النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الفرويدية، لا منهجية التأويل وإشكالية رموز الليبيدو

  1. #1

    افتراضي الفرويدية، لا منهجية التأويل وإشكالية رموز الليبيدو


    سيكولوجيا اللاشعور (أو العقل الباطن) والنظرية الجنسانية في الفرويدية تمثلان المعيار والأساس الذي في ضوئه تُفسَّر جميع الإضطرابات النفسية ثم عُمِّمَ ليكون المرجع في تفسير وتوجيه السلوك البشري عموما سويهم وسقيمهم. ومنطلق النظرية قائم على أساس أسطورة عقدة أوديب في الميثولوجيا الإغريقية ، وتقوم العقدة كما يراها فرويد على الميل الجنسي للإبن تجاه الأم مما يولد لديه رغبة وميل لقتل الأب..ثم افترض فرويد أن عقدة أوديب عامة وشاملة واستنتج من ذلك أن الميل الأساسي في الإنسان هو الغريزة الجنسية التي يؤدي كبتها إلى المرض النفسي أو العصاب..وأعراض العصاب حسب التصور الفرويدي تكمن في اللاشعور ، في الزلات اللاشعورية القولية أو الفعلية أو من خلال رموز الأحلام أو في التجارب والمعطيات التي يرويها المريض لاشعوريا ، ثم يأتي دور التأويل الفرويدي لتلك المعطيات والرموز وهو تأويل يستند إلى عامل وحيد هو الدافع الجنسي وعقدة اللبيدو الطفولي.
    ولم يقف مفهوم الدافع الجنسي عند حدود تفسير العصاب والمرض النفسي وإنما انتقل ليشمل كل مجالات الإبداع الإنساني معتمدا في ذلك فرويد على تقنية الإعلاء أو الإسماء sublimation ، فالإبداع الإنساني في نظر فرويد هو تعبير متسامي للصراع المتأصل في الوضع الأوديبي ، والطاقة الجنسية هي ذات ميول مطاطية وتشكيلية إذ يمكن لها أن تنحرف في اتجاهات مختلفة كأن تجد إشباعها في مناح بعيدة عن الحسية والمنطقة التناسلية ، كالإخلاص للآخرين أو اللذة العقلية عند العلماء وبناء على نظريته في الإسماء الجنسي فسر الفن على أنه رغبة جنسية متسامية -مع اعترافه بجهله في ميدان الفن- وكذلك الدين الأدب والعلم كلها مظاهر للبيدو المتوسع. الشيء الذي آثار حفيظة الأخلاقيين و الإنسانيين حيث رفضوا رد الإبداع والثقافة الإنسانية إلى ما هو دونها وهي الغريزة الجنسية.

