بسم الله الرحمن الرحيم

انتهاك المقدس
وتمييع مفهوم الإعجاز القرآني

د. أحمد إدريس الطعان
كلية الشريعة – جامعة دمشق
بريد إلكتروني : Ahmad_altan@maktoob.com

تمهيد :
إن الخطاب العلماني يدرك جيداً أن الأمة الإسلامية والعربية تنتمي إلى حضارة المقدس والإيمان بالمطلق ، وأن أي محاولة للتجديد أو للنهوض محكوم عليها بالفشل إذا لم تنطلق من خلال هذين المحورين : الإيمان ، والمقدس ، إلا أن الصراع كان قد احتدم طوال القرنين الماضيين في بلادنا بين العلمانية الغازية التي تنتمي إلى حضارة المدنس والنسبية والمادية وبين حضارتنا وثقافتنا المتشبثة بمقدساتها ومرتكزاتها ، ولأن الخطاب العلماني العربي قد تشبع بالحضارة المادية الغازية وشربها حتى الثمالة وهو في ذات الوقت يرغب أن يمسك بزمام المبادرة النهضوية أسوة بالنهضويين الغربيين ولكن هنا واجهته حضارة قدسية متقاطعة جداً مع المادية النسبية والعدمية ، ولذلك فقد وقع في مأزق التصادم بين الانتماء الفكري والثقافي من جهة والانتماء الوطني والقومي من جهة أخرى .
ولكي يتخلص الخطاب العلماني من هذا المأزق لجأ إلى محاولة التوفيق بين الثقافة التي استلبته ، وبين الحضارة التي أنجبته ، وكانت مقدسات هذه الحضارة وعلى رأسها القرآن الكريم هي محور دراساته في العقود المنصرمة ، إلا أن الخطاب العلماني العربي بسبب ضعفه في المواد التأسيسية الأصولية والتراثية اللازمة لقراءة القرآن ، وانبتات الصلة بينه وبين مكونات حضارته ، وفي ذات الوقت ثراؤه بمكتسبات العلوم الحداثية والتفكيكية والألسنية فقد جاءت قراءاته للقرآن أقرب إلى التلفيق والتزوير منها إلى التوفيق والتنوير ، والسبب هو أن الخلفية المادية الكامنة وراء القراءات العلمانية المختلفة للقرآن كانت غير متوائمة مع المادة المقروءة ، في حين ظلت الأصول القريبة والملائمة للمادة المقروءة متهمة في بنية الخطاب العلماني بتكريس التخلف واللاوعي ، ويُنظر إليها بتوجس وحذر وربما بازدراء .
ومن هنا هدف هذا البحث إلى الكشف عن الانعكاسات التي أنتجتها القراءات المعاصرة للقرآن الكريم طبقاً للمناهج الحديثة من ماركسية وفرويدية وبنيوية وتفكيكية وهرمنيوطيقية ومن أبرز هذه الانعكاسات أن القرآن الكريم لم يعد يحتوي على مضمون محدد يمكن تطبيقه والالتزام به ، وإنما أصبح لكل إنسان الحق في أن يفهم ما يريد ، لكن بشرط أن لا يفهم منه ما كان السلف والصحابة يفهمون ، لأنه عند ذلك سيُصنَّف مع الرجعيين والظلاميين .
له أن يفهم أن الماركسية هي الإسلام ، وأن ماركس أفضل من طبق الإسلام ( ) وأن داروين أفضل من فهم القرآن ( ) وأن فرويد رسول اللاوعي ( ) . وأن دي سوسير وغادمير ، وهيدغر ودريدا هم المدخل الأساسي لتفسير القرآن ( ) ، أما الشافعي فقد كان مُحتالاً ( ) والغزالي كان منافقاً ( ) والطبري كان تقليدياً ، وجميعهم كانوا أرثوذكسيين منخرطين في تيار الإسلام السلطوي ( ) . وما داموا كذلك فإن الفهم المستقر للقرآن وعقائده وشعائره وعباداته ليس هو كما كرَّسه هؤلاء ، وإنما يجب أن يُعاد النظر فيه على ضوء مكتسبات العلوم العصرية ، وعلى ضوء ما وصلت إليه الحداثة ، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بزحزحة الثوابت ، وتقويض المقدس ، وأنسنة الإلهي ، ومركسة المثالي ، وتورخة المتعالي ، ونسبنة المطلق .
وقد اعتمدت في هذا البحث على المصادر الأساسية والمباشرة للخطاب العلماني وحرصت على أن أترك النصوص هي التي تتكلم ، وأن يكون منهجي هو المنهج الوصفي الكشفي التركيبي الاستنتاجي حتى لا أُتهم بالتجني والتحامل .
وها هنا ملاحظة مهمة أود أن ألفت النظر إليها لعلها تجنبني الكثير من النقد وسوء الفهم وهي أنني في هذه الدراسة لم أتعامل مع الخطاب العلماني كأشخاص وأفراد متمايزين مختلفين ، وإنما تعاملت معه كمنظومة فلسفية تنتهي إلى جذور واحدة وتستند على أسس متقاربة ، ولذلك تجنبت ذكر الأسماء غالباً في متن الدراسة ، وأحلت إليها في الهوامش ، ولذلك أيضاً كنت أنتقل من نص إلى نص دون اعتبار لقائله ما دام يتكامل مع غيره في داخل السياج الأيديولوجي العلماني .
لقد أراد البحث إذن أن يكشف عن الوحدة المتخفية وراء التنوع والاختلاف في المنظومة العلمانية ، وأن يصل إلى الجذور الكامنة وراء الأغصان والفروع ، فالتيارات والمدارس العلمانية الليبرالية والماركسية والحداثية والعدمية على الرغم من اختلافها إلا أنها تتفق إلى حد كبير كلما حاولنا الحفر في الأعماق للوصول إلى الجذور المادية والدنيوية التي تغذيها ، ويكون الاتفاق أكثر وضوحاً حين يتعلق الأمر بالدراسات الإسلامية عموماً ، وذلك بسبب التضاد المطلق بين هدف الرسالة الإسلامية وهدف العلمانية الغربية في التعامل مع أسئلة الإنسان الكبرى وقضاياه المصيرية .
وثمة ملاحظة أخرى لا بد من الإشارة إليها وهي أن البحث سلك المنهج الوصفي التركيبي والكشفي الاستنتاجي ولم يكن الهدف هو النقد والتحليل والمناقشة إلا في حالات عارضة ، وقد يبدو ذلك للوهلة الأولى قصوراً في البحث ، ولكن الانتباه إلى الهدف المتوخى من هذه الدراسة قد يبدد هذا التصور ، ذلك أن الخطاب العلماني يدرس القرآن الكريم وهو يستظهر الإيمان به كمقدس موحى به ، ولكن التنقيب والاستقصاء يكشف أن المستبَطن الذي يتفلت منه في مواطن مختلفة يناقض ما هو مُعلَن عنه نظرياً ، وقد كانت هذه مهمة البحث بالدرجة الأولى كشف التناقض وفضح المستور وهو ما يتنكر له الخطاب العلماني إذا ما جوبه به ويعتبره اتهاماً وبحثاً عن النوايا وتفتيشاً عن الضمائر ، ومن ثم فلم يأخذ البحث على عاتقه مناقشة المقولات العلمانية في هذه الدراسة لأنها قصدت أهدافاً أخرى . باختصار الباحث يريد أن يقول للناس : انظروا ماذا يقول العلمانيون عن القرآن الكريم ، وكيف يتعاملون معه ، وهم في نفس الوقت يدعون أنهم ينتمون إليه !! .


المبحث الأول
زحزحة الثوابت ونفي المقدس
أولاً – زحزحة الثوابت :
لا مجال في الخطاب العلماني للحديث عن الثوابت واليقينيات ، فلا بد - بنظره - لتحقيق التقدم والنهضة من خلخلة القناعات وزحزحة المعتقدات ( ) ، واختراق الممنوعات السائدة ، وانتهاك المحرمات والتمرد على الرقابة الاجتماعية ( ) .
ولابد من اختراق أسوار اللامفكر فيه ، والمسكوت عنه ( ) ، وتحريك العقول إلى المناطق المحرمة ( ) ، والخروج من الأصولية العقائدية الدوغمائية ( ) والإطار اللاهوتي للفكر الإسلامي ( ) ، وتفكيك الأنظمة والقراءات اللاهوتية والدوغمائية ( ) . والتحرر من التفكير الدوغمائي المجرد وثنائيات الإيمان والضلال ، والعقل والإيمان ، والوحي والحقيقة ( ) . وإعادة النظـر في كل المسلمـات التراثية والعقائد الدينية التي يتلقاها المسلم منذ الطفولة( ) ، وتجنُّب الإجابات الجاهزة ، وتحرير المعرفة من الدائرة الأرثوذكسية المغلقة التي تمارس نوعاً من الاستلاب على مريديها ( ) .
إن الأجوبة القديمة رسخت وسادت بقوة الشيوع وحماية السلطان ( ) ولم تعد نافعة ، ولا بد من إجابات مختلفة تماماً ومنفتحة تماماً ( ) ، لأن الثوابت والمسلمات والمقدسات تتغير على الدوام مع تقدم العقل البشري ( ) .
والثبات على المنهج الأصولي الدوغمائي هو مصيتنا ( ) ، فلا بد من تفكيك القباب المقدسة قداسات زيوف والتي تختم على العقل العربي ( ) ، وبدون الإفراج عن الأسئلة المحرمة والمكبوتة ، وإطلاق الزفرات المضمَرة المقهورة سيظل التخلف مسيطراً ( ) .
إن كل ذلك سوف يُطهِّر الدين من كل الشوائب الثيولوجية العالقة ويجعل العقل في علاقة مباشرة مع الدين دون فرضيات يقينية أو مسلمات عقائدية ، إن التوتر المعروف بين التراث الديني والفكر الفلسفي مرغوب فيه ، ولا بد أن يبلغ درجة قصوى حتى يتمكن العقل من تفكيك الميتافيزيقا الإسلامية ، ليتخلص من كل مظاهر الاستلاب الذي يمارسه الوعي الديني على الوعي البشري . قد يُفضي ذلك إلى نوع من العدمية تضمحل فيها الثوابت المتعارفة والقديمة ، ويعيش المجتمع حالة من الضياع ، ولكن كل ذلك مؤقت لأن التفكيك لابد أن يعقبه تركيب ( ) .
ولذلك لا مانع من انتهاك القيم السائدة والخروج عليها من أجل تقدم المعرفة ( ) ، وذلك بهدم الأسوار والحصون التي شيدها الفكر المستقيل والمنغلق على ذاته بسياج دوغمائي مجمَّد( ) وذلك كما فعل المفكرون الأحرار الذين رفضوا الدين جملة وتفصيلاً ، ومع ذلك فهم لم يخرجوا عن الإسلام وإنما عن فهم ضيق قسري شكلاني سطحي للإسلام ( ) .
ولن يتم ذلك إلا بتطبيق منهجية النقد التاريخي على التراث العربي والإسلامي، لا بد أن تسـير في نفس الطريق الذي سـارت فيه أوربا ، ولا بد أن تَهـزَّ المسلمين ، ولا بد أن يدفعـوا الثمن ( ) . فلا بـد لنا من إزالة كثير من العقبات الكأداء التي تصرفنا عن سبيل الرشاد سبيل الحداثة ( ) ، ولن ينفعنا تحفظَّنا أو توهُّم مقاومة هذا التيار الحداثي انطلاقاً من مقولات مهترئة ، وثوابت لا يصدقها العقل ، وإن مالت إليها عاطفتنا الدينية ( ) .
والسبيـل إلى هـذا الأمل هو التخلص من سلطة النصوص المغلقة ، والتحرر من قال الله وقال الرسول ( ) ، والتحرر من سلطة السلف ، والإجماع ، والقياس ، لأن هذه السلطات تلغي العقل وتجعله لا يفكر إلا انطلاقاً من أصل أو انتهاء إليه أو بتوجيه منه ( ) . كذلك فإن اللغة والشريعة والعقيدة عنـاصر تتكون منها المرجعية التراثية ولا سبيل إلى تجديد العقل إلا بالتحرر من سلطاتها ( )، وذلك بإزاحة القداسة عن منظومة الشافعي الأصولية والتخلص من التعلق الحرفي بالنصوص ، والإعراض عن النظرة الفقهية للدين ، وتكريس المسؤولية الفردية ( ) .
إن كل ما قرأناه آنفاً من قرارات اتخذها الخطاب العلماني قائمة كما هو واضح على رفض للإسلام جملة وتفصيلاً بزعم أن هذا الإسلام من الثوابت التي تحول بين الفكر والإبداع ، ولابد لكي يتحقق الإبداع من إطلاق حرية الإنسان ، وهي نتيجة لازمة لهذه المطالب القائمة على الزحزحة والزعزعة والرفض ، وقد عبر عن هذه النتيجة أدونيس بصراحة عندما اعتبر الرؤية الإسلامية هي السبب في الاتباعية وضمور الإبداع ( ) لأنها تكرس المحرم ، فلذلك لابد من الثورة على هذا المحرم والتأسيس للشهوانية والإباحية ، لابد من الثورة على التقاليد الاجتماعية الدينية والعودة إلى البداية حيث لا خجل ولا عار حيث "" اللاخطيئة فاللذة هي القيمة "" ( ). وحيث الإلحاد الذي يُمثل خروجاً عن النسق الديني للمجتمع ولذلك فهو "" نهاية الوعي وبداية لموت الله [ سبحانه ] أي بداية العدمية التي هي نفسها بداية لتجاوز العدمية "" ( ) . إن هذا هو الوعي الجديد هو الذي يقوِّض الوعي القديم ، ويتساوى مع الوعي الذي خلقته الحركة القرمطية على مستوى التاريخ ( ) .
