كل هذه المعلومات : أي استفسار أو مؤاخذة : على منهج علماء الحديث في تتبعهم لسُـنة رسول الله وحفظها مِن أيدي العابثين وضعاف الحِفظ : أن يُراسل أهل العلم به ....
مع نصيحتي لكم بقراءة كتاب (سلسلة الآحاديث الضعيفةوالموضوعة) لمُحدث العصر الشيخ (الألباني) رحمه الله لتعرفوا مثالا عن : مدى مجهودات علمائنا الأفاضل في حماية حديث النبي وسُـننه مما لا يصح : سندا ًومتنا ًوعقلا ً!
(مع العلم أن الشيخ الأباني رحمه الله ليس بمعصوم .. وإنما له أخطاء في التصحيح والتضعيف هو أيضا : وقد اعترف بأغلبها وقام بتصحيحها في كتبه .. وإنما أردت الاطلاع على كيفية التصحيح والتضعيف ومدى ما تتطلبه من علم وسعة اطلاع ومجهود ووقت) ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
Bookmarks