أعشق أسئلة الأطفال المفاجئة كونها تلفت انتباهنا إلى أشياء غير مألوفة أو متوقعة.. ومن آخر الأسئلة التي طرحتها مياس - أصغر بناتي - قولها "هل كان عندهم ثلج أيام الرسول !؟" ... وهذا السؤال لا يطرحه غير "طفل" لا يتحرج من مخالفة المعتاد واجتماع المفارقات في كلامه.. ومع هذا يظل سؤالها مشروعا كونها انطلقت من حاضر لا يستغني عن وجود الثلج (كنموذج لفكرة التبريد ذاتها) !!
ورغم أنني تهربت من السؤال ، إلا أن الجواب بدأ يتشكل في رأسي لاحقا.. فرغم أن الثلج لم يكن (أيام الرسول) في متناول الجميع إلا أنه كان معروفا لهم بفضل مصدرين لا يمكن تجاهلهما.. المصدر الأول رحلات القوافل إلى بلاد الشام حيث يتشكل الجليد فوق بعض المرتفعات ، والثاني نزول الثلج والبرد مع العواصف الرعدية وتحوله الى ماء يسقي الزرع (ودليل ذلك قول سعيد بن جبير حين سئل عن قوله تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون فقال : هو الثلج) !
أضف لهذا أن فكرة التبريد ذاتها كانت معروفة حينها من خلال وسيلتي التبخير والترطيب - ودليل ذلك دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم (اللهم اجعل حبك أحب إلي من الماء البارد على الظمأ)!!
وحين نغادر عصر النبوة والخلافة الراشدة يصبح الجليد أسهل منالا - وأقرب من الناحية الجغرافية، فالوثائق التاريخية تشير الى استيراد الأمويين للثلج من جبال لبنان والمرتفعات السورية في الشمال ، أما العباسيين فكانوا يستوردون قطع الثلج من تركيا (عبر دجلة والفرات) ومن جبال أفغانستان (على ظهور الجمال والبغال)..
ورغم أن معظمنا لا يتصور إمكانية نقل الثلوج الى مسافات بعيدة (وتحت لهيب الشمس الحارقة) إلا أن الأمور ليست بالصعوبة التي نتصورها.. فباستعمال تقنيات بدائية يمكن نقل قطع الجليد حتى إلى موريتانيا والربع الخالي دون أن تفقد الكثير من كتلتها (بل كان هناك تفكير بسحب جبال القطبين إلى السواحل السعودية في عهد الملك فيصل) !!
.. ورحلة الجليد تبدأ من أحد الجبال العالية في أفغانستان أو تركيا أو لبنان (حيث يقطع الثلج كمكعبات تُرش بخامات نباتية تحميها من الذوبان) . وكلما كانت القطعة كبيرة كلما قل معدل ذوبانها وبقائها لفترة أطول . وبعد ذلك يتم تغطيتها بقماش أسود وعزلها بالقش أو اللباد أو جلود الخراف.. وحين تتوفر هذه الشروط يمكن نقلها فوق الحمير أو الجمال (أو عبر البحار والأنهار) إلى مناطق بعيدة وحارة دون أن تفقد أكثر من 10% من حجمها الأصلي.. وكانت قوافل الجليد هذه تدر أرباحا طائلة كون زبائنها الرئيسيين هم الأثرياء والموسرين في دمشق وبغداد والقاهرة (ولا أستبعد مكة والمدينة خلال مواسم الحج) !!
وفي الحقيقة ؛ حتى خمسين عاما مضت كانت تجارة الجليد (قبل انتشار الثلاجات الكهربائية) مزدهرة في معظم دول العالم . ففي أمريكا مثلا كانت توجد أكثر من 700شركة لقطع الجليد من آلاسكا ومنسوتا ونيوانجلند . وكانت جميعها تملك مخازن ضخمة (جيدة العزل) يمكنها الاحتفاظ بالقطع الجليدية لأشهر طويلة.. وحين يحل فصل الصيف - ويزداد الطلب على الثلج - تفتح مخازنها وتبدأ بنقله إلى الولايات الجنوبية الحارة كتكساس وكاليفورنيا وفلوريدا.. أما في أوروبا فكانت الشركات النرويجية مشهورة بتجارة الجليد وقدرتها على إيصاله للمستعمرين الأوروبيين في المغرب وإفريقيا وجنوب أمريكا (وإن كان البريطانيون في الهند اكتفوا بنقل الجليد من جبال الهملايا)..
وهذه الأيام توجد شركة يابانية تدعى "جيوراسك ووتر" تشتهر بتصدير أغلى وأنقى مياه للشرب في العالم.. فهي تعمد إلى استخراج الصفائح الجليدية العميقة من القطب الجنوبي ثم تعبئها في قناني خاصة معتمة.. وبما أن الجليد (الموجود على أعماق كبيرة) تشكل قبل ملايين السنين فإن هذا يحفظه بهيئته الأصلية الأولى بعيدا عن مصادر التلوث أو التغير المعاصرة !!!
والآن.. كيف سأشرح لسيادتها هذا الموضوع !!؟
( منقووول )
هل ما ورد في هذه الكتابة صحيح ؟
Bookmarks