( اللا أدرية ) إلحاد منافق

:

:

.. في سلسلة مقالاتي (فتاة الشك) نقلت لكم سابقاً في الحلقة الخامسة، كلامها عن معاناتها النفسية والفكرية، وكيف أنها تشعر بتشتت ذهني، وغياب للمعايير، وأنها كما أشارت : لم تعد تعرف كيف تميز بين حق وباطل، وطاشت موازين الصواب والخطأ من بين يديها.

:

.. وبلا شك أن هذه المعاناة تضرب بأطنابها في عقول بعض الشباب والشابات، ممن خاطروا بإيمانهم فتابعوا بعض مروجي الشبهات الإلحادية في "تويتر" وعالم النت عموماً، ثم شُغفوا بذلك الطرح شغفاً تملك وجدانهم وفكرهم، لما فيه من قدح في المقدسات بما لم يعرفوه من قبل ، حتى أصبحت متابعة أولئك عادة مُزمنة، كأنها وجبات يومية لا يمكن التخلف عنها، هذه العادة تحولت إلى إدمان لا يقل خطره عن إدمان الكوكايين أو الأفيون، وسيطر (الهوى) عليهم، وتحول موقفهم من الدين إلى موقف سلبي ينضح بالكراهية ، وأصبح الفرد منهم تُسيّره مشاعر النقمة والسخط، ويحركه غضب مكبوت من الواقع وأخطائه وآلام الحياة، وصرّح بعضهم بلا مواربة أن الدين هو المسؤول عن كل شيء سيئ في عالمهم الشخصي، وكأنهم مع الدين في خصومة شخصية .

:

.. وفي مكاشفاتي مع بعض أولئك الشباب والشابات، وجدتهم يرددون فكرة يتفقون عليها، هي أنهم ( لا يدرون ) هل الإسلام حقّ أو غير ذلك ، ويصفون أنفسهم بأنهم مترددون محتارون، أو كما يحلو لبعضهم أن يطلق على نفسه لقب ( اللا أدري ) ، ويزعمون أن هناك اختلافاً بين (الملحد) المنكر لوجود الله ، وبين (اللا أدري) ، لكنني بعد أن تمعنت في الموقفين جيداً ، تبين لي أن الملحد هو مؤمن بإنكاره ، أما (اللا أدري) فهو منافق في إلحاده ، وأعلم يقيناً أن هذه الجملة ستغضبهم وسيقولون : هل أطلعت على أفئدتنا ؟ هل تعلم بنوايانا ؟ نقول : لا ندري ونحن أعلم بأنفسنا ، وأنت تقول بما لم نقله أو نصرح به ؟

:

.. وجوابي : ما قلته هو قناعتي بكل تجرد بعد غوص لأسابيع طويلة في تأمل هذه المشكلة (مقيداً كلامي بما ظهر لي شخصياً خلال متابعة بعض أولئك )، وأدلتي على أن (اللا أدري) هو مُلحد، ولكن برتوش مُشوهة لتخفف من القبح الإلحادي :

:

.. أولاً : تطابق الحُجَج :

:

.. إن (اللا أدري) يُظهر التوقف والحيرة، ولكن ما إن تسأله عن سبب ذلك حتى يُدلي لك بأغاليط الملحدين نفسها وحججهم التشغيبية، يسوقها لك على أنها هي التي جعلته يخرج من الإيمان، ثم يزعم لك بأنه لا يوافق الملاحدة بل له ملاحظات كثيرة عليهم ، فتتأمل بعمق في قوله، ثم لا تجد فرقاً حقيقياً بينه والملحد، ولذا أقول : إني توصلت بعد نظر وفحص إلى أن الفرق لفظي فقط ، فالإيمان لا يقبل هذه المرواغة الجدلية ، ليس هناك إلا إيمان أو كفر بلا إيمان ، والمتحير المصاب بداء اللا أدرية) من أولئك بعد أن كان مسلماً مؤمناً ، أمسى في الواقع لا يؤمن بالله جل جلاله ولا بكتابه الكريم أورسوله الرحيم أي تخلى عن إيمانه، وأدلته على حيرته وتوقفه هي عين كلام الملاحدة في الطعن في الدين، بل لو فرضنا أنه لم يتابع أولئك الملاحدة ولم يتعرف على مغالطاتهم وتشغيباتهم الجدلية، هل ستنشأ تلك الحيرة والتردد عنده ؟

:

.. في يقيني أن الجواب: بالنفي المشدد وبتجربة عملية يسيرة يثبت لك ما أقول: اذهب إلى صفحة بعضهم على "تويتر" وانظر من يتابع ومن يناقش ومن يمدح ومن يذم، لا مجال للكذب والمكابرة والاختباء خلف بريق مصطلح ( اللا أدرية ) فنفاقها الكاذب يُعلن عن نفسه بقليل من التركيز والوضوح في التفكير .

:

.. ولك أن تسأل أحدهم: ميز لي بين أدلة الملاحدة المنكرين وأدلة اللا أدريين المتحيرين تجاه الإسلام ؟ فإن جاء لك بأدلة مختلفة في مضمونها ونوعيتها؛ فصدقه ، أما إن أعاد عليك أدلة الملاحدة النفاة بقوالب وعبارات أخرى ، فهو مراوغ لا أكثر .

:

.. خلاصة الأمر: لقد ساقه غرامه بشبهات الملاحدة في أول الأمر فبدأ يتردد حتى طوّحت به تلك التشكيكات فأضحى كبندول الساعة مذبذب الفكر والإرادة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، لكنه لم يلبث حتى قذفته تلك الشبهات من حالق إلى قعر هاوية لا نهاية لها ، أبعد ذلك يقول: أنا لست ملحداً !

:

.. ثانياً : الإنبهار بالطرح الإلحادي :

:

.. أما القول بأنه يبحث عن أدلة صحة الدين وكونه ليس بخرافة ، فهو قول لا صدقية فيه ( وكلامي هنا مقيد بمن ناقشتهم ولا أعمم ) ؛ لأن بحثه هذا جاء بعد أن تشبّع لحد الوله بشبهات الملاحدة ، وعند المناقشة مهما جاءته الأدلة الإيمانية المضادة ، لا يجد لها أي قبول في نفسه ، بل لا يمنح فكره الوقت لتدبرها والانفتاح عليها، يُسارع بنفيها ونقدها، ففكره قد مال وقلبه تعاطف بقوة مع تلك الأغاليط الإلحادية وترسخت فيه وتمكنت تمكناً قوياً وأصبحت هي الأصل والقاعدة، ومن صفات الباحث عن الحق أن يكون ميزانه صحيحاً مستقيماً عادلاً لا يجور أو يخور، فلا يستقيم في منطق البحث العلمي المنصف أن تُعطى الساعات الطوال لقراءة وتفهم حجج طرف على حساب طرف آخر لا يحظى إلا بالضيق والتبرم ، ولا يسوغ في ميزان البحث العلمي الموضوعي أن يُسرف في كلمات المدح والثناء على تافه القول من ملحد يتباهى بملذاته وانحرافاته ، بل ويُلاطف بكل حنان ورقة ، بينما تُصب حمم البذيء من القول على مؤمن يعبر عن إيمانه بأدب ولطف ، ألا يحق لنا أن نقول : أين "التعادلية" في أفعالك هذه ، أين "التوازن" في الوقائع المشاهدة من تصرفاتك ؟

:

.. ثالثاً : الهجوم على الدين والمتدينين :

:

.. ثم كيف تريد لنا أن نصدق دعواك بـ ( الحيادية ) النظيفة التي يُفترض أن تكون ناشئة عن توقف منهجي ريثما يتم الانتهاء من فحص الأدلة ، ونحن نراك بأم أعيننا تقضي الوقت الأطول في فهم الشبهات الإلحادية والتعمق فيها والسؤال عنها، وتطاردها بلهفة المشتاق، ثم تُعلن كراهيتك ليل نهار للدين وأهله، وتتجرأ على الله وعلى كتابه الكريم، ونبيه المصطفى بالتشكيك وتُعيد تدوير " تغريدات" منحطة في حقهم يخجل الإنسان أن تطرق مسامعه لفحشها وبذائتها ، كيف لك أن تقنعنا بأنك منصف تبحث عن الحق والعدل وهذه حالك ؟

.. هل نصدق الوقائع التي نراها أمام أعيننا ، أم نصدق إدعاءاتك ؟

.. لا تكذب على نفسك و لا على الناس ، فالحال كما قد قال القائل : تستطيع أن تكذب على بعض الناس لبعض الوقت ، لكنك لا تستطيع أن تكذب على كل الناس في كل وقت .

:

.. رابعاً : حيلة جدلية نفسية :

:

.. ( اللا أدرية ) في حقيقتها القاسية بلا أي زخرفة حيلة حِجاجية لتخفيف الضغط النقاشي الجدلي أمام سيل الحجج الإيمانية ، هي حيلة للهروب من بعض المواقف المحرجة عند النقاش والمحاججة ، بل كثيراً ما تكون حيلة نفسية يُخادع بها الملحد نفسه ؛ ليخفف حدة الخواء الروحي الذي يسحق روحه سحقاً بلا هوادة أو رحمة .

:

.. همسات للمغامرين بإيمانهم :

:

.. أختم مقالي بصادق النصح الأبوي من قلب مشفق موجهاً خطابي لكل شاب أو شابة لم يتوغلا في فتنة القدح في المقدسات :

:

* "يقينك" ليس قميصاً تخلعه ثم ترتديه متى شئت، ألا تعلم أنك قد لا تجده للأبد ، هل تضمن أنك لن تعلو الغشاوة على عينيك ؟ هل أنت مطمئن إلى أن قلبك لن يُختم عليه ؟

:

* إنه إيمانك و"إذا ضاع الإيمان فلا أمان"، أيها الشاب إيمانك بربك وقرآنك ونبيك هو كل ما تملك من قوة روحية تحافظ على تماسكك في هذه الحياة وتحمل آلامها ومصائبها ، فلا تخاطر بكل شيء في مغامرة طائشة !

:

* "إيمانك" ليس لعبة الكترونية للتسلية والتنفيس ، فلا مرحباً بالفضول المعرفي ، ولا أهلاً بالثقة المفرطة بالنفس إن كانت النهاية هي كل هذا الفراغ الروحي والضياع الفكري والنفسي ، بئست النتيجة نتيجة ترميك في أحضان اليأس والقنوط والشعور القاتل بالهباء والخواء ، وفقدان أي معنى لوجودك وحياتك .

:

* أيها الشاب : إذا كنت تتبعت بشغف مغالطات الملحدين حتى تشبع بها فكرك وفاضت بقيحها نفسك ، فلا تلوم الدين وأهله ، بل أقبل على نفسك وقرعها، (يداكا أوكتا وفوك نفخ) .

:

.. ومن عاند وتكبر في نفسه ورآها فوق مستوى النصح والتوجيه ؛ فليتحمل قراراته ، وليقبل بمصيره المحتوم ! ففي قضية الإيمان لا مجال للمجاملات التافهة، لا مجال لخداع النفس، فإن الأمر كما قال خالقنا سبحانه : ( بل الإنسان على نفسه بصيرة .. ولو ألقى معاذيره ) ..

:

.. ما أشد هذه الآية على النفس الباحثة عن الحق بصدق : (( ولو ألقى معاذيره )) ما أعذارك ؟ وبماذا ستعتذر ؟ لا نجاة إلا بالصدق وأنت تعرفه جيداً فأنت بصير بنفسك !!

:منقول