النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ؟!

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    1,574
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ؟!

    لقد قمتُ بزيارة متجرٍ ذائعٌ سيطه , حافل بصناعة الاثاث الذكيّ , ولقد طفت بأرجائه , فذهلت من شدة اتقان مصنوعاته , وبراعة صقلها بما يتناسب مع مستلزمات الزبائن , وودعها في مكانها المخصص لها , وتقاسيمات الامكنة بما يستدعيه حجم المنتج وروّاده , يصاحب ذلك كله روعة في العرض , وحسن اضاءة ؛ مما يخرج السلع بشكلٍ ملفتٍ للنظر ! , وذلك كله مطّردٌ مع اهتمامات شرائح المجتمع . والطريف في الموضوع أنك اذا ما قمت باختيار ما يناسبك , فانه ما عليك سوى أن تدون اسمه ورقمه , لتقوم فيما بعدُ باستلامها من المستودعات مُفككة الابعاد , مترامية الاطراف في صندوقٍ قد جُمعت فيه ! , لتقوم على جمعها في منزلك بطريقةٍ ذكيةٍ مُتبعاً في ذلك التعليمات والارشادات التي تُساعدك على بناء ما اقتنيته لتجده ماثلاً بين يديك ! .

    فما أن تخرج من هذا المتجر ومبناه الضخم وتصاميمه الذكيه , وأضواءه البهيّة , وما ان تباعدت عن مصنوعاته ومنتجاته , وتركت حسن ادارة المكان في ذلك المكان , تاركاً ورائك جهالة مالك المتجر واسمه ومن يكون ؟! .

    حتى تجد نفسك تحت سماءٍ خلّابة , ونجومٍ ساطعةٍ برّاقةٍ , وفوق أرضٍ مبسوطةٍ , وجبالٍ مرموقة , ونسيم هواءٍ مُحتفٍ بك , فسرعان ما تتشاكل الرؤى من حولك , وتتذكر أنك في كون قد احاط من حولك بديع اتقانه , وحسن تصاوير مصنوعاته , فمن ذا الذي خلق هذا الكون , وما اسمه , ومن يكون ؟

    إن ما يستحضره العقل السديد , والفطرةُ السليمة , أن لهذا الكون صانعاً , علمياً , خبيراً , قديراً ,قد قدّر كل شيء خلقه , وابدع صنعه فيه , إذ يستحيل أن يكون وجوده توافقياً محض صدفة ! .
    كما يستحيل أن يكون ذلك المتجر باتقانه وحسنه ادارته , قد أُسس بلا أيادٍ عاملة , واشرافٍ هندسي متقن ! , فإن ذلك محض عبث فكريّ .

    " .. إن الإقرار بوجود الصانع بديهي : وهو أن الفطرة شاهدةٌ بأن حدوثَ دارٍ مَنقوشةٍ بالنقوش العجيبة ، مبنية على تركيباتٍ لطيفةٍ , موافقة للحكم والمصلحة , يستحيل إلا عند وجود نقّاش عالم ! ، وبانٍ حكيمٍ ، ومعلومٌ أن آثار الحكمة في العالم العلوي والسفلي أكثر من آثار الحكمة في تلك الدار المختصرة ! , فلمّا شهدت الفطرة الأصلية بافتقار النقش إلى النقّاش ، والبنّاء إلى الباني، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم كان أولى ! " .[1]

    " فكما إذا رأينا مسكناً مُهيئاً للسُكنى فيه على القوانين الموافقة , لتوالي الفصول والامطار , علمنا أن حكيماً هيأه وأعده للسُكنى .
    كما إذا رأينا مركباً سائراً بالبخار نحو نقطة مقصودة , علمنا أن قائداً يقوده .
    فهكذا كل من ناظر الى هذه الدنيا , وشاهد ما هي عليه من النظام والترتيب المُحكم , وارتباط العلل بمعلولاتها ؛ وخدمة بعضها بعضاً , علم أن العالم مجموع مبدعات فائقة المدارك والمشاعر , أبدعها قادرٌ حكيم , وحيٌّ قيّوم .
    وإلا فلو جاز أن يكون مثل هذا بغير صانع , ولا موجد , لجاز أن تصح دورٌ معمورة , وأسفار مكتوبة , وثياب منسوجة , وحليّ مصنوعة بغير بانٍ ولا كاتبٍ , ولا ناسجٍ ولا صائغٍ ! . وهو محال ببديهة العقل . فما الذي خصّ أحسن الخالقين بأن يُكفر ولا يدل عليه أثر صنعته العجيبة , وخلقته البديعة ؟! .. " [2]


    " إن الله سبحانه وتعالى فطر عباده حتى الحيوان البهيم على استحسان وضع الشيء في موضعه , والإتيان به في وقته , وحصوله على الوجه المطلوب منه , وعلى إستقباحِ ضدُّ ذلكَ وخلافه
    وأن الأول دالٌ على كمالِ فاعله , وعلمه , وقدرته , وخبرته , وضدُّه دالٌ على نَقصِه , وعلى نقصِ عِلمه , وقدرته , وخبرته ؛ وهذه فطرة لا يمكنهم الخروج عن موجبها !
    ومعلوم أن الذي فطرهم على ذلك وجعله فيهم أولى به منهم ...

    ومن نظر في هذا العالم , وتأمل أمره حق التأمل , علم قطعاً أن خالقه أتقنه وأحكمه غاية الإتقان والإحكام ؛ فإنه إذا تأمَّله وجده كالبيت المبنيُّ المُعدُ فيه جميع عتاده ؛ فالسماءُ مرفوعةٌ كالسقفِ ! والأرضُ ممدودةٌ كالبساطِ ! , والنجومُ منضودةٌ كالمصابيحِ , والمنافعُ مخزونةٌ كالذخائرِ ! , كل شيءٍ منها لأمرٍ يَصلحُ له , والإنسانُ كالمالكِ المُخوّلِ فيه .

    وضروبُ النباتِ مُهيأةً لمآربه , وصنوف الحيوانِ مُصرفةً في مصالحه ؛ فمنها ما هو للدر والنسل والغذاء فقط ! , ومنها ما هو للركوب والحمولة فقط ! , ومنها ما هو للجمال والزينة , ومنها ما يجمع ذلك كله كالإبل . وجعل أجوافها خزائن لما هو شراب وغذاء ودواء وشفاء . ففيها عبرة للناظرين وآياتٌ للمتوسمين .

    وفي الطيرِ واختلافِ أنواعها وأشكالها وألوانها ومقاديرها ومنافعها وأصواتها صآفاتٍ , وقابضاتٍ , وغادياتٍ , ورائحاتٍ , ومُقيماتٍ , وظاعناتٍ ؛ أعظمُ عبرة ٍ, وأبين دلالةٍ على حكمةِ الخلاّق العليم .." [3]


    إن ثمة دلائل وبراهين ترشد التائه الى الصراط المستقيم , يستبصر المستنير بها من ظلمة الاهواء الحالكة , واسوِداد الشبهات الشائكة , فهي بمثابة مصابيح هدىً , ونوراً وتقىً يتقي بها السائر في هذه الحياة الدنيا :.

    أولاً : فطرتك أيها المخلوق تدل على الصانع :.

    إنه ما من مخلوق إلا وقد رُكّب فيه أمورٌ قد خرجت عن إرادته , كالحب , والخوف , والجوع , والعطش , والشعور بالرد او الحر والنعاس ... وان هذه الفطر خارجة عن ارادته , فمن كان فيه هذه الغريزة فهو منقاد الى من أوجد فيه هذه الغرائز , وهي كثيرة , فمن ضمنها وأصلها , أنه رُكّبَ فيه الميل الى تعظيم خالقه , والالتفات اليه , والخوف والوجل منه , وان اختلف التشخيص بسبب تشوهات فكرية مرّت به , فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء " ثم يقول أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " . مسلم . فالانسان يسير بفطرته أينما حل وارتحل , سواءاً عليه أعاندها أم وافقها , فهو ماضٍ في هذه الدنيا , وهذه الطباع مغروزة فيه .

    يقول شيخ الاسلام " ومثل الفطرة مع الحق، مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس، والاعتقادات الباطلة العارضة من تهود وتنصر وتمجس، مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس، وكذلك أيضًا كل ذي حس سليم يحب الحلو، إلا أن يعرض في الطبيعة فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مرًا .
    ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل، فإن اللّه أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق، الذي هو الإسلام، بحيث لو ترك من غير مغير، لما كان إلا مسلمًا ." [4]

    وتنكشف لك هذه الفطر وتتبدد عند سبوغ المدلهمات , واحاطة النائبات , فعندها تتكشف الحقائق , فقد قصّ الله لنا خبراً من أحوال بعض المشركين عند ذلك فقد أخبر عن فرعون لما حضره الموت وقد كان إمام الملحدين حيث قال " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " . [يونس - 90 ] .

    وفي حال نزول البلاء في المشركين يقول الله " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون " [ العنكبوت - 65 ] .

    وفي مثل هذا يقول الرازي " أن الإنسان إذا وقع في محنةٍ شديدةٍ , وبليةٍ قويةٍ , لا يبقى في ظنه رجاء المعاونة من أحد ! ، فكأنه بأصلِ خِلقته ومقتضى جبلته , يتضرعُ إلى من يخلصه منها ويخرجه عن علائقها وحبائلها وما ذاك إلا شهادة الفطرة بالافتقار إلى الصانع المدبر." [5] .

    " فانظر إلى حالة الناس إذا كربتهم الشدائد، ووقعوا في المهالك، وأشرفوا على الأخطار، كيف تجد قلوبهم معلقة باللَّه، وأصواتهم مرتفعة بسؤاله، وأفئدتهم تنظر إلى إغاثته، لا تلتفت يمنة ولا يسرة إلا إليه .. ومما يزيد ذلك وضوحاً أن الخلق متى شاهدوا شيئاً من الحوادث المتجددة كالرعد والصواعق، والبرق والزلازل، والبراكين المتفجرة الثائرة، والريح الشديدة، وانهمار الأمطار الغزيرة، وفيضانات الأنهار، واضطراب الأمواج في البحار والمحيطات، متى شاهدوا ذلك دعوا اللَّه وسألوه وافتقروا إليه؛ لأنهم يعلمون أن هذه الحوادث المتجددة لم تتجدد بنفسها، بل لها مُحدث أحدثها، وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات؛ لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفاً لهم، بخلاف المتجدد ... " [6]

    ومما يُذكر في هذا الصدد : أن رجلاً سأل جعفر بن محمد – الصادق- : ما الدليل على الله ؟! , ولا تذكر لي العالم والعرض والجوهر ! .
    فقال له : هل ركبت البحر ؟
    فقال : نعم .
    فال : هل عصفت بكم الريح حتى خشيتم الغرق ؟
    فقال : نعم .
    قال : هل انقطع رجاءك من المركب والفلاحين ؟
    فقال : نعم .
    قال : هل تتبّعت نفسك أن ثمة من ينجيك ؟
    فقال : نعم .
    قال : فإن ذلك هو الله ! .



    ثانياً : رعاية الكائنات دليل على راعٍ لها :.

    إن تكييف الكائنات , والتأليف المتناغم بينها , وبين ما يناسبها من البيئات والمطاعم والمشارب والمعاش , وانتظام تناسلها , وصرف عنها ما يعيق سيرها , لدليل صارخٌ لرعاية خفيّة تدير شؤون هذه الكائنات الحية , إن نظرة الى عالم الحيوان , وانواعها كفيلة بأن تشهد بوجود خالق لها , مايز بينها , فمنها ما يطير في الهواء , ومنها ما يسبح في الماء , ومنها ما يمشي على رجلين , وقد أعد لكلٍ ادواته التي تُمكنه من العيش , فذا الاجنة للهواء , وذا الخياشيم في الماء , وصاحب البيئة الباردة بفروة هائلة , وذوات الجو الحار بكسوة فراء خفيفة تلائم البيئة التي هي فيها .
    ولنظرة فاحصة في كائن من هذه الكوائن , لكفيلة بأن تُرشدك الى ما نحن بصدده , فمن الذي ركب في الجمل فهماً يعيه ويحمله على تخزين الماء في جوفه لقلة الماء على أرضه , أتراه جاب الارض فعرف ما ينفعه وما لا ينفعه فيها ؟ أترى أن عمره يكفيه لاخذ جولةٍ فيها ؟ , ولان تدرجت الى فمه لبهرك المادة السميكة التي تساعده على اتّقاء الاشواك والمواد الصحراوية القاسية , ولك ان تتصور أشفاره وخفافه ! , فتقول سبحان من أودع فيه هذا الابتكار ! .

    ولا يستقل ذلك بالجمل , بل حيثما يممّت وجهك شطر مخلوق من المخلوقات الا واستوقفك تركيبه وفق ما يصلحه , والفلك البيئي الذي يدور فيه , مما يُلائمه , فسبحان الله .

    فإنه لو قُدّر أخذ بيضة من نحلةٍ , وتم العمل على فقسها بطريقةٍ علميةٍ بعيداً عن موطنها ومواطن النحل , فإنك ستتفاجئ بعد فترةٍ وجيزة أن خلية هذه النحلة من الشمع على شكلٍ مسدسٍ منتظمٍ !
    وان لم تكن تعلمته من أحد من بني جنسها ! . فمن أين لها هذه الطريقة التي أوزعت للعمل بمثل هذه الطريقة المسدسة المنتظمة ؟ .

    لقد قام بعضهم بوضع قرابة ثلاثين بيضة من الدجاج , من بينها بيضة واحدة لطير مائي في ماكنة تفريخ , وبعد مرور المدة فقس جميع البيض ونزلت الفراخ من الماكنة , وبعد نزولها ذهبت فراخ الدجاج الى الحديقة تبحث في التراب , وانفرد عنها فرخ الطير المائي ذاهباً الى الساقية يسبح فيها !! فمن عرّفه بحاله ؟ وأودع فيه مآله ؟ [7]

    وهذا الحال من حولك كله , ماضٍ في إمضاء عملية التوازن الطبيعي , فهذا الكون بكائناته , وكواكبه , ومخلوقاته , وبحاره ومحيطاته , يتناغم بسيره بانتظامٍ , بلا افراط ولا تفريط , دال على مدبرٍ لها محيطٍ بها , ولو أردت أن تدرك الفرق , فقم باعمال العبث والعشوائية فيها لتهولك النتائج ! .

    يقول ابن رشد "... إن الانسان إذا ما نظر إلى شيءٍ محسوسٍ فرآه قد وضع بشكلٍ ما ,وقدَرٍ ما , ووضعٍ ما ؛ موافقٌ في جميع ذلك للمنفعة الموجودة في ذلك الشيء المحسوس والعناية المطلوبة حتى يعترف انه لو وجد بغير ذلك الشكل أو بغير ذلك الموضع أو بغير ذلك القدر لم توجد فيه المنفعة , و عُلِمَ على القطع أن لذلك الشيء صانعاً صنعه لذلك ووافق شكله , وضبطه وقدره لتلك المنفعة وانه ليس يمكن ان تكون موافقة اجتماع تلك الاشياء لوجود المنفعة بالاتفاق .

    مثاله : أنه اذا رأى انسان حجراً موجوداً على الارض , فوجد شكله على صفةٍ يتأتى منه الجلوس , ووجد أيضاً وضعه كذلك وقدره , علم أن ذلك الحجر انما صنعه صانع , وهو الذي وضعه كذلك , وقدّره في ذلك المكان .

    وأما متى لم يشاهد شيئاً من هذه الموافقة للجلوس , فإنه يقطع بأن وقوعه في ذلك المكان ووجوده بصفةٍ ما هو بالاتفاق من غير أن يجعل له هنالك فاعل .

    كذلك الامر في العالم كله ؛ فإنه إذا نظر الانسان الى ما فيه من الشمس والقمر , وسائر الكواكب التي هي سبب الازمنة الاربعة , وسبب الليل والنهار , وسبب الامطار و المياه والرياح , وسبب عمارة أجزاء الارض , ووجود الناس , وسائر الكائنات من الحيوانات والنباتات , وكون الارض موافقة لسكنى الناس فيها وسائر الحيوانات البرية , وكذلك الماء موافقاً للحيوانات المائية , والهواء للحيوانات الطائرة , وأنه لو اختل شيء من هذه الخِلقة والبُنية لاختل وجود الكائنات التي هاهنا . عَلِمَ على القطع أنه ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة التي في جميع أجزاء العلم للانسان , والحيوان , والنبات بالاتفاق ! , بل ذلك من قاصدٍ قصده , ومريدٍ أراده وهو الله , وعلم على القطع أن العالم مصنوع .

    وذلك أنه يُعلم ضرورة أن لم يمكن أن توجد فيه هذه الموافقة لو كان وجوده من غير صانع .." [8]



    ثالثاً : إيجاد الكائنات بعد أن لم تكن :.

    هب أن دولاباً دائراً على نهرٍ قد أُحكمت آلاته , وأحكم تركيبه , وقدّرت أدواته أحسن تقديرٍ وأبلغه , بحيث لا يرى الناظر فيه خللاً في مادته ولا في صورته , وقد جُعل على حديقةٍ عظيمةٍ فيها من كل أنواعِ الثمارِ والزروعِ , يسقيها حاجتها , وفي تلك الحديقةِ من يلم شعثها , ويحسن مراعاتها وتعهدها , والقيام بجميع مصالحها , فلا يختل منها شيء ولا يتلف ثمارها .
    ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم , فيقسم لكل صنفٍ منهم ما يليق به ويقسمه هكذا على الدوام ..
    أترى هذا اتفاقاً بلا صانعٍ ولا مُختارٍ ولا مُدبرٍ ؟! بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقاً من غير فاعلٍ ولا قيّمٍ ولا مُدبرٍ ؟!
    أفترى ما يقول لك عَقلُكَ في ذلك لو كان ؟ وما الذي يفتيك به , وما الذي يرشدك اليه ؟ [9]

    إن حدوث المخلوقات ما يمتري فيه أحدٌ , فإن ايجادها بعد أن لم تكن , لم يكن لها لتكون لولا أيجاد موجودٍ لها على تلكم الصفة , وقد أبان الله هذا المعنى في كتابه بأقصرِ بُرهانٍ حيث قال
    " أم خُلقوا من غيرِ شيءٍ أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون" (سورة الطور:35-36).

    ويقول ابن القيم : " فتأمل هذا الترديد والحصر المتضمن لإقامة الحجة بأقرب طريق وأفصح عبارة يقول تعالى هؤلاء مخلوقون بعد أن لم يكونوا فهل خلقوا من غير خالق خلقهم فهذا من المحال الممتنع عند كل من له فهم وعقل أن يكون مصنوع من غير صانع ومخلوق من غير خالق , ولو مر رجل بأرض قفر لا بناء فيها ثم مر بها فرأى فيها بنياناً وقصوراً وعمارات محكمة لم يتخالجه شك ولا ريب أن صانعاً صنعها , وبانياً بناها ...
    ثم قال : " أم هم الخالقون " وهذا أيضاً من المستحيل أن يكون العبد موجدا خالقا لنفسه فإن من لا يقدر أن يزيد في حياته بعد وجوده وتعاطيه أسباب الحياة ساعة واحدة ,ولا أصبعاً ولا ظفراً ولا شعرة كيف يكون خالقا لنفسه في حال عدمه ...

    فإن قيل فما موقع قوله " أم خلقوا السموات والأرض " من هذه الحجة قيل أحسن موقع فإنه بين بالقسمين الأولين أن لهم خالقاً وفاطراً , وأنهم مخلوقون وبين بالقسم الثالث أنهم بعد أن وجدوا وخلقوا فهم عاجزون غير خالقين فإنهم لم يخلقوا نفوسهم ولم يخلقوا السموات والأرض وأن الواحد القهار الذي لا إله غيره ولا رب سواه هو الذي خلقهم وخلق السموات والأرض فهو المتفرد بخلق المسكن والساكن بخلق العالم العلوي والسفلي وما فيه ". [10]

    فهذا الفهم يقودك إلى " أن الموجود إما أن يكون غنياً عن المؤثر أو لا يكون ، فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته ، فإنه لا معنى للواجب لذاته إلا الموجود الذي لا حاجة به إلى غيره. وإن لم يكن غنياً عن المؤثر فهو محتاج ، والمحتاج لا بد له من المحتاج إليه وذلك هو الصانع المختار." [11]



    محاججة أهل الايمان لأهل الجحود والكفر :.

    قد قصّ الله لنا شيئاً من ذلك فقد أخبر سبحانه ما دار بين نبيّه موسى وفرعون الفاجر , حيث أخبر محاججته بأوجز عبارة , وألطف عبارة فقال " قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون "[ الشعراء : 23-29 ] .

    "ولهذا لما غُلب فرعون وانقطعت حجته، عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى، عليه السلام، فقال ما أخبر الله تعالى عنه:" قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ[12]

    وقصّ لنا حال إبراهيم مع النمرود : حيث قال " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " [ البقرة : 258 ] .

    يقول الرازي " دليل إبراهيم عليه السلام كان في غاية الصحة، وذلك لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين، والإحياء والإماتة كذلك، لأن الخلق عاجزون عنهما، والعلم بعد الاختيار ضروري، فلا بد من مؤثر آخر غير هؤلاء القادرين الذين تراهم، وذلك المؤثر إما أن يكون موجبا أو مختارا، والأول: باطل، لأنه يلزم من دوامه دوام الأثر، فكان يجب أن لا يتبدل الإحياء بالإماتة، وأن لا تتبدل الإماتة بالإحياء، والثاني: وهو أنا نرى في الحيوان أعضاء مختلفة في الشكل والصفة والطبيعة والخاصية، وتأثير المؤثر الموجب بالذات لا يكون كذلك فعلمنا أنه لا بد في الإحياء والإماتة من وجود آخر يؤثر على سبيل القدرة، والاختيار في إحياء هذه الحيوانات وفي إماتتها، وذلك هو الله سبحانه وتعالى، وهو دليل متين قوي ذكره الله سبحانه وتعالى في مواضع في كتابه كقوله: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين.. إلى آخره، وقوله لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين.. وقال تعالى: الذي خلق الموت والحياة .." [13]


    1- ما جاء عن أبي حنيفة - رحمه الله - :.

    سأل بعض الزنادقة أبا حنيفة عن وجود الله عز وجل فقال لهم: دعوني فأني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة، فيها أنواع من المتاجر، وليس بها يحرسها ولا يسوقها ،وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها، وتخترق الأمواج العظام حتى تخلص منها وتسير حيث شأت بنفسها من غير أن يسوقها أحد. فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي، وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع ! فبهت القوم، ورجعوا إلى الحق ، وأسلموا على يديه .

    واستدل ابو حنيفة أيضاً : على وجود الله بأن الوالد يريد الذكر فيكون أُنثى وبالعكس , فدل على الصانع ! .



    2- ما روي عن الامام الشافعي - رحمه الله - :.

    قال الشافعي : استقبلني سبعة عشر زنديقا في طريق غزة فقالوا : ما الدليل على الصانع؟
    فقلت ترى ورق الفرصاد- التوت- طبعها ولونها سواء، وريحها، فيأكلها دود القز فيخرج من جوفها البرسيم، ويأكلها النحل فيخرج من جوفها العسل، وتأكلها الشاة فيخرج من جوفها البعر، فالطبع واحد، إن كان موجبا عندك فيجب أن يجب شيئاً واحداً لأن الحقيقة الواحدة لا توجب إلا شيئا واحدا، ولا توجب متضادات متنافرات، ومن جَوَّز هذا كان عن المنقول خراجاً، وفي التيه والجاً، فانظر كيف تغيرت الحالات عليها، فعرفت أنه فعل صانع عالم قادر يحول عليها الأحوال، ويغير التارات. قال فبهتوا، ثم قالوا: لقد أتيت بالعجب العجاب فآمنوا وحسن إيمانهم .

    - في مناظرة جرت بين الشافعي وبشر المريسي في مجلس الخليفة العباسي هارون الرشيد، ذكر الشافعي أربعة أدلة عقلية تدل على وجود الخالق عز وجل. وهي:
    * اختلاف الأصوات من المصوت، إذا كان المحرك واحداً، واختلاف الصور دليل على أنه واحد.
    يريد الإمام الشافعي أن آلات الصوت وأدواته في جميع الناس واحدة، كالأسنان والشفتين واللسان والحلق والحنجرة، ورغم ذلك فإن نبرات الأصوات مختلفة بحيث لا تجد اثنين متفقين في ذلك، وكذلك اختلاف الناس في صورهم وأشكالهم وألوانهم، فهذا كله دليل على وجود الخالق المصور عز وجل. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل، قال تعالى:" ومن آياته خلق السموات والأرض،واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" [ سورة الروم : 22 ].

    يقول ابن قيم الجوزية : " تأمل اختلاف هذا النغمات، وتباين هذه الأصوات مع تشابه الحناجر والحلوق والألسنة والشفاه والأسنان. فمن الذي ميز بينها أتم تمييز مع تشابه محالها سوى الخالق العظيم " [14]


    3- ما روي عن الامام مالك - رحمه الله - :.

    استدل الإمام مالك بن أنس باختلاف اللغات والأصوات والنغمات وذلك عندما سأله الخليفة هارون الرشيد عن أدلة وجود الخالق عز وجل.


    4- ما روي عن الامام أحمد - رحمه الله - :.

    وحكي عن أحمد بن حنبل : أنه تمسك بقلعة حصينة ملساء , لا فرجة فيها , ظاهرها كالفضة المذابة , وباطنها كالذهب الابريز , ثم انشقت الجدارن , وخرج من الجدران حيوان سميعٌ بصير ! . فلا بُدّ من فاعل . - عنى بالقلعة البيضة , وبالحيوان الفرخ –


    - وسئل حكيم فأجاب : لو لم يكن للعالم صانع , لكان أضيع ضائع , هل رأيت مصنوعاً بلا صانع ! , وسقفاً مرفوعاً بلا رافع ! , وهل نفيُ الصانع الا مكابرة ! , وما يجحده الا النفوس الكافرة !.


    - وسئل ابن هانئٍ فقال :

    تأمل في رياض الارض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليكُ
    عيونٌ من لجينٍ شاخصاتٌ ... وأزهارٌ كما الذهب السبيكُ
    على قُضُبِ الزبرجدِ شاهداتٌ ... بأنّ الله ليس له شريكُ


    - وسئل أعرابي عن الدليل فقال : البعرة تدل على البعبر , وآثار الاقدام تدل على المسير , فسماء ذاتُ أبراج , وأرضٌ ذات فجاج , وبحارُ ذات أمواج , ألا تدل على العليم الخبير ! .

    - وسئل رجل عن الدليل فقال : اغنى الصباحُ عن المصباح ! .

    - وقال آخر : عرفته بالنحلة ! بأحد طرفيها تعسل , وفي الاخرى تلسع ! , والعسلُ مقلوب اللسع ! .

    - وقيل لطبيب : كيف عرفت ربّك ؟ فقال : باهليلج مجففٍ أُطلق , ولعاب ملين أمسك ! . [15]



    ---------------------------

    [1]( مفاتيح الغيب -19-71 ).
    [2] (دلائل التوحيد للقاسمي - 34)
    [3] الصواعق المرسلة (4- 1952)
    [4](الفتاوى - 247/4) .
    [5](مفاتيح الغيب – 19-71 )
    [6]( القحطاني : كيفية دعوة الملحدين - 13 ) .
    [7].( نبوة محمد من الشك الى اليقين -15-16) .
    [8] (القاسمي- دلائل التوحيد ص32 ) .
    [9]مفتاح دار السعادة (1/214).
    [10] الصواعق المرسلة ( 2-493) .
    [11] مفاتيح الغيب ( 19-71 )
    [12][ ابن كثير : 6/139 ]
    [13][ مفاتيح الغيب : 7/ 22 ]
    [14][ مفتاح دار السعادة : 269 ]
    [15][ دلائل التوحيد : 136 ], [منهج السلف في اثبات وجود الله : 12 ]
    وأيُّما جِهَةٍ أعرَضَ اللهُ عَنها ؛ أظلمت أرجاؤها , ودارت بها النُحوس !

    -ابن القيم-

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    715
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    عود كريم شيخنا الفاضل

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
    بواسطة massoud في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 01-29-2013, 09:44 PM
  2. فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ (تفسير قدياني)
    بواسطة ananAhmadiyya في المنتدى قسم الحوار عن القاديانية
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 04-04-2012, 01:33 AM
  3. خبر: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِ
    بواسطة ابن السنة في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 11-12-2011, 12:17 AM
  4. {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَ}
    بواسطة عبد الرحمن العربى في المنتدى قسم الحوار عن القاديانية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-09-2011, 11:42 PM
  5. دراسة تفسير: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ...}
    بواسطة شيعي سابقا في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-19-2010, 06:23 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء