ماهية السنة النبوية و مكانتها من القرآن
في هذا المبحث سنبين إن شاء الله أن السنة وحي من الله تعالى لنبيه الكريم كما القرآن، و أن الفرق بينها : أن القرآن " وحي " بلفظه ومعناه ، أما السنة فهي " وحي " بمعناها دون لفظها. كما أن السنة جاءت بيانا للقرآن و هداية للمؤمنين و تفصيلا لشرائع الإسلام و إكمالا للدين و درءا لكل خلاف بين المسلمين حول كتاب ربهم. و لو أنها ليست بمرتبة القرآن بكونه كلام الله المعجز وبه التحدي و تكفل الله بحفظه حفظا مطلقا. و قد ذكرنا في موضع قريب أن في حفظه حفظا للسنة و اقتضاء لذلك.
السنة النبوية في القرآن الكريم
ذكرت السنة في القرآن الكريم كثيراً بلفظ الحكمة و بمعاني تخللتها آيات كثيرة كتلك التي تقرر وجوب طاعة الرسول طاعة مطلقة و غير مقيدة بزمان أو مكان أو شرط عليه لأنه النبي المرسل الأمين على الوحي المأمور ببلاغه من قبل رب العلمين فكل ما جاء به حق و صدق و صلاح و خير للبشر و للإنس و الجن كافة.
ذكر السنة في القرآن بلفظ الحكمة :
1
قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام في دعائه لهذه الأمة : " ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة و يزكيهم .."
{ البقرة /129 }.
2
قال تعالى: " كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة .."
{ البقرة / 151 }.
3
قال جل و علا : " لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب و الحكمة "
{ آل عمران / 164 }
4
قال تعالى: " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً "
{ النساء / 113 }
5
وقال سبحانه موصيا نساء النبي الكريم : " واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله و الحكمة ''
{ الأحزاب / 34 }
6
و قال جل و علا : " هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب و الحكمة "
{ الجمعة / 2 }
قال الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه و المتفقه : قال الحسن وقتادة : الكتاب : هو القرآن ، و الحكمة هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه الرسالة : " ذكر الله الكتاب ، وهو القرآن ، وذكر الحكمة، فسمعتُ من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة : سنة رسول الله ، وهذا يشبه ما قال ، والله أعلم ، لأن القرآن ذكر واتبعته الحكمة ، وذكر الله مَنّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة ، فلم يجز – والله أعلم – أن يقال الحكمة ههنا إلا سنة رسول الله ، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله ، وأن الله افترض طاعة رسوله وحتم على الناس اتباع أمره ، فلا يجوز أن يقال لقول فرض إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله ، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به ، وسنة رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد : دليلاً على خاصه وعامه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه ،ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله " .
وقال الطبري رحمه الله في تفسيره : " ويعلمهم الكتاب والحكمة " يعني : ويعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه ، ويبين لهم تأويله و معانيه " الحكمة " ويعني بالحكمة : السنة التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيانه لهم.)
وقال الطبري – أيضاً في موضع آخر من تفسيره – بعد أن ذكر آراء الأئمة في تفسير الحكمة – و الصواب من القول عندنا في الحكمة أنها العلم بأحكام الله تعالى لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمعرفة بها ، وما دل عليه ذلك من نظائره .
و قال الإمام ابن القيِّم في التفسير : (الحِكْمَة في كتاب الله نوعان: مفردة، ومقترنة بالكتاب. فالمفردة فُسِّرت بالنُّـبُوَّة، وفُسِّرت بعلم القرآن. قال ابن عباس: هي علم القرآن ناسخه ومنسوخه، ومُحْكَمه ومُتَشَابهه، ومقدَّمه ومؤخَّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وقال الضَّحاك: هي القرآن والفهم فيه. وقال مجاهد: هي القرآن، والعلم والفِقْه. وفي رواية أخرى عنه: هي الإصابة في القول والفعل. وقال النَّخعي: هي معاني الأشياء وفهمها. وقال الحسن: الورع في دين الله. كأنَّه فسَّرها بثمرتها ومقتضاها. وأما الحِكْمَة المقرونة بالكتاب، فهي السُّنَّة. كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة. وقيل: هي القضاء بالوحي، وتفسيرها بالسُّنَّة أعم وأشهر)
ذكر السنة في القرآن بمعان أخرى مع إيجاب اتباعها :
قال تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " { النجم / 4،3 }
2
قال تعالى : " ثم إن علينا بيانه " { القيامة / 19 }
3
قال تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) { الحشر / 7 }
4
قال جل شأنه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)
{ النساء / 59 }
5
قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ)
{ الأنفال / 20 }
6
قال جل ثناؤه: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ)
{ آل عمران / 80 }
7
قال سبحانه : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)
سورة النساء: الآية 65
8
قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً)
سورة الأحزاب: الآية 36
9
قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
سورة الأعراف، الآية 157
10
قال تعالى : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم "
{ النور / 63 }.
11
قال تعالى : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " { آل عمران / 31 }
12
قال سبحانه : " و اتبعوه لعلكم تهتدون "
{ الأعراف / 158 }
فهذه النصوص و غيرها وما في موضوعها تلزم الأمة بهديه - صلى الله عليه وسلم -، و تبين أن ما جاء به فعلى الأمة أن تقبله وأن تعمل به ، وهذا هو الذي نسميه " سنته " - صلى الله عليه وسلم.
و بناء على ما سبق من بيان الأدلة القطعية على حجية السنة النبوية من كتاب الله تعالى و بجانبها الأحاديث الصحيحة وأقوال الصحابة وبالمعقول، فإن إنكار السنة النبوية ورفضها وعدم العمل يُعدّ كفرًا صريحًا، يخرج قائلها من الإسلام؛ لأنها إنكار لكلام الله تعالى ورفض للوحي المنزل على رسوله صلى الله عليه و سلم ، وهو من الكفر المتفق عليه.
http://www.eltwhed.com/vb/showthread...A%E4-%DA%E1%E3
حجية السنة عقلا :
يقول الدكتور فالح بن محمد -مشرف عام موقع السنة- :
ثم إن العقل يقر ضرورة أن تكون السنة المصدر الثاني للتلقي والتشريع لأن في القرآن كثيرًا من الأحكام والتشريعات والفرائض لا يمكن معرفتها وكيفيتها إلا من خلال السنة التي شرحتها وفصلتها كما في قوله تعالى في فريضة الصلاة: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) ، وكذلك فريضة الحج (ولله على الناس حج البيت) حيث جاءت السنة وبينت كيفية هذه الفرائض وأوقاتها وكذلك الحال بالنسبة للفرائض الأخرى، وهو ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم)).
كما أن هناك حالات كثيرة لم يرد فيها النص القرآن وبينتها السنة النبوية، مثل حكم أكل لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع.
ليس هذا فحسب، بل كان عليه الصلاة والسلام في حياته العملية ترجمة حقيقية للقرآن كما وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين قالت: "كان خلقه القرآن" مسند الإمام أحمد.
علاقة السنة بالقرآن أو علاقة قول النبي و فعله و تقريره و هديه عامة بكلام الله تعالى :
هناك أكثر من علاقة و سنذكرها هنا باختصار، و لمن شاء التفصيل نرجو الإطلاع على الموقع أدناه
العلاقة الأولى : البيان
1- تفسير المعنى و توضيح المشكل
2- تفصيل المجمل من أمور الغيب و الفرائض و المندوبات
3- تخصيص العام
4- تقييد المطلق
العلاقة الثانية : التأكيد
أن تكون السنة مؤكدة للقرآن ومؤيدة له مثل أحاديث بر الوالدين و غيرها.
العلاقة الثالثة : النسخ
نسخها لبعض أحكام القرآن باعتبارها وحيا من الله تعالى لنبيه، و سنذكر بيان ذلك بأدلته فيما سيأتي.
العلاقة الرابعة : إضافة أحكام جديدة ليست في القرآن
أن تكون منشئة لأحكام سكت عنها القرآن كمثال الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها في نكاح واحد. و كقول النبي صلى الله عليه و سلم : ''يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب'' و كتحريم الصلاة والصوم على الحائض وقضاء الصوم فقط عليهن. وتحريم لحوم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية. وكتحريم أواني الذهب والفضة علي الرجال والنساء كما هو في صحيح مسلم قول النبي صلي الله عليه وسلم : ''الذى يشرب فى آنية الفضة انما يجرجر فى بطنه نار جهنم''.
وكلعن الواشمة والمستوشمة وهذا النوع لا يعارض القرآن بوجه من الوجوه ولذلك قال الله تعالي " من يطع الرسول فقد أطاع الله " في الصحيح من حديث ابن عمر عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الله الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة ."
للمزيد من التفصيل في العلاقات الأربع :
http://ashrafelfeel.org/play.php?catsmktba=2264
هل السنة يمكن أن تنسخ القرآن :
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله في ''أضواء البيان'' :
الذي يظهر لي والله تعالى أعلم هو أن الكتاب والسنة كلاهما ينسخ بالآخر، لأن الجميع وحي من الله تعالى. فمثال نسخ السنة بالكتاب: نسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام، فإن استقبال بيت المقدس أولا إنما وقع بالسنة لا بالقرآن، وقد نسخه الله بالقرآن في قوله: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا. {البقرة: 144} الآية. ومثال نسخ الكتاب بالسنة: نسخ آية: عشر رضعات تلاوة وحكما بالسنة المتواترة.... وقد قدمنا في سورة الأنعام أن الذي يظهر لنا أنه الصواب: هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه، وأنه لا معارضة بينهما، لأن المتواتر حق، والسنة الواردة بعده إنما بينت شيئا جديدا لم يكن موجودا قبل، فلا معارضة بينهما البتة لاختلاف زمنهما.
فقوله تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. {الأنعام: 145} الآية. يدل بدلالة المطابقة دلالة صريحة على إباحة لحوم الحمر الأهلية؛ لصراحة الحصر بالنفي والإثبات في الآية في ذلك. فإذا صرح النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوم خيبر في حديث صحيح "بأن لحوم الحمر الأهلية غير مباحة، فلا معارضة البتة بين ذلك الحديث الصحيح وبين تلك الآية النازلة قبله بسنين، لأن الحديث دل على تحريم جديد، والآية ما نفت تجدد شيء في المستقبل، كما هو واضح.
فالتحقيق إن شاء الله: هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه، وإن خالف فيه جمهور الأصوليين، ودرج على خلافه وفاقا للجمهور صاحب المراقي بقوله:
والنسخ بالآحاد للكتاب **** ليس بواقع على الصواب
ومن هنا تعلم: أنه لا دليل على بطلان قول من قال: إن الوصية للوالدين والأقربين منسوخة بحديث: لا وصية لوارث.، والعلم عند الله تعالى. اهـ.
و جاء في موقع بيان الإسلام ما يلي :
نسخ القرآن بالسنة النبوية :
والجمهور يرون جواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، حكى ذلك أبو الطيب الطبري، وابن برهان، وابن الحاجب، قال ابن فورك: وإليه ذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري.
قال ابن السمعاني: وهو مذهب أبي حنيفة وعامة المتكلمين.
وقال الدبوسي: هو قول علمائنا؛ يعني: الحنفية.
قال الباجي: وقال به عامة شيوخنا، وحكاه ابن الفرج عن مالك.
وقال سليم الرازي: وهو قول أهل العراق والأشعري وجمهور المتكلمين، وإليه ذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه[65].
وحجتهم أن نسخ القرآن بالسنة ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن السنة وحي من الله كما أن القرآن كذلك؛ لقوله تعالى: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، ولا فارق بينهما، إلا أن ألفاظ القرآن من ترتيب الله - عز وجل - وإنشائه، والقرآن له خصائص، وللسنة خصائصها، وهذه الفوارق لا أثر لها فيما نحن بسبيله ما دام الله - عز وجل - هو الذي ينسخ وحيه بوحيه، وحيث لا أثر لها، فنسخ أحد هذين الوحيين بالآخر لا مانع يمنعه عقلا، كما أنه لا مانع يمنعه شرعا؛ فتعين جوازه عقلا وشرعا[66].
وقال الشافعي: لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة، ولو كانت متواترة أو مستفيضة، ولا ينسخ الكتاب إلا كتاب مثله... ومع ذلك فالأولى ما عليه الجمهور؛ لأن السنة من الله - عز وجل - كما أن القرآن شرع منه سبحانه، وليس في العقل ولا في الشرع ما يمنع ذلك[67].
فإن قيل: إن وظيفة الرسول منحصرة في بيان القرآن؛ لقوله تعالى: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: ٤٤)، والسنة إن نسخت القرآن لم تكن حينئذ بيانا له، بل تكون رافعة إياه.
قلنا: إن هذا الاستدلال منقوض[68]:
1. بأن الآية لا تدل على انحصار وظيفة السنة في البيان؛ لأنها خالية من جميع طرق الحصر، وكل ما تدل عليه الآية أن السنة مبينة للقرآن، وذلك لا ينفي أن تكون السنة ناسخة.
2. وبأن وظيفة السنة لو انحصرت في بيان القرآن ما صح أن تستقل بالتشريع من نحو إيجاب وتحريم، مع أن إجماع الأمة قائم على أنها قد تستقل بذلك، كحظره - صلى الله عليه وسلم - أن يورث بقوله: «لا نورث، ما تركناه صدقة» [69].
3. أنه على فرض دلالة الآية على الحصر فالمراد بالبيان فيها التبليغ لا الشرح، ولقد بلغ الرسول كل ما أنزله الله إلى الناس، وهذا لا ينافي أنه نسخ ما شاء الله نسخه بالسنة.
4. المراد بما أنزل إلى الناس: هو جنسه الصادق ببعضه، وهذا لا ينافي كون السنة ناسخة لبعض آخر، فيكون الرسول مبينا لما ثبت من الأحكام، وناسخا لما ارتفع منها.
5. أن النسخ نوع من البيان؛ لأنه بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ عنه، وما دام النسخ بيانا، وقد جعلت السنة بيانا، فلا مانع من كون السنة ناسخة للكتاب.
الهامش على مقال بيان الإسلام :
[65]. انظر: الإحكام في أصول الأحكام، سيف الدين أبو الحسن الآمدي، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1421هـ/ 2000م، (3/ 668). نظرية النسخ في الشرائع السماوية، شعبان محمد إسماعيل، دار السلام، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م، ص98. دراسات حول القرآن والسنة، شعبان محمد إسماعيل، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 497.
[66]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، السعودية، ط1، 1417هـ/ 1996م، (2/ 187).
[67]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، 1417هـ/ 1996م، (2/ 972).
[68]. الإحكام في أصول الأحكام، سيف الدين أبو الحسن الآمدي، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1421هـ/ 2000م، (3/
Bookmarks