النتائج 1 إلى 13 من 13

الموضوع: نافذة على الفلسفة -دروس هامة وواضحة-

  1. افتراضي نافذة على الفلسفة -دروس هامة وواضحة-

    الدرس الأول :
    نبذة تاريخية فلسفية

    ولادة الفكر البشري:
    لازم التفكير وجود الإنسان منذ نعومة أظفاره إلى يومنا هذا، وترك آثاراً مهمّة في حياته حيث خلق انعطافات وتحولات مهمّة في مسار حركته، وطوَّر أسلوب تعامله مع محيطه على مختلف الميادين والصُعد.
    وبهذا اختلفت حياة الإنسان المتطورة عن حياة الحيوان بقوالبها الجاهزة والجامدة، فكم تجد الفارق واضحا بين بيوت الإنسان التي كانت في حدود الكهوف والمغارات والتي تطورت إلى عمارات ناطحات للسحاب، وبين بيوت النحل السداسية ذات الأشكال الجامدة التي لم يكتب لها تغيير منذ أن وجد هذا الحيوان ولحد الآن.

    ولادة الفكر الفلسفي:
    والفكر الفلسفي الذي أثارته وأفرزته تساؤلات الإنسان عن الكون والحياة، والمبدأ والمعاد، كان أحد المحاور الفكرية التي استقطب اهتمام البشر من لدن آدم ولحدِّ الآن، ودفعه صوب التأمل والنظر، ومن ثم نحو الإبداع والابتكار في هذا المجال، وقد كان لحكماء الفرس واليونان قصب السبق في ذلك على بقية الأمم وكان ذلك قبل الميلاد بعدة قرون حيث طفحت على سطح مناظراتهم وتأملاتهم الفلسفية العديد من الآراء والنظريات، التي كان يسودها الاتزان تارة والتهافت والتضارب تارة أخرى، وفي ذات الوقت النمو والثراء بفعل التلاقح الفكري الحر الذي وفّرَ أجواء خصبة لذلك.

    تيارات الشك والسفسطة:
    وفي ظل هذه الظروف برزت تيارات الشك والسفسطة واحتلّت مساحة واسعة من التفكير الفلسفي، بعد أن احتل أربابها وهم السوفسطائيون، منابر التعليم والخطابة والمحاماة، وأنكروا حقائق الأشياء ووجودها الخارجي، فانعكس ذلك على أذهان الناس وخلق عندهم بلبلة ذهنية وشكاً بكل حقيقة مهما كان طابعها، وكان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد.

    ولم يستمر الوضع على هذا الحال حيث تصدى سقراط لعلاج الموقف بقوة، وتبعه على ذلك أفلاطون، وتلاهما أرسطو طاليس الذي أسّس قواعد الاستدلال والتفكير الصحيح في علم المنطق، حيث كشف عن زيف السفسطة ومغالطتها ومنزلقاتها التي أودت بالتفكير الإنساني إلى الهاوية. وبذلك تربع اليقين على عرشه، وعادت مياه الحقيقة إلى مجاريها وتلاشت تيارات الشك والإنكار، وعلى هذا المنوال استمر الحال حتى بعد رحيل العمالقة الثلاثة؛ سقراط وأفلاطون وأرسطو، حيث استمر تلامذتهم في ترويج أفكارهم، فدفعوا عجلة اليقين إلى أمام.

    إلا أن مكانة هؤلاء أخذت بالتهاوي بين الناس بمرور الزمان، فتقلص دورهم وقلّت أهميتهم، فشدّوا رحالهم إلى الإسكندرية، لتكون محطة جديدة لنشر أفكارهم وتداول معارفهم واستمروا على هذا المنوال حتى القرن الرابع بعد الميلاد.

    القرون الوسطى:
    وفي هذه الفترة اعتنق إمبراطورُ الروم المسيحيةَ، وتبنّى أفكارها باعتبارها آراء الدولة الرسمية، إلا أنه في ذات الوقت فتح أمام العلماء أبواب النقد لطرح آراءهم ووجهات نظرهم، وعلى أثر ذلك تدهورت الأوضاع وتفاقمت الأمور بفعل التعارض والتضارب في وجهات النظر بين الكنيسة والعلماء مما دفع الإمبراطور (جستنيان) إلى إصدار أوامره بغلق المراكز العلمية والجامعات والمعاهد الفكرية، وتعطيل المدارس في أثينا والإسكندرية، ففر العلماء خوفا من البطش والتصفية الجسدية، وحينها انطفأ مشعل العلم وانتكست راية المعرفة، ومنها دخلت أوربا في عصورها المظلمة، والتي تسمى أيضا بالقرون الوسطى، حيث استغرقت ألف عام من الزمان، وعلى نحو التحديد من أوائل القرن السادس بعد الميلاد وانتهاءً بالقرن الخامس عشر بعد الميلاد وامتازت هذه الفترة باستيلاء الكنيسة على المراكز العلمية استيلاءً تاماً؛ فكانت المباحث العلمية والفلسفية تفرضها الكنيسة على أنها تعاليم دينية لا تقبل النقاش.

    الفجر الجديد:
    وفي هذه الفترة بالذات ازدهرت الحركة العلمية في شبه الجزيرة العربية بفضل نور الإسلام، الذي ولد هناك في تلك الفترة وقد أضاء كل شيء، وبدت حينها حركة علمية تنشط وتتفاعل وتتلاقح وتنمو بفضل ما حث عليه الدين الإسلامي من طلب العلم من المهد إلى اللحد، حتى ولو كلف ذلك خوض اللجج وسفك المهج، وحتى ولو كان في الصين، وبالفعل فقد برع المسلمون في جميع حقول العلم والمعرفة، ومن جملتها الحقل الفلسفي، فترجموا كتب اليونانيين والرومانيين والإيرانيين إلى اللغة ‏العربية، وانهمك آخرون كالفارابي (1) في تبيان وشرح أفكار أفلاطون (2) وأرسطو (3)، وتبعه على ذلك ابن سينا (4) حيثُ سلط الضوء على فلسفة ومنطق أرسطو.....

    فكِّر و أجب:
    1 ـ متى بدأ التفكير الإنساني؟ وبماذا يختلف الإنسان عن الحيوان في تغيير وتطوير محيطه الذي يعيش فيه؟
    2 ـ ما هو الباعث من وراء نشوء الفكر الفلسفي؟ ومن كان من بين الحكماء له قصب السبق في ذلك؟ ومتى؟
    3 ـ ما هي الظروف التي أنجبت تيارات الشك والسفسطة؟ ومن هم أربابها؟ ومتى تسنى لها الظهور؟
    4 ـ اذكر عمالقة الفكر الفلسفي الذين تصدوا لمواجهة اتجاه الشك وأحلوا اليقين محله؟ وكيف استمر اتجاه اليقين بعد مماتهم؟ وإلى أي مصير انتهى أمر أتباعهم؟
    5 ـ ما هي الظروف التي أودت بأوربا إلى فترة القرون الوسطى؟
    6 ـ ماذا جرى في شبه الجزيرة العربية إبان فترة القرون الوسطى؟
    التعديل الأخير تم 07-14-2014 الساعة 04:29 AM
    واللهِ لَوْ عَلِمُوا قَبِيحَ سَرِيرَتِي....لأَبَى السَّلاَمَ عَلَيَّ مَنْ يَلْقَانِي
    وَلأَعْرضُوا عَنِّي وَمَلُّوا صُحْبَتِي....وَلَبُؤْتُ بَعْدَ كَرَامَةٍ بِهَوَانِ
    لَكِنْ سَتَرْتَ مَعَايِبِي وَمَثَالِبِي....وَحَلِمْتَ عَنْ سَقَطِي وَعَنْ طُغْيَاني
    فَلَكَ الَمحَامِدُ وَالمَدَائِحُ كُلُّهَا....بِخَوَاطِرِي وَجَوَارِحِي وَلِسَانِي
    وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَيَّ رَبِّ بِأَنْعُمٍ....مَا لِي بِشُكرِ أَقَلِّهِنَّ يَدَانِ

  2. افتراضي

    عدد الدروس عشرون درسا وغدا إن شاء الله الدرس الثاني ....
    واللهِ لَوْ عَلِمُوا قَبِيحَ سَرِيرَتِي....لأَبَى السَّلاَمَ عَلَيَّ مَنْ يَلْقَانِي
    وَلأَعْرضُوا عَنِّي وَمَلُّوا صُحْبَتِي....وَلَبُؤْتُ بَعْدَ كَرَامَةٍ بِهَوَانِ
    لَكِنْ سَتَرْتَ مَعَايِبِي وَمَثَالِبِي....وَحَلِمْتَ عَنْ سَقَطِي وَعَنْ طُغْيَاني
    فَلَكَ الَمحَامِدُ وَالمَدَائِحُ كُلُّهَا....بِخَوَاطِرِي وَجَوَارِحِي وَلِسَانِي
    وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَيَّ رَبِّ بِأَنْعُمٍ....مَا لِي بِشُكرِ أَقَلِّهِنَّ يَدَانِ

  3. افتراضي

    الدرس الثاني ........

