النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: آداب النقد

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2013
    الدولة
    مغرب العقلاء و العاقلات
    المشاركات
    3,002
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي آداب النقد


    في أي منتدى على الأنترنت حيث لا يرى بعضنا صورة بعض إلا بين ثنايا السطور و الكلمات التي يكتبها مع أنها قد لا تعبر إلا بقدر ضئيل عن شخصية صاحبها.. نجد الكثير من المشاركات و الردود التي قد يعتريها بعض التوتر و الإنفعال السلبي بين الإخوة (و أنا من بينهم) .. و أحس كما يحس غيري أن هذه ظاهر غير صحية يجب أن نعالجها ما أمكن حتى لا تشتشري و تستفحل فتصبح دأبا و عادة و منهجا متبعا .. هذا بغض النظر عن سائر الدوافع النفسية و الإجتماعية أو حتى الدينية التي وراء مواقف كل منا عند الرغبة في الإدلاء بالرأي لبيان الحق أو نقض الرأي المخالف .. من أجل ذلك أحببت أن أُهديكم إخوتي .. أخواتي في الله هذه المقالة آملا أن تجد صدى لديكم .. و الله يوفقنا جميعا لما يحبه و يرضاه.


    آداب النقد :

    رأس أدب النقد تلمُّس الحق، والسعي للوصول إليه، والحرص على الالتزام به، فالعاقل الصادق: طالب حق، باحث عن الحقيقة، ينشد الصواب، ويتجنب الخطأ.

    وأول آداب النقد- شرط صحة فيه-: الإخلاص بتوفر سلامة النية والقصد في جهاده لله؛ حراسة للشريعة، والذب عنها، ودلالة الناس على الهدى، ورعاية شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الأمر والنهي عن البدعة، وتقديم الأهم فالمهم[11].

    "والأمر بالسنة، والنهي عن البدعة هو أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغى به وجه الله، وأن يكون مطابقًا للأمر.

    وفي الحديث: من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر؛ فينبغي أن يكون:
    • عليمًا بما يأمر به.
    • عليمًا بما ينهى عنه.
    • رفيقًا فيما يأمر به.
    • رفيقًا فيما ينهى عنه.
    • حليمًا فيما يأمر به.
    • حليمًا فيما ينهى عنه.

    فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر، والحلم بعد الأمر.

    فإن لم يكن عالمًا؛ لم يكن له أن يقفوَ ما ليس له به علم.

    وإن كان عالمًا، ولم يكن رفيقًا، كان كالطبيب الذي لا رفق فيه، فيغلظ على المريض، فلا يقبل منه.

    وكالمؤدِّب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد، وقد قال- تعالى- لموسى وهارون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44].

    فإن الإنسان عليه أولاً: أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور، أو إقامة الحجة عليه.

    فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره- كان ذلك حميَّة، لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء، كان عمله حابطًا.

    ثم إذا رُدَّ عليه ذلك وأُوذي، أو نُسِب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد- طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان.

    فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي.

    وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى، أن ينتصر جاههم، أو رياستهم، وما نسِب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه.

    ويرضون عمن يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيِّئ القصد، ليس له علم ولا حُسن قصدٍ.

    فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم، لا على دين الله ورسوله.

    وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم، ويقولون هذا صديقنا وهذا عدونا، لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله، ومعاداة الله ورسوله.

    ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس؛ قال الله- تعالى -: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، فإذا لم يكن الدين كله لله، كانت الفتنة.

    وأصل الدين: أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله، والعبادة لله، والاستعانة بالله، والخوف من الله، والرجاء من الله "[12].

    فعلى طالب الحق "أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده، أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معينًا لا خصمًا، ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهر له الحق، كما لو أخذ طريقًا في طلب ضالته، فنبَّهه صاحبه على ضالته في طريق آخر، فإنه كان يشكره ولا يذمه، ويكرمه ويفرح به، فهكذا كانت مشاورات الصحابة- رضي الله عنهم- حتى إن امرأة ردت على عمر- رضي الله عنه- ونبهته على الحق وهو في خطبته على ملأ من الناس، فقال: أصابت امرأة، وأخطأ عمر"[13].

