الطائف / المنطقة المركزية
مسجد حبر الأمة
غرة رجب 1435هـ



عُواء الذِّئب وفِقه الاستئناس

البارحة تناقشت مع بعض المحبِّين في قول الله تعالى : " كُلَّما دخلت أمةٌ لعنت أختها " ( الأعراف :38 ) وسألني : هل يُستأنس لكل أحد؟ .

فأجبته : أن هذه المسألة قضية حملية كما يقول المناطقة ، ليس لها جواب بعينه لا يتغير ، غير أن لهذا المعنى نظائر في الدنيا ،كقول الأحيمر السعدي ( ت: 170هـ ) وهو من مشاهير هوازن ، عفى الله تعالى عنه :
عَوى الذِئبُ فَاِستَأنَستُ بِالذِئبِ إِذا عَوى
وَصَوَّتَ إِنسانٌ فَكِدتُ أَطيرُ
يَرى اللَهُ إِنّي لِلأَنيسِ لَكارِهٌ
وَتُبغِضُهُم لي مُقلَةٌ وَضَميرُ
فَلِلَّيلِ إِن واراني اللَيلُ حكمُهُ
وَلِلشَمسِ إِن غابَت عَلَيَّ نُذورُ
وَإِنّي لَأستَحيي مِنَ اللَهِ أَن أُرى
أُجَرِّرُ حَبلاً لَيسَ فيهِ بَعيرُ
وَأَن أَسأَلَ المَرءَ اللَئيمَ بَعيرَهُ
وَبَعرانُ رَبّي في البِلادِ كَثيرُ .


وهي قصيدة فائقة وفيها من المعاني النفيسة والأدبية ما يحتمل صفحات كثيرة . فيا ليت بعض طلبة العلم يتنبهون لفوائدها !


قد يتعجب البعض من الميل لصوت الذِّئب والنفرة من صوت الإنسان ، وقد وقع هذا قديماً كحال الشاعر الذي كان مطاردا وغريبا ً،ويقع الآن في زمننا بين الأفراد والجماعات بل حتى بين الأقارب والأصهار.


وأكثر ما يظهر حاله للمكلومين والمحرومين والمظلومين أو لغيرهم ممن ينجذب لهم . وهذا مشاهد اليوم في الشام والعراق واليمن وبورما وأفريقيا الوسطى ، نسأل الله العافية . لكن كما قال الإمام الفتوحي( ت: 972هـ) رحمه الله تعالى : " أكثر العمومات مخصوصة " ! .


هناك أسباب كثيرة للاستئناس كالاحسان والعطف ولين الجانب والنجدة وتفريج الكربات الشخصية ونحوها من المعاني .
وليس عكس هذه المعاني فحسب هو ما يضعف الاستئناس أو يُخفِّفه ، بل يزيد عليها العرف الفاسد الذي درج عليه المرء مع أهله أو بيئته أو أقرانه – مع نسيان تعديل الطبع - ككراهية الغريب أو البعيد ، أو الإمتعاض من أهل الدِّين ، وكالطمع فيما في يد الغير وعدم الرِّضا عن النفس ، أو مقت كل مستطاب عند الناس لمرض نفسي ، والغيرة من الأقران ونحوها من المعاني الرديفة .



ولهذا من يتأمل قصة يوسف عليه السلام وخبره مع إخوته يجد في ثناياها من المعاني المتقدِّمة ما يناسب حالهم مع التسليم بتوبتهم وتصحيح مقصدهم .


وكراهية الطبع لا إثم فيه إذا كان من ينقده لا يؤذي صاحبه ، لكن الواجب المداومة على الرفق واللين بتعديله إلى ما يوافق الوحي .


