نظرة الإسلام إلى الديانات السماوية السابقة
أبو عبد الرحمن الإدريسي-إسلام ويب

العالمُ قريةٌ صغيرة، هي مقولة انتشرت في القرن الماضي نتيجة تطوُّر وسائل الاتّصال والنّقل، وظهور الشَّبكة العنكبوتية، فأصبح من اليسير أن يلتقي المسلم بأهل الأديان الأخرى، فتَدور بطبيعة الحال نقاشاتٌ تكون في إطار التّبادل الثقافي، التي يستأثر الدين بحصّة الأسد فيها، فيحاول المسلم أن يُقنع اليهودي أو النّصراني ويوضّح له طبيعة الإسلام، وهذا لا يمرُّ دون الإجابة عن سؤالٍ جوهري يُطرح في ذهن المخالف: تُرى ما هي نظرة الإسلام إلينا معشر الديانات السماويّة ؟


إن المقصود بالأديان السماوية الشرائع الإلهية الحق التي نزلت بوحي من رب العالمين على الأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله لهداية المجتمعات البشرية، ودعوتها إلى إقرار وحدانية الله وعبادته دون سواه، وطاعته بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، من أجل تحقيق سعادة وخير الإنسان في حياته العاجلة والآجلة.


هذه الأديان السماوية تختلف عما عداها من المعتقدات والأضاليل الفاسدة التي ابتدعها الناس نتيجة إحساسهم بالضعف أمام بعض القوى الطبيعية كالسجود للنار، أو نتيجةً لسذاجة عقولهم، وبساطة تفكيرهم، كعبادة الأصنام والأحجار التي لا تضر ولا تنفع.


وحدة الأديان السماوية في المصدر والهدف
إن مصدر الأديان السماوية واحد وهو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي شرعها، وهو الذي أوحى بها إلى رسله وأمرهم بتلبيغها، وهو الذي كلّف الناس بالتزامها، والوقوف عند حدودها.


وتظهر الوحدة كاملة وجليّة في هذه الأديان بالنظر إلى أصولها التي قامت عليها. واعتمدها التشريع فيها، فقد قامت بالأساس على تخصيص العبادة لله وحده دون سواه . قال تعالى: {وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلا إيّاه} (الإسراء: 23)، وقامت على رعاية المصالح وجلب المنافع ودرء المفاسد بالنسبة لكل الأحوال وإن اختلفت، ولكل الأمم والعصور وإن تمايزت.


وثمة اتفاقٌ في الجملة على الجوانب الحياتيّة من المسائل المتعلّقة بالأخلاق والمعاملات والحدود، وإن كان هناك اختلافٌ بينها في المفاهيم والأشكال التي يتم بها إقرار هذه الأحوال، وذلك بالنظر إلى اختلاف ظروف كل أمةٍ واختلاف طبائعها وتنوّع عاداتها، وتباين مصالحها وحاجاتها، وهذا الاختلاف ليبلوها الله فيما آتاها، وليغريها بالتسابق إلى فعل الخير، والعمل الصالح لسعادة الناس في دينهم ودنياهم، قال تعالى: {لكلّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمّةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (المائدة 48).


إن اختلاف المناهج في التشريعات السماوية يراعي الطبيعة الإنسانية في مراحل نموها ودرجات وعيها، الشيء الذي جعل هذه التشريعات مرنةً ونائلةّ لقبول ورضا الأمم التي شرعت لها.


ومع وحدة الأديان السماوية في مصدرها وأصولها فهي كذلك واحدة في الهدف والغاية، وهذا الهدف نابعٌ من عمق الأصول التي اعتمدها، ويرجع بالتالي إلى وحدة العقيدة، والإيمان وخلوص العبادة له وحده لا شريك له، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56).


وقال سبحانه: {وما أمروا إلا ليبعدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة} (البيّنة: 5).


الإسلام والأديان السماوية السابقة: مصدق لما فيها
تتجلى نظرة الإسلام إلى الأديان السماوية السابقة في كونه يؤمن بها، ويقرر أنها وحي من السماء، ويصدّق ما جاء به هذا الوحي من تشريعات وأحكام، ويُلزم المسلمين جميعاً الإيمان بها وبالرسل الذين بلغوها. قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة: 285).


والإسلام انطلاقاً من هذا الإيمان الحق بجميع الديانات والرسل، ينظر إلى الديانة التوراتية وفق ما جاء في القرآن، قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} (المائدة: 44) .


ونفس هذه النظرة ينظر بها الإسلام للديانة الإنجيلية ، قال سبحانه: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين} (المائدة 46).


فالديانات الحقة يصدق بعضها بعضاً، والإسلام هو خاتمة الشرائع يصدق بكل ما سبقه منها، ويؤمن بما جاء فيها قبل أن تطالها يد التحريف، قال تعالى: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } ( المائدة 48).


الإسلام كاشف للتحريف الذي لحق بهالم تبق الديانات السابقة ربّانية كما نزل بها الوحي من السماء، بل تسرّب إليها كثيرٌ من التحريف والتشويه، ولحقها كثيرٌ من التغيير والتبديل الذي يتنافى مع حقيقتها وأصولها التي بنيت عليها، وقد وبّخ الله تعالى أهل الكتاب لما كفروا وحرّفوا فقال تعالى: { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون * يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } ( آل عمران : 70 و 71).


وقد بيّن الله تعالى هذا التحريف وتنوّعاته فأصاب العقيدة والنبوة والتشريع والمعاملات، ففي العقيدة: ادعوا البنوّة لله كما قال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤكفون} (التوبة: 30) .


وفي الآية تصريح بأنهم قاموا بتقليد الوثنيين السابقين لهم، فالنَصارى أخذوا عن البوذية والكونفوشيوسية والزاردشتية وديانات الرومان السابقة، واليهودية المحرفة تأثرت بالهندوسية وديانات الآشوريين والبابليين والسومريين ، حيث أن الباحث يلحظ تشابهاتٍ كثيرةٍ بينها، بل إنهم نسبوا هذه البنوّة لأنفسهم، فقال تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق} (المائدة: 18) ومن هنا نشأت فكرة شعب الله المختار عند اليهود وفكرة الأبوة عند النصارى .


ومن تحريفات أهل الكتاب: اتخاذهم الأحبار والرهبان آلهة يعبدونهم فقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} (التوبة 31).


ومن التحريف في العقيدة اتخاذ اليهود عجلاً له خوار، معبوداً من صنع السامري، كما في سورة طه الآيات: 87 و 88 .


ومن التحريف كذلك: إيمان النصارى بألوهية المسيح عليه السلام وبعقيدة الثالوث (الأب والإبن والروح القدس) وهي الأقانيم الثلاثة، قال الله تعالى:{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} (النساء: 171).


أما النبوة فقد كذبوا بالأنبياء وقتلوا البعض منهم طغيانا وكفرا، كما في سورة البقرة الآيات:87 و88 و 89.


وبالنسبة للتحريف الذي لحق التشريع فقد أخبر القرآن أن أهل الكتاب قد حرفوا كتبهم، قال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به} (المائدة 13).


مهيمن على ما فيها
إذا كان الكتاب المنزّل بوحي من الله على رسوله مصدقاً للكتب السابقة وكاشفاً للتحريف الذي حدث فيها، إنه كذلك مهيمن عليها، أي: رقيب عليها، وهو بهذه الهيمنة حاكم وأمين عليها، فما وافق منها أحكامه فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، يحكم عليها كلها فهو بذلك أكملها وأشملها وأعظمها وأعلاها.


والهيمنة تقتضي أيضا أنه حافظٌ لما كان في الكتب السابقة، ، ومؤتمنٌ عليها، وشاهدٌ على ما فيها، قال سبحانه: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} (المائدة 48).


خاتم للرسالات ومتمم لها
إن رسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات السماوية، فلقد انتهى إليها الاكتمال في التشريع والأحكام، وجاءت في وقتٍ وصل فيه الناس إلى غاية النضج والوعي الديني بالرسالات السابقة، فسايرت الناس في هذا النضج، وواكبتهم في تطورهم، وصلحت لمعاشهم ومعادهم، ودلّتهم على كل أبواب الخير والهداية. وأتمّت ما كان ناقصا، وأصلحت ما كان فاسداً، وأقامت ما كان معوجّاً؛ فكانت لذلك الرسالة الكاملة في مبناها ومعناها، الصالحة لكل زمان ومكان، العامة لكافة البشر أجمعين.


وكون الإسلام خاتماً للرسالات ومتمّماً لها، معناه أنه ناسخٌ لها، ويريد أن يجمع الناس قاطبةً على عقيدة واحدة، وشرعٍ واحد، وقبلةٍ واحدة؛ حتى يظهر الدين كلّه، وتكون العقبى له في النهاية، {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (الصف: 9).


وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار).
وكل الأديان السماوية تتّفق على وجوب الاعتقاد بالله وعبادته وحده، وترك كل معبود ٍسواه. والقرآن – كتاب هذه الأمة- يصدّق بمجموع هذه الأديان، ويهيمن عليها، ويفرض الإيمان بسائر الكتب والأنبياء السابقين دون تفريق أو استثناء، كما تشير بذلك آيات عديدة منها قول الله سبحانه: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام} (آل عمران: 3-4).


وقال تعالى: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} (آل عمران 84).


وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى بيتا ، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال: فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين) متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه.


فالحديث النبوي الشريف يوضح أن خاتمة الرسالات هي رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفها اللّبنة الأخيرة التي أكملت البناء وأتمته، فَهُم – صلوات الله وسلامه عليهم – سلسلة مباركة مختومة بالنبي محمد – صلى الله عليه وسلم -.


ولا غرابة في ذلك، والله سبحانه وتعالى هو الذي أكمل الإسلام وأتمّه ورضيه لنا ديناً: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة 3).

http://articles.islamweb.net/media/i...ng=A&id=196486