    موقف الأنثربولوجيا الحديثة والميثولوجيا
    زعم فرويد أن عقدة أوديب ونظريته في الدافع الجنسي هي عامة وشاملة وكان يعتقد أن استنتاجاته ستكون ذات أهمية بالغة إذا ثبت عمليا إنطباقها على جميع الأحوال ، الأمر الذي نقضته وفنَّدته الدرسات الميدانية في الأنثربولوجيا الحديثة ، فمالينوفسكي والذي يعتبر مؤسس المدرسة الوظيفية في الأنثربولوجيا الإجتماعية كان قد درس نظرية فرويد عن المحرمات الجنسية في إطار المادة الحقلية التي كان قد جمعها عن المجتمعات البدائية في جزر التروبرياند وانتقد مالينوفسكي تفسير فرويد لعقدة أوديب لعدم العثور على ما يدعم ذاك التفسير في تروبرياند وقدم بدلا عنه تفسيرا وظيفيا قوض به دعائم التفسير الفرويدي ..وفي دراسة مماثلة قامت بها الأنثربولوجية الأمريكية مارجريت ميد على ثلاث قبائل بدائية في غينيا الجديدة وهم قبائل تشامبولي ، موندو غومور وقبيلة أرابيش أثبتت نتائجها أن الحاجة الجنسية تختلف منزلة وأهمية لا لدى القبيلة الواحدة بل ولدى الجنس الواحد ، لتحكم بذلك الدراسات الميدانية على بقاء الفرويدية في إطار الأسطورة.
    وقولنا في إطار الأسطورة لا يعني أنها مدعومة ميثولوجيًا ، فهذا ما يرفضه الكثير من العلماء وعلى رأسهم رمز الفرويدية الجديدة أريك فروم وغيرهم ممن يعتقد أن فرويد انتقائي في مجال الأساطير أي أنه ينتقي الرواية التي تتماشى والفكرة المسبقة التي لديه ثم يحاول تطويع الأسطورة لتتطابق بشكل تام مع استنتاجه الموضوع سلفا..يقول فروم في كتابه اللغة المنسية: « تعتبر أسطورة اوديب مثلا صارخا على الطريقة الفرويدية في تفسير الأساطير كما تعتبر في الوقت نفسه مناسبة فريدة نغتنمها لطرح فهم مختلف لا يعتبر أن الرغبة الجنسية هي المحور الرئيسي الذي تدور حوله الأسطورة..بل يرى أن أحد الجوانب الأساسية للعلاقات بين الناس –أي الموقف من السلطة- هو محورها الرئيسي.»(1) ويستدل على ذلك بغياب أية إشارة تنم على أن أوديب قد مال الى جوكاست (أمه) أو أحبها كما زعم فرويد..ويقول عالم الأعصاب الأمريكي برسيفال بيلي في كتابه الماتع سيجموند القلق : « يجب القول أولا أن فرويد قد اختار رواية الأسطورة التي تناسب مشاهداته. يزعم هوميروس ان اوديب بعد أن شنقت زوجته (أمه) نفسها وأنجب أربعة أطفال وكانت زوجته الأولى (أمه) قد شنقت نفسها لأن ولديها قتلا في معركة. هناك أيضا روايات أخرى. رواية سو فوكليس..لا تسمح باستنتاج أن علم الأساطير يدعم نظرية فرويد...وهكذا كون فكرته عن الطبيعة البشرية عن طريق اعتبارات متنازع فيها.»(2)

    موقف المنطق والإبستيمولوجيا
    لم تقم الفرويدية على المنهج العلمي وإنما قامت كما أوضحنا على منهج الإعتقاد في الفكرة ثم تطويع الأدلة (الأسطورية) ثم تأويل النتائج لإثباتها وهو منهج جلب لفرويد نقد حاد من قبل الإبستيمولوجيين أبرزهم أرنست ناجل وكارل بوبر..ويمكن تلخيص الإنتقادات المنهجية في نقطتين رئيسيتين الأولى تتركز حول اللامنهجية في تحصيل المعلومات الكامنة في اللاشعور والثانية في تأويل تلك المعلومات كنتائج بطريقة لا تستجيب لمبدأ قابلية التكذيب.
    نبدأ بالنقطة الأولى والمتعلقة بالشك في وثوقية المعلومات المتأتية من اللاشعور ، فالطريقة غير حيادية وهو أن فرويد كان يفرض أفكاره على المرضى ليصل بهم إلى النتيجة التي يريدها هو ، وهو ما يقلل من القيمة الثبوتية لعموم نظرياته وهذا باعتراف فرويد نفسه إذ يقول في تحليله لحالة صبي عمره خمس سنوات يعاني من حالة رهاب: « حقيقة أنه خلال التحليل توجب أن نقول لهانز كثيرا من الأشياء التي لم يكن يستطيع التعبير عنها بنفسه وأنه لزم أن نقدم له أفكارا كان من الواضح أنها لم تكن تساوره أبدا.»(3)
    ثم حتى وإن لم يفرض فرويد أفكاره على المرضى فإن القيمة العلمية سيظل مشكوك فيها فنظريته تعتمد على روايات غالبا لا يمكن التحقق منها فهي إما روايات عن حوادث ماضية ربما لم تحصل أبدا وإما أحلام يستحيل التحقق منها (باستثاء الأحلام الممكن وقوعها مسقبلا وهذا النوع يرفضه فرويد لأنه يثبت حقيقة الإله..القدر وعالم الغيب) فضلا عن كونها روايات مرضى نفسييين وعلم النفس يقرر أنه كلما كان الإنسان أكثر مرضا كلما قلت مصداقية أقواله ، وهذا مطابق للشهادة التي قدمها ارنست جونز تلميذ فرويد المخلص وكاتب سيرته الذاتية إذ يقول: « عند مريض كان فرويد يعالجه قبل الحرب وكنت أعرف قصة حياته تماما نجد سلسلة كاملة من الإقرارات التي كان يتصورها وكنت أعلم مؤكدا أنها باطلة.(4)
    أما عن عدم استجابة النتائج لمبدأ قابلية التكذيب يقول جيروم فرانك: لا يمكن التحقق من صلاحية فرضيات التحليل النفسي ثم تحديد مدى صدقها لأن النظرية التحليلية ستفسر نتائج التجارب مهما كانت.»(5)
    ويقول جوزيف جاسترو مبديا موقف المناطقة يعقبه تعاطفه الشخصي مع التحليل النفسي: « الرقابة المنطقية الصارمة تبعد التحليل النفسي من دائرة العلوم وهو الجانب الذي لزمه "دنلاب" Dunlap وقد أصدر حكمه في غير تحفظ....ولا أستطيع قبول الحكم الذي يعتبر مطالبة الفرويدية للإعتراف بها كعلم طلبا يمكن تجاهله..فإني أؤمن بانه من الأفضل أن نهذب المنطق ونلطف من قسوته ليتلائم مع أنواع النقص في علم النفس..والواقع أن سفسطة الفرويدية متشعبة وأن عدوانها على الذوق السليم والمنطق السديد متعدد وفاضح ولكن النية العلمية لم تفارقها.»(6)
    وموقف الإبستيمولوجيين والمناطقة يرجع بالأساس إلى كون سيكولوجيا اللاشعور تقوم على مبدأ التأويل ، والتأويل يفترض أن المعطيات المتأتية من اللاشعور أو الأحلام او الزلات هي رموز تخفي وراءها معاني ودلالات وبدل أن يقتصر المحلل على تحديد العلاقة السببية بين الظواهر كما هو معتمد في المنهج العلمي فإنه يؤول المعطيات بحسب ما يعتقده المحلل ، فإذا كان المحلل فرويديا فإنه يميل إلى تأويل الاعراض والأحلام تأويلا جنسيا ، وإن كان المحلل أدلريا فإن جميع المعطيات تؤول على أنها تعويض عن القصور الذي يعانيه الشخص ، إذ بإمكان اثنا عشر محللا نفسانيا يصغون لنفس المادة العلمية تقديم اثنا عشر تفسيرا مختلفا لمدلولها اللاشعوري ، وبالتالي فإن تقنية التأويل والتي بدونها تنهار سيكولوجيا اللاشعور لا تؤدي إلى نتائج مجمع عليها بل قد تكون النتائج متناقضة في حين أن موضوعية العلم لا بد أن تحقق الإجماع فهي تأويلات خاضعة لقناعات ذاتية لا لملاحظات علمية..يقول كارل بوبر: أستطيع ان أصور هذا بمثالين مختلفين من السلوك الإنساني مثال إنسان يدفع طفل إلى الماء بنية إغراقه..ومثال إنسان يضحي بنفسه من أجل إنقاذه..كل واحد من المثالين يستطيع أن يفسر بسهولة متساوية بمصطلحات فرويدية وأدلرية..فتبعا لفرويد يعاني الرجل الأول من الكبت (بعض بقايا عقدة اوديب) في حين أن الثاني يقوم بتحقيق تسامي (sublimation).. وتبعا لأدلر الرجل الأول يعاني من عقدة الإحساس بالنقص (تولد لدية الرغبة للبرهنة لنفسه امتلاك الشجاعة على إقتراف جريمة) وكذلك الأمر بالنسبة للثاني الذي يثبت لنفسه امتلاك الشجاعة لإنقاذه.(7) ليخلص في النهاية بوبر إلى إخراج نظرية التحليل النفسي من دائرة النظريات العلمية إذ يقول: « لقد أحسست طيلة خريف 1919 ببداية إحساسي بعدم الرضا بهذه النظريات الثلاث: النظرية الماركسية في التاريخ..نظرية التحليل النفسي الفرويدي..ونظرية علم النفس الفردي لأدلر..وبدأت أشك في ادعاءاتها للصفة العلمية.(8)
    من التناقضات المنهجية كذلك أن فرويد وفي تفسيراته للسيرورات النفسية يعيد الفوضى إلى النظام واللاسوي إلى السوي فالرموز التي قد تبدو ظاهريا فوضوية هي دالة في جوهرها على إرادة تحقيق رغبة مكبوتة ، أي أن فرويد قد أعاد هنا الفوضى إلى النظام ولكن في الإسماء او الإعلاء اللبيدي sublimation يجري العكس تماما ، فهو يعيد النظام إلى الفوضى والسوي إلى اللاسوي فقد صار يفسر الأعمال الفنية والبطولية للمشاهير على أنها شكل من اشكال الإضطرابات النفسية ، يقول كولن ولسن: « هذا التعامي الغريب من قبل فرويد أدى به إلى القيام بدراسات تحليلية سخيفة لعدد من العباقرة مثل ليوناردو ودوستويفسكي. وكان في كل هذه الدراسات مدفوعا بفكرة تحدي عظمة هؤلاء الرجال وتحطيم أمجادهم ومعاملتهم كمجرد أناس عاديين..وقد كان هذا انتصارا للتجريد على المنطق السليم.»(9)
    من الإخلالات أيضا أن اللاشعور لا يملك معيارا للواقع بحيث يتعذر التمييز بين الحقيقة والخيال وهذا باعتراف فرويد نفسه ، بحيث يقول في إحدى رسائله أن لا قدرة للعقل اللاشعوري على التمييز بين الحقيقة والخيال ، وبالتالي يسقط في خلل منهجي إذ قد يبني المحلل النفسي نتائجه على ما يظن أنها حقيقة في حين أن نتائجة مبنية على وهم وخيال. فضلا كون الحلم الواحد لو عرض على عدد من المحللين النفسيين لحصلنا على تفسيرات مختلفة ومتباينة وبالتالي لا توجد وسيلة للتأكد من أن تفسير فرويد هو التفسير الصحيح.
    من التناقضات أيضا أن فرويد يرفض تفسير رموز اللاشعور من زلل وأحلام وحركات عفوية إلخ بالصدفة ويعتبره تفسيرا جاهلا غير علمي في حين يرى أن الأحلام التي تتحقق لأصحابها في الواقع هو من قبيل الصدفة!..مع أن الحالة الأخيرة تستجيب لمبدأ قابلية التكذيب أكثر من الحالات التي يؤيدها فرويد. وماذا لو كان الحلم يتكرر عديد المرات ولسنوات طويلة كالحادثة التي يرويها الدكتور جفري لانج في كتابه الصراع من أجل الإيمان..يقول : « لقد كانت غرفة صغيرة ، ليس فيها أثاث ما عدا سجادة حمراء ، ولم يكن ثمة زينة على جدرانها الرمادية ، وكانت هناك نافذة صغيرة يتسلّل منها النور … كنا جميعاً في صفوف ، وأنا في الصف الثالث ، لم أكن أعرف أحداً منهم ، كنا ننحني على نحو منتظم فتلامس جباهنا الأرض ، وكان الجو هادئاً ، وخيم السكون على المكان ، نظرت إلى الأمام فإذا شخص يؤمّنا واقفاً تحت النافذة ، كان يرتدي عباءة بيضاء … استيقظت من نومي ! رأيت هذا الحلم عدة مرات خلال الأعوام العشرة الماضية »..ثم بعد إسلامه يقول « بعد يومين تعلمت أول صلاة جمعة ، كنا في الركعة الثانية ، والإمام يتلو القرآن ، ونحن خلفه مصطفون ، الكتف على الكتف ، كنا نتحرك وكأننا جسد واحد ، كنت أنا في الصف الثالث ، وجباهنا ملامسة للسجادة الحمراء ، وكان الجو هادئاً والسكون مخيماً على المكان !! والإمام تحت النافذة التي يتسلل منها النور يرتدي عباءة بيضاء ! صرخت في نفسي : إنه الحلم ! إنه الحلم ذاته … تساءلت : هل أنا الآن في حلم حقاً ؟! »
    بالطبع تفسير فرويد لهكذا حوادث لا يمكن أن يقنع لا صاحب الحلم ولا من قصَّ عليهم لانج حلمه قبل وقوعه ثم عاينوا وقوعه ، فالجزئيات المحيطة بالأحداث تنسف أي احتمال للقول بالصدفة خصوصا لما يتكرر الحلم لعشر سنوات بنفس الجزئيات ثم يتحقق بجزئياته تلك.
    ولكن قد يعترض من يستدل على علمية النظرية بشفاء بعض المرضى فهنا نقول أن الشفاء بناء على بعض تقنيات التحليل النفسي لا يثبت علميتها بقدر ما يثبت أهميتها في العلاج فهي في أرقى الحالات أداة لتسليط الضوء على جزء بسيط في النفس البشرية ولكن رغم ذلك لا يمكن الإدعاء أنها فرضية علمية ، .ولو كان الأمر كذلك لكانت غرفة الإعتراف في الكنيسة نظرية أولى بالعلمية فما فعله فرويد هو أنه استغل ما أحدثه سقوط الكنيسة من فراغ روحي للمجتمع الغربي ليستبدل تقنية غرفة الإعتراف بكنبة الإعتراف لا غير. مع فارق الأهداف بين المحلل النفسي والكاهن.

    الإنشقاقات وإشكالية رموز اللبيدو
    نظرا لكل ما ذكرنا لم يلبث الإنشقاق أن دب بين فرويد وخلانه وكان أول الثائرين هو ألفرد آدلر ، انشق عن فرويد وأسس علم النفس الفردي ، رفض فكرة الدافع الجنسي للسلوك وعوضه بحافز أسماه إثبات الذات أو عقدة النقص وجعلها القوة الموجبة للنشاط والسلوك فالغاية من السلوك عند أدلر هي إرادة إثبات الذات وليس إرادة التمتع كما يقول فرويد وبالتالي حد آدلر من شطط تحكم اللاشعور بتركيزه على الأنا الشعوري (الإرادة).
    الإنشقاق الثاني كان بطله كارل غوستاف يونغ ، عمل رئيسا لجمعية التحليل النفسي العالمية وكان صديقا مقربا من فرويد قبل أن ينشق عنه ويؤسس علم النفس التحليلي. اتهم فرويد بالضيق الشديد في كتابه ( تحول أشكال ورموز الليبيدو أو سيكولوجيا العقل الباطن) ، لم يوافق على دور الجنسية الساحق والوحيد في تفسير السلوك ولا بتفسير الأحلام بالرغبات المكبوتة ..يرفض يونغ شمولية وسيطرة الجنس ويعتبر سلوكيات الطفل مثل مص الإصبع أو التقام ثدي الأم والتي يعتبرها فرويد ذات دوافع جنسية يعتبرها يونغ نابعة عن غريزة التغذية واللذات المرتبطة بإشباع تلك الغريزة..وحتى عندما تظهر الجنسية فإن ليبيدو فرويد لا يشكل الزخم الأساسي للنشاط الإنساني..فيونغ يرفض فكرة التفسير الأحادي سواء من جانب فرويد أو آدلر..ويعتبر الإنسان أعقد وأغنى من أن يفسر بهذه الغريزة أو بتلك.
    ثم تبعهم في ذلك كل من أوتو رانك وثيودور رايك ويعتبر الأخير من أكثر تلامذة فرويد إخلاصا والذي اعترف في كتابه سيكولوجيا العلاقات الجنسية بخطأ النظرية الجنسية وقصورها وشدد على دور الوعي والإردة في سلوك الإنسان..يقول: « وها أنا اعترف صراحة بعد أربعة وثلاثين عاما من الممارسة والبحث التحليليين أن وجهة نظر فرويد في السببية الجنسية Sexual etiology للعصاب تبدو لي خطأ فاحشا وأعتقد أن نظرية اللبيدو مبنية على أساس فاسد. لا شك أن الرغبة الجنسية غير المشبعة يمكن أن تسبب مصاعب بل واضطرابات من النوع النفسي. ولكن بالطريقة ذاتها التي يسببها الجوع الشديد الذي لا يعرف للشبع طريقا. وعلي أن أقول فضلا عن ذلك أن الإضطرابات الناجمة عن الرغبة الجنسية هي أقل من الإضطرابات الأخرى.»(10)
    وعلى هذه الإنشقاقات وغيرها قامت مبادئ الفرويدية الحديثة مشددة على دور البنى الإجتماعية والعوامل الإقتصادية والسياسية في التأثير على سلوك الإنسان رافضة الدوافع الجنسية التي لم يقم عليها دليل ، وكذلك أختلفوا مع فرويد في تفسير الكثير من القضايا كالدين والحضارة والعادات والتقاليد والثقافة. وتراجعت الأهمية المعطاة للدافع اللاشعوري (اللامسؤول) واستبدلت بتركيز جديد على علم نفس الأنا (الإرادة) مما يستلزم الرجوع للمفاهيم القديمة عن الشخصية وقوة الإرادة أي عن وظائف الروح. وهو ما قرره علم النفس الحديث من أن الحياة النفسية تتقاسمها تفسيرات كثيرة منها النفسية شعورية و لاشعورية و منها العضوية السلوكية ومنها الإجتماعية الثقافية.

    موقف التراث الصوفي اليهودي
    هناك تطابق شبه تام بين النظرية الفرويدية والتراث الصوفي اليهودي سواء في المقدمات أو في النتائج ، وقد أجاد دافيد باكان في إبراز تلك العلاقة في كتابه فرويد والتراث الصوفي اليهودي..فعلى سبيل المثال نظرية الإعلاء sublimation والتي تعني تغليف النوازع والدوافع الجنسية بأعمال وأفعال ظاهرها إنساني إبداعي نجدها مطابقة لما جاء في سفر براخوت في التلمود القائل: « إذا حلم إنسان بأنه يتصل بأمه جنسياً فله أن يتوقع الوصول إلى الفهم.. وإذا حلم بأنه يتصل جنسياً بعذراء مخطوبة فله أن يتوقع الوصول إلى معرفة التوراة... وإذا حلم شخص بأنه يتصل جنسياً بامرأة متزوجة فله أن يثق في أنه على موعد مع القدر بالنسبة لمستقبل العالم، بشرط ألا يكون على معرفة بها وألا يكون قد فكَّر فيها أثناء المساء »..ويرى باكان ان "كتاب تفسير الأحلام" ليس إلا تطبيقا لطرق التفسير الموضحة في الرسائل اليهودية القديمة على أحلام فرويد الخاصة.
    كما اعتبر البعض أن تبرير فرويد لعشق المحارم جاء في سياق كون اليهود أكثر الشعوب ممارسة له بسبب انغلاق مجتمعهم الذي يحرم الزواج على أفراده خارج دائرة اليهود كما أن عقائد اليهود تزخر بمثل هذه الماررسات ، فهو من جهة يساعد اليهود على التحرر من مشاعر الخطيئة بإظهار الفعل كأنه ممارسة طبيعية لا تستوجب الشعور بالذنب ومن جهة أخرى يسهل على المترددين اقتحام هذا الباب الخطير بإسقاط كل التحريمات واعتبارها قيودا وأغلالا وهمية.
    وقد استغل اليهود هذه النظرية وأحاطوها بهالة إعلامية ضخمة وقاموا بإنتاج عدد من الأفلام الجنسية الفاضحة التي تعرض نماذج من الزنى بالمحارم. كما أنهم عملوا على حمايتها لضمان استمراريتها رغم ثبوت فشلها علميا..وتصديقا لذلك يروي لنا مرتجم كتاب سيجموند القلق الدكتور محمد هلال تجربته الشخصية في طريقة فرض اليهود للأفكار الفرويدية على المجتمعات ، يقول في مقدمة الكتاب المذكور: « بينما كنت أتخصص في باريس في أمراض الغدد الصماء في بداية الثمانينات نصحنا بعض المحاضرين بمتابعة دروس الجمعية الفرنسية لأمراض الوظائف الجنسية حيث أن أحد إهتمامات إختصاص الغدد الصماء هو ضعف الوظيفة الجنسية الناتج عن اضطرابات هرمونية. وكان المفترض أن دروس الجمعية المذكورة ستعطي تصورا أوسع للعوامل الأخرى للضعف الجنسي وخاصة العوامل النفسية. وقد واظبت على حضور دروسها لمدة عامين كاملين. وكان ما يلفت الإنتباه أن معظم القائمين عليها هم من اليهود وحينما كانت تعطى مناصب إدارية لغير اليهود كانوا هؤلاء يختارون من غير النابهين بين زملائهم للحفاظ على الهيمنة اليهودية ويتم ذلك طبعا تحت غطاء مسرحي ديمقراطي كما هي العادة....وباستثناء بعض المحاضرات عن الجوانب العضوية لأمراض الوظائف الجنسية كانت غالبية دروس الجمعية عن الجوانب النفسية وكانت تستخدم المصطلحات والمفاهيم الفرويدية...وهكذا تنشأ حلقة من حلقات التسلط اليهودي على المجتمعات الغربية..كانت النتيجة الرئيسية لهذا المهرجان أن الأطباء المعنيين كانوا يحولون معارفهم ومرضاهم الذين يشتكون من اضطرابات جنسية وظيفية وهم كثر إلى الأطباء اليهود الذين كانوا بالإضافة إلى زيادة مدخولهم المادي يطلعون على الأسرار الخفية للمجتمع الفرنسي. »

    ما بعد فرويد..
    لعلَّ العامل الـأهم والمؤدي لانتشار المنطلقات الجنسية لفرويد داخل المجتمع الغربي هو أنها كانت تحدِّيًا للأفكار والعادات الغربية المحافظة والسائدة آنذاك فكان الإنجذاب نحوها بمثابة الثورة على سطوة الكنيسة وتسلطها على المجتمع. ولعلَّ هذا العامل الذي كان عاملاً مُهمًّا في الإنتشار سيكون بدوره عاملاً مُؤثرًا في الإندثار وهو ما أكده أريك فروم أحد أهم رموز تيار ما بعد الفرويدية بقوله في كتاب ما وراء الأوهام: " إنه من المفترض حقا أن نجاح التحليل النفسي بالذات كان السبب في سقوطه"(11) ومن السهل توضيح هذه الفكرة إذ بانتشار التحليل النفسي كعلاج لحالات الكبت الجنسي التي يحياها المجتمع الغربي المحافظ وقع تبرير علمي لكل أشكال الإباحية داخل المجتمع. بمعنى آخر قد زال الكبت عن المجتمع عمليًّا وبات يمارس كل أشكال ما كان يُعتبر مُحرَّمًا بما في ذلك الشذوذ أو المثلية الجنسية وغشيان المحارم. يقول فروم: " في بداية القرن مثلت نظريات فرويد سواء أكانت كلها صحيحة أم لا تحديا للعادات والأفكار السائدة....على أن عادات المجتمع تغيرت في عام 1930 إلى حد ما بتأثير من التحليل النفسي وخاصة من خلال تطور المجتمع الإستهلاكي الذي روج للإستهلاك على كل الأصعدة والميادين وعارض من أن يحرم المرء نفسه من أية رغبات..فالحياة الجنسية لم تعد أمرا محرما ولم يعد الحديث عن رغبات تتعلق بغشيان المحارم أو عن انحرافات جنسية يعتبر أمرا مهولاً يدعو إلى الإستنكار "(12)..ومن المتوقع وفق النظرية الفرويدية أن تزول بزوال الكبت الجنسي كل أنواع العصاب والفصام المُفسرَّة وفق هذا الكبت ولكن هذا التحول المجتمعي جعل النظرية الفرويدية تصطدم بمحك الواقع المحك الذي أعلن عقمها وإفلاسها وذلك بإعلان المختصون أن هناك ازديادًا مطردًا في نسبة الإكتئاب في الغرب وكذلك في الفصام الذي يوصف في اليابان مثلا بأنه مرآة البيئة الاجتماعية المعاصرة وأن الفصام في تلك البلدان على الرغم من التقدم في تشخيصه ليس هناك تقدما في علاجه ويؤكد الطبيب النفسي لاينوس بولنغ linus pauling أن في الولايات المتحدة أعدادًا متزايدة من الناس الذين يصبحون عاجزين عن التكيف مع الحياة الإجتماعية والمهنية والعائلية بل إن الإنحلال الجنسي نفسه بات عاملاً من عوامل المرض النفسي بعدما كان عاملاً رئيسيًّا في العلاج وفق النظرية. ويقابل هذا التزايد الملحوظ في أعداد المرضى انخفاضا في عدد الطلاب المسجلين في معاهد التحليل النفسي وانخفاضا في عدد المرضى مرتادي عيادات التحليل النفسي. يقول فروم في كتابه الإنسان بين الجوهر والمظهر: " يتعرض التحليل النفسي المعاصر لأزمة نرى دلالاتها السطحية في تقلص عدد الطلاب الذين يتسجلون في معاهد التحليل لمتابعة التدريب وفي تدني عدد المرضى الذين يلجأون إليه للعلاج"(13) ليتأكد لنا عمليا صحة مقولة فروم من أن نجاح التحليل النفسي بالذات كان هو السبب في سقوطه.

    1- أريك فروم اللغة المنسية 177
    2- برسيفال بيلي سيجموند القلق 85
    3- المرجع السابق 52
    4- المرجع السابق 52
    5- المرجع السابق 97
    6- جوزيف جاسترو الأحلام والجنس نظرياتها عند فرويد 9-10
    7- د. لخضر مذبوح فلسفة كارل بوبر
    8- المرجع السابق
    9- كولن ولسن أصول الدافع الجنسي 276
    10- ثيودور رايك سيكولوجيا العلاقات الجنسية 91
    11- إريك فروم ما وراء الأوهام 136
    12-إريك فروم ما وراء الأوهام 136- 137
    13- إريك فروم الإنسان بين الجوهر والمظهر ص7
    التعديل الأخير تم 03-23-2023 الساعة 03:25 PM
    التعقيد في الفلسفة بمثابة أوثان مقدسة يُحرَّمُ الإقتراب منها بالتبسيط أو فك الطلاسم
    فمن خلال التبسيط يتكشَّف المعنى السخيف -لبداهَتِه أو لبلاهَتِه- المُتخفي وراء بهرج التعقيد وغموض التركيب..

    مقالاتي حول المذاهب والفلسفات المعاصرة


  2. #2

  3. #3

    افتراضي

    أستاذي الحبيب ليك وحشة والله..
    أولا حمدا لله على سلامتك وأرجو أن لا تكون فقط زيارة عابرة
    أما عن المقالات فذاك من حسن ظنك بأخيك، وإلا فشعاري ولا أخفيك خذ من هنا وضع هنا وقل هذا أنا.
    وجزاكم الله عنا خيرا
    التعديل الأخير تم 02-11-2018 الساعة 08:53 PM
    التعقيد في الفلسفة بمثابة أوثان مقدسة يُحرَّمُ الإقتراب منها بالتبسيط أو فك الطلاسم
    فمن خلال التبسيط يتكشَّف المعنى السخيف -لبداهَتِه أو لبلاهَتِه- المُتخفي وراء بهرج التعقيد وغموض التركيب..

    مقالاتي حول المذاهب والفلسفات المعاصرة


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء