ما بعد الحداثة والتمركز حول الأنثى

لقد جعل ديكارت من العقل مرجعاً معرفياً، وجوهرا مفكراً قادرا على بلوغ الحقيقة بمفرده من غير الحاجة لوساطة الوحي أو الدين، لكن مع دفيد هيوم ثم كانط تم زعزعتْ هذا اليقين، ليحل محله الشك. وهو شك أفقد العقل الغربي أي إمكان لبناء علاقة إدراكية والوصول إلى الحقيقة والمعنى.

وإذ أن الإنسان لا يستطيع فهم علاقته بالوجود بدون صياغة المعنى، فإن أزمة ما بعد الحداثة هي بحث عن الغاية من الوجود الإنساني داخل عالم كسر هيبة الدين وهيبة العقل. وكان مآل هذه الأزمة المعرفية أن ظهرت العدمية مع نيشته وفلاسفة ما بعد الحداثة وتم التأسيس لعلاقة وجودية تخطت هاجس الإدراكي وهاجس السيطرة إلى هاجس الالتذاذ، فتكون بالتالي فوضى ما بعد الحداثة وانتشار العديمة واللامعنى انتقال لا مفر منه بعد هدم قدرة العقل على إدراك الحقيقة، وقطع الروابط الميتافيزيقية التي تُعتبر شرطا في هذا الإدراك. وعلاقة الإنسان الإيروسية بالعالم سمحتْ له بتجاوز ثنائية الذات والموضوع وبالتالي تجاوز كل معنى كلي ثابت، وتحقق هذا التجاوز في التمركز حول الجسد والجنس، حيث أصبح هذا المفهوم ذو أسبقية معرفية وأخلاقية على كل شيء، فهو المرجعية الكامنة في المادة على حد تعبير عبد الوهاب المسيري.

إن تحديد علاقة الإنسان بالوجود على أساس الالتذاذ، مبنية على إيغال النظرة المادية للعالم، وتظهر أبرز تجلياته في تحول الإنسان –الجسم- نفسه إلى أداة للذة والمُتعة، سواء في بُعده الاجتماعي والنفسي الذي يصير فيه هوس الجنس والتمركز حول الأنثى مُفسراً للعلاقة الإروسية بين الإنسان والعالم، أو في البعد الاقتصادي حيث يصير البغاء والتنظيم الإجرائي للدعارة أحد أهم القطاعات الاقتصادية. وهذه النظرة للعالم المتمركزة حول الجنس ليس وليدة العالم الغربي، إذ نجدها حاضرة في العديد من الأفكار والمعتقدات الدينية الوثنية، فديونيسوس إله اليونان القدماء، هو الوحيد من بين آلهة الأولمب الذي وُلد من لقاء جنسي بين الإله زيوس وامرأة فانية، ويُمثل في مُعتقداتهم إله الخمر والنشوة ونموذجاً لكل ما لا يُمكن تخيله وما لا يقبله العقل، بالإضافة إلى أن الخمر والموسيقى والنشوة المُصاحبة لطقوس عبادة ديونيسوس تهدف إلى التحرر من الوعي ومن الخوف ومن القيود الاجتماعية والنفسية، لتسمح بوصول الأتباع أثناء تقديم طقوس الدعارة إلى حالة من الاتحاد مع ديونيسوس، في رمزية لانهيار كل الثنائية الفاصلة واتحاد الجزء بالكل من خلال الجسد والجنس. ونجد أيضا في القبالة العديد من الإيحاءات الجنسية التي تربط التجليات النورانية العشر للإله بعمليات المُضاجعة والقذف، وتتجلى نهاية التاريخي في القبالة باتحاد والمماهات بين الإله اليهودي الذكر مع شعب إسرائيل الأنثى، في صورة مجازية لتقديس الجنس وتجنيس المقدس، كما عرفتْ العديد من الشعوب والحضارات القديمة سواء في آسيا أو البحر المتوسط تقديس الأعضاء التناسلية وعبادة آلهة الخصوبة.

وصلة الربط بين كل هذه الأمثلة، سواء عند المؤمنين بآلهة وثنية غير مفارقة للطبيعة المادية، أو في فلسفات ما بعد الحداثة، هي الرؤية المادية (الأحادية) للكون، فيتحول معها المعنى والغاية من الوجود هو الوصول إلى اللذة والنشوة، وهو ما يتحقق بشكل صريح في التمركز حول جسد المرأة وعضوها التناسلي. وبعد أن كان الإنسان في فلسفة الحداثة يُردُّ إلى المادة ثم إلى الجسد، أصبح يُرد فيما بعد الحداثة إلى القاسم المشترك بين الإنسان وكل الكائنات الأخرى، وهو الأعضاء التناسلية، وانتقلت المادية من النفعية (تحقيق السيادة على الطبيعة) إلى اللذة.

إن هذا التمركز يُمكن أن يُرى من الخلال العديد من المظاهر اليومية في حياتنا، ففي الجانب الاقتصادي، لا يُمكن تحييد الرأسمالية عن آثارها الجانبية على المرأة، من خلال تشيئها واعتبارها وسيلة لترويج السلعة، أو غاية في حد ذاتها عندما تتحول هي نفسها إلى سلعة للاستهلاك في أسواق الدعارة العالمية، عن طريق شراء النساء من الدول الفقيرة، أو تقديم خدمات البغاء في القطاعات السياحية أو من خلال استغلال جسد المرأة في صناعة الأفلام الإباحية. ولا تزال أسواق الدعارة تدر على المُتجرين فيها أموال طائلة مثلها في ذلك مثل أسواق الأسلحة والمخدرات والأدوية. وفي الجانب الفني، يظهر بجلاء انكباب فن ما بعد الحداثة على الاهتمام الكبير بالتفاصيل الجزئية لجسد المرأة، وتُعتبر لوحة كوستاف كوربيت 1866م المثيرة للجدل والمُعنونة بـ: “أصل العالم” شاهد على الرؤية الاختزالية للعالم والتمركز حول عضو المرأة التناسلي!

يذكر المسيري اقتباساً ل”هافل” (عبد الوهاب مسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، ص.150)، عندما سئل عن الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع أجاب قائلا: “هذا الوضع له علاقة ما بأننا نعيش في أول حضارة ملحدة في التاريخ البشري. فلم يعد الناس يحترمون ما يُدعى القيم الميتافيزيقية العليا، والتي تمثل شيئا أعلى مرتبة منهم، شيئا مفعما بالأسرار. وأنا لا أتحدث هنا بالضرورة عن إله شخصي، إذ إنني أشير إلى أي شيء مطلق ومتجاوز. هذه الاعتبارات الأساسية كانت تمثل دعامة للناس، وأفقا لهم، ولكنها فُقدتْ الآن. وتكمن المفارقة، أننا بفقداننا إياه نفقد قبضتنا على المدنية، التي أصبحتْ تسير بلا أي تحُكم من جانبا. فيحنما أعلنتْ الإنسانية أنها حاكم العالم الأعلى، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بُعده الإنساني”.

رابط المقال على مدونتي