تأملات عابرة حول الحياة

إننا -نحن البشر- متفقون رغم اختلاف عقائدنا ومللنا على أصول نشترك فيها. ومن ذلك أننا نعلم بالفطرة أن لحياتنا مغزى ما ينبغي أن نسعى لتحقيقه, وهنا تفترق طرق الحضارات البشرية. إن حياة البشر ليست شيئا واحدا, بل إنها تتفاوت في قيمتها تفاوتا عظيما, فحياة المؤمن أعظم من حياة الكافر, وحياة العالم أشرف من حياة الجاهل, وحياة الطبيب أرفع من حياة اللص, وحياة من ينشد المطالب العالية خير من حياة من لا تجاوز همته الشهوات الجسمانية. ورغم اختلاف البشر في هممهم وأهدافهم وأحلامهم, إلا أنهم في الجملة يملكون تصورا ما لما يحبون أن يحيوا عليه.

وإذا تصورنا حال هؤلاء الناس المتفاوتة هممهم وطموحاتهم بعد أن تنقضي أكثر أعمارهم, فإنهم لا يخرجون عن صنفين:
1 صنف حققوا مطامحهم وترجموا تصورهم للحياة التي يرونها غاية ما ينبغي للعاقل أن يصبو إليه.
2 وصنف آخر لم يجن إلا الفشل, وربما حاول بعدها أن يدير دفة حياته كي يتوجه وجهة أخرى ليبني حياة أخرى بطموحات أخرى.
لكن الصنفين في النهاية قطعا معظم الرحلة الأرضية, وستقف عوامل الزمن والضعف البشري عائقا أمام رغبة الناجح في الاستمرار في نجاحه, وأمام الفاشل الذي يطلب حياة ثانية, إنهما يستويان في قضية واحدة: لقد حظي كل منهما بفرصة واحدة.
وإذا تصورنا أن الإنسان الناجح بالمعايير البشرية, يستمر في تأدية رسالته التي جعلها عنوانا لحياته, ولنقل إنه جراح مثلا, فإنه سيصل يوما إلى حياة رتيبة متكررة, ليست إلا سلسلة من الأحداث والتجارب التي مر بأمثالها مرات عديدة, ثم يأتي الضعف والوهن, والتقاعد والاستبدال.
ولو سألناه عن أنسب الحلول لمشكلة هذه الحياة المكتملة التي ينقصها التجدد والدوام لربما أجاب بأحد جوابين أو بكليهما:

1 الظفر بإكسير الحياة فيبقى المرء غضا فتيا يستمتع بشبابه دون أن ينغصه عليه وهن الشيخوخة.
2 الحرص على جعل أهداف الحياة متجددة لعل ذلك يغلق باب الرتابة.

وفي كلتا الحالتين ستواجهنا نفس المشاكل في كل مرة. إن الرتابة ستقتلع كل شعور بالرضا والإستقرار من الحياة البشرية مهما علت قيمتها, إن الزمن وحده كفيل بتحقيق ذلك.
لكننا نشعر في قرارة أنفسنا بأن الحياة عالم أرحب من هذه التي تتاح لنا مهما اختلفت مشاربنا وتفاوتت هممنا, فما بين المشرد الذي يستمرئ حياة التسكع في شوارع العالم المتخم, وبين جراح في أحد التخصصات الدقيقة من التفاوت المادي العظيم ما يجعلنا نتساءل: -ما هي أرقى الصور الممكنة للحياة البشرية؟
إن الظفر بحياة أخرى أو حياة ثانية رغبة متجذرة في أعماق النفس الإنسانية, يترجمها سعيها الدؤوب وراء تحقيق حياة أفضل وأكمل, وهذا يدل على أن الإنسان يشعر شعورا ضروريا بوجود درجات أرقى لهذه الحياة, وإذا تأملنا ذلك فهمنا أن إخبار كتاب الله بالبعث والنشور يشهد له شيء موجود في دواخلنا, ألا وهو هذه الحقيقة المنطبعة في كتاب الفطرة الأولى بأن للحياة كمالا ممكنا والله أعلم.