السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فهذه هي الحلقة الأولى من حلقات ( قصة الإسناد ) وهي مجموعة من المشاركات التثقيفية في باب علم الحديث ، والتي لن تكون على الطريقة الرتيبة المعتادة ، بل ستكون بلغة يفهمها عامة الناس وسأحكيها ك( قصة ) ، فقد لاحظت أنه في هذا المنتدى المبارك يوجد الكثير من الأعضاء المتخصصين بعلوم غير شرعية وكثير من المتشوفين للمعرفة ورأيت من حق هؤلاء جميعاً بل وجميع المسلمين أن يعلموا كيف وصلت إليهم سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ومن نقلها إليهم وما هي الآليات المعتمدة في معرفة الصحيح من السقيم بحيث يفهم المسلم هذا ويستطيع إيصاله إلى أبنائه وإلى غير المسلمين ويزداد يقينه بحفظ الله عز وجل لهذا الدين
في هذه الحلقات سنسير بخطى متباطئة في أروقة مكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط والشام واليمن ومصر في زمن الصحابة والتابعين لنرى كيف نقل علماء هذه البلدان السنة وكيف كانوا يعيشون وما هي الآليات التي اعتمدوها لحفظ الحديث
ثم سننتقل إلى بغداد وخراسان في زمن أتباع التابعين ، ونعرف كيف كانوا يكشفون علل الحديث المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم وأعدك أنك ستتفاجأ بحقائق لأول مرة ستسمعها في حياتك فكن معي
ولنبدأ أولاً : ما معنى كلمة ( إسناد )؟
التعريف المعتمد هو سلسلة الرواة الموصلة للمتن مع اعتبار صيغ التحديث
فقول البخاري مثلاً حدثنا القعنبي حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة )
من البخاري إلى ابن عمر ( هذا إسناد ) ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم هو المتن
والإسناد ليس خاصاً بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم بل كل أعلام الأمة في تلك الحقبة أخبارهم تروى بإسناد ، ولكن الشروط الشديدة في القبول خاصة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم
وهنا سؤال قبل الخوض في لجة الكلام عن أمر الإسناد
لماذا اهتم المسلمون بجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وروايته ؟
الجواب : لأن الله عز وجل أكرم نبيه بأن رفع ذكره فقال تعالى ( ورفعنا لك ذكرك ) ومعنى الرفع أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع في الأذان وفي التشهد وتذكر سنته مع القرآن ويكون هو الشارح الأول للقرآن
فالسنة فيها تحديد الصلوات وكيفيتها وأنصبة الزكاة وكيفية الحج بدقة
وقد أجمعت الأمة على أحكام هي خارج القرآن كتحريم الجمع بين المرأة وخالتها والمرأة وعمتها ، وكتحديد نصاب لقطع يد السارق وقطع يده من الرسغ وإسقاط القطع عن الخائن في أحكام كثيرة
وقد جمع الإمام أحمد كتاباً أسماه (طاعة الرسول ) جمع فيه الآيات من القرآن التي تدل على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم
ولنرجع لأمر الإسناد
فهل تعلم أخي المسلم أن الإسناد من مفاخر الأمة الثلاثة
قال الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث 69 - أخبرنا محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز ، بهمذان ، قال : حدثنا صالح بن أحمد الحافظ ، قال : سمعت أبا بكر محمد بن أحمد يقول : « بلغني أن الله ، خص هذه الأمة بثلاثة أشياء ، لم يعطها من قبلها الإسناد والأنساب والإعراب »
أما الإسناد فيأتي الإطناب في الكلام عليه ، وأما الأنساب فالتدقيق في أمر الأنساب بحيث يعلم المرء نسبه البعيد وأجداده إلى عشرة أو إلى خمسة عشر أمر اختصت به العرب ، وأما الإعراب فيريد به النحو وهو أن تكون هناك حركات كالفتحة والضمة والكسرة تجعل في آخر الكلمة وتبين معناها إن كانت فاعلاً أو مفعولاً أو اسم جر أو غيرها وهذا لا يوجد في لغة أخرى
فهذه أمور ثلاثة اختصت بها الأمة وبابنا الآن الإسناد ، فهل تعلم أنه لا يوجد نبي ولا رجل صالح قبل النبي صلى الله عليه وسلم رويت أقواله بالإسناد المتصل ، ووضعت تراجم رواة أخباره في كتب ، وتكلموا عليهم جرحاً وتعديلاً ووفروا عنهم كل المعلومات اللازمة من مكان مولده وسكنه ووفاته وعدالته وضبطه فإن لم تتوفر هذه المعلومات لم يقبل خبره
ولهذا قال بعض المستشرقين ( ليفخر المسلمون كما شاءوا بعلم الحديث ) وسيظهر لك مصداق قوله في كل حلقة سنكتبها إن شاء الله تعالى في هذا الباب
فإن قلت : هل يوجد في القرآن ما يشير إلى أن السنة محفوظة كالقرآن ؟
فيقال قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )
فالذكر القرآن وقد قال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم )
فكيف يحفظ رب العالمين القرآن ولا يحفظ شرحه وبيانه من السنة هذا لا يجوز في الحكمة الإلهية ، وسيظهر لك آيات عجيبة في حفظ الله عز وجل لهذا الدين بحفظ السنة
فإن قال قائل : قد علمنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم واجب الطاعة على أمته ، فكيف بدأت قصة الإسناد إليه ؟
فيقال : بدأت من خلال أصحابه هذه هي بداية القصة والصحابة كلهم عدول والصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك ؟
فإن قيل : ما الدليل على هذا التعريف وما الدليل على أنهم عدول أصلاً ؟
فيقال : الدليل ورد في حديث ثابت وهو قوله لهم (نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه)
وهذا الحديث رواه جمع من الصحابة
وقوله صلى الله عليه وسلم لهم في حجة الوداع حيث اجتمعوا جميعاً ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب )
وهذا أيضاً رواه جمع من الصحابة
وما كان ليأمرهم بالتبليغ وليسوا أهلاً له من جهة الضبط أو العدالة
وقد قال الله تعالى : (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)
فوعد الله بالحسنى من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق بعده وقاتل وهذا يستوعب الصحابة جميعاً
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
وهذه تزكية لجميع الصحابة الذين قاتلوا أهل الردة
وقال مسلم في صحيحه 6558- [208-2532] حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ ، وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ ، قَالاَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، قَالَ : سَمِعَ عَمْرٌو جَابِرًا ، يُخْبِرُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ ، يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ.
فرتب الفضل على صحبة النبي صلى الله عليه وسلم فدل على عدالتهم وفضلهم جميعاً وأبو سعيد الخدري من الصحابة المجمع على أنهم صحابة ، وقد روى عنه هذا الحديث صحابي آخر جابر بن عبد الله تصديقاً له
قال البغوي في الجعديات 2232 : حدثنا علي ، أنا زهير ، عن الأسود بن قيس ، عن نبيح العنزي قال :
كنت عند أبي سعيد الخدري فذكر علي بن أبي طالب ومعاوية ، أحسبه قال : فنيل من معاوية - كذا قال علي - وكان مضطجعا فاستوى جالسا ، فقال : كنا ننزل أو نكون مع النبي صلى الله عليه وسلم رفاقا ، رفقة مع فلان ، ورفقة مع أبي بكر
فكنت في رفقة أبي بكر ، فنزلنا بأهل بيت أو بأهل أبيات ، فيهن امرأة حبلى ، ومعنا رجل من أهل البادية ، فقال لها البدوي : أيسرك أن تلدي غلاما أن تعطيني شاة ، فأعطته شاة ، فسجع لها أساجيع ، ثم عمد إلى الشاة فذبحها ، ثم طبخها
قال : فجلسنا ، أو فجلسوا فأكلوا فذكروا أمر الشاة ، فرأيت أبا بكر متبرزا مستنثلا يتقيأ - قال ابن منيع : لم أفهم عن علي هذا الكلام إلى قوله يتقيأ - قال : ثم إن عمر أتي بذلك الأعرابي يهجو الأنصار
فقال عمر : لولا أن له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفيتكموه ولكن له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا إسناد صحيح ، فأبو سعيد الخدري لما رأى الذين ينالون من معاوية حدثهم بأن عمر بن الخطاب أسقط العقوبة عن رجل نال من الأنصار لصحبته ، وأراد بذلك قياس معاوية عليه وهو أولى بذاك رضي الله عنه
واللطيف أن هذا الخبر يرويه علي بن الجعد الذي كان شيعياً وله وقيعة في معاوية
وقد قال تعالى ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم )
فرتب الفضل على المعية ، ومما يدل على صدقهم في أمر الرواية أنهم قد حصلت بين بعضهم الفتن بعد مقتل عثمان فما حصل من أحد منهم أنه اتهم الآخر في أمر روايته أو طعن في دينه في هذا الباب
فإن قيل : فكم هو عدد الصحابة الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وصدق عليهم اسم الصحبة ؟
فأقول : شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم 124 ألفاً كما ذكر أبو زرعة الرازي
فإن قيل : على هذا الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً وكم منهم روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
فيقال : رواة الحديث من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغوا الألف ! قد جمعهم ابن حزم في كتاب فكانوا 999 نفساً وقد احتسب الصحيح مع الضعيف وأكثر من 350نفساً منهم لم يروِ إلا حديثاً واحداً وكثير منهم لم يروِ إلا حديثين أو ثلاثة
فإن قيل : ما السبب في هذا مع كثرتهم على ما ذكرت آنفاً
فيقال : السبب في ذلك أن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره شديد وكان الصحابة الكبار يشكلون رقابة صارمة على أمر الرواية وكان الناس يتورعون عن التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم خوف الخطأ حتى وصل الأمر إلى القلة التي ذكرت لك وإليك بعض الأخبار التي تشرح طرفاً من هذا
قال الدارمي في مسنده 135 - أخبرنا أبو نعيم ثنا سفيان عن عطاء بن السائب قال سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول : لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار وما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود ان أخاه كفاه الحديث ولا يسأل عن فتيا إلا ود ان أخاه كفاه الفتيا
وقال ابن ماجه في سننه 26- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ ، قَالَ : سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ : جَالَسْتُ ابْنَ عُمَرَ سَنَةً ، فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ شَيْئًا
وقال أحمد في مسنده 19324 - حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: قُلْنَا لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: حَدِّثْنَا، قَالَ: «كَبُرْنَا وَنَسِينَا، وَالْحَدِيثُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدٌ»
فكان ينتدب للحديث أفراد من الصحابة كثير منهم حمله على الإكثار من الحديث أسباب سأذكرها ، من أهمها أنه كان المنتدب من بقية الصحابة لذلك
فإن سألت : هل يوجد في الصحابة مكثرون رووا الكثير من الأحاديث
قلت لك : معظم الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم تدور على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وعائشة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم جميعاً
والسبب في كثرة حديث هؤلاء هو طول العمر في كل من عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وجابر ( آخر الصحابة موتاً في المدينة ) ، وأنس ( آخر الصحابة موتاً في البصرة ) وأبي سعيد الخدري
فهم لما كانوا في زمن الصحابة الكبار كانت كثير من السنن ظاهرة متوارثة فالناس يعرفون كيف يصلون وكيف يحجون وكيف يزكون وكيف يقسمون الميراث وكيف يجاهدون وغيرها من الأمور وما ظهرت البدع ولا الإحداثات فلما أدرك هؤلاء الإحداث صاروا يحدثون بالسنن ولما جهلت الكثير من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت متواترة بين المسلمين في الصدر الأول صاروا يحدثون بها
فإن قيل : هلا ضربت أمثلة على أمور كان معلومة في زمن كبار الصحابة وجهلت في زمن بني أمية مثلاً
فيقال : هنا عدة أمثلة
أولها مواقيت الصلاة
قال البخاري في صحيحه 3221 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ أَمَا إِنَّ جِبْرِيلَ قَدْ نَزَلَ فَصَلَّى أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ اعْلَمْ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ قَالَ سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَمَّنِي فَصَلَّيْتُ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ يَحْسُبُ بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ
فعمر بن العزيز على جلاته لم يكن يعرف المواقيت الصحيحة للصلاة حتى حدثه عروة بسبب تغيير بني مروان بن الحكم في هذا الباب كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
المثال الثاني : التكبير في كل خفض ورفع
قال البخاري في صحيحه 788 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ أَحْمَقُ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ
فعكرمة الفقيه جهل هذه السنة بل ظن أن من يفعلها أحمق فأخبره ابن عباس بأن هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا ريب أنهم في الصدر الأول لم يكونوا يجهلون هذا أبداً
المثال الثالث : إطالة الجلوس بين السجدتين
قال البخاري في صحيحه 821 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا قَالَ ثَابِتٌ كَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لَمْ أَرَكُمْ تَصْنَعُونَهُ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ
وهذه السنة إلى اليوم يهجرها عامة المسلمين
فإن قيل : ماذا عن أبي هريرة ؟
فيقال هذا الصحابي كان باقعة في قوة الحفظ وليست كل الأحاديث التي يحدث بها عن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها منه بل كثير منها سمعه من صحابة آخرين وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يثبت الله حفظه فكان حفظه آية ولو تتبعت أحاديثه لوجدت معظمها قد ووفق عليه من صحابة آخرين ولا أدل على قوة الحفظ من هذا
وسيأتي في ذكر تراجم الحفاظ من كان عنده القدرة على حفظ مائة حديث ومائتين بالإسناد في يوم واحد فكيف بحفظ رجل لا يحتاج إلى إسناد وإنما يحكي ما يرى
فإن قيل : هل صحيح أن أحاديثه فاقت الخمسة آلاف أو الثلاثة آلاف
فيقال : هذه أسطورة مشهورة
والواقع أن الأحاديث الثابتة عن أبي هريرة لا تبلغ ربع هذا ، وعموم هذه الإحصائيات تعتمد المكرر
فقد نظرت في أحاديث أبي هريرة في كتاب اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخين فوجدتها ( 374)
وقد نظرت في الجمع بين لصحيحين للحميدي ( وقد ذكر الأحاديث التي اتفقوا عليها وما انفرد به كل واحد منهما ) فوجدت العدد مقارباً
ومعلومٌ أن أصحاب الصحيحين ما استقصوا كل أحاديث الراوي غير أن من أهل العلم من يرى أنهم استقصوا السلاسل المشهورة ، والأصول التي على شرطهما
قال ابن الصلاح في صيانة صحيح مسلم ص95 :" وإذا كان الحديث الذي تركاه _ يعني البخاري ومسلماً _ أو أحدهما _ مع صحة إسناده _ أصلاً في معناه ، عمدة في بابه ، ولم يخرجا له نظيراً ، فذلك لا يكون إلا لعلة فيه ، خفيت واطلعا عليها ، أو التارك له منهما ، أو لغفلة عرضت . والله أعلم "
قال النووي في شرح صحيح مسلم (1/18) :" لكنهما اذا كان الحديث الذي تركاه أو تركه أحدهما مع صحة اسناده في الظاهر أصلا في بابه ولم يخرجا له نظيرا ولا ما يقوم مقامه فالظاهر من حالها أنهما اطلعا فيه على علة ان كانا روياه ويحتمل أنهما تركاه نسيانا أو ايثارا لترك الاطالة أو رأيا أن غيره مما ذكراه يسد مسده أولغير ذلك والله أعلم"
قال ابن عبد البر في التمهيد (10/ 278) :" ولم يخرج البخاري ولا مسلم بن الحجاج منها حديثا واحدا وحسبك بذلك ضعفا لها"
وقال الحاكم في معرفة علوم الحديث ص59 : " إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط ، وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع ، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث . فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة ( رواة الحديث ثقات ) غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقير عن علته ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته "
ثم نظرت في الأحاديث الصحيحة خارج الصحيحين في كتاب الشيخ مقبل الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين فوجدت الأحاديث التي ذكرها الوادعي عن أبي هريرة فوجدتها ( 276) حديثاً فقط !
والوادعي جمع كتابه هذا من المسند لأحمد والسنن الأربعة ومسند البزار ومستدرك الحاكم وغيرها من المصادر الأصلية ، وهذا يدلك أن معظم أحاديثه الثابتة في الصحيحين
فيصير مجموع الأحاديث لأبي هريرة في الصحيحين والصحيح المسند (650) حديثاً فقط ، ويستحيل أن يوجد خارج هذه الكتب أكثر منها ، فضلاً عن ضعفها ، ومعنى هذا أن أحاديث أبي هريرة الصحيحة يستحيل أن تزيد على ألف حديث
قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 355) :" وَبِالْجُمْلَةِ ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا صَرِيحٌ صَحِيحٌ ، بَلْ فِيهَا عَدَمُهُمَا ، أَوْ عَدَمُ أَحَدِهِمَا ، وَكَيْفَ تَكُونُ صَحِيحَةً ، وَلَيْسَتْ مُخَرَّجَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّحِيحِ ، وَلَا الْمَسَانِيدِ ، وَلَا السُّنَنِ ، الْمَشْهُورَةِ "
فاستدل على ضعف هذه الأحاديث بخروجها عن الكتب المشهورة
قال ابن رجب في فتح الباري (4/366) :" فمن اتقى وأنصف علم أن حَدِيْث أنس الصحيح الثابت لا يدفع بمثل هذه المناكير والغرائب والشواذ الَّتِيْ لَمْ يرض بتخريجها أصْحَاب الصحاح ، ولا أهل السنن مَعَ تساهل بعضهم فيما يخرجه ، ولا أهل المسانيد المشهورة مَعَ تساهلهم فيما يخرجونه "
قال ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 151) :" فمتى رأيت حديثا خارجا عن دواوين الاسلام، كالموطأ ومسند أحمد والصحيحين وسنن أبى داود ونحوها، فانظر فيه، فإن كان كان له نظير من الصحاح والحسان قرب أمره، وإن ارتبت فيه ورأيته يباين الاصول فتأمل رجال إسناده وام تبر أحوالهم من كتابنا المسمى بالضعفاء والمتروكين، فإنك تعرف وجه القدح فيه"
قال البيهقي في مناقب الشافعي (2/ 321) :"فإنه ذكر فيما رويناه عنه توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذي لا يحفظون حديثهم ، ولا يحسنون قراءته من كتبهم ، ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة من أصل سماعهم .
ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقعت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث ولا يجوز أن يذهب شئ منها على جمعيهم ، وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها "
وهذا درس استباقي سيتم بسط الكلام عليه لاحقاً
فإن قيل : ما رأي بقية الصحابة بمرويات أبي هريرة
فيقال : أشد الصحابة نقداً هما عمر وعائشة ،فأما عمر فكان قد ولى أبا هريرة على البحرين والوالي يجب أن يكون فقيهاً حتى يتعلم منه الناس فهذا اعتراف ضمني بفقه أبي هريرة ، وقد كان يفتي في زمن عمر ويخبر عمر بذلك فيقول له ( لو أفتيت بغير هذا لأوجعتك ) فهو معدود في المفتين
وأما عائشة فلأبي هريرة معها قصة
قال الإمام البخاري (3375) وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة أنها قالت:ألا يعجبك أبوهريرة، جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعني ذلك، وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم.ورواه مسلم 2493
فأبو هريرة يذهب لحجرة عائشة ويجلس يحدث عندها ليرى هل تنكر عليه أم تقره وهذا أمر لا يقدم عليه إلا صادق فإن أم المؤمنين نقدها شديد وقد خطأت العديد من الرواة ، فما أنكرت عليه سوى سرده للحديث الكثير ولو كان يحدث بغير الصدق لكان إنكار مثل هذا أولى من إنكار السرد
وقال الترمذي في جامعه 3836 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْتَ كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْفَظَنَا لِحَدِيثِهِ» : «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ»
وعبد الله بن عمر من قدماء المهاجرين وشهادته هذه نفيسة ، وأبو هريرة لم يدخل في شيء من أمر الفتن
وأما أم المؤمنين عائشة فهذه تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي صغيرة السن والتعليم في الصغر كالنقش على الحجر وكانت أقدم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وأعرفهن بأحواله مع حباها الله به من الذكاء المفرط فقد كانت عالمة بالفرائض وتحفظ شعراً كثيراً وكل من يتتبع أخبارها يرى فصاحةً عجيبة وتراكيب رشيقة ومعبرة
وقد طال بها العمر غير أنها كان الوصول إليها صعباً لأنها محتجبة ولا يدخل عليها إلا رجل مزكى كالأسود بن يزيد الذي كان من العباد المعروفين في الكوفة ومن خاصة عبد الله بن مسعود فكان يستأذن فيدخل وتحدثه من وراء الحجاب ، غير أن رب العالمين قيض ابن أختها عروة بن الزبير وابن أخيها القاسم بن محمد اللذان كانا من علماء التابعين وحملا عنها علماً كثيراً بالإضافة إلى جماعة من النساء اللواتي سمعن منها وبعض مواليها
ولهذا عمر بن عبد العزيز لما خاف من دروس العلم طلب من الزهري أن يجمع حديث عروة وعمرة وهما تلميذان لعائشة لأنها كانت أعسر المكثرين حديثاً بسبب صعوبة الوصول إليها ولو أذنت لكل من يريد أن يدخل ويسأل بالدخول لما حظيت بالخصوصية ولصار الناس يدخلون عليها ليل نهار يسألونها عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم
وأما ابن أختها عبد الله بن الزبير الذي تكنت به ( أم عبد الله ) فلم يكثر الرواية عنها لظروف الملك ولكونه قتل والصحابة متوافرون وأما عروة فاحتاجه الناس لكونه طال به العمر
ولشدة تشوف الناس لحديث عائشة كان هشام بن عروة يروي عن أبيه عروة ( ابن أخت عائشة ) عن عائشة أحاديث لم يتخلف عالم في الكوفة أو المدينة من التتلمذ عليه طلباً لهذه الأحاديث
وبقية المكثرين لهم شأن أيضاً فأنس بن مالك كان خادماً ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم وجابر بن عبد الله في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سعى في قضاء دينه وعمل صلوات وسلامه عليه بيديه الشريفتين في بستان جابر لقضاء دينه
وعبد الله بن عباس هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وعامة الأحاديث التي يرويها لم يسمعها من النبي مباشرة وإنما سمعها من صحابة آخرين فقد عني بطلب العلم وظهر نبوغه حتى كان من خاصة عمر ولم يبلغ الثلاثين بعد
وهناك من الصحابة من هو متوسط الرواية ليس مكثراً ولا مقلاً كابن مسعود وسهل بن سعد وأبي ذر وأم سلمة وغيرهم
فإن قيل : فأين الخلفاء الراشدون وأين فاطمة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فيقال : أما الخلفاء الراشدون فقد تقدم أن من أسباب إكثار المكثرين طول عمرهم والراشدون عامتهم توفوا قبل الأربعين من الهجرة ، وكانت عامة السنن فاشية ومعروفة لقرب العهد بالنبي صلى الله عليه وسلم بل كثير من أحاديث المكثرين قد تكون عن الراشدين مع ورع الصحابة عن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير ضرورة حتى أن أحدهم تكون في رأسه الفكرة سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم فيتكلم بها تقريراً ولا ينسبها للنبي صلى الله عليه وسلم خشية أن يخل بالألفاظ لهذا تجد أن علياً وابن مسعود وعمر الآثار عنهم من كلامهم أكثر من حديثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وكثيرٌ من آثارهم تكتشف أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ثم إن الخلفاء الراشدين كان لهم فضل في بيان الأمور الضرورية والتي يحتاج إليها كل مسلم ، فقد فقه عمر من حديث جبريل في سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان وحديث الأعرابي الذي قال ( لا أزيد ) فقال النبي ( أفلح إن صدق ) أن هناك معانٍ من الضرورة بمكان لكل مسلم أن يتعلمها ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية حرصوا على بيان هذه المعاني
فأبو بكر الصديق له كتاب في توضيح أحكام الزكاة مخرج في الصحيحين ، وله وصايا في الجهاد معروفة
وعثمان وعلي كل منهما جلس يعلم الناس الوضوء في أحاديث معروفة
وقد كان ابن عمر يقول أن عثمان أعلمهم بأحكام الخلع
وعلي هو أقضى الصحابة
وعمر بن الخطاب أقضيته في النكاح والطلاق والمواريث والفيء والخمس والديات وأحكام أهل الذمة وغيرها هي المعتمدة عند عامة الفقهاء وقد حدث بحديث ( إنما الأعمال بالنيات ) وحديث جبريل المشهور ومعلوم أن كل مسلم يحتاج إلى هذين الحديثين وله أحاديث أخرى ولكن هنا إشارة لكونه لم يكن يحدث إلا بالهام الضروري ، وقد قال الزهري أن زيد بن ثابت إنما تعلم الفرائض ( المواريث ) من عمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت له كتاب في الفرائض ثابت عنه فيه تلخيص جيد لأحكامها الضرورية الهامة
وأما أمر المناسك فكلهم ضارب بسهمه في الباب
وأما الصلاة فلم يكونوا يحتاجون إلى توضيح كثير من أحكامها لأن يصلون بالناس وتطبيقاتهم الفعلية ظاهرة ، بخلاف أمر الطهارة الذي تكلف علي وعثمان تعليمه للناس لأنه في الغالب آنذاك يفعل في حال استتار عن غالب الناس
وهذا المعنى الذي ذكرته هنا من توضيح الراشدين لركائز الدين مقتبس من كلام ابن تيمية في منهاج السنة
والجدير بالذكر أن معاوية بن أبي سفيان الذي تناله الألسنة كثيراً والله المستعان كان سائراً على هذا فحدث بحديث ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) وحديث الطائفة المنصورة وحديث الافتراق وهذه الأحاديث على شهرتها يجعل كثيرون أن معاوية رواها ولا يخفى ما في هذه الأحاديث من فائدة ضرورية لكل مسلم
ولم يحتج هؤلاء لما احتاج إليه المكثرون من التحديث بأحكام كانت عند عامة المسلمين في زمن القرب من الرسالة معلومة ظاهرة منتشرة
والذي حرص عليه الراشدون من عدم إشغال الناس بغير الضروري هو ما يقع فيه كثير من المسلمين اليوم من البحث في أمور الفتن وتفاصيل الغزوات وهو لا يحسن أداء الفرائض بشكل جيد
وأما فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم فهي توفيت بعده بقليل ، وكانت في عامة حياتها في بيت زوجها علي ولا يبلغها من العلم إلا ما يبلغه هو
فإن قيل : ما هي العوامل التي ساهمت في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحفظ الإلهي المعجز ؟
فيقال : هناك عدة عوامل في طبيعة الأخبار وطبيعة حامليها تجعل النفس تطمئن إلى أن السنة نقلت على أكمل وجه
الأول : أن العرب في طبيعتهم آنذاك كانوا أقوياء الحفظ ولهذا كانوا يحفظون القصائد الطويلة من أول مرة يسمعونها كالمعلقات التي فشت فيهم مع قلة القراء والكتاب فيهم في ذلك الوقت ، وهذا أمر موجود في أهل القرى إلى يومنا هذا
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيد الكلام ثلاثاً وكان يترسل في كلامه لكي يفهم كما نصت عليه عائشة
الثالث : أنه كان رجلاً بليغاً وكان يختصر الكلام بعبارات جامعة وأحاديثه الطوال نادرة جمعها الطبراني في مصنف مستقل لا يبلغ المجلد
الرابع : أن كثيراً من الأحاديث قد ارتبطت بواقع عملي كالأحاديث المتصلة بالعبادات والمعاملات فكان يقولها ويطبقها ويطبقها معه الصحابة وهذا أرسخ للحفظ
الخامس : أنه كان يقول أكثر أخباره في محفل من الناس
السادس : أن الصحابة كانوا يتراجعون في بعض الأخبار فدل سكوتهم على عامة الأخبار أنها معروفة عندهم فقد أنكرت عائشة على ابن عمر قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب وخطأته في ذلك وهما متفقان على اعتماره ولكن اختلفا في الشهر ، وأنكرت أمهات المؤمنين على أبي هريرة تحديثه بحديث منسوخ في الجنب يصبح صائماً فالحديث كان صحيحاً ولكنه كان منسوخاً فحصل الإنكار ، بل كره سلمان لحذيفة التحديث ببعض أحاديث الفتن لكون العقول لا تبلغها
السابع : أن السنة كان شيء كثير منها مدون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومن ادعى أن السنة لم تدون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقط غلط
قال أحمد في مسنده 6510 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ الْأَخْنَسِ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ: " اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا حَقٌّ "
فهذا واضح أن عبد الله بن عمرو كان يكتب
وقال البخاري في صحيحه 113 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنْ أَخِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
وقال البخاري في صحيحه 2434 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُفْدَى وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَقَامَ أَبُو شَاهٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ مَا قَوْلُهُ اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هَذِهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا حديث متأخر في فتح مكة
وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عند أبي بن محمد بن عمرو بن حزم مشهور معروف عند المحدثين
وله صلوات وسلامه عليه كتب عديدة للأمصار
وأما الحديث الذي في صحيح مسلم 7620- [72-3004] حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي ، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ ، وَحَدِّثُوا عَنِّي ، وَلاَ حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ ، قَالَ هَمَّامٌ : أَحْسِبُهُ قَالَ ، مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.
فهذا الحديث أعله البخاري بالوقف على أبي سعيد بمعنى أنه حقق أن هذا الحديث إنما كلام أبي سعيد الخدري لا النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كان يفعله بعض السلف ينهى عن الكتابة لتدريب الطلبة على الحفظ وعدم الاتكال عليها
ومن صححه من أهل العلم رأى الأحاديث الأخرى وهي أصح في الإذن ناسخة له خصوصاً مع كون حديث أبي شاة في حجة الوداع ، وخصوصاً مع كون عبد الله بن عمرو كان يحتفظ بصحيفته عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال أحمد في مسنده 6851 - حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيِّ، عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَلْقَى بَيْنَ يَدَيَّ صَحِيفَةً، فَقَالَ: هَذَا مَا كَتَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرْتُ فِيهَا، فَإِذَا فِيهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي مَا أَقُولُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ "
وهذا خبر ثابت ، وهو يفسر كثرة أخبار عبد الله بن عمرو
وهذه هي الحلقة الأولى من قصة الإسناد ولم ندخل في صلب القصة بعد ، وأود أن أعرف رأي الأخوة لكي أستمر أو لا أستمر
Bookmarks