    ومن شروط الإخلاص: نبْذ التعصب، وترك ازدراء المخالف ولو كان للحق، والتعصب: عدم قبول الحق بعد ظهور الدليل، فيُصر على قوله وخطئه؛ استبدادًا برأيه، وحميَّة لشخصه، ومن ثَمَّ يستمر في باطله ومخالفته، ومن كان بهذه المثابة، فإن الجدال لا يُجدي معه، وإنما يرد عليه إذا كان في ذلك مصلحة لغيره[14].

    و"العامي إذا صُرِف عن الحق بنوع جدلٍ، يمكن أن يردَّ إليه بمثله، قبل أن يشتدَّ التعصُّب للأهواء، فإذا اشتدَّ تعصُّبهم، وقع اليأس منهم؛ إذ التعصب سبب يرسِّخ العقائد في النفوس، وهو من آفات علماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار.

    فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة، والمقابلة، والمعاملة، وتتوفَّر بواعثهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه، ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخَلوة، لا في معرض التعصب والتحقير- لنجحوا فيه.

    ولكن لَمَّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم- اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم، وسموه ذبًّا عن الدين، ونضالاً عن المسلمين، وفيه على التحقيق هلاك الخلق، ورسوخ البدعة"[15].

    وشرط الإخلاص لا يكمل دون شرط المتابعة لسُنة النبي- صلى الله عليه وسلم- وسلف الأمة في دفع الباطل، فلا يُرَدُّ باطل بباطل، ولا يُبتدَع للبدعة بدعةٌ تردُّها، ففي الحق غنًى عن عون الباطل.

    ومن أدبيات النقد: لزوم الحسنى في المقال، وانتقاء اللفظ، وتخيُّر الكلمات، فما كان اللين في شيء إلا زانه، وما نزع من محله إلا شانه، والله تعالى أمر رسوله- صلى الله عليه وسلم- ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء: 53]، ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، فحق الفطن اللبيب- في عَرْضه للحق- التشبه بالطبيب، يرفق وينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح، والهُزء والسخرية، وألوان الاحتقار، والإثارة والاستفزاز.


    فمبلغ ذلك نقد لشخص لا لقوله، والحمية تصم عن سماع الكلم- ولوكان حقًّا- ومنتهى هذا الأسلوب في النقد أنه يخاطب قوم "تُبَّع"، يرضيهم بجارح القول لمخالفيهم، ولا مصلحة في ذلك: لا لصحبه، ولا للطرف الآخر ومن معه، ولا لمن ليس معهما.


    ومن يستدل بفعل أهل العلم في مثل هذا، فمردود عليه قوله، أن مقام الجرح علم غير مقام النقد، والتقييم يكون للرجال ولمقالاتهم، فيفرق بين الكلام في فن الجرح والتعديل، وبحث حال الرواة، والردود على: المقالات، والأقوال، والنظريات، والمصنفات.


    زد على ذلك أن باب الجرح والتعديل علم عزيز، له نخبته، وهم أهل للكلام فيه، فأسواره عالية، وحصونه ممتنعة، وما ولج هذا العلم الدخلاء الأصاغر، إلا كثر الهرج والمرج في الأعراض.


    ولن يُبقي المتطفل على ذي عمامة إلا حلق له رأسه، فلا يدرى للدين عالم، ولا للفنون صاحب، وسنة الله فيهم بادية، ما أن يتكاثر الدخلاء فيه، لا يألون في ذي علم إلاًّ ولا ذمة، فهم لا يعون خلاف العلماء بينهم، ولا يستوعبون صراع الأقران، ويخلطون بين الخلاف العلمي والحقد الشخصي، ويقرنون بين البدعة والجهل، والسنة والعلم، وتلك مفردات عندهم متناقضة، لا تجتمع ولا ترتفع، فمن لحقه مسمى البدعة، رفِع عنه العلم، والعكس كذلك.


    "وأهل السنة والجماعة كانوا يختلفون فيما بينهم على المسائل العلمية والعملية، ولكنهم يضبطون سلوكهم- مهما كان حجم الاختلاف- بأدب الاختلاف: من الود، والألفة، والاحترام المتبادل، في الإطار أساسي، هو: المحافظة على الجماعة والائتلاف، وجمع الشمل، ونبذ التفرق والاتهام"[16].


    ومن الإرشادات الإلهية لنبي الهداية، الانصراف عن رد الباطل بحدة الحق، بل عرض الحق في أسلوب هادئ، أو تأجيل النقد وتعميم الرد؛ قال- عز من قائل- لنبيه: ﴿ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [الحج: 68- 69]، وقوله: ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24].


    مع أن بطلانهم ظاهر، وحجتهم داحضة.


    ويلحق بما سلف تجنب نهج التحدي، والتعسف في الحديث، وأسلوب التعجيز، وإحراج الخصم، ولو كانت الحجة بيِّنة والدليل دامغًا، فكسب القلوب مقدَّم على كسب المواقف.


    وحلية النقد بجلب أطايب الكلام، مسوقًا بقدر الحاجة في وقت الحاجة، نهج هذا: "أنفقوا في المناظرات بالمعروف"، وهذا شأن المستيقن بما لديه، المستقر عليه، واحترام المصيب لقدره، وقيمته، ومُروءته، وهو من كرم المعاملة، ومنزلة كريمة تعلو رتبة المخاصمة.


    أما ما زاد عن ذلك من النبز بالألقاب الشنيعة، والفظاظة والشتائم الفظيعة، فشيمة أهل الأهواء، وسيمة أبي الجهل، وأخي الوهم، صنيعهم رَواج مقالهم بصخب وجعجعة أن "نحن هنا"، "القامعون للباطل، المرابطون على ثغور الحق"، وما حقيق فعلهم إلا حمية جاهلية، وبلادة لا جلادة.


    وفيهم من هو حلاَّف مَهِين، همَّاز مشَّاء بنَمِيم، منَّاع للخير معتدٍ أثيم، عُتُلٌّ بعد ذلك، شغله الوقوع على الجراح، والتنقيب على العثرات، وبعثرة في المخلفات، لتصيد الزلات.


    وتجد هاته الخصال بين أهل البدع عامة، ومنها ما تسرب لأهل السنة خاصة، وفي الشباب ممن تقودهم حمية المراهقة للتصعيد في المواجهة مع الخصم من بينهم أو من غيرهم، ومن طلبة العلم وبعض المشايخ من ينحو ذلك في ردوده، حتى صار شعارًا له، وعرفًا بين أتباعه.


    وحلية أدب الكلام مقدمة على الشدة والحدة؛ فاللين أصل والإغلاظ استثناء، وخذه معيارًا دقيقًا: "إن الرد العاطل من هذه الحلية، لا يكون إلا حين يختل شرط من شروطه الأساسية: النية، المتابعة، الأهلية".


    والرد بمجرد الشتم والتهويل، لا يَعجِز عنه أحد، لكنه لا يغيِّر من القول المردود عليه شيئًا، بل يبقى مكانه.


    فالراد هنا: لا ينكأ صيدًا، ولا يقتل عدوًّا، بل هو بمنزلة الحوالة على العدم أو مجهول، كمعصوم الرافضة، وغوث الصوفية، وكل هذا لا يغني من الحق شيئًا.


    فالأصل في صياغة الرد: أن يكون بالتي هي أحسن، واللجوء إلى أساليب تأنيب الخصم، وتقريعه، والقسوة عليه، ضرورة تقدَّر بقدرها؛ لأن منشأها هو الخصم ذاته، بما يأتي به: من كذب، وإرجاف، وتهويل، وسباب، وتلبيس، وعناد"[17].


    وقد تفحم الخصم، وتدمغه فتزهق قوله، غير أنك لا تقنعه، وقد تخرصه بحجة؛ ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه، فأسلوب التحدي والاستعراض يمنع التسليم، حتى مع توافر القناعة العقلية.


    فذي طبائع بشرية، وليست نفوسًا ملائكية، والهجوم مع حمية يوقد حمية مضادة، فتكون حربًا كلامية، تؤجِّج أغبرة فكرية، وتعزز أحقادًا نفسية، يتولد عنها إصرار المبطل على باطله، بل تقوية باطله ودعْمه بإسناد فكري، واستجلاب لأدلة من كل صوب وحدَبٍ، فيكون الخلاف في أوله قطرة، فيفيض ويغرق ما حوله من الوفاق، وتاريخ المسلمين جلي، وسيرة الفرق واضحة في تصاعد الخلاف من مسألة إلى مذهب.


    ولنا في مناظرة ابن عباس- رضي الله عنهما- للخوارج أسوة حسنة، ويكفيه: مقامه، ونسبه، وعلمه، وصحبته، أن يخرص من ليس فيهم صحابي واحد من الخوارج، ورغم أنهم قوم جلف واستفزازهم له في الجدل جلي، إلا أنه رفق بهم في المناظرة، وأجابهم عن كل استشكالاتهم واحدة واحدة بأدب ولين، فرجع معه رهط منهم.


    فالحرص على القلوب، واستلال السخائم، أهم وأولى من استكثار الأعداء والضغائن، واستكفاء الإناء.


    على أن بعض الحال استثنائي، يسوغ فيه اللجوء للإفحام؛ وذلك فيما إذا استطال المردود عليه، وتجاوز الحد، وبطر الحق الجلي، وكابر مكابرة بينة، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ [العنكبوت: 46].


    ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ﴾ [النساء: 148].


    فالظلم والبغي قد يسمح بالهجوم الحاد، وتسفيه رأيه؛ لأنه يمثل الباطل، وحسن أن يرى الناس الباطل مهزومًا مدحورًا.


    ومنهج نقد الآخر في القرآن الكريم نجد فيه تنوعًا في الخطاب والأسلوب، ومسالك متباينة حسب ما تقتضيه الحكمة، فنجد نقد القرآن للمشركين غالبًا ما يكون جدال هداية ودلالة، وقد يشتمل على تخطئة لبعض مزاعمهم وافتراءاتهم، بينما نجد نقده لأهل الكتاب نقد إلزام وتخطئة؛ لأنهم على علم، أما نقده للمنافقين، فيتسم بالشدة والقسوة، مع الوعيد والتهديد.


    فيجب مراعاة مقام المتكلم فيه، فمرتبة العالم وسط أهل العلم تسمح له ما لا يسمح لمن هو دونه، فقد يكون من يحمل الباطل أشهر وأكثر نفيرًا، فلا يجدي معه إغلاظ ولا حِدَّة، بل ينقلب ذلك على الناقد ونقده، ويصير ما بين بُطلانه في حق أتباع من نقد حقًّا حميَّة لشيخهم؛ قال أبو المعالي الجويني: "وعليك بالمحافظة على قدرك وقدر خَصمك، وإنزال كل أحد في وجه كلامك معه، درجته ومنزلته، فتميز بين النظير وبين المسترشد، وبين الأستاذ ومن يصلح لك.


    ولا تناظر النظير مناظرة المبتدئ والمسترشد، ولا تناظر أستاذك مناظرة الأكفاء والنُّظراء، بل تناظر كلاًّ على حقه، وتحفظ كلاًّ على رُتبته"[18].


    ولا شك أن الناس بين ذلك درجات في عقولهم وفهومهم، فهذا عقله متسع بنفس رحبة، وهذا ضيِّق العَطَن، وآخر يميل للأحوط، وآخر يميل للتوسيع، وهذه العقليات والمدارك تؤثر في فهْم ما يقال.


    و"من رُزِق فَهمًا في كتاب الله- تعالى- ودراية بالسنة النبوية، وطريقة سلف هذه الأمة- رأى من المعالم الإيمانية في نصوص المجادلة ووقائع المناظرة، ما يستخلصه شروطًا وآدابًا، للرد على المخالفين: في تكييف حال الراد، والمردود عليه، ونوعية الدافع، وتجلية الطريق، وكيف ترتب النتيجة، وهي ضوابط، وآداب، وشروط، وأحكام، متى توفرت، ظفِر الطالب المحق ببُغيته، وصار بمنأًى عن الغلط والاضطراب، وهي قواعد العلم وضوابطه.


    وهذه الشروط والآداب، وإن كانت مستقرة في الجملة، لكنَّ الشرط في ذاته مراتبُ، تتنوَّع بتنوُّع كل مخالف ومخالفته؛ فقد تكون المخالفة لا يقوى على نقضها إلا فحول العلماء، وقد تكون دون ذلك، وقد تكون فيما لا نزاع فيه أصلاً، فردها من اليسر والوضوح بمكان؛ ولهذا فإن السلف- رحمهم تعالى- مع أنهم أكمل الناس في معرفة الحق، ونقض ما يعارضه، لكنهم كانوا في هذا درجات"[19].


    فلا مقام لمن يستدل للحِدة والشدة في النقد بكلام مَن سبَق؛ لاختلاف المقام، فالخلاف ليس في أصل الجواز، بل في متى، ومن، وفي مَن؟


    ومن آداب النقد: إنصاف الخصم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135].


    ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].


    فالله يحب العدل والإنصاف على الموافق والمخالف، وما يضر المتعصب بغير حق إلا نفسه، فهذه نزاهة الرد بالتزام العدل والإنصاف، ومناشدة الحقيقة وحدها؛ سواء ظهرت منه، أم من المخالف في مسألة ما.


    فالمسلم الحق كناشد الضالة يطلبها، أدركها هو أم غيره، فمغنمُها له؛ ولهذا يتعيَّن طرح العبارات المرهقة بالمعاني المحملة بالعموم والإطلاق.


    وليُحمل كلام الخَصم على أحسن المحامل ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، وليُفتح باب العودة للخَصم وطريق الاحتواء، فيُحمل كلامه على أحسنه؛ لأن غاية النقد تُبنى على أمرين: العمل على دلالة المخالف- أي: الصراط المستقيم- لكسْب أوْبَته للسنة، وفَتْل الخَصم عن مخالفته إلى الحق بحجته والإذعان له.


    والأصل في النقد هو الستر، والعمل على دفع دواعي الفرقة، والوحشة، وعدم الموافقة، فالرد ينصبُّ على المقالة المخالفة المذمومة، لا على قائلها، وتعيين اسم قائلها حسب مقتضى الأحوال، كفحش المقالة وخطرها البالغ، أو كان صاحبها يدعو إليها ويُشهرها بين الناس، وهنا مقام لأهل الاجتهاد والفُتيا، فلا يقربنَّه أحد ولو كان ما معه من حق كعلمٍ في رأسه نار.

    --------------

    [11] دراسة حول كتاب الاستقامة لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ علي بن عبدالعزيز الراجحي، دون معلومات نشر، ص (1).

    [12] منهاج السنة النبوية؛ ابن تيمية، ج (5)، ص (131).

    [13] إحياء علوم الدين؛ لأبي حامد الغزَّالي، ج (1)، ص (44).

    [14] فقه الرد على المخالف؛ خالد بن عثمان السبت، ص (271).

    [15] إحياء علوم الدين؛ لأبي حامد الغزالي، ج (1)، ص (40).

    [16] إنصاف أهل السنة والجماعة؛ محمد بن صالح بن يوسف العلي، ص (26).

    [17] الردود؛ بكر أبو زيد، ص (68 - 69).

    [18] الكافية في الجدل؛ لأبي المعالي الجويني، ص (531).

    [19] التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير؛ لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية، ط (1)، 1989، ج (1)، ص (46).

    المصدر :

    http://www.alukah.net/sharia/0/42320/

  2. #2

    افتراضي

    جزاك الله خيراً ...
    " وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ "

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. عن النقد ..
    بواسطة الورّاق في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 01-15-2012, 09:25 AM
  2. آيات صدق أم آيات عمالة - مباهلة الخليفة القادياني الرابع لرئيس باكستان
    بواسطة عمرو حسن في المنتدى قسم الحوار عن القاديانية
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 11-17-2011, 03:34 PM
  3. آداب النقد
    بواسطة مصطفى نور2015 في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-28-2008, 12:00 AM
  4. ضد النقد السلبى
    بواسطة البليغ في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 24
    آخر مشاركة: 09-30-2007, 12:08 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء