خاطرة: أيها الإنسان التائه بين عالمين!
خطر لي خاطر أحببت أن أشرككم فيه, وأنا أعلم أنه لا يصلح لمخاطبة كل ملحد عنيد, وكل مجادل عتيد, لكني أعلم يقينا أن البقية الباقية من "الإنسان" في أولئك أيضا ستجعلهم يفهمون كلامي, وإن كانوا لن يقروا بما أستخلصه منه, فأقول وبالله التوفيق:
إن في أعماق كلٍّ منا عالما لا يملك أن يطلع عليه أحدا من المخلوقين, لا قريبا ولا بعيدا, لا صديقا ولا عدوا, لا أبا ولا أمّا.
إنه عالم يشعر فيه المرء أنه طفل صغير ضعيف مضطرب الفؤاد تاه من أمه في الزحام.
إنه عالم تذوب فيه المراتب الإجتماعية, وتتلاشى فيه الدرجات العلمية, وتندثر فيه أوهام القوة والثقة الزائفة.
إنه عالم تنكشف فيه عورة النفس الإنسانية, فيقبع ذلك "الطفل" فينا على أرض تيهه منكمشا على نفسه, خائفا حزينا مشوَّش الفكر, مضطرب البال, منكسر الخاطر.
يبقى ذلك "الإنسان" فينا يتجرع المرارة ويبحث عن الخلاص, ويئنُّ من فرط الحزن والخوف والتيه.
لكنه يصنع لنفسه قناعا جميلا مزوّرا موشّى بشتى أنواع الأصباغ المعنوية, ليخدع نفسه قبل أن يخدع غيره.
إن ذلك القناع هو ثمن قبول "الإنسان المشوه" في عالم معاصر يتنكر للإنسان.
إنه تذكرة العبور إلى عالم ماديّ خانق لا يقبل بوجودنا فيه إلا قبولا مشروطا.
إنه عالم يخبرنا أن الحضارة لا تقوم إلا على أشلاء الإنسان.
إنه عالم يخبرنا أننا نتيجة غير مقصودة لأكبر مقامرة في الوجود: مقامرة مادية صرفة بلا غاية ولا قصد ولا معنى.
إنهم يوهمننا أنها مقامرة أثمرت كينونة لا تعبأ لشيء كما تعبأ للبحث عن الغاية والقصد والمعنى.
انظر في أعماق نفسك أيها المؤمن, انظر في أعماق أعماق نفسك أيها الملحد:
انظر إليك هناك طفلا عاريا يبكي ويصرخ في زحمة هذا العالم المادي يبحث عن أمه, يبحث عن خلاصه.
لكن أمك نفسها تبكي في أعماقها بكاءك, وتتطلع للخلاص مثلك, وكذلك كل نفس بشرية تدب على هذه الأرض.
إنك إذن تبحث عن خلاص آخر أعظم وأشمل, إنك تبحث عن سر وجودك, ومنبع روحك, ومستقر أحزانك.
إنك تبحث عن ربّك, إنك تحنّ إلى رحمته ولطفه وكرمه, وجوده, وحفظه, وعفوه.
إنك تقبع هناك وحيدا شريدا طريدا لأنك تعلم أن العالم الذي شغلك به الذين لا يعلمون, عالم مزوَّر خادع برَّاق فحسب.
إنك تعلم في قرارة نفسك أنه صورة بلا معنى, لهذا فإن العالم الدنيوي كله ببريقه ومتعه وملذاته لن يطفئ عطش روحك إلى خلاصها, ولن يسكن لوعة فؤادك أيها الإنسان المشوَّش
التائه في الزحام.
إن ذلك العالم المكنون فينا هو ما ظل أهل الفن الحقيقي الأصيل يحدثوننا عنه منذ فجر البشرية الأول, فإن يكن أولئك يحدثوننا عن شيء ذي معنى فإن لذلك الشعور في ذلك
المكان في أعماقنا معنى.
وإن تكن الأخرى فإن أولئك الفنانين وكل المشتغلين بالتعبير عن الجمال في هذا الوجود كانوا يحدثوننا عن هراء لا معنى ولا وجود له, كما قال المفكر المؤمن العلم علي عزت
بيغوفيتش رحمه الله وألحقنا به مؤمنين موحدين.
لكننا وإن حاولنا بأقيسة العقول أن نقول إن ذلك الشعور وذلك الظمأ وذلك التيه وتلك الغربة كلها لا معنى لها, فإننا في قرارة أنفسنا نشعر بذلك العطش وتلك الحاجة الملحة إلى
حضن دافئ وملجإ آمن نلجأ إليه حتى نشعر بالأمن ونشعر بمعنى لوجودنا وحياتنا.
إن ذلك العالم حيث نشعر بالغربة والتيه, دليل على أننا مخلوقون محتاجون مفتقرون إلى خالقنا, وهذا على دقّته لَمِمَّا يكفي العقلاء ليستدلوا به على أن وجودنا أعظم وأرحب وأوسع
مما يحدثنا به الماديون الملحدون, فهم من يبيعنا هراء ووهما لا سواهم.
وكتبه الطفل التائه في أعماقي.
رد مع اقتباس
Bookmarks