الصدق فضيلة جبلت على حبها النفوس, والكذب رذيلة تأصل بغضها في الضمائر . لكن هذا القانون الأخلاقي الفطري لا يكفي ليوجه دفة المجتمع وجهة الصدق, فإن الأهواء والعصبيات تغري الناس بسلوك سبيل الكذب, بل لا بد من الوحي المعصوم ليهذب النفوس ويكبح جماح نزواتها.
وإنك ترى المجتمعات اليوم تكذب في كل طبقاتها ومراتبها, في الأسرة والعمل والإعلام والسياسة والإقتصاد, إننا نغرق في بحار من الكذب تصبها علينا آلة إعلامية ماكرة صبا, تريد أن تجعل الباطل حقا, و الرذيلة فضيلة والظلمات نورا.

إنك ترى العلماني و الليبرالي و الملحد في الصحف والمنتديات يكتب فيكذب, حتى يصير الفرق بين الواقع من حوله وبين ما يكتبه كفرق ما بين النجْس والطهر, وبين العفاف والعُهْر. فأنت تراه يكتب عن الرجعية يلمز بها أنصار العقيدة, و عن التنوير يريد نفسه وحزبه, ويشتكي ممن يمارسون الوصاية على فكر الناس, ثم ينسى أنه يحارب عقيدة عامة المجتمع, وهكذا فإنه لا يفتأ يكذب ويتحرى الكذب حتى يتم له بنيان الكذب فيصبح هو نفسه سجينا في عالم وهمي من وحي خياله, وربما تمر به لحظات يشعر فيها بخطئه لكن هواه ومصلحته تقعد به عن مراجعة نفسه, فيسخر كل طاقته العلمية والجدلية ليقنع نفسه بصواب ما معه, وأن أكاذيبه وأوهامه التي اخترعها أول مرة حقائق لا يتطرق إليها الشك, وحين ينتصب أمامه بنيان باطله يجتهد في إقناع غيره به, ويتقمص دور الداعية ويصير مبشرا بسبيل الخلاص والتنوير, فيزداد اقتناعا بكذبه, وحين يبدأ الأتباع المخدوعون بتلقي الحقائق المزعومة وتحليلها وتفريعها فإن صدقهم في الدفاع عما يرونه يجعل الذي اختلقه أول مرة ينخدع بأكاذيبه ويزداد انغماسا في الوهم الذي صنعه بيده.

إنها دوامة لا ينجو منها إلا من ترك الكذب والمراء وطلب الحق بصدق. إن الملحد يود أن يصور خلافنا معه في صورة سجال عقلاني مؤسس على قواعد علمية ومنطقية صارمة, لكننا نعلم أن الشق الأكبر من المشكلة نفسي وليس فكريا, وأن افتقار الملحد إلى الصدق يجعل الحوار معه أشبه بلعبة الغميضاء, فإن الكذّاب لا يقرّ لك بشيء يخالف هواه, ولو سردت لأكثر الملحدين الذين يأتوننا مئات الأدلة العقلية والنقلية فإنهم لا يجدون حرجا في أن يتجاهلوها بدعوى عدم اقتناعهم بها, لتستمر لعبة التشكيك والتشغيب ولتدور عجلة الكذب والمراء.