الحمد لله, وبعد:

لا يطيب مزاجه إلا بتغييبه عن واقعه, بسكرةِ شراٍب أو نشوةِ خيالٍ, إذ أن إفاقته بالرجوع للواقع الصادق, المشعِّ ببراهين الفطرة واتساق العقل السليم مع حركة الكون العامة, بامتدادها في الأطراف زمانًا ومكانًا يصيبه بدهشة كئيبة لا تطيقها نفسه النزاعة للعلو والاستكبار ضد كل ما يحول بينه وبين عبوديته لنفسه دون غيرها ولو كان رب العالمين!

الفكر المادي المنكِر لكل ما وراء المادة والطبيعة يصطدم كل لحظة بجبال اليقين الحسية والعقلية وأشد منها الروحية, ذلك أن الجاحد لهذه اليقينيات الغيبية لا ينفك عن الارتباط بها ومناداتها ومناغاتها والاستماع لها, بل والابتهال والدعاء والاستغاثة لمن وراءها عند الكروب والشدائد, حتى وهو يعبّ كأس الإنكار الظاهر ويكرع في تكرار زيف مشاعره! وأكثر من رام تلمّس طريق الغيب صرعه الجهل دون عتباته, إنه السَّفَرُ الدؤوب للروح لإشباع حاجتها للإحساس بربوبية ربها وعبادته والأمن تحت كنفه. إذ أن المفتاح الأول لعالم الغيب _ وأعني به العلم بأن للكون ربًّا معبودًا هو الله وحده _لم يؤته ربُّ الغيب والشهادة سبحانه إلا الموفقين من عباده, نعم لقد نقش رسمه في الفطرة الأولى لكل إنسان, فإن ساعد على ذلك سقيا رحمة أزهرت وأثمرت النافع الجميل من علوم الوحي الشريف النقي, أما إن انتهبها قُطّاعُ طريق فلاح الأرواح إما بغيب مشوّه أو بشهادة ماديّة صمّاء؛ فإن السعادة حينها تعود شقاءً والنعيم يرتدّ بؤسًا, وينقلب العلم جهلًا! وللحكيم سبحانه في ذلك حكم لا يدرك البشر إلا بعض أطرافها بتوفيق الله لهم.

هذا وللفكر المادي أزمة ملازمة, فكل إنسان مهما تطرّف في فكره وإلحاده؛ لا بد أن يؤمن بقدر مشترك من علم الغيب, وأن هناك عوالم موجودة غير محسوسة بحواسه الخمس, وإن اختلف الناس اختلافًا عظيمًا في الإقرار بأفرادها وتفاصيلها, قال الله تعالى في بيان إقرار ضمائر أشدّ الجاحدين بربوبيته سبحانه: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًّا" وقال في وصف حال المكذبين في الدنيا إذا شاهدوا ما كانوا ينكرونه ظاهرًا مع إقرارهم به في الباطن: "بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل" ولا يعني هذا بحال أن كل من آمن بالغيب فهو على سبيل نجاة, بالطبع لا, فكلّ أمم الأوثان _بلا استثناء_ هي مؤمنة بعوالم غيبية, لكنها عوالم شوهها الجهل والتكذيب وبعدُهم عن آثار المرسلين، فلا صلاح للعالَم على التحقيق إلا بسيره على قبس من هدي النبوة.

وكلما تقدّم العلم التجريبي بفروعه الفلكي والتطبيقي والطبي والتشريحي وغيرها فإنه يجد في نفسه ضرورة للسجود في محراب الإيمان بأن وراء هذا العالم المتناسق البديع خالقًا حكيمًا مدبّرًا رحيمًا, وعلى قدر تجرده لنداء المنطق وإلحاح الفطرة الأولى يكون قربه من الاستسلام لرب العالمين, وما أقربه للإسلام حينها إن وُفّق لمن يأخذ بيده الحيرى ونفسه القلقة.

وهناك خيط فاصل بين الحقيقة والخرافة, بين العلم والأسطورة, ومن أبصر الخيط بنور الوحي انتظم أمره واستقامت محجّته.

وليس ببدع من القول أن كل إنسان لا بد أن يؤمن بقدر من الغيب يلقي إليه أشلاء حيرته من سر الوجود وعلّة الخليقة, وما يلحق ذلك من تحميل ذلك الغيب أموره المحيّرة التي يحس بإلحاحها عليه وضغطها الشديد على عقله ونفسه, كروحه التي بين جنبيه, فنفسه العاقلة المتصرّفة في جسده هي أقرب سرّ وأغمضه وأحلكه مع إحساسه الدائب بها, فكيف هذا؟! "قل الروح من أمر ربي" "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" لذا فالعلم في كثير من أحيانه إنّما يكون بالإقرار بالجهل الإيجابي, وهو الإقرار بالحقيقة مع التسليم بعدم معرفة التفاصيل, مع الاستسلام والتفويض لمن بيده مقاليد الأمور ومفاتيح حقائق العلوم, وهو الجهل البسيط الذي لا ينفك عنه إنسان مهما بلغ في مراتب العلوم "وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا" فحينئذ يعرف المرء قدره, وأنه لم يُعط من العلم إلا على قدر ما يحتاجه لإقامة العبودية لرب العالمين, واستخلافه في الأرض ليعمرها ثم يعبرها للدار الآخرة.

لهذا فأساس الدين هو الإيمان بالغيب, وللإيمان بالغيب طرفان: الأول العلم واليقين والإقرار بحقائق ما أخبر عنه الوحي في القرآن والسنة من صفات الله تعالى والجنة والنار والبعث والملائكة والجن وغير ذلك من الغيوب المذكورة في الكتاب والسنة. الثاني: الوقوف عند هذا الحدّ, وعدم الخوض في الكيفيّات بدون دليل وبرهان, فصفات الله تعالى معلومة مثبتة مؤكَّدة, ولكن كيفياتها لا نعلمها ولا نخوض فيها, فالقول في الصفات كالقول في الذات يُحذى فيه حذوه ويجرى فيه بمثاله, كذلك أمور الغيب التي جعل الله دونها سجفًا من الحجب التي أحالتها للغيب المطلق دون عالم الشهادة المحسوسة.

لذلك فأولُ وصفٍ في القرآن وصَفَ الله تعالى به عباده المؤمنين هو إيمانهم بالغيب, فقال سبحانه في أول سورة البقرة: "الذين يؤمنون بالغيب" فلا إيمان لمن لا يؤمن بالغيب, بل كل أركان الإيمان الستة هي من أمور الغيب, وكفى بذلك تعظيمًا لهذا الجانب.

وبالجملة فمن أنكر الغيوب واستمسك في النزاع بالمحسوسات دون الغيبيات فهو مناقض لنفسه, مكذّب لفطرته, مناوئ لصادق إحساسه, وليس له عند الله من خلاق.

فاصلة:

يا صاحبي، اكتب بمداد سواد الليل على أديم بياض النهار منشور خلاصك, وأنّى ذلك إلا بالباقيات الصالحات, فاغتنم جمعيّتك قبل الشتات, وبقيّتك قبل الفوات.


بقلم: إبراهيم الدميجي