وهكذا تلتقي العلمانية مع الغنوصية والباطنية في بداية الطريق ونهايته .
والسؤال : هل نحن بحاجة إلى أن نناقش هذا العبث ؟ والإجابة : إذا كان العبث بممتلكات الناس وأموالهم ، والاعتداء على أرواحهم ، وأعراضهم يحتاج إلى عقوبات رادعة ، ومؤاخذات زاجرة ، فإن العبث بعقولهم والاعتداء على معتقداتهم ومقدساتهم يستلزم بلوغ الغاية في ذلك .
ثانياً – نفي المقدس :
الخطاب العلماني - كما رأينا - يرفض أن تكون هناك محرمات " تابو " أو مقدسات لأن المقدس أو المحرم أولاً يحاصر العقل ويحول بينه وبين الانطلاق ، ويسبب له عملية كبت حيث نجد "" وجـداننا لا يقتـرب من الله والسلطة والجنس مـع أننا نفكـر فيها ليل نهار ، ونعيشها بوجـداننـا من أجـل الإشبـاع وتعويضاً عن الحرمان "" ( ) . وثانياً هو الذي يولد التعصب و" الدوجماطيقية " ( ) فالعنف مرتبط بالتقديس والعكس صحيح ، لأن الحقيقة مقدسة وتستحق أن يُسفَك من أجلها الدم ( ) ، وهذا ما حصل في الميثولوجيا الإسلامية ( ) . لذلك فالدوجماطيقية - أي توهُّم امتلاك الحقيقة المطلقة - ( )
مضادة للتنوير ( ) لأنها تعني التعصب بلا حدود ( ) .
فما العمل للقضاء على التعصب ؟ يتم ذلك ببيان أنه نظام " دوجماطيقي " مغلق وكاذب ، بيد أن هذه المحاولات محكوم عليها بالفشل في أغلب الأحوال ، لأنها لا تكشف عن الخلفية الحقيقية للتعصب ، فالخلفية الحقيقية هي القوى اللامعقولة الخفية وأعني بها " التابو " أو الممنوع " المحرم " غير القابل للنقد ، والمتجذِّر في اللاوعي الجمعي ( ) .
ولذلك يمكن اعتبار التنوير أعظم ثورة في تاريخ البشرية لأنها تربي البشرية على اجتثاث هذه الجريمة ( ) . إن التربية التنويرية هي التي يجب أن تعم بيوتنا ومدارسنا وعقولنا لكي تُنتِج الشعب الشجاع القادر على تجاوز الحدود التي يفرضها المقدس ونبذ الخوف منه ( ) ، لأن المقدس لم يكن إلا فزَّاعة سلطوية " أيديولوجية " ( ) كان النبي [  ] يستخدمها لإضفاء المشروعية على تصرفاته لأنه لا بد من مركز تأسيس مقدس ( ) ، حتى أُضفيَت القداسة على كل شيء ، وعلى كل ما يُربط بالقرآن الكريم ( ) ، ثم أصبح التـاريخ الإسـلامي وكأنه تاريخ للقداسة ( ) .
ما هو المطلوب إذن ؟
يحلم الخطاب العلماني بجمهور مستعد لتلقي البحوث الأكثر انقلابية وتفكيكية لكل الدلالات والعقائد واليقينيات الراسخة ( )، ويحلـم بانزياح هذه الأنظمة الكبرى المتمثلة في الأديان من دائرة التقديس والغيب باتجاه الركائز والدعامات التي لا زال العلم الحديث يواصل اكتشافها ( ). ويأمل أن نصل ذات يوم إلى المستوى الذي بلغة أبو العلاء المعري حين قال :
ولا تحسب مقال الرسل حقاً ولكن قول زور سطَّروه
وكان الناس في عيش رغيد فجاؤوا بالمحال فكدَّروه ( ) .
فالخطاب العلماني يعتبر مقولة المعري السابقة نهاية التنوير ونحن لم نبلغها بعد : "" لأن مقولات التنوير والتحديث والعلمانية لم تؤت ثمارها ، بل هي فقدت مصداقيتها وغدت مجرد أسماء يتعلق بها الدعاة المحدَثون كما يتعلق المؤمن باسم ربه "" ( ) . وهكذا – بنظر الخطاب العلماني – أصبح تعلُّق المؤمن باسم ربه فاقداً لمصداقيته ، فاقداً لثماره كما حصل مع مشاريعه التنويرية !! .
ولذلك يريد الخطاب العلماني في المرحلة الأولى أن يزحزح القداسة ويحولها من الغيب إلى المادة ، حيث تصبح العلمانية ومبادئها هي المقدسات فالديمقـراطية والشعب ، والحرية والمادة ، هي مفردات المقدس العلماني الجديد الذي يتجلى بأشكال مختلفة ، والعلمانيون هم اللاهوتيون الجدد ، وكتاباتهم هي الكتابات المقدسة التي يجب أن تحل محل الكتب السماوية أما في المراحل المتقدمة من العلمانية فإن المطلوب هو انتزاع القداسة عن العالم والإنسان والنظر إلى كل الظواهر نظرة مادية صرفة لا علاقة لها بما وراء الطبيعة "" وإذا ما تم ذلك فإن العالم " الإنسان والطبيعة " يمكن أن يصبح مادة استعمالية يمكن توظيفها والتحكم فيها وترشيدها وتسويتها وحوسلتها... ونزع القداسة يؤدي إلى ظهور نزعة إمبريالية لدى الإنسان فهو ينظر إلى العالم باعتباره مادة نافعة له يمكنه توظيفها لحسابه "" ( ) .
ولكن هل يمكن للإنسان أن يتخلص من المقدس في هذه المرحلة كما يتصور الخطاب العلماني ؟ يعترف الخطاب العلماني بأن المقدس نمط لوجود الإنسان ، بل إنه شكل أو بعد من أبعاد الدنيوي ، فالإنسان يعيد إنتاج المقدس بأشكال جديدة وهو يمارس دنيويته ( ) لذا لا يمكن التخلص من المقدس "" لأن البحث عن المقدس أساسي بالنسبة للإنسان إذ يبدو أن الإنسان لا يمكنه أن يواجه عالماً من الصيرورة الكاملة ، والحياد الكامل لا مركز له ولا معنى ولا أسرار فيه ، ولذا فهو دائم البحث عن مركز ومعنى ، يحاول دائماً أن يستعيد القداسة لعالمه ، وهذا يعود إلى أن الإنسان ليس مجرد إنسان طبيعي " مادي " مجموعة من العناصر البيولوجية ، وإنما يوجد داخله ما يميزه عن الطبيعة / المادة "" ( ) .


المبحث الثاني
انتهاك قداسة القرآن
أولاً – الأنسنة ونزع القداسة :القرآن الكريم - بنظر الخطاب العلماني – "" أنطولوجيا " متعالية ، راسخة ( ) ، "" فالخطاب القرآني يعلن الحقيقة المطلقة عن العالم والمخلوقات والتاريخ بكل الهيبة والسيادة الخاصة بمؤلفه الله الواحد الأحد المهيمن الجبار "" ( ) . و"" لقد رسخ القرآن مراتبية هرمية أو طبقية أنطولوجية ذات مستويين : الأول والأعلى هو مستوى المطلق التنزيهي المتعالي ، والمستوى الثاني هو مستـوى التجسيد التاريخي والعمـل التاريخي المحسوس "" أي العمل النبوي ( ) .
إن القرآن يقوم بعملية "" خلع التعالي على أحداث تاريخية واقعية حصلت في زمن النبـي [  ] ولكنها حُوِّرت من قبل الخطاب القرآني لكي تتخذ دلالة كونية تتجاوز خصوصيتها المحلية ، وتتخذ صفة الكونية ، وتصبح وكأنه لا علاقة لها بحدث محدد وقع في التاريخ المحسوس "" ( ) . وهكذا فالقرآن عن طريق العمليات الأسلوبية والبلاغية التي يتبعها "" يمحو المعالم المحسوسة والإشارات التاريخية الدقيقة عن طريق أسلوب التسامي والتصعيد ، أي تصعيد هذه الأحداث بالذات ، وإسباغ الروحانية الدينية والكونية على مفردات ذات مضمون اجتماعي وسياسي وقانوني في الأصل ... وهكذا ينجح [ القرآن ] في محو كل التفاصيل والدقائق التاريخية للحدث ، ويصبح خطاباً كونياً موجهاً للبشر في كل زمان ومكان ، وهكذا يفقد صفته التاريخية فيبدو وكأنه خارج التاريخ أو يعلو عليه "" ( ) .
هذه المحاولات من القرآن هي – بنظر الخطاب العلماني - محاولات أيديولوجية أي أن القرآن يفعل ذلك ويتعالى بالتاريخ لمقاصد وأغراض دنيوية ، ومن مهام أركون والمثقف العربي عموماً "" الخروج من السياج الدوغمائي المغلق الذي تم ترسيخه وتشغيله وإعادة إنتاجه من قِبل المؤسسات الدينية على مدى قرون طوال ، وهذا السياج تمثل في الأصل أول ما تمثل " بالدائرة الأيديولوجية " التي افتتحها القرآن وعمل النبي[  ] ثم وُسِّعت وُضخِّمت فيما بعد من قِبَل العلماء والفقهاء "" ( ) .
وهكذا يريد أركون أن يقف في وجه القرآن ويتصدى له ، فالقرآن يُرسِّخ الأدلجة والأسطرة والتقديس "" لأن النصوص جميعاً سواء في ممارسة الحجب والمخاتلة والألاعيب والمراوغة "" ( ) وأركون يريد "" تشكيل معرفة معادية للخداع والأسطرة والأدلجة والتقديس "" ( )
فالقرآن "" يغطي على تاريخانيته ببراعة عن طريق ربط نفسه باستمرار بالتعالي الذي يتجاوز التاريخ الأرضي كلياً أو يعلو عليه "" ( ) وأركون يريد أن يكون أكثر براعة من القرآن فيكشف عن هذه التاريخية القرآنية ، وهذا يعني أن التقديس للقرآن كان بسب هذه البراعة القرآنية في التغطية على أرضيته . ولكنه يرى في مكان آخر أن "" التقديس للكتب المقدسة خُلع عليها وأُسدل بواسطة عدد من الشعائر والطقوس والتلاعبات الفكرية الاستدلالية ، ومناهج التفسير المتعلقة بكثير من الظروف المحسوسة المعروفة أو تمكن معرفتها وأقصد بها الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية ... وهذا التقديس الذي خُلع وأُسدل قد توضحت أسبابه وبُرهن عليها فيما يخص التوراة والإنجيل ، ولكنها لم تحصل حتى الآن فيما يخص القرآن . لماذا ؟ بسبب الظروف السياسية والثقافية والتربوية للمجتمعات السائدة "" ( ) .
فقداسة القرآن هنا ليست أصلية وإنما دخيلة ، وليست جوهرية وإنما سطحية ، وليست حقيقية وإنما مصطنعة حصلت لأسباب سياسية وثقافية وتلاعبات فكرية ، وأن هذه التلاعبات قد كشفها النقد وتبين زيفها فيما يخص التوراة والإنجيل ، أما بالنسبة للقرآن فإن هذا لم يحصل بعد فلا يزال كتاباً مقدساً يحتوي على مساحة كبيرة من اللامفكر فيه ، ويأمل أركون أن يتحقق ذلك، فالهدف الأساسي الذي يسعى إليه هو الكشف عن تاريخية القرآن فإذا كان القرآن "" يغطي على تاريخانيته ببراعة "" فإن أركون يريد أن يكون أكثر براعة .
إن القرآن – بنظر الخطاب العلماني لأنه متعالي لا تاريخي – فهو يسيطر على عواطف الناس وعقـولهم ، ويزيح الموضوعية مقدماً ، ويطالب بالتسليم المطلق ، ويختار قراءه منذ البداية ( ) ، ويستولي على مشاعر القارئ والسامع بحيث يحاصره في سلفوية ماضوية ، فيفصل الواقع عن الإنسان ، ويصبح المثال بدل الواقع ، ويتغلب التأثر بالعاطفة على الفهم والعقل ( ).
ولذلك فالخطاب القرآني كخطاب المسيح الناصري خطاب سلطوي محكوم بهدفين : تدمير الخطابات السابقة ، وترسيخ الخطاب الجديد ( ) ، ولأن القرآن الكريم كذلك وهو ما لا يريده الخطاب العلماني فإن الهدف الأساسي هو ألَّا نقف عند هذه القداسة القرآنية كما يفعل المحافظون ( ) ، وألَّا ننطلق من هذه الأرضية للنص الديني لأنها "" أرضية خطرة زلقة على كل حال ، فللنص حدود تحده ، ليس على مستوى اللغة فحسب وإنما على مستوى لحظة حضوره على الساحة أو زمن إنتاجه إن جاز التعبير "" ( ) ، ولأننا "" إذا استمررنا في النظر إلى القرآن كنص ديني متعال -أي يحتوي على الحقيقة التي تجعل حضور الله دائماً - فإننا عندئذ لا نستطيع أن نتجنب مشاكل التفكير الثيولوجي ، والبحث الثيولوجي "" ( ) . لأن القداسة تجعل الأدوات البشرية قاصرة أمامها ، بحيث لا يمكنها أن تطال هيمنة النص ، ويصبح ذلك حاجزاً أمام الفهم لأن أدوات التعامل ستظل بشرية أرضية وإن ادعت التعالي ( ) .
ومن هنا يريد الخطاب العلماني نزع هالة القداسة عن الوحي بتعرية آليات الأسطرة والتعالي والتقديس التي يمارسها الخطاب القرآني ( ) ، وذلك بأن ننظر إلى القرآن ليس على أنه كلامٌ آتٍ من فوق ، وإنما على أنه حدث واقعي تماماً كوقائع الفيزياء والبيولوجيا ( ) ، أو أن ندرسه بوصفه نصاً فقط ونصاً لغوياً دون أي اعتبار لبعده الإلهي لأن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق على النص يعكِّر كون النص منتَجاً ثقافياً ، ويعكر الفهم العلمي له ( ) . ولأن النصوص الدينية ليست مفارقة لبنية الثقافة التي تشكلت فيها ، والمصدر الإلهي لها لا يلغي كونها نصوصاً لغوية مرتبطة بزمان ومكان ، ولا يهمنا هذا المصدر الإلهي ، وكل حديث فيه يجرنا إلى دائرة الخرافة والأسطورة ( ) . والتركيز على ألوهية مصدر النص - بنظر الخطاب العلماني - ليس له مبررٌ إلا سيطرة قوى التخلف والرجعية على واقع المجتمعات الإسلامية ، وهي قوى تقف ضد تحرير العقل ( ) .
ومن هنا يمتدح الخطاب العلماني أركون لأنه "" حررنا من الهيبة الساحقة للنص ...هذه الهيبة التي تحجب عنا حقيقة ماديته اللغوية "" ( ) ، وهو ما يعلنه أركون حين يقول : "" عملي يقوم على إخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن "" ( ) ، وحين يُحدد مسعاه من نقده بأنه "" فرض قراءة تاريخية للنص القرآني "" ( ) حيث يُخضِع أركون القرآن الكريم لمطرقته النقدية بعين حفرية تفكيكية كاشفاً عن تاريخيته الأكثر مادية ودنيوية ، والأكثر يومية واعتيادية والأكثر شيوعاً بل والأكثر ابتذالاً ( ) .
ولهذا الغرض كان التركيز إما على المدخل الأدبي اللغوي واعتباره المنهج الوحيد لفهم النص القرآني ( ) ، وإما على المدخل الهرمينوطيقي أو اللساني حيث الألسنية فائدتها - كما يقرر الخطاب العلماني - أنها تزحزح كثيراً من قداسة النص وهيبته المفروضة علينا ، فالألسنية تحيِّد الأحكام اللاهوتية الثقيلة التي تحيط بالنص عبر القرون ( ) ، وتُبيِّن أن النصوص الإلهية كغيرها من النصوص اللغوية خاضعة للمشروطيات البشرية ( ) .
هكذا تكلم العلمانيون ..
وهذا هو رأيهم في القرآن بشكل عام وهم يوظفون لإزاحة قداسة القرآن الكريم مناهج مختلفة ماركسية وإنسية وهرمينوطيقية دون اعتبار لقداسته ودون اعتبار لكونه كلام الله عز وجل والفقرات التالية تزيد ما نقوله وضوحاً .
ثانياً - نقد القرآن :
هل يُنقد القرآن ؟ ذلك هو السؤال المرعب بنظر أركون وعلي حرب ؟ ( ) .
وإذا كان أركون قد أجاب بأنه "" من المستحيل عملياً في اللحظة الراهنة فتح مناقشة نقدية تاريخية أو حتى مناقشة تأويلية بخصوص القرآن "" ( ) ، إلا أنه عملياً قد تجاوز كل حدود النقد إلى الكثير من الافتراء وإساءة الأدب ، فقد قرأنا له قبل قليل "" عملي يقوم على إخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن "" ( ) . بل إنه يقرر أن النظر إلى القرآن الكريم نظرة نقدية تاريخية إنتربولوجية يزعزع جميع الأبنية التقديسية والتنزيهية التي بناها العقل اللاهوتي التقليدي ( ) ).
والخطـاب العلماني عموماً يكرر كثيراً الدعوة إلى نقد القرآن وإخضاعه للتحليل والتفكيك ( ) ، ويرى أن نقد القرآن من المناطق المحرمة في فكرنا ( ) ، مع أن هذا النقد ضروري ولا بد منه لكي يحافظ الإنسان على تماسكه المنهجي أو العقلي ( ) . وقد تطور الأوربيون لأنهم أخضعوا نصوصهم المقدسة للنقد ( ) .
تلك هي إجابة الخطاب العلماني فماذا يجيب الإسلاميون عن هذا السؤال ؟
لقد أجاب القرآن الكريم عن هذا السؤال فطلب من القارئ أن يتدبر أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً  ( ) وذكر القرآن كل الانتقادات التي وُجِّهت إليه دون أن يخشى شيئاً منهـا ، وهي لا تزال تُتلى إلى اليوم فقالوا عنه بأنه سحر، أو شعر ، أو كهانة ، أو افتراء أو أساطير ، أو أضغاث أحلام ، إلى آخر ذلك . وتعلم المسلمون من ذلك فكانوا من أشد الأمم نقداً لكتابهم ، فما من مفسر إلا ويقارن بين الآيات ، ويفترض الاعتراضات والإشكالات ، ويضع نفسه على أنه خصم للقرآن ، والرازي أبرز دليل على ذلك في تفسيره مفاتيح الغيب وفي كل كتبه ، والزمخشري كذلك ، والباقلاني وغيرهم .
لكن النقد في المفهوم العلماني حتى يكون نقداً يجب أن يخرج بنتائج مناقضة للقرآن ومضادة لتعاليمه ، فكل نقد يرسخ المعاني القرآنية ويؤكدها هو نقد تقليدي أيديولوجي تبجيلي ، أما النقد الذي يرفض بعض العقائد القرآنية أو يسخر منها أو يستهزئ بالقرآن الكريم فهو الذي يسمى نقداً تنويرياً .
ولابد من القول هنا : إن عملية الحياد أو الموضوعية غير ممكنة لأن الحياد والموضوعية تابعان للاعتقاد والاعتقاد انفعال وليس فعلاً – ولا يخلو الإنسان من اعتقادٍ ما أياً كان هذا الاعتقاد - فلا يمكن لإنسان مسلم أن ينقد القرآن ويخرج بنتائج تعارض تعاليمه الأساسية الواضحة المجمَع عليها ، يمكنه أن يخرج بنتائج جديدة فيما هو خاضع للاجتهاد ، أو أن يُحسن تنزيل الآيات على الوقائع والمستجدات الطارئة ، أما من يقول إنه مسلم ثم ينسف كل تعاليم القرآن بانتقاداته أو يحرفها أو يناقضها فهو إما متشكك أو منخلع من ربقة الإسلام ويُظهر الإسلام نفاقاً .
إن المسلمين على مر التاريخ يرحبون بانتقادات الخصوم الذين لا يؤمنون بالقرآن ولا يدينون بالإسلام ، والمؤلفات التي كتبت في الرد عليهم كثيرة جداً وتحتوي على كل ما تعلق به أولئك الخصوم ، بل إن المسلمين يعرضون شبهات الخصوم أفضل من عرضهم هم أنفسهم لها ، أفليس هذا هو منهج النقد ؟ ولكن ما دام المسلم مسلماً يعتقد أن كتاب الله لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ  ( ) فلا بد له من بيان تهافت الانتقادات وبطلانها ، أما أن يجمع الإنسان بين الإسلام من جهة ، والاعتقاد باحتواء الإسلام على أباطيل أو تناقضات من جهة أخرى فإن هذا لا يجتمع إلا في أشخاص المنافقين والزنادقة .
إن النقد في المفهوم العلماني هو النقد بمفهوم الحداثة وما بعد الحداثة ، والذي لا يعتد بقائل النص بل ولا يعتد بالنص أصلاً ، وإنما يعتد بقدرة القائل على التحريف والتقويل ، مع ضرورة استبعاد " الماورائيات " فالنقد الحداثي أصلاً مرتبط بالفلسفات المادية والإلحادية ويقوم على اعتقاد وليس كما يزعم أصحابه ينطلق من حياد ، لأن الزندقة والإلحاد نوع من الاعتقاد السلبي هذا الاعتقاد السلبي له دوره الخطير في توجيه عملية النقد ( ) .
ومن هنا فإن النقد في الخطاب العلماني يجب أن يقوم على الهدم والتشكيك والنقض والتفكيك لأن خلفيته الفلسفية تقوم على هذه الأسس ، وكل نقد ينطلق فيه الباحث من إيمان واعتقاد إيجابي ، ويخرج بنتائج متلائمة مع هذا الإيمان ومتساوقه معه فإنه بنظر الخطاب العلماني يعتبر نقداً تقليدياً وهكذا ينظر الخطاب العلماني إلى الكتابات الإسلامية :
- فكتاب مالك بن نبي " الظاهرة القرآنية "" كتاب سطحي جداً "" ( ) . وكـتاب موريس بـوكاي " الـتوراة والإنجيـل والقـرآن والعـلم " "" كتـاب تبجيلي هزيل جداً "" ( ) . ومثله كتاب روجيه جارودي " وعود الإسلام " "" كتاب هزيل أيضاً " ( ) . هذه الكتابات التبجيلية بنظره تلقى رواجاً واسعاً لدى الجمهور ( ) .
أما عن كتابات أنور الجندي فإن "" الأسلوب العلمي [ الأركوني طبعاً ] يحتقر هذا النوع من الكتابة "" ( ) . ويصف نصاً ينقله لأنور الجندي بأنه يفيض بالأحكام التعميمية المزعجة ، والتبسيطات السطحية الرديئة ، والتعبيرات الهائجة ، والأوامر الاعتباطية ، والهواجس العصابية التي تُغذِّي الوعي الخاطئ للخطاب الإسلامي ( ) ، مع أن الجندي كان يعدد بعض مبادئ الإسلام وتعاليمه وقيمه بهدوء ، ولم أجد فيه شيئاً من الأوصاف الأركونية الفاشية السابقة ( ) .
بل إن كتاب شحرور " الكتاب والقرآن . قراءة معاصرة " وكتاب الصادق بلعيد " القرآن والتشريع " يعتبران بنظر أركون "" مثالان للنقد الذي يعطينا صورة عن التراجع الفكري الذي حصل للفكر الإسلامي طيلة الخمسين عاماً الماضية "" ( ) .
لمـاذا ؟! وقد قام الرجلان بما تتطلبه الحداثة الأركونية ، ونسفا كل أحكام القرآن وتعاليمه ؟!
لعل السبب في ذلك أن الرجلين قد ابتدآ دراساتهما بعد الإيمان بالمفهوم التقليدي للوحي ، يعني أنهما لم يُشكِّكا في حقيقة الوحي كما هو معروف في الفكر الإسلامي ، إن الوحي في كتابات هؤلاء "" لم يتعرض للمساءلة ، ولم يصبح إشكالياً ، وإنما تم تثبيته مرة أخرى بالنسبة للمسلمين اللذين قد يتعرض إيمانهم للاهتزاز أو الزعزعة تحت تأثير الفكر العلمي الحديث "" ( ) . في حين يريد أركون "" نقد أكثر جذرية ، وهو نقد يرتكز على القضايا الأساسية التي أحاول أنا شخصياً إدخالها وإعادة تنشيطها وبعثها بصفتها مساهمة في إنجاز المهام الخصوصية لما أدعوه بالعقل الاستطلاعي المستقبلي المنبثق حديثاً "" ( ) .
وهكذا تبدو العجرفة العلمانية في شكل فاشية تنفي وتقصي كل الآخرين لتثبت ذاتها في القمة والهرم ، هذا عندما تكون في إطار تنافسي مع أجزائها ، أما عندما تكون في إطار تنافسي مع الإسلاميين فإنها لا تحرم مشايعيها من بعض الإطراء والثناء ، عند ذلك توصف مؤلفات الإسلاميين بأنها "" الأدبيات التراثية للإسلام النضالي الوعظي الدوغمائي ذي الأهداف الشعبية أو حتى الشعوبية الديماغوجية "" ( ) . أما ما يكتبه هو وشيعته العلمانية فإنها "" الكتب العلمية التي تقدم صورة تاريخية أو واقعية موضوعية عن الإسلام ، أقصد بذلك الكتب الجادة التي تعطي الأولوية للتحليل التفكيكي والإيضاحي والنقدي عن كل أنظمة العقائد واللاعقائد " وعن كل التركيبات اللا هوتية "" ( ) .
يجب أن تنطلق الدراسة النقدية للقرآن – إذن - من الخلفية الفلسفية التي يتبناها الخطاب العلماني ، وأن تتجنب الوقوع في أسر التبريرات والتأويلات ذات الطابع الدفاعي أو السجالي ، وأي قـراءة "" تستبعد السياق التاريخي الشامل لنزول الآيات وما يتضمنه من سياقات جزئية ستفضي بالضـرورة إلى الانخـراط في التعـامل مع افتراضات تحددها أساساً أيديولوجية الباحث "" ( ) . وأي دراسة لا تلتزم بالمنهج اللغوي – البوزيدي - "" الوحيد "" ستكون دراسة منخرطة في شبكة الإجابات الجاهزة ، ودوامه التشويش الأيديولوجي ( ) ، وترتدي ثياب التراث في أشد اتجاهاته تخلفاً ورجعية ( ) . ولذلك يكون منهج التحليل اللغوي هو المنهج الوحيد الإنساني الممكن لفهم الرسالة ، ومن ثم لفهم الإسلام ( ) .
وهكذا يحسم الخطاب العلماني موقفه مستخدماً كل أشكال المصادرة والنفي والإقصاء والفاشية هذه الأوصاف التي لا يكف عن وصم الآخرين بها .


المبحث الثالث
القرآن الكريم والعبثية العلمانية
ينطلق الخطاب العلماني في تعامله مع القرآن الكريم من خلال عدة أسس مرت معنا جميعها متفرقة في ثنايا البحث ونلخصها بالمحاور التالية :
1 - الأنسنة :
فالنص القرآني بنظر هذا الخطاب قد تأنسن منذ أن تلفظ به النبي  وتحول منذ تلك اللحظة من كتاب تنزيل إلى كتاب تأويل ، والمصدر الإلهي للنصوص لا يخرجها عن كونها نصوصاً بشرية لأنها تأنسنت والنص الخام المقدس لا وجود له لأن الكلام الإلهي المقدس لا يعنينا إلا منذ اللحظة التي تموضع فيها بشرياً ( ) . ومن هنا يقول "" إننا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية "" ( ) .
2 - المركسة :
فالنص "" منتَج ثقافي "" و ""يعيد إنتاج الثقافة "" ( ) . ويستمد خصائصه من حقائق بشرية دنيوية اجتماعية ، ثقافية ، لغوية ( ) .
3 - النسبية :
حيث يصبح النص قابلاً لكل الأفهام ، وليس له معنى محدداً ، وإنما يقول كل شيء ولا يقول شيئاً ( ) .
من خلال هذه الخلفية الفلسفية ينطلق الخطاب العلماني يقرأ القرآن الكريم ويطمئننا بأننا يجب أن لا نخشى تطبيق العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة وخصوصاً علم الأديان المقارن على النص القرآني ( ) ""ومهمة الباحث المسلم أن يمضي في سعيه لأنه لا يخشى على القرآن ، ويثق ثقة مطلقة بأنه كتاب مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
... ومن هنا لا خشية من أن نطرح القرآن للمناهج الحديثة في الدراسة ... فهي تمكننا من اكتشاف مستويات عميقة في القرآن لم يستطع العلماء اكتشافها "" ( ) . لأن النص يتحدد من خلال سياقه بوصفه خطاباً ، وكونه خطاباً إلهياً لا يعني عدم قابليته للتحليل والنقد ، لأنه تجسد في اللغة الإنسانية ( ) "" وهو كغيره من النصوص البشرية معرض لأن يموت إذا لم يجد قراءً "" ( ) . فالقرآن نزل للبشر ، وبلغة البشر ، فيجب أن يفهمه البشر على ضوء قواعدهم اللغوية والنحوية ، لماذا يتضايق الناس من ذلك ؟! ( ) .
وإذا تعاملنا مع كتاب الله بهذا المنهج – منهج التحليل اللغوي المعاصر – فإننا قد نستخلص ما يتنافى وعقيدتنا فهل نتجاهل ذلك وندفن رؤوسنا في الرمال ؟! وهل نخشى على كتاب الله ؟!( ).
بالطبع نحن لا نخشى على كتاب الله عز وجل ، ولا نخشى من العبث به لأنه محفوظ من العبث وإنما نخشى من العبث بالعقول ، وتزوير الحقائق ، وترويج الأكاذيب .
من خلال الأسس السابقة يفسح الخطاب العلماني المجال لنفسه لكي يصف القرآن الكريم بكل الأوصاف المنحطة ، ويتجرأ على اقتحام قداسته ، وتجاوز هيمنته وسماويته وتجلى ذلك فيما يلي :
أولاً - أدلجة القرآن :
كما رأينا طرفاً من ذلك في الفقرة السابقة فالقرآن له دوافع خفية دنيوية أهمها تكريس السلطـة النبوية ، وإضفاء المشروعية على أفعال النبي  ، وإكراه الناس على الخضوع والطاعة ، وهو ما يعنيه أركون حين يقول بأن القرآن افتتح الدائرة الأيديولوجية – كما سبق - وهو بنظره موقف الباحث الذي يجب أن يحاكم النص القرآني من خلال الوقائع والأحداث التي جرت وليس من خلال المقاصد والنيات ( ) .
أما المؤمنون فيرون أن القرآن في نزوله عند الأحداث " أسباب النزول " ومتابعته لحركة المجتمع يقصد التثبيت لفؤاد النبي  كما يقرر القرآن بصراحة ، والمؤمنون آمنوا بما صرح به القرآن ، أما العلمانيون فقد ذهبوا يفترضون الافتراضات ، فالسؤال من هو الذي يبحث عن النوايا والمقاصد ؟ ( ) .
من هذا القبيل ما سقناه في مكان سابق عن القمني حين يعتبر القرآن لا يعتد بالحقيقة وإنما باللحظة الراهنة ، فيتقرب إلى اليهود ويجاملهم حين يكون المسلمون بحاجة إليهم ، ثم يهاجمهم ويُنكِّل بهم حين يقوى المسلمون ويستغنون عنهم وقد بينا هناك كذب القمني وافتراءه من خلال تاريخ نزول الآيات ( ) .
وهو موقف ينتهي منه الخطاب العلماني إلى وصف القرآن الكريم بالتناقض في الموقف من اليهود ، وفي الجبر والاختيار ، والموقف من المشركين ، والهداية والضلال ، ويسوق الآيات الكثيرة مستدلاً لهذا التناقض ، ويعلل ذلك بأنه إما موقف " أيديولوجي " من القرآن يراعي الأحوال السياسية والتاريخية والظروف الطارئة للدولة الناشئة ، وإما أن السبب هو في جمع القرآن، حيث جمع الصحابة الآيات المنسوخة إلى جوار الآيات الناسخة ( ). هذا الكلام الآنف الذكر في أساسه لجولد زيهر( ) أخذه عنه سيد القمني ثم تناقله عن القمني كلٌّ من طيب تيزيني ( ) ورشيد الخيون ( )وغيرهم ( ) .
إنها المنهجية الماركسية التي تقرر أنه ما "" إن تنتصر الثورة الاجتماعية وتتولى الطبقات الصاعدة السلطة السياسية حتى تطرح هذه الطبقة إيديولوجيتها وتبني دولتها وتقيم المؤسسات اللازمة للحفاظ على هيمنتها الطبقية "" ( ) . وهو ما يستدل الخطاب العلماني عليه بموقف القرآن من الشعر حيث يعتبره موقفاً أيديولوجياً ، فالقرآن ينفي عن نفسه الشعر "" لأسباب ترتبط بتصور العربي لماهية الشعر من حيث المصدر والوظيفة ، وبالمثل أراد أن يدفع عن محمد صفة الشاعرية ، لأن وظيفة الشاعر في ذلك المجتمع وظيفة مغايرة للوظيفة التي نسبها النص لمحمد ""  ( ) .
وهكذا يُطبِّق الخطاب العلماني المقولة الماركسية على القرآن من خلال وسمه بالأيديولوجيا حيث أحدث انقلاباً في الوعي الاجتماعي العربي ، ويصبح القرآن مشروعاً أيديولوجياً يخدم طبقته الصاعدة ( ) .
هذا الموقف نفسه الذي تعنيه إحدى الباحثات حين تقرر أن "" النص يعفو متى وجب ، ويأمر بالقتل متى استقام له الأمر ، فاكتسب بذلك دلالة جديدة تجمع بين المتناقضات عسى أن تؤلف بين الجموع المتنافرة "" ( ) .
ومن ذلك ما يوحي به خليل عبد الكريم إلى قارئه( ) حين يتجنب دائماً أن يشير إلى نزول القرآن ، ويربط نزولـه دائماً بإرادة النبي  ورغبته في حل الأزمات وهذه بعض كلماته في ذلك :
"" ولكن كما رأينا فيما سلف عندما تتأزم المشكلات ، ويقع كبراء الصحابة في ورطة يسعفهم محمد [ ] بالحل بأن يتلو عليهم آيات من القرآن تأتي بالفرج بعد الشدة "" ( ) .
ويقول أيضاً : "" وتَوصَّل محمد [  ] إلى حل لظاهرة الزنا ، وهو أن يتلو عليهم قرآناً يحرم الزنا "" ( ) . محمد [  ] يحل لعمر الورطة التي وقع فيها بأن يتلو آية قرآنية ( ) .
كان فصل الخطاب يأتي عن طريق آيات يقرؤها محمد[  ] .
في سبيل علاج جريمة الزنا قرأ محمد[  ] قرآنا حمل العقاب الصارم . ولم يكتف محمد [  ] بقراءة آيات من القرآن ( ) .
وعن أحاديثه[  ] يقول الأفاك : ""وكان استعمال محمد [  ] لأحاديثه هو كسلاح يفل به شوكة العلاقات الجوانح "" ( ) .
هذا لون من ألوان الزندقة التي يتفنن في التعبير عنها بعض العلمانيين أمثال خليل عبد الكريم والقمني وغيرهم .
ثانياً – تمييع التفرد القرآني :
1- دمجه في إطار النصوص المحرفة والمزورة :
يريد الخطاب العلماني أن يطمس المصطلح القرآني في وسط ركام هائل من المصطلحات الجديدة التبشيرية أو الحداثية أو الأدبية ، وذلك لكي يشتِّت خصوصية المصطلح القرآني ، ويدمجه في إطار تداولي وضعي مادي إنسي بشري ، فبالإضافة إلى وصف القرآن بأنه نص أو خطاب هكذا بدون أي إضافة ( ) يوصف القرآن أحياناً ببعض الأوصاف المستوردة من اللاهوت المسيحي مثل وصف القرآن بأنه الكتاب المقدس أو النص المقدس ، أو التبشير القرآني ، التبشيرية القرآنية أو الخطاب التبشيري ( ) أو " سفر الخروج القرآني " ( )
ويُصنَّف القرآن أحياناً تحت مصطلح الخطاب النبوي ويُقصد به القرآن والسنة وذلك لدمج القرآن مع السنة وزحزحة تفرده ( ) ، وأحياناً يُراد بهذا المصطلح - الخطاب النبوي- القرآن والتوراة والإنجيل ( ) ويُعتبر القرآن على ذلك نسخة منقَّحة من بعض الحشو الذي كان في التوراة والإنجيل ( ) .
ويُصنَّف الإسـلام تحت اسم " مجتمعـات الكتـاب أو أديان الوحي " أو " التراثات المقدسة " ( ) شاملاً بذلك اليهودية والنصرانية والإسلام ( ) ، والمساجـد تسمى كنائس ، والعلمـاء لاهوتيون أو أرثوذكسيون ( ) .
والفائدة من هذا الدمج للقرآن والإسلام عموماً مع المسيحية أو اليهودية وإسقاط المصطلحات التبشيرية على القرآن ليس إلا لتمييع التفرد القرآني والإسلامي ، وخلطه مع أنماط محرَّفة أو مزوَّرة أو مهجورة ، كما انه يخفف من وطأة النقد عندما توضع هذه الأديان جميعاً في سلة واحدة ومن ضمنها الإسلام ليناله ما نال الأديان الأخرى من دراسات نقدية أجهضتها وأفقدتها مصداقيتها التاريخية "" لقد فعل ذلك [ أركون ] لكي يبرهن على إمكانية الخروج من أسر السياج الدوغمائي المغلق ، وذلك عن طريق إجراء زحزحات منهجية وإبستمولوجية على الفكر الديني التوحيدي "" ( ) .
2- دمجه في إطار النصوص الإنسية البشرية :
هذه المصطلحات التبشيرية تتوازى أيضاً ولنفس الغرض مع مصطلحات أخرى أدبية وفلسفية تطلق على القرآن الكريم من أجل زحزحة المفاهيم الإسلامية المقدسة واستبدالها بمفاهيم جديدة تقبل النقد والتحوير والإسقاط فيسمى القرآن " اللوغوس القرآني " ( ) أو يوصف القرآن الكريم بأنه رواية أو مجموعة روايات ( ) أو حكايات ( ) أو ملاحم دراماتيكية ( ) منفتحة على العجيب المدهش الساحر الخارق الخلاب ( ) .
هذه الروايات القرآنية والتي يفضل القرآن أن يسميها قصصاً بدلاً من أساطير ( ) أُلِّفت لأغراض تبجيلية وجدالية ( ) ، ونتج عن ذلك أنواع من "" الخلط والحذف والإضافة والمغـالطات التـاريخية أحدثتهـا الرواية القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس "" ( ) . فالقرآن إذن – بنظره - يزوِّر التاريخ الحقيقي ، لأن التاريخ المحسوس لا يمدنا بوثائق عن بعض الأقوام مثل ثمود وعاد ( ).
أما حدث جمع القرآن فيسمى " واقعة المَصْحَفَة " ( ) . والمصحف يسمى " المدونة القرآنية " ( ) ، أو " المدونة النصية القرآنية " أو " المـدونة الرسمية " أو " النص الرسمي القانوني " ( ) . أما الآيات القرآنية فتسمى مقاطع ، والآية أو السورة أحياناً تسمى مقطع ( ) . أو تسمى " وحدات نصية "، والآية " وحدة نصية "( ) ، أو تسمى الآية " المنطوقة اللغوية " ( ) ، أو تسمى الآية علامة والآيات علامات ( ) .
ويوضح هاشم صالح لماذا تُستخدم هذه المصطلحات الألسنية الجديدة في وصف القرآن بدلاً من الأسماء والأوصاف والمصطلحات التي يعرفها المسلمون حين يقول : "" نلاحظ أن أركون يستخدم مصطلحات ألسنية محضة للتحدث عن القرآن فهو يقول المنطوقة أو العبارة اللغوية بدلاً من الآية القرآنية ، ويقول المدوَّنة النصية بدلاً من القرآن ... وسبب ذلك أنه يريد تحييد الشحنات اللاهوتية التي سرعان ما تستحوذ على وعينا عندما نتحدث عن القرآن ، فالقداسة اللاهوتية أو الهيبة اللاهوتية العظمى التي تحيط بالقرآن منذ قرون تمنعنا من أن نراه كما هو : أي كنص لغوي مؤلف من كلمات وحروف وتركيبات لغوية ونحوية بلاغية ... بمعنى آخر : إن المادية اللغوية للقرآن اختفت تماماً أو غابت عن أنظارنا بسبب الهيبة العظيمة التي تحيط به، وميزة القراءة الألسنية هي أنها تحيِّد الهيبة ولو للحظة من أجل فهم التركيبة النصية أو اللغوية للقرآن ، وتزداد هذه الهيبة في ما يخص سورة الفاتحة لأنها مستخدَمة يومياً في الشعائر والطقوس أي في الصـلاة أساساً ، وبالتالي فإن نزع الهيبة عنها ورؤيتها في ماديتها اللغوية أمر بالغ الصعوبة "" ( ) .
إن هذا الكلام فيه كثير من الخلط والتزوير لأن المسلمين عبر تاريخهم درسوا القرآن الكريم بمختلف الوسائل اللغوية نحواً وبلاغة ونظماً ، وهناك تفاسير تعتمد المنهج اللغوي كأساس، وأخرى تركز على الجانب البلاغي والفني ، وثالثة تهتم بالجانب الكلامي أو الفلسفي ، ورابعة تعتني بالمباحث الفقهية والأصولية ، ولم تحل قداسة القرآن دون ذلك ، لأن كل أشكال الدراسة والتفسير للقرآن التي تبحث عن الحق تدخل في إطار التدبر لآيات الله ، والتفكر بمعانيها وهو ما يحث القرآن الكريم عليه .
3 – تمييع مفهوم الإعجاز :
إن المراد لدى الخطاب العلماني ليس هو التمكن من دراسة القرآن وفهمه وإنما زعزعة الاعتقاد الراسخ في قلوب المؤمنين بكونه كلاماً متعالياً مقدساً مهيمناً حاكماً ، لأن هذا الاعتقاد يحول دون تمرير الخطاب العلماني لمراداته المناهضة للنص القرآني والمصادمة له . إن زعزعة القداسة تتيح لهؤلاء الناس أن يحيِّدوا قائل النص ومنزله ، وغض النظر عن أي تميُّز أو تفرُّد يمكن أن يحتفظ به القرآن الكريم زيادة على النصوص البشرية ، ومن هنا يصبح القرآن الكريم نصاً مثله مثل بقية النصوص ، ولكن لكي يطيِّب الخطاب العلماني خواطر المؤمنين يُقال عنه بأنه نص بامتياز ( ) أو أدب عظيم ( ) . ومعنى كونه نص بامتياز يعني أنه "" نص مفتوح واحتمال لا يتوقف عن التأويل "" ( ) ، أي أنه يستجيب لكل ما يريده منه الناس دون تردد "" ولا يمكن لأي تفسير أو تأويل أن يغلقه أو يستنفده بشكل نهائي أو أرثوذكسي "" ( ) . إنه نص كغيره من النصوص الثرية الراقية ( ) ، مثله مثل النص الفلسفي ( ) أو النص الماركسي يقبل تعدد الأفهام والقراءات ( ) .
وإعجازه كإعجاز أي نص آخر لأن "" كل نص ذاتي خصوصاً هو باعتبار ما ، وبلحظة ما ، نص إعجازي فهو من حيث ذاتيته متفرد وذو خصوصية تمنعه من أن يتماثل مع سواه من النصوص ، محقـقاً بذلك مـا ندعـو هنـا ببعض التحفظ الاصطلاحي الأصالة "" ( ) .
فالإعجاز القرآني بهذا المنظور ليس متفرداً لأنه لا يختلف عن بقية الآثار والتحف الفنية الراقية من حيث أنها لا يمكن الإتيان بمثلها إلا عن طريق المحاكاة ، والمحاكاة دائماً انحطاط عن الأصل ( ) "" القرآن إذن عمل أدبي أصيل ليس تقليداً ، ولا يمكن تقليد مثله... والعمل الأدبي لا ينقسم إلى أجزاء بل هو كلٌّ واحد . ليس العمل الأدبي كماً بل هو كيف ، ولا يمكن لأحد أخذ جزء منه وتذوقه تذوقاً أدبياً دون كله "" ( ) . وهو ما يعني أن القرآن ليس معجزاً بنظمه وبلاغته وبيانه ومعانيه ، إذ هو لا يختلف عن بقية النصوص في ذلك بدليل أن العرب لم يكونوا قادرين على استيعاب المغايرة بين القرآن وغيره ، وكانوا يريدون جره إلى نصوصهم كالشعر والكهانة والسجع وغير ذلك ( ) .
وهنا يتنكر الخطاب العلماني لحقيقة أن المشركين عندما وصفوا القرآن بأنه شعر أو سحر أو كهـانة أو غير ذلك إنما كانوا يعبرون عن اضطرابهم الشديد وحيرتهم في وصف القرآن الكريم ، إن هذا التردد في موقف المشركين والحيرة ليدل على هول الصدمة التي أحدثها القرآن في عقولهم وقلوبهم ، فكانوا يتنقلون من قالة إلى قالة لوضوح الافتراء ، وسطوع الكذب ، فتكذيبهم للقرآن لم يكن عن قناعة ، ووصفهم للقرآن بما وصفوه ليس لعدم قدرتهم على إدراك إعجاز القرآن وتفرده ، وإنما هو لون من الجحود والمكابرة يراد منها المحافظة على المصالح والامتيازات .
هذا بالإضافة إلى تنكر الخطاب العلماني للروايات التي تبين أن المشركين كانوا يعترفون فيما بينهم بأن القرآن ليس من كلام البشر ، ومن ذلك قول الوليد بن المغيرة "" إن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمثمر ، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه وما هو من كلام البشر "".
ولكن في ضوء الجذور التي يستند عليها الخطاب العلماني فإن الموقف من الإعجاز ليس مستغرباً فهو جزء من الموقف الإنسي والماركسي الذي يتشبث دائماً بالتفسير المحسوس والوضعي ، ويطمس كل الأبعاد الغيبية والإلهية في القرآن الكريم .
إن تمييع مفهوم الإعجاز يستند على القول بأن القرآن الكريم ليس وحياً من الله عز وجل بلفظه ومعناه وإنما المعنى فقط من الله ، أما الألفاظ فهي من النبي  ، والمستند في ذلك إما قول شاذ أورده السيوطي ( ) كما يحاول نصر حامد أبو زيد وغيره ( ) . وإما استغلال أحاديث الأحرف السبعة للقول بأن القراءة كانت متاحة للجميع بأي الألفاظ ما دامت تؤدي المعنى كما يزعم العشماوي ( ) .
ولأن السيوطي أورد هذا القول في كتابه الإتقان فقد اعتُبر القدماء يقبلون أن يكون القرآن نزل بالمعاني فقط ، ولذلك فهم أوسع أفقاً من المعاصرين ، لأن القول بأن القرآن صاغه النبي  بألفاظه هو الأولى في المعقولية الحديثة ، أما التصور السني المخالف فقد أفقد النبي[  ] إرادته وملكاته ( ) .
ونتساءل هنا : إذا كانت لغة النبي  بناءً على ما يقرر الخطاب العلماني نفسه لا بد أن تحمل آثار البيئة ومعطياتها فكيف يمكن والحالة هذه أن يصل المعنى الإلهي سليماً ؟ إنه سيكون مجرد خواطر يعبر بها النبي  عن مشاعره وأحاسيسه . وإذا كان المعنى إلهياً فكيف يكون القرآن تاريخياً ؟ لأنه في هذه الحالة سيكون مهيمناً على التاريخ بكل أبعاده ؟ وإذا كان القرآن لا بد أن يستجيب لكل ما تتطلبه المعقولية الحديثة أو الضمير الحديث فما الحاجة إليه ؟ فليعد الإنسان مباشرة إلى ضميره ليعالج واقعه بما ينسجم معه وليترك القرآن فلن يضيف شيئاً سوى مشقة البحث المعروفة نتيجته سلفاً ( ) .
هكذا يريد الخطاب العلماني أن يرسِّخ بشرية القرآن بكافة الوسائل ، وأن يقوِّض قداسته من كل الجهات ، فالألفاظ ما دامت تؤدي نفس المعنى فهي جائزة ، والمعاني لا نهائية ، وغير محددة ، ولا يمكن لأحد أن يحدد معنى القرآن ، وبذلك يصبح نزول القرآن وعدمه سواء ، وهي النتيجة التي يناضل الخطاب العلماني للوصول إليها .
هذه الرؤية الإنسية التي يؤسس لها الخطاب العلماني هي التي تدفعه إلى أشكال كثيرة من قلة الحياء ، وانعدام الأدب مع كتاب الله عز وجل ، ونحن بالطبع نخاطبهم من خلال ما يصرحون به وهو كونهم مسلمين ، لأنهم عندما لا يكونوا مسلمين فلا معنى لوصفهم بقلة الحياء وقلة الأدب مع القرآن الكريم ، ولكن هؤلاء المسلمين يُوصف القرآن الكريم على ألسنتهم بأنه "" يدعو إلى النفور بعرضه غير المنظم ووفرة إيحاءاته الأسطورية ومجموعة كاملة من الرموز التي لم تعد تجد ألبتة دعائم ملموسة في تفكيرنا ومحيطنا "" ( ) . وأما الآيات القرآنية فهي – بنظر الخطاب العلماني - مجرد نصوص متبعثرة متفككة ( ) كما يقرر الغربيون ( ) ، وسورة الكهف مجرد تجاور بين عبارات لغوية ومعنوية متبعثرة ( ) تذهب وتعود للتحدث عن موضوعات عامة لا يمل القرآن من تكرارها ( ) ، وهي مثال "" للتداخليه النصانية "" ( ) التي تؤكد على اللاترتيب واللاعقلاني في آيات القرآن "" إن النص يدهش عقولنا بلا ترتيبه "" ( ) .
هذه التداخلية النصانية أو " التناص " المطعمة بالمادية الجدلية هي التي تجعل نصر حامد أبو زيد يحاول جاهداً أن يشد النص القرآني إلى الواقع والثقافة اللذين كانا سائدين في الجزيرة العربية ، فيبحث عن أصول ثقافية واقعية للقرآن الكريم في الشعر والسجع ، وذلك لكي يؤكد مقولة رولان بارت : "" النص نسيج من الاقتباسات تنحدر من منابع ثقافية متعددة "" ( ) أي أن النص القرآني بنظر أبو زيد امتداد لأشلاء من نصوص سابقة ، أسهمت جميعها في تشكيله وإنتاجه ، أليس هو القائل : إن "" النص منتَج ثقافي "" ( )والقائل : "" لا يمكن في حالة النص القرآني مثلاً تجاهل الحنيفية بوصفها وعياً مضاداً للوعي الديني الوثني الذي كان سائداً ومسيطراً، ومعنى ذلك أن النص يمثل في جزءٍ منه جزءاً من بنية الثقافة ""( ) .
وكما قال رولان بارت "" كل نص هو تناص ، والنصوص الأخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة وبأشكال ليست عصية على الفهم بطريقة أو بأخرى إذ نتعرف فيها نصوص الثقافة السالفة والحالية ، فكل نص ليس إلا نسيجاً من استشهادات سابقة "" ( ) يقرر أبو زيد فيما يخص القرآن الكريم : "" والحقيقة أن النص القرآني منظومة من مجموعة من النصوص التي لا يمكن فهم أي منها إلا من خلال سياقه الخاص ، أي بوصفه نصاً ، وإذا كان النص القرآني يتشابه في تركيبته مع النص الشعري كما هو واضح من المعلقات الجاهلية مثلاً ، فإن الفارق بين القرآن وبين المعلقة من هذه الزاوية المحددة يتمثل في المدى الزمني الذي استغرقه تكوُّن النص القرآني ... هذه التعددية النصية في بنية النص القرآني تُعد في جانب منها نتيجة للسياق الثقافي المنتِج للنص "" ( ). وبذلك يصبح النص القرآني لوحة تتمازج فيها ألوان مختلفة من النصوص ويشكل القرآن في هـذه اللـوحة طفـرة جـدلية متطورة "" فالقافية في الشعر صارت الفاصلة في القرآن ،والآية بدل من البيت ، والسورة بدل من القصيدة "" ( ) .
وبذلك يكون القرآن الكريم قد فقد جوهره الإيماني ليغدو نصاً ثقافياً بشرياً خاضعاً لقانون الصيرورة الذي تحركه الحكة الجدلية الماركسية ، وتؤسسه النظريات الحداثية ، وتحتمه المرجعيات العلمانية . وبذلك يتبوأ الخطاب العلماني مراكز السلطة العلمية ، والصدارة المعرفية التي طالما حلم بها ، بدلاً من المرجعيات الأصولية القديمة .


المبحث الرابع
المرجعية النقدية للمسخة العلمانية
إن ما قرأناه من نصوص للخطاب العلماني حول القرآن الكريم ليست أكثر من محاولة لتمرير المشاريع النهضوية والتنويرية الغربية إلى الفضاء الإسلامي متجاهلين الفروق الحضارية والتاريخية والثقافية بين الأمتين الأوربية والإسلامية .
ولعل أبرز ما يمكننا رصده من هذه الاتجاهات التي حاول العلمانيون سحبها إلى فضائنا الإسلامي تتمثل بما يلي :
1 – فلسفة الرشديين الذين سيطروا على العقل الأوريي لمدة طويلة ، وكانت فكرة الحقيقة المزدوجة أو الحقيقة ذات الوجهين من أبرز الأفكار التي ذاعت وتداولها هؤلاء المفكرون ويعنون بها أن الشيء يمكن أن يكون صادقاً فلسفياً خاطئاً لاهوتياً أو العكس ، وبذلك يصبح الفيلسوف حراً في المجاهرة بآرائه ونتائجه في مجال الفلسفة بحجة أنه فيلسوف يعتبر موضوعات الإيمان تتجاوز الفهم البشري وإن كانت نتائجه الفلسفية تتعارض مع هذه الموضوعات . ( )
فهي فكرة –إذن - يراد منها استرضاء الكنيسة دون خسائر علمية أو فلسفية ، وعقد نوع من المهادنة بين الكنيسة والفلاسفة . ولقد عبر بترارك عن سخطه من هؤلاء الذين يفصلون بين الدين والفلسفة ولم يقبل هذه المهادنة ، لأنه يعلم أنها بداية النهاية بالنسبة لسلطان الكنيسة ، فالرشديون - كما يتحدث - إذا جاهروا بمجادلاتهم احتجوا بأنهم يتكلمون مع قطع النظر عن الدين ، إنهم يبحثون عن الحقيقة بنبذهم الحقيقة ، وإنهم يبحثون عن النور بإدارة ظهورهم نحو الشمس ، ولكنهم في السر لا يتركون مغالطة أو تجديفاً . ( )
أليس هذا هو ما يردده أولئك الذين يتحدثون - في عصرنا – عن أنهم رجال علم لا علاقة لهم بالدين ، ولذلك فهم يبيحون لأنفسهم باسم العلم أن يقرروا ما يشاءون من القضايا التي يرفضها الدين، فالدين بنظرهم له مجاله والعقل له مجاله ولا يتدخل أحدهما في شؤون الآخر( ) لأن العناصر الغيبية في الوحي ليست معقولة . ( )
ويبدو أنه بقدر ما أصبح للرشديين من سلطان على العقول أخذت هذه الفكرة تتمدد في الأوساط الثقافية فظهر من هؤلاء يونبوناتزي 1462 – 1525م وهو من أشهر أساتذة بادوفا في ذلك العصر ، وكانت جامعتها رشدية خالصة وقد تبنى هذا فكرة الحقيقة المزدوجة فأصدر كتاباً أنكر فيه خلود النفس ، ثم أعلن خضوعه لتعاليم الدين في الخلود ، وكاد أن يُعدم حرقاً ولكنه نجا بحماية أحد الكرادلة له( ) .
ويؤكد يونبوناتزي أن الجمهور الذي يفعل الخير طلباً للثواب الأخروي والنعيم ، ويتجنب الشر هرباً من الجحيم لا يزال في طور الطفولة ، وبذلك فهو بحاجة إلى الوعد والوعيد ، وأما الفيلسوف فيصدر عن المبادئ والبراهين فقط ، إن المشرعين بنظره هم الذين ابتكروا الخلود لا عناية منهم بالحقيقة ، بل حرصاً على الخير العام ، ومن هنا لا يمكن بنظره التوفيق بين العناية الإلهية والحرية الإنسانية ، فالأولى ثابتة بالإيمان ، والثانية ثابتة بالتجربة ( ) .
ظهر بعد ذلك فرنسيس بيكون 1561 – 1626 كمحام عن نظرية الحقيقة المزدوجة وهي تعني عنده أن ما يثبت بالعقل لا علاقة للإيمان به ، الإيمان طريق الوحي ، والعلم طريق العقل . ( ) وعلى ذلك فالكتاب المقدس شيء ، وكتاب الطبيعة شيء آخر ( ) ، والدراسة الفلسفية عنده لا تساند أي استدلال على وجود الله [عز وجل] أو العناية الإلهية ، وكل ما يمكن أن نصل إليه من دراسة كتاب الطبيعة هو إثبات وجود إله قادر وحكيم ( ) .
ولذلك أوصى بيكون في تقرير رفعه إلى الملك جيمس الأول لإصلاح التعليم أن تتم المحافظة على هوة عميقة بين العلوم الطبيعية من ناحية ، وبين الدين واللاهوت المقدس من ناحية أخرى ، ذلك أن الانسجام الاجتماعي والتكامل العلمي يتطلبان بنظره فصلاً صارماً بين هذين الجانبين ، فالفيلسوف الذي ينغمس في اللاهوت يخلق مذهباً خرافياً جامحاً ، في حين أن اللاهوتي الذي يهتم اهتماماً بالغاً بالفروق الفلسفية والكشوف العلمية ينتهي إلى الزندقة ، والمسلك الوحيد المنقذ - بنظره - هو إقامة ثنائية حادة بين العلوم الطبيعية والوحي الإلهي( ) .
ولم يكن غاليلو 1564 – 1642م المعاصر لبيكون بعيداً عن هذه النظرية فقد كان يستشهد بالكاردينال بارونيوس عندما قال : "" غاية الروح القدس أن يعلمنا كيف نذهب إلى السماء ، لا كيف تسير السماوات "" .( ) وكتب لصديق له : "" أعتقد أنه يجب أن لا نبتدئ في مناقشة المسائل الطبية بالاستشهاد بأقوال من الكتب المقدسة ، ولكن بالتجارب الحسية والبراهين الضرورية ""( ).
أما سبينوزا 1632 – 1677 م فقد استمات في الدفاع عن الحقيقة المزدوجة ليجد لنفسه منفذاً يقول من خلاله ما يشاء دون أن يخشى بطش اليهود فهو يرفض أن يكون العقل خادماً للكتاب ، كما يرفض أن يكون بينهما أي تناقض لأن لكل ميدانه الخاص ويمكنهما أن يعيشا في وئام ( ) "" فاللاهوت ليس خادماً للعقل ، والعقل ليس خادماً للاهوت ، بل لكلٍ مملكته الخاصة ، للعقل مملكة الحقيقة والحكمة ، وللاهوت مملكة التقوى والخضوع "" ( ) فإذا وجد تناقض في الكتاب مع العقل فلا خوف لأنه ليس في مملكة العقل ، ويستطيع عندئذ كل فرد أن يفكر كما يشاء دون أي خوف ( ) ويمكننا أن نبرر قبولنا للعقائد الموحى بها عن طريق اليقين الأخلاقي فقط ولا نملك أكثر من ذلك ( ) .
2 – فلسفة التنوير :
ويعد القرن الثامن عشر لدى غالبية المؤرخين هو القرن الذي شاعت فيه هذه الفلسفة ومن أبرز هؤلاء التنويريين فولتير 1694 – 1778 م وجان جاك روسو 1712 – 1778م وكانط 1724 -1804 م ودينس ديدرو 1713 – 1784 م وهولباخ أو دولباك 1723 – 1789م ودي لامتري 1709 – 1751م ومونتسكيو 1689 – 1755 م وغيرهم وقد كان الاتجاه العام لفلسفة التنوير يقوم على اعتبار الأديان ظواهر تاريخية وضعية خضعت للتطوير والتحوير بحسب تنامي الوعي الإنساني وتطور العقل البشري ، ولم تكن فلسفة التنوير ناجمة عن فراغ أو طفرة بل كانت امتداداً للتيارات الرشدية والنهضوية التي بدأت تتفاقم في أوربا منذ القرن الخامس عشر فقد رأى توماس هوبز 1588 – 1679 م أن جوهر الدين لا يقوم على الحقائق ، وإنما على خوف الفرد من القوة المجهولة أو الخوف من الموت ، وما الصفات التي نخلعها على الإله إلا أسماء تعبر عن عجزنا عن معرفته ، وعن رغبتنا في وصفه بعبارات تمجيدية من شأنها إرضاء قوة مجهولة ( ) . هذا الرأي الذي يزعمه هوبز لا يختلف عما نادى به قبله بأكثر من ألفي سنة الفيلسوف اليوناني ديمقريطس 470 – 361 ق . م كما أنه يتبنى رأيه في فناء كل شيء إلا الذوات والفراغ ( ) .
ومن هؤلاء أيضاً جون لوك 1632 – 1704 م الذي لم يستطع أن يجاهر بعدائه للمسيحية ، ولم يخف على المقربين منه ازدراءه لها فقد كتب لصديقه " ليبنتز " أنت وأنا لدينا الكفاية من هذا العبث " يقصد الميتافيزيقا ( ) وقال أيضاً : " لم تبق حاجة أو نفع للوحي ، طالما أن الله أعطـانا وسائـل طبعيـة أكثر يقينـاً لنتـوصل بهـا إلى المعرفة "( ) . والخير والشر عنده كما هما عند هوبز وأبيقور مرتبطان باللذة والألم ، فالخير ما يجلب اللذة ، والشر ما يجلب الألم ( ) . ودعا إلى الفصل بين الدولة والكنيسة ، وأصدر كتابين أحدهما " لا ضرورة لمفسر معصوم للكتب المقدسة " والثاني " معقولية المسيحية " غلّب فيهما الجانب العقلي في المسيحية ، ودعا إلى عقلنتها لكي تقبل ( ) .
كذلك كان ديفيد هيوم 1711 – 1776 م يتبنى النزعة الطبيعية التي نادى بها بيكون وهوبز ولكن مع تطعيم هذه النزعة بمقولات الشُّكاك الأوائل مثل بيرون وشيشرون وكان ينعت نفسه بـ " الشاك " وغرضه أن يعزل الدين أو ما يسميه " الخرافة المستقرة " عن أي سيطرة فعالة في الحياة الأخلاقية للفرد والإنسان الاجتماعي ( ) .
و لا محل في فلسفة هيوم للحديث عن وجود الله [عز وجل] أو النفس ( ) ، فهو يرفض أية براهين عن ذلك ( ) ويقول : "" لو وجد لأمكن البرهنة على وجوده "" ( ) وعلل الاعتقاد بوجود الله عز وجل بالحاجة النفسية ، فعواطفنا هي التي ترغمنا على ذلك ، وإن كان التحليل الفلسفي يفتقر إلى البرهان ( ) ولم يكن هذا رأيه في الميتافيزيقا فقط ، بل إنه يرفض جميع الجواهر ( ) وينكر الروح والمادة ، ولا يُبقي إلا على المدرَكات الذاتية نفسها ( ) ، ولا يعترف بأية حقـائق ضرورية ، والعلـوم الطبيعية نسبية ترجع إلى تصديقات ذاتية يولدها تكرار التجربة ( ) .
3 – الدين الطبيعي :
لقد تبنى عدد من فلاسفة التنوير ما سمي بدين العقل أو الدين الطبيعي ( )وهي مسميات لفكرة قديمة ، تقوم على الإيمان بالله عز وجل ، ورفض النبوة والوحي والكنيسة ( ) .
وكانت ديانة العقل هذه متضَمّنةً في المذهب الديكارتي ، وتقوم على الإقرار بوجود الله عز وجـل ، ذلك أن ديكارت وإن كان يصرح باعترافه بالمسيحية إلا أنه لم يهتم كثيراً بأسرارها ( ) ، بل هناك من يعتبر أن إيمانه كان مداهنة لرجال الدين ومهادنة للكنيسة ، ولأغراض السياسية ( ) .
وقال جون لوك 1632 – 1704م معبراً عن هذا المذهب:" لم تبق حاجة أو نفع للوحي، طالمـا أن الله [ عز وجل ] أعطـانا وسائل طبيعية أكثـر يقيناً لنتوصل بها إلى المعرفة " ( ) .
وكانت جمعية لندن للمراسلات تحتضن المذهب التأليهي ، وتنشر كل ما يزري بالمسيحية وينصر التأليهيين ، فبالإضافة إلى نشرها لكتاب " عصر العقل " لتوماس بين نشرت كتابين آخرين لا يقلان زراية بالدين المسيحي هما " نظام الطبيعة " لـ ميربودو ، و " حطام الامبراطوريات " لـ فولني ، كما نشرت أبحاث فولتير التي تسخر بالدين المسيحي ، ونشرت كذلك من الكتب المعادية للمسيحية " جمال المذهب التأليهي " و " المعجم الأخلاقي " و " جوليان ضد المسيحية " و " الأفكار الطبيعية في مواجهة الأفكار الخارقة للطبيعة ". ومن الواضح هنا من خلال العناوين السابقة كيف كان الدين الطبيعي يكسب أنصاره بكثرة ( ) .
وفي ألمانيا كان لسنج 1729 – 1781م يقول : بأن الكتاب المقدس ليس ضرورياً للإيمان بالمسيحية ، لأن هذه – أي المسيحية - أسبق في وجودها من قبول الكنيسة للعهد الجديد بصورته الراهنة ، كما أن الدليل على صحة جوهر المسيحية يكمن في ملاءمتها لحاجات الطبيعة البشرية ومتطلباتها وليس في معجزاتها ، وأن روح الدين لا تتأثر بأية أفكار مهما بلغت من جرأة وجسارة ، وأعلن أنه لا يؤمن بسائر الأديان ، وأن كل دين يمثل كلمة الحق الأخيرة ، وأن أي هجوم عليه لا يضيره ، وأن كل الأديان لها فضل على الإنسانية باشتراكها في تطوير حياتها الروحية ، ولا يوجد دين يمتلك احتكار الحقيقة ( ) .
وفي أمريكا كان من أشهر التأليهيين بنيامين فرانكلين 1706 – 1790 أنكر ألوهية المسيح ، وتقبل الأخلاق الدينية بطريقة نفعية براجماتية ، وكان يسمي نفسه " التأليهي " واستحدث صلاة خاصة بمذهبـه تخالف صلاة المسيحيين كان يتـوجه بها إلى الله [عز وجل ] كل يوم ( ) .
أما في فرنسا فقد كان دنيس ديدرو 1713 – 1784 م قد تأثر بالتأليهيين الإنجليز مثل شافتسبري وجون لوك وفرنسيس بيكون ، ورفض الأخلاق النابعة من الدين المنزل ، وآمن بالأخلاق النابعة من فيض القلب بعيداً عن المواضعات الاجتماعية ( ) ، وكان مثله مثل فولتير يريد أن يرى آخر ملك مشنوقاً بأمعاء آخر قسيس( ) ، وأدلته على وجود الله عز وجل نفس أدلة المؤلهة الطبيعيين( ) ، وكان يقول "" أكاد أجن من كوني مقتنعاً بفلسفة شيطانية لا يملك عقلي إلا تصديقها ، ولا يملك قلبي إلا رفضها "" ( ) .
وفي كتابه " إميل " يدافع روسو عن مبادئ الدين الطبيعي ، ويرفض الأخلاق القائمة على الوحي ، وقد أغضب بذلك الكاثوليك والبروتستانت معاً عندما قال : "" لست أخمن بوجود قواعد للسلوك ، ولكنني أجد هذه القواعد منحوتة في أعماق قلبي ، وقد سطرتها الطبيعة بحروف لا تمحى "" ( )، وهذا يعني أن اعتقاده في الله عز وجل قائم على أساس شخصي ذاتي لا يمد أي شخص آخر بأسس لهذا الاعتقاد ( ) .
وأما فولتير فقد اعتُبر الممثل الرئيس لدين العقل في باريس وفي أوربا ، وهو وإن لم يعاصر الثورة الفرنسية إلا أن كتاباته الأدبية المؤثرة دفعت سكان باريس في عهد الثورة إلى تمجيد العقل إلى درجة دفعتهم إلى عبادة " إلهة العقل " المجسمة في شكل امرأة حسناء من نساء باريس ( ) .
ويرى أن المؤمن الوحيد الذي يجب أن نعترف به هو المؤمن بالله [عز وجل ] ، والمنكر للوحي ، والإنجيل الوحيد الذي يجب أن نقرأه هو كتاب الطبيعة الكبير الذي كتبته يد الله [ عز وجل ] ، وختمته بخاتمها ، والديانة الوحيدة التي يجب التبشير بها هي عبادة الله والسعي للخير ( ) ، ويريد أن يرى آخر ملك مشنوقاً بأمعاء آخر قسيس وهو ما ردده بعده ديدرو كما أشرنا آنفاً ( ) . ولم يتردد في إنكاره للأديان والوحي والتنزيل والمعجزات وعبر عن ذلك في كتابه " مبحث في الميتافيزيقا " ومقاله الذي نشره عام 1742م بعنوان " المذهب التأليهي " ( ) .
4 – طوفان العلمانية / العلمانية الشاملة / :
كان من منجزات النهضة والتنوير هو " العلمانية الشاملة " أو " الترشيد " بحسب مصطلح ماكس فيبر وعلى أساس ذلك سادت النظرة المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية التي ترى أن مركز العالم كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له ، وأن العالم بأسره مكون من مادة واحدة خالية من القداسة ومجردة من الأسرار ، ويعني ذلك أن العالم المنظور يحوي بداخله ما يكفي لتفسيره والتعامل معه ، وعقل الإنسان قادر على استخلاص المنظومة المعرفية والأخلاقية اللازمة لإدارة حياته وكونه( ) .
وتحاول هذه المنظومة بكل صرامة أن تحدد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات بكل مجالات الحياة فإما أن تنكرها في أسوأ الأحوال أو تهمشها في أحسنه ، وكل ألأمور تؤول في النهاية إلى التاريخية الزمنية النسبية .
5 – النقد العالي :
دفعت الصدمة العلمانية الشاملة العقل الأوربي إلى اقتحام كل المقدسات، وإعادة النظر في كل المعطيات الدينية السائدة وانعكس ذلك بشكل خاص على جانبين في الديانة المسيحية :
- الكتاب المقدس .
- الوظيفة الإنسانية للدين .
أما فيما يتعلق بالكتاب المقدس فقد كانت الدراسات النقدية تزيد يوماً بعد يوم في انهيار قداسة الكتاب، فالرشديون كانوا قد طعنوا في ذلك، ولكن ظلت طعناتهم على مستويات فردية لم تشكل تياراً جارفاً، ثم أظهر لوثر وزفنجلي وكالفن بأن تشكيل الكتابات المقدسة "العهد القديم" من عمل ابراهام بن عزرا، ونيقوليوس مليرا، وإليا هولوتيا ( ). ثم أعرب المثقفون اليسوعيون عن رأيهم بأن العهد القديم، قد أُقحمت فيه بعض الإضافات المتأخرة ووجدوا دعماً لهم في أقوال أندرياس مزيوس أحد المثقفين الهولنديين الذي تمكن من تحديد الزمن الذي رتبت فيه التوراة ( ).
وقبل ذلك تشكك الحبر الغرناطي إبراهيم بن عزرا ، وابن جرشون في صحة نسبة الأسفار الخمسة إلى موسى عليه السلام ، وفي صحة نسبة سفر يشوع إليه ( ) ، ثم جاء باروخ سبينوزا 1632 – 1677م فبنى على تشكيكات وألغاز بن عزرا بناءً نقدياً هائلاً ، وكشف أن ابن عزرا تيقن أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة ، ولكنه لم يجرؤ على الجهر بهذه الحقيقة خوفاً من بطش الفريسيين ، ولكنه عبر عنها بألغاز استطاع سبينوزا أن يحللها ، ويخلص إلى نتيجة أعلنها على الملأ وهي أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة ( ) لأن الأسفار تتحدث عن وقائع وحوادث وقعت بعد موسى بزمن طويل ، كما تروي نبأ وفاة موسى ودفنه ، وأن أحداً لا يعرف مكان قبره إلى اليوم ، وأنه أفضل من كـل الأنبياء الذين جاءوا بعده إذا ما قورن بهم ( ). لقـد ضاعت مخطـوطات موسى الأصلية، والأسـفار التي بيـن أيدينـا لقيت نفس المصير( ) .
وفي العهد الجديد فإن كتابات الحواريين حتى وإن افترضنا أنهم أنبياء فإنهم لم يكتبوا لنا باعتبارهم كذلك ، ولا كتبوا لنا كتاباتهم على أنها وحي أو بتفويض إلهي ، وإنما كتبوا لنا كتاباتهم على أنها مجرد أحكام شخصية وذاتية لمؤلفيها وروايات تحكي قصة السيد المسيح عليه السلام ( ) .
ويعتبرتشارلز بلاونت 1654 – 1693م أول تأليهي إنكليزي ينتقد الكتاب المقدس، ويتشكك في كونه كتاباً منزلاً، نشر بلاونت أول عمل له سنة 1679م أشار فيه إلى أن الأنبياء والكهنة جماعة من المحتالين والجشعين اختـرعـوا الجنة والنار ليحكمـوا سيطرتهم على العباد ( ) . ونشر سنة 1693م كتابه " عرافات العقل " رفض فيه معجزات الكتاب المقدس ، وأحاديثه عن الخليقة ، ونهاية العالم أو بداية الخلق ، وسخر فيه من قصة حواء ، وقصة متوشالح الذي يقول الكتاب المقدس عنه إنه عمّر أكثر من تسعمائة سنة وقصة إيقاف يوشع لحركة الشمس ، وفكرة الخطيئة الأولى ، كما اعتبر أنه من السخف أن نصدق أن كوكبنا الصغير في هذا الكون الفسيح العريض هو المركز ( ) .
وفي سنة 1753م ظهر في بروكسل كتاب بالفرنسية مجهول المؤلف يحمل العنوان التالي : " خواطر حول المذكرات الأصلية التي يبدو أن موسى استخدمها في تأليف سفر التكوين " ( ) ، كان مؤلف هذا الكتاب هو الطبيب الفرنسي جان أستروك أراد أن يثبت أنه إذا كان موسى هو الكاتب للتوراة – وهو ما يخالفه فيه أكثر النقاد في عصره – فإنه لم يكن شاهد عيان لكل قصصه ورواياته طالما أن موسى عاش زمن الوجود العبري في مصر ولم يكن معاصراً لعصور الآباء وما قبلها ، وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف كتب موسى أقواله بشأن خلق العالم والطوفان وتاريخ الآباء حتى عصره ، أي كل ما ورد في سفر التكوين ، لذلك لا بد أنه كانت أمام موسى عليه السلام مصادر قديمة استمد منها آراءه وأقحمها داخل سفره ( ) .
وبتحليله للنصوص استطاع أستروك أن يعزل في الكتاب المقدس بين روايتين إحداهمـا تـتحدث عن الـله [عز وجل ] باسم " ألـوهيم " و أخـرى تـتحـدث عنـه باسم " يهوه " ( ) ، وهاتان الروايتان مختلفتان ، وكل واحـدة منهما تمثل رواية كاملة بذاتها ، فهي نتاج زمان ومكان مختلفين ( ) ، ومن هنا قال ديورانت : "" إن العلماء مجمعون على أن أقدم ما كتب من أسفار التوراة هما القصتان المتشابهتان المنفصلة كلتاهما عن الأخرى في سفر التكوين فتتحدث إحداهما عن الخالق باسم " يهوا " على حين تتحدث الأخرى عنه باسم " إلوهيم " ولذلك يعتقد العلماء أن القصص الخاصة ب " يهوا " كتبت في يهوذا ، وأن القصص الخاصة بـ " إلوهيم " كتبت في أفرائيم " السامرة " وأن هذه وتلك قد امتزجتا في قصة واحدة بعد سقوط السامرة ، وفي هذه الشرائع عنصر ثالث يعرف بالتثنية أكبر الظن أن كاتبه أو كُتَّابه غير كتاب الأسفار السالفة الذكر ، وثمة عنصر رابع يتألف من فصول أضافها الكهنة فيما بعد ، والرأي الغالب أن هذه الأجزاء الأربعة قد اتخذت صورتها الحاضرة حوالي سنة 300 ق.م "" . ويضيف ديورانت : "" كيف كتبت هذه الأسفار ؟ ومتى كتبت ؟ ذلك سؤال بريء لا ضير منه ؟ ولكنه سؤال كُتب فيه خمسون ألف مجلد ، ويجب أن نفرغ منه هنا في فقرة واحدة ، نتركه بعدها من غير جواب "" ( ) .
وترجع أهمية دراسة أستروك إلى أنه أول من اكتشف المنهج السليم لمعرفة مصادر السجلات القديمة عن طريق تحليل سماتها الأسلوبية ، ولهذا السبب وحده يطلق عليه الناقد الأول للكتاب المقدس ( ) .
بيد أن أبرز الاتجاهات النقدية للكتاب المقدس قد جاء عبر المدرسة التاريخية الألمانية متمثلاً بجهود كل من فلهاوزن وجراف وأتباعهم ( ) فيما سمي بـ " النقد العالي " وقد اتجه هذا النقد إلى الحفر في داخل الكتاب المقدس، والمقارنة بين النصوص، والبحث عن المصادر التي تشكل منها ، والأزمنة والأمكنة التي كتبت فيها الأسفار، والتداخلات النصية التي يمكن الكشف عنها ( ) .
وقد توصلت هذه الدراسات بعد بحوث مضنية ، وجهود شاقة ، وموازنات دقيقة إلى نتائج أجهضت قداسة الكتاب ، وأسقطت عنه الهالة الميتافيزيقة التي كانت حافة به إذ أصبحت الفكرة السائدة هي أن الكتاب المقدس رواية اختلطت فيها الحقائق بالأساطير المعبرة عن حياة الشعب الإسرائيلي وثقافته وتطوره ومعاناته ( ).


6 – لاهوت التحرير :
وأما فيما يتعلق بالوظيفة الإنسانية للدين فقد بدأ من أمريكا اللاتينية تحت عنوان " لاهوت التحرير " وكان من العوامل الأساسية التي دفعت إلى انتشار هذا اللاهوت اهتمام العالم بقضايا الفقر والجوع فجاء هذا اللاهوت ليتحدث عن مسؤولية الدين تجاه هذه القضايا ، وموقفه من المحرومين والمقهورين من البشر .
لقد دفعت الحروب العالمية والمجاعات والكوارث الكونية، وتفاقم الفقر والمرض اللاهوتيين الكنسيين إلى التساؤل عن المهمة التي ينبغي أن يمارسها الدين بإزاء هذه القضايا وعُقد مؤتمران دفعا إلى ظهور علم اللاهوت التحرري :
الأول : مؤتمر أساقفة أمريكا اللاتينية الكاثوليك الذي اجتمع في ميدلين في كولومبيا عام 1974 م .
الثاني : مجلس أساقفة الكنيسة لأمريكا اللاتينية عام 1979 م
وقد ارتبط هذا اللاهوت منذ عام 1975 م بشكل أساسي بقضية تحرير السود ثم بقضية تحرير المرأة . وهو يعكس علم اللاهوت ففي حين يبدأ اللاهوت عادة من الوحي ويتجه إلى الواقع فإن لاهوت التحرير يبدأ من الواقع ويتجه إلى الوحي ، ولذلك فإننا نلاحظ أن الواقع الإفريقي المرير هو الذي أنتج لاهوت التحرير . وحيث أن لاهوت التحرير واقعي فهو يرتبط بالإنسان وبالإنسانية إنه " لاهوت الإنسانية " إنه لاهوت عمل في مواجهة الواقع الأليم للبشرية .
ويستند اللاهوت التحرري في ذلك على أقوال المسيح عليه السلام في محاربة الثراء الفاحش كقوله : "إن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله " لوقا 18 : 25 . كذلك كانت حياة المسيح عليه السلام مشاركة أصيلة للإنسانية المتألمة فقد شفى المرضى وطهر البرص ، وفتح أعين العميان وأقام الموتى، وعاش للإنسانية ودافع عنها ولذلك فإن لاهوت التحرير ينقل مفهوم الكنيسة من كونها تعمل لأجل الناس إلى كونها كنيسة الناس فتصبح الكنيسة من تحت وليست من فوق .
وبذلك يكون لاهوت التحرير هو إحياء الجانب الثوري في المسيحية الذي دُفن أكثر من ألف وتسعمائة سنة لحساب الرهبانية ، إنه إعادة تثوير للكنيسة للوقوف في وجه الطغيان كما قال المسيح عليه السلام : " لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً " متى 10 : 34 .

تعقيب :
هذه الحركات التي قدمنا موجزاً عنها بالإضافة إلى الفلسفات البنيوية والتفكيكية هي أبرز المرجعيات التي يتغذى عليها الخطاب العلماني في قراءته للإسلام عموماً والقرآن الكريم خصوصاً، وعلى ضوء ما قرأناه آنفاً من نصوص غربية يمكننا أن نفهم النصوص العلمانية العربية التي مرت معنا كقولهم : " ولذلك لا مانع من انتهاك القيم السائدة والخروج عليها من أجل تقدم المعرفة ( )، وذلك بهدم الأسوار والحصون التي شيدها الفكر المستقيل والمنغلق على ذاته بسياج دوغمائي مجمَّد( )ولن يتم ذلك إلا بتطبيق منهجية النقد التاريخي على التراث العربي والإسلامي، لا بد أن تسـير في نفس الطريق الذي سـارت فيه أوربا، ولا بد أن تَهـزَّ المسلمين، ولا بد أن يدفعـوا الثمن ( ). فلا بـد لنا من إزالة كثير من العقبات الكأداء التي تصرفنا عن سبيل الرشاد سبيل الحداثة ( )، ولن ينفعنا تحفظَّنا أو توهُّم مقاومة هذا التيار الحداثي انطلاقاً من مقولات مهترئة، وثوابت لا يصدقها العقل، وإن مالت إليها عاطفتنا الدينية ( ).
وأحسب أنه قد آن لنا أن نقول : لقد قرأ الأوربيون كتابهم المقدس وواقعهم المُجهَض قراءة صحيحة واستطاعوا عبر مئات السنين أن يخلصوا إلى نتائج تتلاءم مع العالم المشهود المُعطَى للإنسان ، ودفعوا بعقولهم إلى أقصى ما يمكن لاكتناه حقيقة واستثمار منفعة هذا العالم . وأظن أن ما قاله كل من ديدرو وفولتير يلخص الحقيقة تلخيصاً كافياً ( ).
والعلمانيون العرب يتطلعون إلى هذا المثال، ويحلمون بهذه الآمال، فهل سينعمون بالوصال ؟ !
في الحقيقة لم يوفق العلمانيون لإصابة الهدف لـ :
- اختلاف الزمان والمكان .
- اختلاف التاريخ والحضارة .
- اختلاف العنصر الديني والمرجعية القدسية .
فليست حضارتنا هي حضارة القرون الوسطى، وليس في ديننا كهنوت كالكهنوت الكنسي ، وليس قرآننا كالعهدين القديم والجديد في التأثر بالصدمات النقدية ، وليس في تاريخنا محاكم كمحاكم التفتيش، ولا إبادات عنصرية لشعوب وأمم بأكملها ، ولا نهب وامتصاص لخيرات القارات الضعيفة ورميها بين أنياب الجوع والفقر والمرض . ومهما حاول الخطاب العلماني أن يبحث عن روابط قروسطية في تاريخنا لتبرير مشروعاته فإن الحقائق تظل مشرقة لا يمكن حجبها أبداً .
إن أمتنا ليست بحاجة للنموذج الغربي للتنوير لأن القرآن الكريم همه الأول هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور  الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ  سورة إبراهيم : آية 1 .
 يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً سورة النساء : آية 174 – 175 .
وأمتنا ليست بحاجة للنموذج الكنسي التحرري لأن ذلك جاء كردة فعل على نظام الرهبنة والمثالية المتطرفة والانفصام بين الإنسان والعالم الذي دعا إليه الكهنوت المسيحي ، وردة فعل على النظم القمعية والفاشية والرأسمالية التي عاثت في الكون فساداً وقمعاً وإبادة , وانتهكت إنسانية البشر .
ولذلك فإن ما يطرحه الخطاب العلماني ليس لاهوتاً للتحرير بل هو أقرب إلى كونه " ناسوتاً للتدمير " إنه محاولة يائسة لقلب الأخلاق ونسف القيم ، والتمرد على الفضيلة ، وتجفيف منابع الروح الملتاعة في كيان الإنسان ، لأنه إذا كان لاهوت التحرير الكنسي الذي يبدأ من الواقع ثم يعود إلى الوحي – إن كان هناك وحي بالمنظور الكنسي – يعد مخطئاً لأن الوحي لم يهمل الواقع أبداً ، فالوحي هدفه الأول إصلاح الإنسان ومن ثم الواقع، لأن الواقع لا يصلح إذا لم يصلح الإنسان ، فإن صيحة الخطاب العلماني التحريرية صيحة فاشلة لأنها إن صح أنها تبدأ من الواقع فهي لا تعود إلى الوحي أبداً . ولذلك فما يزعمه الخطاب العلماني من أن منهجه منهج صعودي بعكس الخطاب الديني الهبوطي( ) غير صحيح لأن منهجه أيضاً منهج هابط ، وكذلك من الوحي إلى الواقع، ولكنه ليس الوحي الإلهي وإنما الوحي النفسي والعقلي وحي الثقافة الغربية . وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون سورة الأنعام : آية 121 .
إن الدين لا يمكن فصله عن أساسه العقدي وتحويله إلى أيديولوجية ثورية فهذه مخاتلة للعقل الإنساني لأن الإيمان هو القاعدة المتينة للتثوير ، والعقيدة هي الجذوة الحية للتحرير ، و " تثوير القرآن " ( ) لا يمكن أن يجدي مع حالة الانفصام بين العمق الإيماني الغيبي والممارسة الدينية الواقعية .
ومن هنا فإن أحلام العلمانيين العرب بأن يكونوا ممثلين لدور فلاسفة التنوير الأوربي في الفضاء الإسلامي من الصعب جداً أن تتحقق لأن الإسلام يملك الحصانة الكافية ضد هذا المشروع، ويحمل المناعة الذاتية التي تجعله يستعصي بشدة على العلمنة .

الخاتمة :
والآن في نهاية هذا البحث يمكننا أن نوجز النتائج في العناصر الآتية :
• في الإسلام توجد ثوابت ويقينيات وقطعيات ، بينما في الخطاب الععلماني لا يمكن أن تتحقق النهضة إلا على أساس النسبية المطلقة .
• وفي الإسلام قيم ثابتة ، وعقائد راسخة لا يمكن أن تكون موضع جدل ، بينما في الخطاب العلماني لا بد من انتهاك القيم السائدة والتمرد على العقائد المستقرة من أجل تقدم المعرفة .
• وفي الإسلام يعتبر النص والوحي هو المرجع والمآل والموجه لحركة الحضارة والتاريخ ، بينما في الخطاب العلماني لا بد من التحرر من سلطة النصوص والسلف ، والتحرر من قال الله وقال الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] .
• وفي الإسلام حلال وحرام وجائز وممنوع ومقدس ومدنس ، بينما يرفض الخطاب العلماني أن يكون هناك محرمات أو مقدسات ، لأن ذلك يحاصر العقل ويحول بينه وبين الانطلاق والإبداع ويسبب له عملية كبت .
• والقرآن الكريم بنظر الخطاب العلماني يتحدث من قمة التعالي والرسوخ والهيبة ، وذلك لكي يخلع الكونية على الأحداث الجزئية ، ويفقد صفته التاريخية فيبدو وكأنه خارج التاريخ ، وبذلك يغطي القرآن على تاريخانيته ببراعة أيديولوجية عن طريق ربط نفسه باستمرار بالتعالي الذي يتجاوز التاريخ الأرضي ، ومهمة الخطاب العلماني هي نزع هالة القداسة عن الوحي ، وتعرية الآليات الأيديولوجية التي يمارسها القرآن الكريم ، وذلك بأن يُنظَر إليه ليس على أنه كلام آتٍ من فوق ، وإنما على أنه حدث واقعي ، وأن ندرسه بوصفه نصاً فقط ، دون أي اعتبار لبعده الإلهي ، لأن ذلك يعكر الفهم العلمي له ، كذلك لا بد من تجاوز عقبة الخوف من نقد القرآن والرهبة من إخضاعه للتحليل وذلك لكي نحافظ على تماسكنا المنهجي بنظر الخطاب العلماني .
• ولكن النقد العلماني للقرآن الكريم يسلك المنهج الأحادي التفكيكي أو اللغوي وكل دراسة لا تلتزم بهذا المنهج – الوحيد – ستكون منخرطة في شبكة الإجابات الجاهزة ، ودوامة التشويش الأيديولوجي ، وترتدي ثياب التراث في أشد اتجاهاته تخلفاً ورجعية .
• ولا بد – بنظر الخطاب العلماني- أن تمر الدراسات القرآنية عبر البوابة الفلسفية الغربية الإنسية والماركسية والنسبوية والهرمينوطيقية حيث عندئذ سيصبح النص قابلاً لكل الأفهام ، ويغدو خطاباً بشرياً مُدمَجاً في دوامة النصوص المختلفة دون أي تميز أو تفرد ، وذلك من أجل زعزعة الاعتقاد الراسخ في قلوب المؤمنين بكونه كلاماً متعالياً مقدساً معجزاً فهو نص كبقية النصوص ولكنه نص بامتياز ، وإعجازه كإعجاز أي نص آخر ولا يختلف عن بقية الآثار والتحف الفنية الراقية ، وبذلك يتبعثر تفرد القرآن الكريم في وسط الركام الإنسي ، وتتقوض قداسته بين المناهج العبثية والعدمية . وحيئذ يمكن للخطاب العلماني أن يتقدم خطوة أخرى باتجاه كسر القداسة فيتجرأ على وصف القرآن الكريم بأنه يدعو إلى النفور بعرضه غير المنظم ، وإيحاءاته وأساطيره .
• الخطاب العلماني فيما يطرحه من نقد وفلسفة لا يفعل شيئاً أكثر من محاولة لمحاكاة التجربة الأوربية ، والتلفيق بين أنماطها المختلفة والسعي لتنميقها وتزويقها ومن ثم ترويجها كبديل للمنهجية الإسلامية .
• وأخيراً : لا بد من التذكير أننا لا يجب أن نغفل عن التحالف المتجدد والمستمر بين الإمبريالية الأمريكية والأوربية من جهة والعلمانية العربية من جهة أخرى في المعركة مع المصحف الشريف ، وآخر جولات هذه المعركة كانت امتداداً لانتهاك القداسة القرآنية على المستوى الفكري والمعرفي التنظيري حيث دفع الجنون الصليبي بالمعركة إلى المستوى السلوكي التطبيقي وقد تمثل ذلك في جولتين أخيرتين هما :
- الحملة الأمريكية المسعورة لنشر ما أسموه [ فرقان الحق ] وواجبنا نحن أن نكشف الزيف ليأخذ الكتاب المذكور اسمه الحقيقي وهو [ بهتان الحق ] وهذا برأيي لون من حرب المصطلحات يقتضي منا أن نواجه المصطلحات المغرضة المزيفة بمصطلحات توازيها قوة ومتانة في فضح الزور وتعرية الباطل .
- والجولة الثانية تمثلت في الجنون الإعلامي الأمريكي والأوربي في ممارسة ونشر وترويج حملة تدنيس المصحف الشريف في سجون العراق وأفغانستان والسجون الإسرائيلية أيضاً ، وكل ذلك يسير وفق خطة مدروسة ومبرمجة وهي محاولة نزع القداسة عن القرآن الكريم وانتهاك حرمته ، وبالتالي حفز المسلمين على التمرد على مشاعر الرهبة والخوف والإجلال لهذا القرآن ، ومن ثم هجر إرشاداته وتعاليمه وهدايته لأنها هي الحاجز المتين ، والسياج الحصين الذي يحول دون تسلل العولمة الغربية إلى الفضاء الإسلامي . والله أعلم .
[ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ] سورة التوبة آية : 32


وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين