لم يقف النص القراني مطوّلاً عند دعاوى منكري الخالق بينما فصّل و بين و توسّع في مجادلة ناكري النبوّة و البعث تبعاً، و فيما يتعلق بهذه القضية المركزية نفهم امور و نبسط امور والله الهادي :
1/ إنّ الذي يقرأ القرآن باحثاً عن الوهيته عادةً ما يكون قد تجاوز مرحلة اثبات الصّانع، و إنّما يتوقف عنده ليرى صدق نِسبته للخالق( مصدريّته) اي هو مؤمن بالخالق عقلاً و فطرةً و هؤلاء هم الكَثرَةُ الكاثِرة على مرّ العُصور مقارنةً بالملاحدة ، فالتاريخ شاهدٌ على أنّ العَالم لم يَشهد عصراً راجتْ فيه بضاعةُ الملاحدة، بل هم و لا زالوا شراذمَ مُتشَضيّة و أشتات من أنفار منبوذين و مُتهمين في عقولهم و نيّاتهم ابتداءاً من بروتاغوراس و سفسطاته الى ريتشارد دونكي و مخلوقاته الفضائية..
2 _ قضيّة اثبات الرّسالة او النبوّة أعسر أو أوْعرُ مَسلكا من اثبات الخالق و يَحتاج لجمعٍ اكبر للبراهين و المعجزات النبوية و لَمّ القرائن و رصّها وتعضيدها.. فالتفت اليها النصّ القرآني بإسهاب و عَالج إشكالات مُنكريها و المشككين بها بما يقطع دابرهم، سواءاً عقليّا او فلسفيّا.
3\ يَستطيع الإنسان الوصول للخالق الواحد الأحد بمَحض عقلهِ بإعماله بما في السّموات و الارض من نظامٍ و خلائقَ و دلائل جليّة بَيّنةٍ لكلّ عقلٍ نَقيٍ سليمٍ من الاهواء النَفسيّة و النّوازع الذاتيّة و البواعث الشهوانية الماورائية ،بينما العقل وحده لا يقطع قطعاً بضرورة حتمية البَعث، مع ذكر أن العقل المؤمنَ لو أمعن إمعاناً عقلياً و فلسفياً عميقاً لوصل الى ضرورة احتياج عالمنا بوضعهِ الحالي ليومٍ يُقتَصُ فيه من الظالم و المُسيئ و يُكافئ المُحسن و يُنتصر فيها للمظلوم و هذا أوجه و أقدس و الألْيق للذات العَليّة و مِن تمام العدل الالهي، غير أن هذا لا يتسَنى التيقُّنُ منه في حالة التجرّد من الوَحي إلا لبعض النفوس العارفة المُلهمة و التي بنفسها لا تستطيع أن تقيم حُجيّة مَعرفتها الحدسية بوجهٍ مُعتبرٍ مِن القَطع العقلي، في ذلك يقول سُقراط الذي تشعر في بعض مقولاته انفاساً نبوية(واقول لكم إنّ هذا هو ما وجّهني الله اليه بطريق الكِهانة و الرؤى و بكلّ الطّرق الاخرى التي يستعملها الإله ليُحدد للرجل رسالةً يؤديها).
4 _ لم يُنازع احدٌ من الخلائق على مقام الالوهة على مر التاريخ و لم يزعم احد أنه مسيّرٌ للعالم، (و ما قام به فرعون و امثاله ساقطٌ لا يُعتَدُ به في انفسهم هم قبل ان يكون ظاهر الفساد عند الناس اجمعين)، بينما ظهر كمٌّ كبيرٌ من دعاة النبوة و بأنهم رسلٌ و مبعوثون من السماء، فكان لا بدّ من كشف زيوف الكَذبة و الدجّالين و بيان و تثبيت و ترسيخ علامات النبي الصادق عن المتنبئ الكاذب.
5\ صفات الربّ تعالى لا سبيل اليها بالتّمام و بالوجه الذي يُرضيه هو بمحض العقل، فبالنظر و التفكرّ الصحيحين يمكنك انتزاع صفاتٍ معينةٍ من الحوادث او الشواهد الدنيوية، كالعِلم و القدرة و القيام بالذّات و الوحدانية، لكن لا يمكنك التعمّق اكثر إلا إذا بدأت بتقديم الفروض و الظنون ،و قد نقل علاء الدين الطوسي عن فلاسفة زمانه قولهم الصريح في ذلك : ( لا سبيل في الالهيات الى يقين، بل الغاية القصوى الأخذ بالأولى و الأليق)، و حتى الأليق هذا محل نزاع بينهم.
6 \مسألة التّحسين و التّقبيح الأخْلاقي الإنساني إنما ينبني أو لِنقل ينبني الإلتزام به على الإيمان بالنصّ المقدّس المُرسل به النبيّ، فلا يستطيع الربوبيون أن يَحدّوا حدود قِيَمهم الأخلاقية في اطار يتفقون عليه مهما جهدوا و إن فعلوا جزءاً مِن ذلك في زمنٍ أو عصرٍ ما اتى الذين من بعدهم لينقضوا ذلك لتفاوت الناس في أحكامهم الخُلقية و العرفيّة، و هذا ليس مقصوراً على بعض السلوكيّات الشكليّة كاللّباس او الضّيافة او المسامحة او الكرم و البُخل بل يتعدى ذلك الى قضايا اكبر و افخم كالسّرقة و السّطو و الاغتصاب و حتى القتل..
7\يذكرُ القرآن الكريم الأيمان بالله تعالى مقروناً بالايمان باليوم الآخر في عشرات الآيات تبياناً منه تعالى الى عدم إجزاء الإقرار بإلوهته تعالى مع نكران البعث، و إشارة منه جلّ وعلا إلى أن الإيمان بالله دون اليوم الآخر لا يصنع فرقاً فعليّاً و لا يمنحُ أملاً حقيقياً، فإذا تعادلت مصائر الفُسّاق و المُصلحين، و اصبح الجلّاد و الضحيّة في الصّف نفسه و ربما تعاكست المنازل سنوناً فهذا باعثٌ كافٍ لتحط التعاسة بظلالها و يتداعى انقطاع الامل من كل جانب لتضحي الحياة من النوع (السارتري): تعاسةٌ و شقاوةٌ و غثيان.
8\ الإيمان بالنبوّة و ما يَلزم منه هو الاختبار الحقيقي للناس و فيه تظهر أحَقيّة العبد لنيل شرف العبودية لله تعالى و عند اسواره تنصهر خبائث النَفس و تتكسر قيود العَتَه و الكِبر ، فَمَن كانت غايته اهواءه و إدراك لذّاته فسيحاول التّملص من الإيمان حتماً لأنه يَحدّه و يقيده، او ربّما يؤسس لإيمان فلكلوري و الربوبية اختيار مناسب لمثل هؤلاء، فهو من جهة يعتبر نفسهُ مؤمناً و في نفس الوقت حرّاً بلا قيود، و هذا أمرٌ رائع.. إلا انه وَهْمٌ مُعَششٌ في عقل صاحبه وحسب.
Bookmarks