بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

فقد نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ان تلميذه ابن القيم رحمه الله تركه بعد العشاء يقرأ في سورة الفاتحة ثم عاد عند الفجر أو قبله فرأى شيخه في ذات المجلس وهو لا يزال يتدبر الفاتحة ويبكي...
قد يقال ان في هذا الكلام مبالغة... وان هذه الرواية من صنيع المسلمين ترويجا لادعائهم ان القرآن فيه اعجاز لغوي... وما كتبنا هذه الكلمة إلا لتبيان بعض مواطن الاعجاز في هذه السورة… ومن ذاق عرف, ومن انكر اعترف... بعد قراءة هذا الكلام… فالقرآن جنة بثمار لا مقطوعة ولا ممنوعة...

ومن اجمل علوم القرآن هو علم المناسبة... وهناك انواع كثيرة منه متى سلم من التكلف بان وجها من الاعجاز يأخذ باللب ويجعلك مرافقا للقرآن لا تملك ان تهجره ان شاء الله... وللاختصار والتبسيط اقول ان كل آية بل كل جزء من آية يرتبط بما قبله وما بعده بقالب لا يمكن تفكيكه ولا الاتيان بمثله مع ان القرآن قد عودنا على الانتقال السريع من التشريع إلى القصص إلى العقيدة وغير ذلك... تالله ما أحلى هذا الانتقال الذي لا يخدش في السياق لمن تأمل...
وكمثال بسيط, قوله تعالى في سورة البقرة: (ولهم فيها ازواج مطهرة وهم فيها خالدون) ثم الآية (ان الله لا يستحيي ان يضرب مثلا ما بعوضة...) فالذي يقرأ مسرعا لا يلحظ جمال الربط بل يظن انه انتقال جاف وحاشا لكتاب الله ان يكون كذلك... ليلحظ المتدبر ردا على شبهة ذكر الكتاب لحور الجنان وكيف يكون في القرآن مثل هذا الكلام فيجد الجواب في ان الله -اللطيف الخبير يعلم ما يحبه عباده وهو أدرى بحالهم- لا يستحيي ان يضرب مثلا ما بعوضة فيعلم الذين آمنوا انه الحق من ربهم ويضل الذين فسقوا كما نرى المبطلين الذين يحملون هذه الشبهة ويدورون … وغير ذلك الكثير …

وسأتحدث عن جانب من هذا العلم في سورة الفاتحة... أبدأ بآية "اياك نعبد وإياك نستعين" وذلك مقتبسا من ابن القيم رحمه الله ولا أريد ان اخوض في الدرر التي في الآية فهي تحوي معان كثيرة رغم قلة الالفاظ ففيها رد على القدرية والجبرية... وفيها دواء للرياء والكبر... وغير ذلك! كل ذلك في هذه الآية فقط... سأتناول فقط تناسبها مع ما قبلها وما بعدها... في 4 اوجه فقط اذكرها وهناك المزيد... ثم انتقل إلى ما فتح الله به علي في تبيان تناسب آية "الرحمن الرحيم " مع ما قبلها وما بعدها... لا جرأة على كتاب الله فالمسألة تحتاج إلى تدبر لا تفسير بالمعنى الدقيق... ولا ادعاء للعلم امام القمم لكن الفقير يفرح بدرهم تصدق به لضيق حاله ويعتبره كنزا لا مجرد درهم...

فلماذا قدم الله تبارك وتعالى لفظ اياك نعبد على لفظ اياك نستعين؟
1- الاصل هو عبادة الله تبارك وتعالى وانت انما تدعو الله وتستعين به كي يرزقك عبادته... فانت تسأل الله "اللهم اعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" فتقدم الاصل على السبب الموصل اليه...
2- اياك نعبد تكون من العبد إلى الله فهي حق الله جل اسمه... واياك نستعين تكون من الله إلى العبد فهي حق العبد... وحق الله أولى بالتقديم
3- الاولى فيها اشارة إلى توحيد الألوهية والثانية إلى توحيد الربوبية ما يناسب مطلع السورة "الحمد لله رب العالمين"
43- وانت تستفتح الصلاة بحمد الله تبارك وتعالى في ألوهيته وربوبيته وانه الرحمن الرحيم ومالك يوم الدين لتجد نفسك تقول بشكل سهل لين "اياك نعبد" فبعد تبيان هذه الصفات تعلم انه لا معبود بحق إلا الله تبارك وتعالى... ثم تقول "اياك تستعين" ليناسب ذلك خاتمة السورة فانت تستعين به على ان يهديك الصراط المستقيم, صراط الذين انعم الله عليهم دون المغضوب عليهم ولا الضالين

أما تقديم لفظ الرحمن على لفظ الرحيم...
فالرحمن صفة ذاتية لله تعالى وهي على وزن "فعلان " أي الممتلئ رحمة كعطشان الممتلئ عطشا فيكون لفظ الرحمن كما قال العلماء اشمل واعم من لفظ الرحيم الذي يدل على ان الله يرحم عباده… وشمولية لفظ الرحمن تضم رحمة الله للمؤمن والكافر بل وكل المخلوقات... والكافر انما يرحمه الله بأن رزقه الطعام والشراب والمال والصحة وغير ذلك... والرحيم تدل على اختصاص رحمة الله بـعباده الصالحين دون غيرهم... لذلك لن تعجب ان يأتي لفظ "الرحمن " بعد "رب العالمين"... وكل ما سوى الله من العالمين... فربهم الذي رباهم الحي القيوم… الذي بيده ملكوت كل شيء هو الرحمن… وتذكر شمول هذا الاسم لعامة الخلق... أما لفظ "الرحيم" فقد جاء قبل ذكر يوم القيامة "مالك يوم الدين" وهنا اشد ما يكون فيه الصالحون بحاجة إلى رحمة الله تعالى... والله لا يغفر ان يشرك به… فهنا رحمة خاصة... بل لن يدخل الجنة في الآخرة أحد بعدل الله تعالى بل برحمته التي لن تنال غير المؤمنين لذلك فنحن باحوج ما نكون اليها في ذلك اليوم...

المسألة ليست مسألة "سجع" كما يدعي الجاهلون... ولا شك ان تشابه رؤوس الآي -ولا اقول سجعا- من روعة القرآن… تالله كيف لبشر ان يأتي بمثله! جمال في المعنى والمبنى!

ومن كان عنده المزيد في كلتا الآيتين فلا يبخل بارك الله فيكم اجمعين