وقصة المرأة الشهيرة لا تخفى على كل لبيب حين قالت :" زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر"، والمعنى : قليل من لحم جمل على قمة عالية، ومن الذي سيصعد ويجهد نفسه ويتسلق الجبل لأجل قليل من لحم غث ؟ فمقصدها أنه :" لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقى" أي: ليس جبلاً سهل المرتقى، فيمكن الصعود عليه لنأكل اللحم الذي عليه، وليت الجبل إذ هو وعر أن يكون هذا اللحم لحم ضأن مثلاً أو نحوه.
وهي تريد بهذا أن تقول : إن الرجل جمع ما بين سوء الخلق وسوء المعشر، فأخلاقه سيئة جداً فلا يستأنس به ، لدرجة أنك إذا أردت أن ترضيه كأنك تتسلق جبلاً ! .


وهناك بعض الناس هكذا، إذا أردت أن تُرضيه تبذل جهداً عظيماً حتى يرض عنك ، فأخلاقه وعرة كوعورة الجبل ! .
لكن عند التربويين قد يكون ما تقدَّم ضرب من ضروب التهذيب والتأديب وشحذ الهمم ، كالتبسم عند الغضب والهجر الجميل والتدريب على تحمل الشدائد ، وقد يظنه بعض الناس قسوة أو تكبراً أو غروراً بالنفس كما يقع من بعض الجهال . وقد كان سمت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذا النحو ، لكنه على فطرة سليمة وصالحة ، من غير ظلمٍ لأحد .


من الناحية الحكمية ضيق الأخلاق أو البلاد لا أثر له في الحكم الشرعي لأنه قد يكون أمراً نفسيًا أو أمرا كونياً ، فالعبرة بالعمل ومآل الفعل ،سواء كان في بلده أو في بلدٍ غريب عنه ، أو في مفازةٍ أو في بئرٍ . وقد قال الشاعر :


لعمري ما ضاقت بلادٌ بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق .


فالراحة النفسية لا يجوز شرعاً قصرها على البلد أو الوطن، لأن الأرض لا تُقدِّس أحدًا إنما يُقدِّس الإنسان عمله، كما روي عن سلمان رضي الله عنه .
أما الاستدلال بحديث : " إن الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " أخرجه مسلم ، على أن البلد يؤنس صاحبه فهو بعيد ، لأن المقصود أن الفساد يعم كل البلاد في آخر الزمان حتى يعود الإيمان إلى المدينة كما بدأ منها ، فكل إنسان مرهون بعمله لا ببلده .


ولهذا تظافرت النصوص والسِّير على هذا الفقه الذي ضعف اليوم في واقعنا بسبب نعمة التقنية التي اغترَّ بها الناس وبسبب الغفلة عن نور الإيمان .


وقد جاء في المرفوع : " ليِنوا بأيدي إخوانكم " أخرجه أبو داود بإسناد صحيح ، و" المؤمن كالجمل الأنف حيثما قِيد انقاد " أخرجه ابن ماجة بإسناد صحيح . والنصوص في ذم البداوة التي تُفسد الأخلاق لا تخفى على ذي بصيرة . فالحمد لله على نعمة الإسلام .


ومن لطائف ابن قدامة (ت: 620هـ )رحمه الله تعالى الفقيه المربِّي : أنه كان لا يناظر أحداً إلا وهو يبتسم، حتى قال بعض الناس: هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسمه .


فيُفهم مما تقدَّم وجوب الإستئناس للمؤمنين مهما كانت منازلهم وأحوالهم ، وقد قال جرير البجلي رضي الله عنه : " ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي " أخرجه البخاري .


والمقصود أن الاستئناس قد ينمو بين النظير ونظيره ، وقد يضعف أو ينعدم فيكون بالضدِّ من ذلك على حسب الحال ، وقد تقرر عند الأصوليين أن من لوازم الامتثال للأمر المطلق تحصيل المعين ، لكن كما قيل :
لكل شيٍ آفةٌ من جِنسه
حتى الحديد سطى عليه المِبرد !
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

أ/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بمعاهد القوات البرية
__________________

مؤسِّس مُدوَّنة المتوقِّد التأصيلية
http://ahmad-mosfer.com/