    تعريف الفلسفة:
    جاءت كلمة الفلسفة من عبارة «فيلاسوفوس» أَي محبّ الحكمة، وهو اسم اختاره سقراط (1) لنفسه؛ وقد نقل مورّخو الفلسفة أن السبب في اختيار هذا الاسم شيئان: أحدهما: تواضع سقراط حيث كان يعترف دائماً بجهله، والثاني: تعريضه بالسوفسطائيين الذين كانوا يعدُّون أنفسهم حكماء (2)؛ أي إنه باختيار هذا اللقب أراد أن يوحي لهم، بأنكم لستم أهلاً لهذا الاسم «الحكيم»؛ لأنكم تستخدمون التعليم والتعلم لأهداف مادية وسياسية، وحتى أنا الذي استطعت ردَّ تخيلاتكم بأدلة محكمة، لا أرى نفسي أهلاً لهذا اللقب، وإنما أطلق على نفسي اِسم «محبّ الحكمة» (3).

    وفي العهد الإغريقي القديم ومنذ أن سَمّى سقراط نفسه بهذا الاسم، صارت الفلسفة قديماً تستعمل في مقابل السفسطة المنكرة بأساليب مغالطاتها لحقائق الأشياء، كما إنها صارت شاملة لجميع العلوم الحقيقية كالفيزياء، والكيمياء، والطب، والهيئة، والرياضيات والإلهيات؛ وأما العلوم الاعتبارية كالنحو والصرف فهي خارجة عن حيز الفلسفة (1).

    وبناءً على ما تقدم فإن الفلسفة قديماً كانت اسماً عاماً وشاملاً لقسمين رئيسيين من العلوم، النظرية والعملية، وبذلك فإن الفلسفة تنقسم إلى فلسفة نظرية، وتشمل تحت عنوانها ما ينبغي أن يعلم من المعارف كالرياضيات والطبيعيات والإلهيات. وإلى فلسفة عملية، وتشمل تحت عنوانها ما ينبغي أن يُعمل به من المعارف كالأخلاق وتدبير المنزل والسياسة.
    بَيْدَ أن الفيلسوف لم يتمكن من مواكبة تطور العلوم واتساع رقعتها واستيعاب مسائلها وفروعها، فبعث ذلك على انحسار دوره وتقلص نشاطه في حدود بحث الإلهيات بالمعنى الأعم والأخص وتسمى بالعلم الكلي والفلسفة الأولى (1)؛ والأعم منها يبحث عن أحكام الموجودات بشكل عام ولا يختص بموجود دون آخر بينما تتناول الإلهيات بالمعنى الأخص إثبات وجود الله‏ الأقدس وصفاته جل وعلا.

    موضوع الفلسفة:
    وبذلك يتضح أن موضوع علم الفلسفة هو: «الموجود بما هو موجود»، أي أنها تتناول دراسة الموجود بشكل عام، لتحدد أحكامه بغض النظر عن خصوصياته. فمثلاً: إن البحث عن العلّة والمعلول لا يختص بموجود دون غيره، بل هو شامل لكل موجود؛ بينما البحث عن تركيب الماء ودرجة انجماده وغليانه وبقية خواصه، بحث عن الموجود بما هو ماء، له وجوده الخاص. وأما الإلهيات بالمعنى الأخص فإنها تبحث عن وجود الله‏ تعالى وصفاته وتختص به ولا تبحث عما سواها.
    ودراسة الموجود بشكل عام التي تتناول الموجودات مجردها وماديها، يُطلق عليها اسم «الميتافيزيقا» وقد تصور البعض خطأ، أنها تختص بالموجودات المجردة غير المادية، إلا أن الصحيح شمولها للموجودات المادية والمجردة على حد سواء. فالبحث عن العلة والمعلول، والوجوب والإمكان، والحادث والقديم، والقوة والفعل وما شابهها لا يختص بالموجودات المجردة غير المادية بل يشملهما معاً.

    ومن الجدير ذكره أن الميتافيزيقا مأخوذة من أصل يوناني هو متاتافوسيكا أي ما بعد الطبيعة وحوِّرت بالعربية إلى (ميتافيزيقا) وحسبما يعتقده مؤرخو الفلسفة، فإن هذه الكلمة استعملت لأول مرة في قسم من فلسفة أرسطو المتناولة لأحكام الوجود بشكل عام، وحيث أن هذا القسم من بحث الفلسفة قد كتبه أرسطو حسب ترتيبه بعد بحث الطبيعيات، لذلك فقد أطلق عليه اسم ميتافيزيقا، أي ما بعد الطبيعة.

    أهمية وفائدة الفلسفة:
    تراود الإنسان أحياناً وقد تلاحقه تساؤلات حول الوجود ومعناه؛ وهل هو متناه محدود أو مطلق لا محدود؟ وكيف وجد وهل هو في غنى عن علةٍ توجده أو مفتقر إليها؟ وهل لله‏ خالق أو هو في غنى عن كل خالق؟ ولماذا لا يُرى الله‏ جهرة؟!
    ومن جهة أخرى فإن الإنسان، هذا الموجود العملاق الذى حَلَّق في آفاق السماء ونفذ إلى أعماق الأرض وقعر المحيطات وفلق الذرة وابتكر العجيب والغريب، تراه حائراً يعيش الضياع والسأم؛ إذ لا هدفَ حقيقي يصبو إليه ولا رؤية كونية واضحة يمتلكها إزاء الوجود ولا شمولية ولا انسجاماً يلمسه بين مفردات الكون وفصوله، ومن أجل ذلك فإنه لا يعرف لماذا وضع قدميه في هذا العالم؟ و لماذا يُفرض عليه الخروج منه مرة أخرى؟ ولماذا تكون الحياة جميلة إبان الطفولة والشباب، ثم تغدو رذيلة منغصة عند الشيخوخة وأرذل العمر؟!

    ومن هنا فنحن بحاجة إلى ما يخفف قلقنا وينزع سأمنا ويبدل ضياعنا وضلالنا إلى هدى ونور ورَوْح وراحة، والفلسفة تؤدي هذا الدور؛ لأنها تعطي لكل ما تقدم من تساؤلات، إجابات مُبيَّنة وذلك بتحديد رؤية كونية واضحة عن الكون والوجود والحياة، لتتحدد لنا معالم المبدأ والمنتهى والسبيل بينهما. وبعبارة أخرى: إن الفلسفة تميط اللثام عن التوحيد والمعاد، والنبوة التي تُعد سَبيلاً للوصول إلى شاطئ المعاد بأمان بما تتضمنه من شرائع ومناهج وأحكام، فلا يغدو وجود الإنسان عبثاً ولا يُمسي كريشةٍ في مَهب الريح، بل يعرف نفسه ويعرف أنه من أين وفي أين وإلى أين.

    وإذا كان دور الفلسفة الكشف عن‏ المجاهيل، وانتشال الإنسان من حالات الإبهام والضياع بحل شبهاته في ما يرتبط بأصل الوجود ومآله وحقيقته، فلا نبالغ إن أطلقنا اسم العلم عليها؛ لأن العلم يقوم بتسليط أضوائهِ الكاشفة على ظلمات المجاهيل ليُسفر عن هويتها وحقيقتها، وهذا بالضبط ماتؤديه الفلسفة لقرّائها ودارسيها.

    نعم، إن أُريد من العلم حَصيلة الأفكار والنتائج التجريبية التي يتوصل إليها الإنسان في مختبره أو في مجال الطبيعة، فلا يصح حينئذٍ إطلاق اسم العلم على الفلسفة بهذا المعنى، بل وكذلك لا تصح تسمية كهذِهِ على التأريخ والجغرافيا، والفقه وبقية العلوم الإنسانية غير التجريبية.
    أساليب التحقيق العلمي:
    تختلف أساليب التحقيق العلمي باختلاف ميادينها ومجالاتها، وذلك لأنك على سبيل المثال تجد فرقا واضحا بين البحوث التالية:
    أ ـ البحث فى تاريخ نشوب الثورة ضد الفرنسيين فى الجزائر.
    ب ـ البحث فى أنواع الألوان.
    ج ـ البحث في صياغة قانون عام فيما يرتبط بتمدّد الحديد بالحرارة.

    فالبحث الأول يتناوله الأسلوب النقلي التاريخي بالدرس والتحقيق، ولا دور للأساليب العقلية والتجريبية في ذلك؛ إذ إن الإنسان الذي لم يعاصر حدث الثورة ضد الإنجليز في العراق مهما حاول بعقله وتجربته معرفة ذلك، فسوف يعجز عنه ولا يتوصّل إلى ما يريد. وأما البحث الثاني فإنه من مختصات الأسلوب التجريبي الحسي ولا دور للعقل والنقل فيه، فإذا حُرِم الإنسان باصرته فإنه لن ‏يحظى بمعرفة اللون الأحمر أو غيره من الألوان مهما وصفها الواصفون بنقلهم ومهما استدل أهل البرهان عليها بعقولهم؛ وهكذا الحال بالنسبة إلى البحث الثالث فإنه وقْفٌ على الأسلوب العقلي، ولا نصيب للأسلوب التجريبي والنقلي فيه مهما جرّب المجرّبون ونقل الناقلون ذلك، إذ أن كل ما يجرّبونه وما ينقلونه لا يستوعب كل ما هو موجود أو مفترض من قطع الحديد المحكوم عليها بالتمدّد.
    ومباحث الفلسفة تعتمد على الأسلوب العقلي في تحقيقاتها ودراساتها لمسائلها الفلسفية، إلا أنها قد تعتمد أحياناً على ظاهرة تجريبية لتجعلها منطلقاً لدراساتها العقلية والتأملية.
    ثم إن عملية الكشف عن مجهول بواسطة معلوم آخر تتم عبر طرق ثلاثة من الاستدلال:
    1 ـ القياس:
    وهو قولٌ مؤلفٌ من قضايا متى سُلِّمت لزم عنه لذاته قولٌ آخر، كما لو نقلت حكم الموت الثابت للإنسان إلى سقراط الذي هو فرد من أفراد الإنسان. فتقول:
    سقراط إنسان.
    و كل إنسان فان.
    فسقراط فان.
    ومثل هذه الحركة الفكرية يطلق عليها فى المنطق اسم «القياس» وهو مفيد لليقين في ظل شروط معينة وهي فيما إذا كانت مقدمات القياس يقينية، وقد تم تنظيم القياس بشكل صحيح. وقد خصص المنطقيون جانباً مهمّاً من المنطق الكلاسيكي لبيان شروط مادة وصورة القياس اليقيني وهو (البرهان). (1)

    2 ـ الاستقراء:
    وهو الانتقال من حكم جزئيات إلى حكم كليّتها، وهو على نحوين: استقراء تام واستقراء ناقص؛
    أما الاستقراء التام: فهو من قبيل الحكم بالجد والمثابرة على كل من هو موجود في المدرسة بعد إجراء اختبار لجميع من كان فيها من الطلاب.
    وأما الاستقراء الناقص: فهو من قبيل الحكم على جميع أهل البلد بالاستقامة وحسن السيرة من خلال معاشرة عدد منهم.

    3 ـ التمثيل:
    وهو الانتقال من حكمِ جزئيٍ إلى حكمِ جزئيٍ آخر لاشتراكهما في معنى جامع بينهما، بحسب الظن أو الوهم، كما لو منع الوالد ولده عن معاشرة صديق من أصدقائه، إلا أنَّ الولد لم ‏يُعرِض عن معاشرة هذا الصديق فحسب، بل إنه أعرض عن صديق آخر له ظناً منه أن العلّة في المنع هي عنوان الصداقة، فانتقل من حكم الأول إلى الثاني لمشابهتهما في عنوان الصداقة.
    وقد صرَّح أهل المعقول أن القياس البرهاني بكل أشكاله المنتجة يُفيدُ اليقين والقطع، كما أن الاستقراء التام يفيد ذلك أيضاً، وأما الاستقراء الناقص والتمثيل فلا يفيدان سوى الظن؛ ومن الواضح أن المفيد في الاستدلال هو اليقين لا الظن، لأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً.
    فكِّر و أجب:
    1 ـ ما هو وجه تسمية الفلسفة بهذا الاسم؟
    2 ـ يقال: أنَّ الفلسفة شملت في العهد الإغريقي القديم جميع العلوم الحقيقية، وضّح هذه العلوم بمخطط بياني.
    3 ـ لماذا لم يتمكن الفيلسوف في مقطع من الزمان استيعاب جميع العلوم؟ وفي أي حدود انحصر بعد ذلك دوره ونشاطه الفلسفي؟
    4 ـ ماذا يُقصد من الإلهيات بالمعنى الأعم والإلهيات بالمعنى الأخص؟
    5 ـ ما هو موضوع علم الفلسفة؟
    6 ـ ما هو وجه تسمية البحث عن الإلهيات بالميتافيزيقا؟ وما هو ردّك على توهّم البعض في أن البحث الفلسفي مختص بالموجودات المجردة دون الموجودات المادية، بدعوى أنّها لا تمتُ إلى البحوث الميتافيزيقية بصلة؟
    7 ـ ماذا يُراود الإنسان أحيانا أو يلاحقه من تساؤلات حول مبدأه ووجوده ومصيره...؟ ولماذا يشعر بالسأم والضياع في حياته؟
    8 ـ ما هو دور الفلسفة في إضفاء الروح والراحة والاطمئنان على حياة الإنسان؟
    9 ـ هل الفلسفة علم من العلوم؟ ولماذا؟ و ما هي حجة من رفض إطلاق اسم العلم عليها؟
    10 ـ اذكر مع المثال أساليب وطرق التحقيق في المعرفة الإنسانية؛ وبيِّن الأسلوب المعتمد في تحقيق المسائل الفلسفية.
    11 ـ إن للاستدلال طرقا ثلاثة، اذكرها مع أمثلتها ثم بيِّن المفيد منها للقطع.
    واللهِ لَوْ عَلِمُوا قَبِيحَ سَرِيرَتِي....لأَبَى السَّلاَمَ عَلَيَّ مَنْ يَلْقَانِي
    وَلأَعْرضُوا عَنِّي وَمَلُّوا صُحْبَتِي....وَلَبُؤْتُ بَعْدَ كَرَامَةٍ بِهَوَانِ
    لَكِنْ سَتَرْتَ مَعَايِبِي وَمَثَالِبِي....وَحَلِمْتَ عَنْ سَقَطِي وَعَنْ طُغْيَاني
    فَلَكَ الَمحَامِدُ وَالمَدَائِحُ كُلُّهَا....بِخَوَاطِرِي وَجَوَارِحِي وَلِسَانِي
    وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَيَّ رَبِّ بِأَنْعُمٍ....مَا لِي بِشُكرِ أَقَلِّهِنَّ يَدَانِ

  4. #4

    افتراضي

    احسن الله اليكم.
    متابع بدقة ... لكن من غير الاجابة على الاسألة لضيق الوقت.

  5. افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو يحيى الموحد مشاهدة المشاركة
    احسن الله اليكم.
    متابع بدقة ... لكن من غير الاجابة على الاسألة لضيق الوقت.
    حفظك الله وأحسن إليك
    الإجابة على الأسئلة أفضلي وليس إلزامي ، كون الأسئلة خمّارة للفكر ، فالعلم اللحظي وهو الذي يقرأه المهتم بدون ضبطه ينفع لبعض اللحظات الزمنية ثم يُنسى ، بخلاف العلم الضبطي والذي تدور عليه المناقشات والأسئلة فنتيجته الضبط والتمكن ورسوخ العلم ...
    واللهِ لَوْ عَلِمُوا قَبِيحَ سَرِيرَتِي....لأَبَى السَّلاَمَ عَلَيَّ مَنْ يَلْقَانِي
    وَلأَعْرضُوا عَنِّي وَمَلُّوا صُحْبَتِي....وَلَبُؤْتُ بَعْدَ كَرَامَةٍ بِهَوَانِ
    لَكِنْ سَتَرْتَ مَعَايِبِي وَمَثَالِبِي....وَحَلِمْتَ عَنْ سَقَطِي وَعَنْ طُغْيَاني
    فَلَكَ الَمحَامِدُ وَالمَدَائِحُ كُلُّهَا....بِخَوَاطِرِي وَجَوَارِحِي وَلِسَانِي
    وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَيَّ رَبِّ بِأَنْعُمٍ....مَا لِي بِشُكرِ أَقَلِّهِنَّ يَدَانِ

  6. افتراضي

    الدرس الثالث

    بداهة مفهوم الوجود
    تقدم في الدرس الثاني أن موضوع الفلسفة هو: الموجود بما هو موجود. والموجود هو الشيء الذي ثبت له الوجود، سواء كان ذلك الشيء نفس الوجود أو شيئاً آخر متصفا به، وأما الوجود فمفهومه بديهي مستغنٍ عن التعريف، وما قد يُقال في تعريفه: «أنه الثابت العين» أو «الذي يمكن أن يُخبر عنه» فهي تعاريف لفظية، تُستخدم للتنبيه والإشارة إلى ما في الذهن من المفهوم البديهي وليست بتعاريف حقيقية، إذ ليست بأعرف من الوجود بل لا شيء أجلى من الوجود.

    معنى الماهية
    وأما الماهية فقد قيل في تعريفها بأنها: الواقعة في جواب ما هي أو ما هو؛ فإذا قلت: ما هو زيدٌ؟ وجاءك الجواب بأنه إنسان، أو قلت: ما هو الإنسان؟ وجاءك الجواب بأنه حيوان ناطق، كان الجواب على هذا السؤال بذاته ماهية الإنسان. وبعبارة أخرى: أن الماهية بيان لحقيقة الشيء وذاته التي تميزه عمّا سواه.
    وأنت حينَ تواجه موجوداً ما كجبل أبي قبيس، فتقول: «جبل أبي قبيس موجود»، فقد أشرت بالموضوع «جبل أبي قبيس» إلى ماهيةِ الشيء الذي واجهته، كما أنك أشرت بالمحمول «موجود» إلى وجوده. وهكذا بقية الأشياء التي تواجهنا، فإن لها ماهية كما أن لها وجوداً.

    أصالة الوجود واعتبارية الماهية
    وبما تقدّم يظهر أنّ الماهية تختلف عن الوجود مفهوماً، أي أنّ ما يفهم من معنى الوجود غير ما يفهم من معنى الماهية، فكل منهما يختلف عن الآخر في الذهن وأما في الخارج، أي خارج حدود الذهن فلا يوجد اختلاف، فهما متحدان في شيءٍ خارجي واحد، فنستطيع أن نشير إلى زيد الخارجي بالقول: هذا إنسان وموجود.

    ولنا أن نسأل عن الشيء المتحقق في الخارج والذي سميّناه زيداً، هل هو مصداق لمفهوم الوجود أو إنه مصداق لمفهوم الماهية؟ وبعبارة أخرى: هل إن الوجود أصيل في الخارج أم الماهية؟ فلو كان لكل منهما مصداق، لكان في الخارج مصداقان اثنان لا مصداق واحد، وبما أن الواقع الخارجي لا يوجد فيه إلا مصداق واحد، فلابدّ أن يكون هذا المصداق لأحدهما دون الآخر وإن انطبقا عليه، إلا أن أحدهما واقعي أصيل والآخر اعتباري، أي أن المصداق الخارجي المتمثل بزيد، يكون لأحدهما بالذات ومصداقاً للآخر بالعرض، وبعبارة أخرى: إنه مصداق للوجود دون الماهية، وإليك مثالاً يوضح المراد:
    لو كان عندك ورقة بيضاء وشرعت بتلوين مساحة منها بلون أخضر، فإن حاصل هذا التلوين سوف يكون شكلاً معيناً ولنفرضه شكلاً مربعاً، فإنك وبعد النظر إلى ذلك سينعكس في ذهنك مفهومان: أحدهما اللون الأخضر والآخر عبارة عن الشكل المربع الذي يُعدّ حداً للّون الأخضر، فمفهوم اللون الأخضر له مصداق حقيقي وهو اللون الذي ارتسم على اللوحة، وأما مفهوم الشكل المربع فليس له مصداق حقيقي في الخارج. نعم اللون الأخضر حيث ينتهي عند حدود خاصة فلابد وأن يكون له شكل معين وقد اتخذ هنا شكلاً مربعاً، وهو ليس إلا حداً فاصلاً يفصل وجود اللون الأخضر عن اللون الأبيض للّوحة، وأما الشكل المربع فلا عينية له في الخارج؛ بمعنى إنه لا يوجد في الخارج إلا اللون الأخضر؛ لأن الحدّ نهاية الشيء التي تميّزه عن غيره ونهاية الشيء لا تمثل شيئاً، وأما الشكل فلا مصداق له يمثله، بل إنَّ الذهن قد اِنتزعه من الوجود الخارجي للّون الأخضر.

    وهكذا يتضح حال الوجود والماهية، فإن الواقع الخارجي للأشياء ليس سوى مصاديق لمفهوم الوجود، إلا أنّ ذهن الإنسان يرسم لهذا الوجود حدّاً يميّزه عن غيره من المصاديق العينية الخارجية التي تشترك معه في الوجود، فالإنسان مثلاً من أجل تشخيصه عن غيره من المصاديق الخارجية التي تشترك معه في الحيوانية يوضع له مائز يميّزه عنها وذلك المائز هو كونه ناطقاً، فيقال بأنه: «حيوان ناطق» أي أن هذا الإنسان يمتاز عن غيره من الحيوانات بأن له قدرة على التفكير وإدراك الكليات.
    حصيلة ما تقدم هي: إن العينية الخارجية ليس فيها سوى الوجود ولا سهم للماهية فيه سوى أنها تنطبق عليه ويُنسب إليها اعتباراً، وهو ما يعبّر عنه بأصالة الوجود واعتبارية الماهية.
    ولا نجد لزاماً بعد توضيح الفرق بين الماهية والوجود، لذكر الأدلّة على أصالةِ الوجود واعتبارية الماهية، ومن هنا ذهب البعض إلى بداهة المسألة وعدم الحاجة إلى إقامةِ البرهان عليها.

    وإذا اتضح ما تقدم، يظهر بجلاء إن الذي له تحقق خارج حدود الذهن ليس إلا الوجود، وأما الماهية فلا تحقق خارجي لها في ذلك. وبعبارة أخرى: إن منشأ الآثار للإنسانِ ـ مثلاً ـ هو الوجود لا الماهية، فالإنسان حينما يأكل ويشرب ويتحرك ويفكر ... فإنما يقوم بكل ذلك بوجوده الخارجي لا بماهيتهِ.
    تشكك الوجود وتعدد الماهية
    إنّ إحدى الفروق التي يمكن الوقوف عليها في مجال تمييز الماهية عن الوجود هو: أن الماهية تختلف وتتعدّد باختلاف الأشياء، فماهية الإنسان تختلف عن ماهية الشجر، وهما يختلفان عن ماهية الحجر...، بينما الوجود في كل الأشياء واحد مهما تكاثرت وتعدّدت، إلا إنه قد يختلف شدّةً وضعفاً من موجود إلى آخر، فنور الشمعة أضعف من نور المصباح ونور المصباح أضعف من نور الشمسِ وهكذا؛ فإن الوجود يبدأ بأضعف موجود وينتهي بأكمل موجود وهو الله‏ ـ جل اسمه وعلا مكانه ـ إلا أن الوجود واحد.

    وبما أسلفنا يظهر أن الماهية تحدّد حقائق الأشياء وتميّز بعضها عن البعض الآخر بعد اتحادها في الوجود، فلولا الماهية لم يتحقق التحديد والتشخيص في الموجودات ولم تتضح حقائقها. ومن أجل معرفة الفارق بين الوجود والماهية تصوّرْ أن الوجود عجينة وضعناها في قوالب مختلفة، فإنها تتشخص بحسب القوالب التي صُبّت فيها، فتكون اسطوانية أو مكعبة أو مخروطية ...، فالعجينة بمثابة الوجود المتحد في الجميع، والقوالب بمثابة الماهيات المختلفة فيما بينها بحسب اختلاف مواردها ومشخصاتها.
    فكِّر و أجب:
    1 ـ ما هو تعريف الوجود والموجود والماهية؟ مَثّل لكل من الماهيةِ والوجود بمثال؟ ثم بيّن لماذا اعترض البعض على تعريف الوجود والموجود؟
    2 ـ وضّح ما يلي: «إن الماهية تحدّد حقائق الأشياء وتميّز بعضها عن البعض الآخر بعد اتحادها فى الوجود» واشفع توضيحك بمثال مقرّب للمطلوب.
    3 ـ ما هو المقصود من أصالة الوجود واعتبارية الماهية؟ عزّز جوابك بأمثلة بيانية؟
    واللهِ لَوْ عَلِمُوا قَبِيحَ سَرِيرَتِي....لأَبَى السَّلاَمَ عَلَيَّ مَنْ يَلْقَانِي
    وَلأَعْرضُوا عَنِّي وَمَلُّوا صُحْبَتِي....وَلَبُؤْتُ بَعْدَ كَرَامَةٍ بِهَوَانِ
    لَكِنْ سَتَرْتَ مَعَايِبِي وَمَثَالِبِي....وَحَلِمْتَ عَنْ سَقَطِي وَعَنْ طُغْيَاني
    فَلَكَ الَمحَامِدُ وَالمَدَائِحُ كُلُّهَا....بِخَوَاطِرِي وَجَوَارِحِي وَلِسَانِي
    وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَيَّ رَبِّ بِأَنْعُمٍ....مَا لِي بِشُكرِ أَقَلِّهِنَّ يَدَانِ

  7. افتراضي

    الدرس الرابع
    تقسيمات الوجود
    الوجود الذهني والخارجي:
    إنَّ للأشياء وجودين حقيقييّن: أحدهما، الوجود الخارجي، والآخر الوجود الذهني، ويتمثّل الأوّل بوجود الأشياء خارج حدود الذهن، كأفراد الإنسان والحجر والشجر، بينما يتمثل الثاني بعلمنا المتعلق بصور تلك الأشياء.

    ولا شك في أن انطباع صور الأشياء في الذهن ليس على شاكلة ارتسام صور الأشياء على لوحة أو ورقة، إذ أن الورقة لا تدرك ما يرتسم عليها من الصور، بخلاف ارتسامها في الذهن، لأنه مدرك لها، عالم بها، محيط بها.

    والمشكلة التي أثارت الفلاسفة والعلماء منذ أبعد الآماد ولحدّ الآن؛ هي مدى مطابقة الوجود الذهني للوجود الخارجي، وقد عبّروا عن المطابقة بالصواب وعن عدمها بالخطأ.

    نظرية المعرفة:
    ومن هنا اهتمّ الفلاسفة بالمعرفة الإنسانية ومصدرها وقيمتها، حيث جعلوها في طليعة المعارف الفلسفية وأهمها.

    ولسنا الآن في صدد البحث عن نظرية المعرفة بتفاصيلها وخطوطها ومسائلها، إلا إنه يمكن وبصورة مجملة القول إن الفلاسفة وبعد أن اختلفوا في تحديد مصادر أفكارنا التصورية والتصديقية في أنّها حسِّية أو عقلية أو كلاهما معاً، أو شيء آخر، اختلفوا في قيمتها ومطابقتها للواقع الخارجي، ومن أجله ذهب جماعة منهم إلى إنكار الواقع الخارجي بكل تفاصيله منكرين أنفسهم، ومن هؤلاء «غورغياس» السوفسطي ومن المنكرين «جورج باركلي» (1) الذي لم يؤمن بوجود شيء ما سوى الأنا المدْرِكة والصورة المدْرَكة، ويُسمى باركلي وأنصاره بالمثاليين «ايده اليست Idealists»، بينما ذهب «أرسطو» ومدرسته وتلامذته ومن سار على خطاه، إلى الإيمان بالواقع مطلقاً العيني الخارجي منه وغيره ويُسمى هؤلاء بالواقعيين «رئاليست Realists».

    وجنح جَمع آخر إلى الإيمان بالواقع الخارجي إيماناً نسبياً، فالصورة المدركة عندهم مزيجٌ من مادة الإدراك الخارجي والقوالب والمقولات الجاهزة في الذهن، فلا تمثل الصورة المدركة الخارجَ بصورة مستقلة ولا الذهن بصورة مستقلة، بل للخارج نسبة ونصيب من هذِهِ الصورة، وللذهن نصيب ونسبة منها أيضاً وهو ما ذهب إليه «عمانوئيل كانت» في نظريته النسبية.
    ومال آخرون إلى الشك بوجود واقع خارج حدود الذهن البشري، فلم يحكموا بثبوته ولا بنفيه ومن هؤلاء «دافيد هيوم» (1) و«جون لوك» (2) وهكذا اختلفت آراء المفكرين في تقييم إدراكاتنا عن الواقع الخارجي باختلاف مذاهبهم ومشاربهم الفلسفية. (3)

    ولا يمنعنا سعة البحث من الإشارة السريعة إلى المذهب الصحيح والرأي الحق فى المسألة آنفة الذكر، فنقول:
    إن الإيمان بوجود واقع خارجي قضية مسلّمة لا يختلف فيها اثنان ولو في حدود الأنا المُدْرِكة، إذ لو لم تكن «الأنا» موجودة فكيف أنكر المنكر أو شكك المشكك بوجود الواقع الخارجي، وحتى (باركلي) حينما أنكر الواقع الخارجي لم ينكر ذاته المدرِكة والصور المدْرَكه، والسرُ هو أن ذلك معلوم عنده بالعلم الحضوري، ومن أجله فقد ادّعى أنه ليس منكراً ولا شكاكاً بالواقع الموضوعي الخارجي، إلا إنه يؤمن بواقع الأنا المدرِكة والصورة المُدْرَكَةِ وينكر الوجود المادي للأشياء، فوضع لمذهبه قاعدة معروفة: «أن يُوجد هو أن يُدرِك أو أن يُدْرَك» ومن الواضح أن ما سوى الأنا المدرِكة والمَدرَكات المرتبطة بها غير معلوم لنا بالبداهة أو بالعلم الحُضوري، بل هو بحاجة إلى برهان ودليل، والعقل هو الحاكم بوجودها انطلاقاً من مبدأ العليّة العقلي الذي لا يشك فيه حتى المنكرون والشكاكون، لأنهم حينما رفضوا الإيمان بوجود واقع موضوعي خارج حدود الذهن البشري، فإنما استندوا إلى دليلٍ لإثبات مدّعاهم وهذا الدليل في واقعه علّة وسبب لإثبات منحاهم الفلسفي في إنكار الواقع أو الشك فيه.

    ومبدأ العلّية يقرّر أن لكل حادثة سبباً انبثقت منه، فهناك كثير من الظواهر التي نتحسسها ونبحث عن سببها، فلو كانت نابعة من صميم ذاتنا، لكانت معلومة لنا بالعلم الحضوري، وحيث إنّا لا نجد علّة تلك الحادثة في صميم وجودنا فلابد وأن يكون مصدرها شيئاً خارجَ حدود ذواتنا، وليس ذلك إلا الشيء الخارجي، كما لو أمسكت شوكاً بيدك وشعرت بألم الوخز الذي يصيبها حين إمساكك له، فإنك ستبحث عن سببه وحينما تراجع نفسك لا تجد فيها سبباً وعلّة لذلك الألم، إذ لو كان لبان لك بالعلم الحضوري وجودهُ في نفسك، هذا من ناحية.
    ومن ناحية أخرى فإن بعض الظواهر يشعر بها الإنسان على خلاف رغبته كما في المثال المتقدم، فكيف توُجِد النفسُ ما يبعث على انزعاجها وألمها؟! فلابد وأن يوجد سبب آخر خارج حدودها، كان باعثاً على ذلك الألم.

    وفي الختام نقول:
    إن الإنسان لا يجد في نفسه مبرراً يدفعه للبحث في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية التجريبية وغيرها ما لم تكن معرفته ذات قيمة تكشف عن الواقع الذي انبثقت منه، فلو كانت أفكارنا محض خيالٍ وصورٍ تتوالى في عالم الذهن ولم يكن لها علاقة من قريب أو بعيد بواقعها الخارجي، كما ادعى المنكرون والشكاكون والسوفسطائيون! لما أصبح للبحث والتحقيق والجد والسعي والمثابرة والخوف والرجاء ... معنى، إذ كل محاولة من هذا القبيل تغدو جزافاً وعبثاً.
    فكِّر و أجب:
    1 ـ ما هو المقصود من الوجود الذهني والخارجي؟ وبماذا يمتاز الوجود الذهني عن وجود الصورة المنطبعة على اللوحة؟
    2 ـ اشرح ما يلي: «تُعَدُّ نظرية المعرفة حجر الزاوية ومنطلقا لكل بحث علمي مهما كان لونه».
    3 ـ وضّح بإجمال الآراء الفلسفية على صعيد قيمة المعرفة.
    4 ـ لماذا لم ينكر «باركلي» نفسه المُدْرِكة والصور المُدْرَكة؟
    5 ـ علّل ما يلي: «لا يمكن إنكار مبدأ العلية حتى للسوفسطي وغيره من المنكرين لواقع الأشياء ووجودها»؟
    واللهِ لَوْ عَلِمُوا قَبِيحَ سَرِيرَتِي....لأَبَى السَّلاَمَ عَلَيَّ مَنْ يَلْقَانِي
    وَلأَعْرضُوا عَنِّي وَمَلُّوا صُحْبَتِي....وَلَبُؤْتُ بَعْدَ كَرَامَةٍ بِهَوَانِ
    لَكِنْ سَتَرْتَ مَعَايِبِي وَمَثَالِبِي....وَحَلِمْتَ عَنْ سَقَطِي وَعَنْ طُغْيَاني
    فَلَكَ الَمحَامِدُ وَالمَدَائِحُ كُلُّهَا....بِخَوَاطِرِي وَجَوَارِحِي وَلِسَانِي
    وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَيَّ رَبِّ بِأَنْعُمٍ....مَا لِي بِشُكرِ أَقَلِّهِنَّ يَدَانِ

  8. افتراضي

    أُسجّل مقعدي للمُتابعة بعد الشهر الفضيل إن شاء الله، بارك الله فيك ونفع بك.
    قال الله سُبحانه وتعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء:18


    تغيُّب

  9. افتراضي

    الدرس الخامس
    تقسيمات الوجود (2)

    المادّي والمجرّد
    إن إحدى تقسيمات الوجود هي:
    الموجود المادي والموجود المجرد.
    والمقصود من الموجود المجرد ما يقابل الموجود المادي ومن هنا يُسمّى الموجود المجرد بـ «غير المادي».
    وتستعمل كلمة المادي في الفلسفة بمعنى الجسماني، فيكون المجرد بمعنى غير الجسماني، فلا يصدق عليه أنّه جسم ولا تُنسب إليه خصائص الأجسام، كوجود الله‏ الأقدس؛ فإنه ليس بجسم ولا يخضع لخصائص الأجسام. وعلى هذا فالوجود شامل لنوعين من الموجودات: المادية والمجردة.

    المدارس المادّية والوجود المجرّد
    إلا إن بعض المدارس المادية كالمدرسة الوضعية وفي طليعتها «اوغست كونت» (1) والمدرسة الماركسية وفي مقدّمتها كارل ماركس (2)، ذهبوا إلى إنكار كل ما لا يمتّ إلى العالم المادي المحسوس بصلة ورفعوا شعار «أثبت لي شيئاً بالحس أقبله منك وإلا فلا» وتغافل هؤلاء عن أنَّ الموجودات منها ما هي مجردة غير مادية، لا يمكن التعرف عليها إلا من خلال العقل واستنتاجاته وتأملاته كوجود الله‏ تعالى، لأن الحواس الخمس قاصرة عن إدراكها والتحسس بها، ومنها ما هي مادية غير مجردة، وهي بدورها قد تعجز حواس الإنسان الخمس عن إدراك بعض مفرداتها ومواردها، لوجود مانع حال دون ذلك، أو لقصور في وسائل التجربة، فالإلكترون والأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية والجاذبية الأرضية وغيرها من المفردات أكّد عليها العلم وآمنا نحن ببعضها إيماناً قاطعاً على الرغم من أنها لم تخضع بصورة مباشرة لإحدى حواسنا الخمس، بل توصّلنا إلى وجودها من خلال آثارها الدالّة عليها بحكم العقل القاطع بأن لكل أثر مؤثراً ولكل معلول علّة.

    فإذا أمكن إثبات الجاذبية من خلال سقوط الأجسام باتجاه الأرض بعد رميها إلى أعلى، وإذا أمكن إثبات وجود التيار الكهربائي من خلال توهج المصباح أو حركة المروحة، أمكن أيضاً إثبات وجود الله‏ من خلال آثار صنعه وبديع خلقه. فكما أثبتنا وجود الجاذبية والتيار الكهربائي وغيرها من الظواهر المادية بطريقة عقلية استدلالية مع أنها لم تخضع بصورة مباشرة لحواسنا، كذلك الحال بالنسبة إلى الله‏ جَل جَلاله، إذ يجوز لنا إثبات وجوده الأقدس بطريقة عقلية استدلالية على الرغم من إنه تعالى لم يخضع بصورة مباشرة لحواسنا.
    فإن رضوا لأنفسهم ذلك ولم يرضوه لنا، كان كيلهم بمكيالين! وعلى طريقة «باؤهم تجر وباؤنا لا تجر»!

    الفرق بين المادي والمجرّد
    إن بإمكاننا التفريق بين الموجود المادي وبين الموجود المجرد في أن الأول يمكن الإشارة إلى جهة وجوده دون الثاني، فلا جهة له حتى تصح الإشارة إليه.

    كما أن الموجود المادي فيه استعداد وقوة على التغيُّر والتبدل بالامتداد والحركة من حالة إلى حالة أخرى، ولذا فإن الحركة ملازمة له، فالحبة تتحول بفعل استعدادها للتغيُّر إلى نبتة، والنبتة إلى شجرة، والشجرة تحمل ثمراً وهكذا، فإن الموجود المادي في حالة تغيُّر وحركة دائبين، بينما لا تجد هذه الحالة في الموجود المجرد على ما ذهب إليه جمهور الحكماء.

    فكِّر و أجب:
    1 ـ بيّن كلاًّ من الموجود المادي والمجرد؟
    2 ـ وضّح موقف المدارس المادية من الموجودات المجردة؟ وما هو الرد المناسب لها؟
    3 ـ اذكر الشواخص التي يميّز على أساسها الموجود المادي عن المجرد؟
    واللهِ لَوْ عَلِمُوا قَبِيحَ سَرِيرَتِي....لأَبَى السَّلاَمَ عَلَيَّ مَنْ يَلْقَانِي
    وَلأَعْرضُوا عَنِّي وَمَلُّوا صُحْبَتِي....وَلَبُؤْتُ بَعْدَ كَرَامَةٍ بِهَوَانِ
    لَكِنْ سَتَرْتَ مَعَايِبِي وَمَثَالِبِي....وَحَلِمْتَ عَنْ سَقَطِي وَعَنْ طُغْيَاني
    فَلَكَ الَمحَامِدُ وَالمَدَائِحُ كُلُّهَا....بِخَوَاطِرِي وَجَوَارِحِي وَلِسَانِي
    وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَيَّ رَبِّ بِأَنْعُمٍ....مَا لِي بِشُكرِ أَقَلِّهِنَّ يَدَانِ

  10. افتراضي

    تنويه بخصوص الجهة : كلمة الجهة محتملة وفيها لبس، ولابد من التفصيل فيها لنعرف المعنى الصحيح والمعنى الباطل أو الخطأ لهذه الكلمة فإذا قال أحد: إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له جهة، قلنا له: ماذا تريد بقولك: إن الله له جهة، فإن قَالَ: أريد العلو، أي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عال عَلَى المخلوقات.
    وهذه الكلمة وردت في بعض كلام الأئمة من السلف فإنهم يقولون: نعم لله جهة، ويقصدون بها (جهة العلو)، أي: أنه فوق المخلوقات؛ فنقول لمن يقول ذلك إثباتك للعلو حق وصواب، لكن كلمة الجهة تحتمل معنى آخر يلزمك به أهل الكلام فلا تستخدم هذه الكلمة وقل: هو فوق المخلوقات كما أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    وإن جَاءَ أحد: وقَالَ: ليس لله جهة قلنا: ماذا تريد بذلك؟ فإن قَالَ: أريد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحصره شيء وأنه فوق كل شيء، وأعظم من كل شيء، ومحيط بكل شيء ، قلنا: هذا المعنى حق لكن هذه الكلمة (ليس له جهة) يستخدمها نفاة العلو فيقولون: ليس له جهة أي: أنه ليس فوق المخلوقات ، فلا تستخدم هذه الكلمة التي قد تلتبس عَلَى بعض الناس، واستخدم الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها ولا لبس.
    واللهِ لَوْ عَلِمُوا قَبِيحَ سَرِيرَتِي....لأَبَى السَّلاَمَ عَلَيَّ مَنْ يَلْقَانِي
    وَلأَعْرضُوا عَنِّي وَمَلُّوا صُحْبَتِي....وَلَبُؤْتُ بَعْدَ كَرَامَةٍ بِهَوَانِ
    لَكِنْ سَتَرْتَ مَعَايِبِي وَمَثَالِبِي....وَحَلِمْتَ عَنْ سَقَطِي وَعَنْ طُغْيَاني
    فَلَكَ الَمحَامِدُ وَالمَدَائِحُ كُلُّهَا....بِخَوَاطِرِي وَجَوَارِحِي وَلِسَانِي
    وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَيَّ رَبِّ بِأَنْعُمٍ....مَا لِي بِشُكرِ أَقَلِّهِنَّ يَدَانِ

  11. #11

    افتراضي

    تسجيل متابعة , جزاك الله خيرا
    {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ
    وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
    وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا
    وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }الأنعام59

  12. افتراضي

    منتظرين الدروس القادمة شكرا لك واحد من أجمل مواضيع المنتدى

  13. افتراضي

    ـ معنى البديهي:
    المقصود بالبديهي: هو ما لا يحتاج في تصوره أو التصديق به إلى اكتساب أو تحليل ونظر، فعندما نريد تصور مفهوم الوجود لا نحتاج إلى تأمل ونظر، لأن تصور مفهوم الوجود بديهي. كما لا نحتاج إلى دليل للتصديق بأن الكل أكبر من الجزء، لأن التصديق بذلك بديهي.
    إذاً العلم ينقسم إلى: تصور وتصديق، وكل منهما ينقسم إلى: بديهي ونظري.
    ـ العلوم النظرية تنتهي إلى البديهية:
    إن البديهي هو الأصل، يعني أن التصديق البديهي تصديق بالذات، وأما التصديق النظري فلابد أن يستند إلى التصديق البديهي.
    وبعبارة أخرى أن التصديق البديهي أقدم رتبة من التصديق النظري، وإن التصديق البديهي بالنسبة إلى التصديق النظري كالواجب بالنسبة إلى الممكن، فإن الواجب وجوده بالذات والممكن وجوده بسبب وجود الواجب يعني أوجده الواجب، كذلك التصديق البديهي يكون التصديق به بالذات، بينما التصديق النظري ينتهي إلى التصديق البديهي.
    كذلك الكلام في التصور البديهي والنظري، فإن التصور النظري ينتهي إلى التصور البديهي.
    ولو لم نقل إن ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات لنجم عن ذلك التسلسل، لأنه إذا كان التصديق مثلاً بأن مجموع زوايا المثلث 0180 يعتمد على قضية نظرية، يعني تحتاج إلى برهان، فإن كانت هذه القضية النظرية تعتمد على قضية نظرية أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية، فيتسلسل، والتسلسل محال.
    إذاً لابد أن ننتهي إلى تصديق بديهي، نصدق به بالذات من دون حاجة إلى برهان، وكذلك لابد أن ننتهي إلى تصور بديهي، نتصوره بنفسه من دون حاجة إلى توسط سواه في تصوره.
    ـ أنواع البديهيات:
    إن البديهيات التي ذكروها في المنطق تنتهي إلى ست طوائف، وهي:
    1 ـ الأوليات.
    2 ـ الفطريات.
    3 ـ المحسوسات.
    4 ـ المتواترات.
    5 ـ التجريبيات.
    6 ـ الوجدانيات.
    وأول هذه البديهيات، يعني أوضحها وأقدمها وأولاها بالقبول والتصديق هي الأوليات، والأوليات إنما تسمى قضايا أولية لأن العقل يصدق بها أولاً وبالذات، وهي متقدمة على غيرها من البديهيات بالتصديق بها، وهذه يكفي بالتصديق بها تصور الموضوع والمحمول. ففي قضية (النقيضان لا يجتمعان أو اجتماع النقيضين محال)، هذه قضية الموضوع فيها اجتماع النقيضين والمحمول محال، فالتصديق بهذه القضية يتوقف على تصور معنى اجتماع النقيضين وتصور معنى محال.
    لكن قد يقال: إذا كانت هذه القضية بديهية فلماذا أنكرها بعض؟
    الجواب: إن الإنكار ينشأ من عدم التصور الصحيح للموضوع والمحمول، وإلا فلو تصور هذا البعض الموضوع والمحمول تصوراً صحيحاً لما أصبحت لديه شبهة، لأن المشكلة في القضايا العقلية غالباً ما تنشأ من التباس تصور هذه القضايا تصوراً صحيحاً دقيقاً.
    ـ أولى الأوليات:
    ثم إن هذه الأوليات نفسها هي مرتبة أيضاً، فإن هناك قضية تعتبر أولى الأوائل، يعني هي أول قضية يصدق بها الذهن، وهي قضية استحالة اجتماع النقيضين.
    وأولى الأوائل هذه قضية منفصلة حقيقية، فإن القضية الشرطية تنقسم إلى: قضية منفصلة ومتصلة، والمنفصلة تنقسم إلى: حقيقة ومانعة جمع ومانعة خلو، والحقيقة يستحيل فيها الاجتماع والارتفاع، مثل: العدد الصحيح إما زوج أو فرد.
    وإن هذه القضية تستند عليها كل قضية، حتى القضايا البديهية تعتمد على هذه القضية، من قبيل الكل أعظم من الجزء، فهذه القضية لا يصدق بها الانسان إلا إذا سلّم وصدّق بقضية استحالة اجتماع النقيضين.
    ـ تتمة: في مناقشة السفسطائيين والمشككين:
    إن المحاور في هذه التتمة أشار إلى عدة نقاط، وهي:
    السفسطة:
    وهذه الحركة كان يحترفها مجموعة من المحامين والمعلمين، وكانت هذه الحركة تنكر العلم والمعرفة، ولا تسلم بأي شيء. إلا أن الحكيم سقراط استطاع أن يهزم هذه الحركة ويدافع عن أسس التفكير الصحيح.
    ويمكن مناقشة السفسطائي المنكر للحقائق بأن نقول له: أتسلم أن هذا الارتياب والشك في الحقائق موجود لديك أم لا تسلم؟
    وبعبارة أخرى نقول له: أنت تشك في أن هذا كتاب، فهل تشك في شكك هذا؟ فإن قال: لا أشك في شكي، فعلاً أنا شاك. نقول له: أنت اعترفت بأنك تعلم بشكك، يعني أثبت حقيقة من الحقائق، وهي تسليمك واعترافك بشكك، وحينئذ إذا سلّم بذلك فيعني انه سلّم أيضاً في مرتبة سابقة باستحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما، لأنه لو لم يسلم بذلك لما اعترف بشكه. ومعنى ذلك أنه يعترف بمعلومتين:
    الأولى: إنه يعترف بأولى الأوائل، استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما.
    لكن قد يقال: ما هي علاقة ذلك بهذه؟ فنقول: لو لم يؤمن بذلك ولم يسلم به، لكان معنى ذلك أنه يشك ولا يشك، فتصديقه بأنه يشك يعني نفيه لتكذيبه بأنه يشك، وهذا معنى اعترافه باستحالة اجتماع النفي والإثبات، فحينئذ إذا اعترف بذلك سوف يصدق بأولى الأوائل.
    الثانية: إنه يعترف ويصدق بشكه، يعني هو يعلم بأنه يشك، فحينئذ ننتقل إلى باقي القضايا فنقول له: أأنت موجود أم لا؟ قد يقول: أنا غير موجود، فنقول له: إذا كنت غير موجود فما معنى هذا الشك؟ أهو صادر منك أم من غيرك؟ فلابد أن يقول: هذا الشك صادر من عندي. إذاً آمن أيضاً بوجود نفسه، وهكذا باقي الأشياء.
    ولكن لو فرضنا إن هذا الذي يشيك لم يعترف بأنه يشك، وقال: أنا أشك في شكي، أشك في كل شيء فهذا من الناس المرتابين، الذي لا يدري بشيء، فحينئذ تسقط معه المحاجة.
    منشأ الشك:
    هنا المحاور يشير إلى مسألة مهمة، وهي إن هذا الشك ينشأ من أن بعض الناس، لا يعرف مقدمات العلوم، فيدخل في بعض العلوم من دون أن تتجلى مقدماتها له، فحينئذ يرى في مسألة واحدة يمكن أن يقام استدلال على المسألة وعلى نقيضها، فيصاب بالاضطراب.
    وطريقة علاج مثل هذه الحالة، هي لابد على هذا المضطرب أن يقرأ المنطق ليميز بين البراهين والمغالطات والجدل. ومن جهة أخرى أن الانسان الذي ينكر القضايا البديهية لابد أن توضح له بشكل جيد، أي يوضح له ما هو المقصود من الموضوع، حتى يتصوره تصوراً صحيحاً وما هو المقصود من المحمول، حتى يتصوره تصوراً صحيحاً. فإذا تصورهما تصوراً صحيحاً يصدق. ثم من المهم أن يتعلم مثل هؤلاء العلوم الرياضية.
    طوائف المشككين:
    وهؤلاء يؤمنون بالإنسان وبإدراكاته، ولكنهم يرتابون ويشكون فيما وراء ذلك، فيقولون: نحن وادراكاتنا ونشك فيما وراء ذلك.
    وطائفة غيرها يقول عنها المحاور المسلم: إن هؤلاء أفضل من الطائفة السابقة، لأنهم انتبهوا إلى قول (نحن وادراكاتنا) فاعترفوا بأن هذا يعني اعترافاً بوجود الانسان وادراكاته، ويعني ذلك الاعتراف بالحقيقة الخارجية، وبالتالي الاعتراف بحقائق كثيرة، فقالوا بدل نحن أنا، وبدل ادراكاتنا ادراكاتي، وما وراء ذلك مشكوك.
    مناقشة المشككين:
    يناقش المحاور هؤلاء فيقول: نحن لا ننكر خطأ الانسان في ادراكاته، فالانسان في الواقع يخطئ في ادراكاته، كما إذا تخيل الانسان إن الشيء الحار بارد، إذا كان مصاباً بالحمى، وإن الشيء البارد حار، أو اللون لا يراه على حقيقته، فهذه الحالة طبيعية يخطئ الانسان في تفكيره أحياناً، وأحياناً مدركاته لا تكون كاشفة ومطابقة للواقع. ولكن هذا نفسه يستفيد المحاور منه دليلاً على وجود الحقائق، لأنه لو لم تكن هناك حقيقة خارجية لما أخطأ الانسان.
    وبعبارة أخرى يريد المحاور هنا أن يستدل على الحقيقة بالخطأ، فيقول: نحن متى نخطئ؟ الجواب: إذا كان هناك صواب. أي إن ادراكنا إنما يكون خطأ إذا كان ادراكنا الآخر مطابقاً للحقيقة، وإلا لو لم يكن ادراكنا الثاني حاكياً عن الموجود الخارجي ومطابقاً للواقع، لحصلت فوضى فكرية ولاضطربت معارف الانسان، ولما وقف الانسان على شيء.
    إشكال:
    قد يقال: دفاعاً عن موقف الشك والارتياب، إن قول المرتاب الذي يقول بعدم حكاية العلم عن الواقع وعدم مطابقة الادراك للخارج، ليس من الشك في شيء، وإنما هو عبارة أخرى عن فهم علمي لعملية الادراك، فلو لاحظنا الصوت مثلاً، فإن الصوت له حد أدنى من الذبذبات وله حد أعلى، يمكن أن تتلقاه الأذن. وبعبارة أخرى إن مراد هؤلاء هو أن ما يحصل في الحواس من صور لا ينطبق مع الأمور الخارجية، ولا يكون حاكياً عنها على صورتها الواقعية، لأن الصوت ـ على سبيل المثال ـ الذي يحصل في حاسة السمع لا يكون مطابقاً للوجود الخارجي للصوت، لأنه إذا وصلنا الصوت بدرجة ذبذبة كذا يمكن أن نسمعه، وإذا وصل الصوت بذبذبة كذا فلا يمكن أن نسمع. إذاً هذه الحواس كالأذن هي التي تكون وسائط وقنوات من خلالها يمر الادراك، ولا تكون حاكية عن هذه الحقائق، ولا تكون أمينة في تصوير وحكاية الواقع بما هو.
    جواب الإشكال:
    إن الادراكات لو قبلنا أنها لا تحكي عن الواقع، وغير كاشفة عن الواقع، فنحن نسأل: هل تعتقدون بهذا القول؟ يقولون: نعم، نعتقد إن الادراكات غير حاكية عن الواقع، فنقول لهم: مَن قال لكم أن هناك واقعاً خارجياً، وهذا الواقع الخارجي لا تحكي عنه الادراكات؟
    وبتعبير آخر أنتم تقولون إن الصوت بذبذبة عشرين إلى درجة ألفين يمكن ن تتلقاه الأذن، ولكن أقل من هذه الذبذبة أو أعلى لا يمكن أن تتلقاه الأذن، نقول لهم مَن قال لكم إن هناك ـ واقعاً ـ للصوت ذبذباته تبدأ من عشرين إلى ألفين، بينما الأعلى والأوطأ لا تسمعها الأذن؟ أليس هذا نفسه ادراكاً أم إنه ليس بادراك؟ أتشكّون بذلك أم لا؟ إن قالوا: لا نشك بذلك. فنقول إذاً نحن نثبت إن هناك حقائق تؤمنون بها، وهذه الحقائق التي تؤمنون بها هي هذا الادراك، وهذا الادراك لابد أن يكون كاشفاً عن الحقائق، وإلا لو لم يكن الادراك كاشفاً عن الحقائق، فمن الذي قال إن حقيقة الصوت التي هي خارج دائرة السمع، يعني دون العشرين وأعلى من الألفين، حقيقة موجودة في الخارج؟ إذاً هذا يدل على أن هناك حقائق تؤمنون بها في الخارج، وهذا الإيمان هو الادراك، فالادراك يكون كاشفاً عما وراءه وحاكياً عن الخارج.
    مناقشة أخرى:
    ثم مضافاً إلى كل ذلك يقول المحاور في مناقشة حركة الشك والارتياب، إن هذا الكلام نفسه الذي يقوله الانسان الارتيابي، عندما يقول يجوز أن ينطبق شيء من ادراكاتنا على الخارج، فهذا نفسه لو لاحظناه أهو حقيقة أم لا؟ يعني أيشك به أم يعلم به؟ فإن قلت: يعلم به، إذاً هو في الواقع يؤمن بحقيقة من الحقائق، ومعنى ذلك إن هذه الحقيقة يمكن أن ينتقل منها إلى الإيمان بحقائق أخرى، وإذا قلت: إنه مرتاب بنفس هذه الحقيقة، يعني هو مرتاب إن الادراكات غير مطابقة للخارج، إذاً هذه القضية باطلة، والادراكات تكون مطابقة للخارج.
    يعني كمن يقول: كل كلامي كذب، فنقول له: كل كلامك كذب، وهذه القضية نفسها هي كلامك أيضاً، وهذا الكلام لا يخرج من أحد احتمالين: إما أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإن كان كاذباً، فمعنى ذلك إن كلامك الآخر سوف لا يكون كله كذباً، لأن هذه القضية التي تقول كل كلامي كذب قضية كاذبة وليست صادقة، وإن كانت هذه القضية صادقة «كل كلامي كذب» فمعنى ذلك إن بعض كلامك الذي هو نفس هذه القضية «كل كلامي كذب» لا يكون صادقاً، ففي الصورتين لا يكون الحكم لصالحك.
    واللهِ لَوْ عَلِمُوا قَبِيحَ سَرِيرَتِي....لأَبَى السَّلاَمَ عَلَيَّ مَنْ يَلْقَانِي
    وَلأَعْرضُوا عَنِّي وَمَلُّوا صُحْبَتِي....وَلَبُؤْتُ بَعْدَ كَرَامَةٍ بِهَوَانِ
    لَكِنْ سَتَرْتَ مَعَايِبِي وَمَثَالِبِي....وَحَلِمْتَ عَنْ سَقَطِي وَعَنْ طُغْيَاني
    فَلَكَ الَمحَامِدُ وَالمَدَائِحُ كُلُّهَا....بِخَوَاطِرِي وَجَوَارِحِي وَلِسَانِي
    وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَيَّ رَبِّ بِأَنْعُمٍ....مَا لِي بِشُكرِ أَقَلِّهِنَّ يَدَانِ

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء