الحمد لله كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألّا إله إلا الله وحده، وأنّ محمدًا رسوله وعبده، وبعدُ..

- لنتصور أنّ ثمّ منطقة يكثُر فيها الفسّاق من الشباب، يجتمعون ليلًا يتمازحون ويخوضون، يؤذون النساء أثناء مرورهن في تلك المنطقة بالكلام تارة، وبالأيدي تارة، ثمّ أردتَ أن تنصح النساء لتفادي هؤلاء السفلة الذين يتلذذون بالمعاكسة والتحرش؟!
- سأنصح النساء بعدم المرور من هذه المنطقة التي اشتهرت بهذا الأمر، حتى لا يؤذين ..
- فما العمل مع النساء اللاتي يسكنّ في هذه المنطقة؟!
- سأنصحهن بعدم الخروج ليلًا قدر الإمكان لغلبة وجود هؤلاء الشباب ليلا، حتى لا يؤذين..
- فما العمل مع اللاتي يسكنّ في هذه المنطقة ويعملن على قوتهنّ ولابد لهن من الخروج ليلا؟!
- يمكنك أن تنصحهن بالاستعانة برجلٍ من عائلتها أثناء عودتها لبيتها ليلًا، حتى لا تؤذى..
- فما العمل إن لم يتيسر لها وجود رجلٍ يرافقها عند عودتها ليلًا .. هل عليها شيء تفعله؟!
- لو وصلنا لهذه النقطة فليس عندي ما أنصحها به، لا أريد أن أكون خياليًّا وأطلب منها أن تغير محل سكنها، ولن أضيّق عليها وأطالبها بعدم الخروج مطلقا، وسوف أراعي في النصيحة حال كلّ فردٍ بما يناسبه، لكنّ هناك نطاق سأكتفي فيه بمحاولة منع هؤلاء الفساق الذين يؤذون النساء، بنهيهم عن الأذية ومعاقبتهم على أفعالهم!

المقصود أنّ مقصدك وهو "حماية النساء من الأذية" لم يكن هو الحاكم الوحيد على توجيهاتك ونصائحك، فكان من ضمن ما وضعته في حسبانك عند النصيحة وضع المرأة وظروفها، فربما أردتَ حمايتها فأتيت على حساب راحتها فضيّقت عليها، أو أتيت على حساب سعيها فمنعتها من رزقها، ولذلك من الحكمة أن يكون مقصدك "حماية النساء من الأذية" و "عدم التضييق على النساء" بمراعاة العادة الغالبة في أحوال المجتمع، وهذا لا يعني أن قولك للنساء اللاتي لا يسكنّ في المنطقة "لا تذهبن لهذه المنطقة حتى لا تؤذين" .. لا يعني قولك هذا رضاك بأذية النساء من أهل المنطقة!! ولكنه خطابٌ يراعي عدم أذية النساء من خارج المنطقة ويراعي في الوقت نفسه عدم التضييق على النساء من أهل المنطقة!!

الناظر في آيات الحجاب في كتاب الله تعالى سيجد عدة مقاصد مذكورة في الآيات الكريمة، ففي قوله تعالى "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى" أعقبه قوله "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"، وقوله تعالى "وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ" أعقبه قوله تعالى "ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ"، وقوله تعالى "يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ" أعقبه قوله تعالى "ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ"، وقوله تعالى "وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ" أعقبه قوله تعالى "لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون"، وقوله تعالى "فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ" أعقبه قوله تعالى "وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ".

فنحن أمام عدة مقاصد للتكليف بالحجاب وهي "ذهاب الرجس" و "طهارة القلب" و "مراعاة غيرة المحارم" و "قطع سبل الإيذاء" و "الفلاح" و "العفة"، وبمراعاة هذه المقاصد مع مراعاة الواقع وعدم التضييق على النساء تأتي التوجيهات، فنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمِرن ألّا يكلمن الرجال في بيوتهن إلا من وراء حجابٍ ولا تبرز شخوصُهن وإن كنّ بحضرة محارمهن، وهذا الحكم خاصٌّ بنساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنّه يوافق كمال طهارة القلوب وذهاب الرجس ومراعاة عدم أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لو طُرد هذا الحكم على كافة نساء المؤمنين لكان فيه مشقةً وتضييقًا عليهن، فرُوعي ذلك في حق نساء المؤمنين دون أن يعني ذلك أن تحقيق طهارة القلب ليست مقصدًا في حق الجميع!

وكذلك نساء المؤمنين الحرائر أُمِرن إن خرجن أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وهذا الحكم خاصٌّ بالحرائر لأنّه يقطع عذرًا للفاسدين في إيذائهنّ، لكن لو طُرِد هذا الحكم على كافة المؤمنات ليشمل الإماء لكان فيه مشقةً وتضييقًا عليهن، فرُوعي ذلك في حق الحرائر دون أن يعني ذلك أن منع أذية المجرمين ليست مقصدًا في حق الجميع!!

تمامًا كما تقول للنساء –في أول المقال- لا تذهبن إلى تلك المنطقة المليئة بسفلة الشباب، وهذا النصح خاص بالنساء من خارج المنطقة لأنه يقطع عذرًا للفاسدين في إيذائهنّ، لكن لو طُرِد هذا الحكم على كافة النساء ليشمل أهل المنطقة لكان فيه مشقةً وتضييقًا عليهن، فرُوعي ذلك في حق النساء من خارج المنطقة دون أن يعني ذلك أن منع أذية المجرمين ليست مقصدًا في حق الجميع!!

إذن ..
- هل التمييز واقع بين النساء الحرائر والإماء في الحكم، كما وقع بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبقية النساء، كما وقع بين نساء المنطقة السكنية ومن هنّ خارجها؟!
- نعم، التمييز واقع!
- فلماذا هذا التمييز؟
- مراعاةً لعدم التضييق على النساء، فالحكم الذي لا يضّيق عليهن ولا يسبب عنتًا يُطالبن به، وما سبب الضيق والعنت لم يؤمر به، وأُمِرنا بالسعي في تحقيقه بطرقٍ أخرى بعيدة عن النساء كنصوص منع الأذى ومعاقبة المفسدين.
- هل هذا التمييز يعني عدم رعاية مقاصد مراعاة غيرة المحارم والطهر والعفاف وذهاب الرجس وسد ذريعة الأذية في حق النساء جميعًا؟!
- لا يعني ذلك، كما لا يعني اختصاص نساء النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأحكام الحط من سائر النساء، فلا يعني مجرد اختصاص الحرائر ببعض الأحكام الحط من الإماء، لأنّ المقصد يكون أكثر إلحاحًا أو مراعاته أيسر في حق بعض النساء دون بعض، فمراعاة عدم أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ في حق نساء النبي، وإدناء النساء من جلابيبهن في حق الحرائر أيسر منه في حق الإماء.

وهنا ينبغي التنبيه على عدة نقاط:
النقطة الأولى: يخطئ بعض الناظرين حين يزعم أنّ الحجاب إنّما شُرع للتمييز بين الحرة والأمة فحسب، وإنّما الصواب أنّ تشريع الحجاب يحقق عدة مقاصد وردت منصوصًا عليها في الآيات الكريمات كما سبق، ومنها سد ذرائع أذية النساء بقطع حجة من حجج المؤذين أنّهم حسبوها أمَة، فشُرع ما يميّز بين الاثنين قطعًا لهذه الذريعة، مع العلم أنّ هذا المميّز يصعب على الإماء الالتزام به، فلو كلّفن به لاجتمع عليهن مشقة التكليف واحتمالية وقوع الأذى في كل حال، فناسب في حقهنّ منع الإيذاء بالطرق الأخرى.

النقطة الثانية: أنّ إدناء الجلابيب يحقق المعرفة بالحرية وحسب، ولا يمنع من معرفة الشخص، فقد خرجت سودة بنت زمعة رضي الله عنها بعد الحجاب وقد أدنت عليها من جلبابها فعرفها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشخصها، ولما خرجت إحدى الإماء متقنعة عرفها عمرُ رضي الله عنه، قال الشوكاني رحمه الله في التفسير: "أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء، ويظهر للناس أنهن حرائر فلا يؤذين من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن، وليس المراد بقوله "ذلك أدنى أن يعرفن" أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء، لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر"اهـ.

فحتى لو لبست الأمة وأدنت عليها من الجلباب فهذا لا يمنع أن يعرفها أحد المؤذين بشخصها فيؤذيها، فالإدناء لا يمثّل ضمانة تامة لمنع الأذية، ونحن في أيامنا نرى المحصنات المتسترات تمامًا قد يتعرضن للأذية من سفلة المتسكعين في الشوارع، نعم .. يقل ذلك الإيذاء والتعرض في حق صاحبات الحجاب ولكنّه موجود على أية حال، ويجب منعه بردع هؤلاء المتسكعين وعقوبتهم ليكفوا أذاهم عن عباد الله!

النقطة الثالثة: أن رغبة بعض الناظرين في المساواة تُعميه عن ملاحظة ظروف الأمَة التي تعمل في مهنة البيت وتنظيفه وما شابه، كما أنّها تظهر أمام مولاها وأضيافه، وتخرج لمختلف الحاجات كالشراء ورعاية الغنم وغيره، تُعميه الرغبة في المساواة فيطالب بتكليفها بإدناء الجلباب عليها ليزيدها مشقة التكليف فوق خشية الإيذاء، ولك أن تتخيل امرأةً تخرج وتدخل في اليوم أكثر من عشرين مرة، تطالب في كلّ مرة أن تدني عليها من جلبابها، مع العلم أنّ الجلباب ليس ضمانةً ألا تُعرف بشخصها فضلا عن أن تعرف أنّها أمَة، ولا يمثل ضمانةً تامةً في منع الأذى، وإنما هو وسيلة لقطع إحدى اعتذارات الذين يؤذون النساء، يطالبون –من أجل رغبتهم بالمساواة- أن يُعنت الشرع الأمَة التي قد تخرج وتدخل أكثر من عشرين مرةٍ في اليوم!!

ألا ينظر أحدهم إلى المرأة العاملة في مجتمعنا هذا، خصوصًا التي يضطرها عملها للخروج ليلًا والتعامل مع الرجال، مع شدة حاجتها للمال في كثيرٍ من الأحيان، مثل النساء العاملات بمهنة التمريض والبيع في المحلات؟! ألا ينظر أحدهم فيقف على شيءٍ من الجهد الذي تبذله لتحافظ على حجابها وحيائها وتفرض حاجز الحشمة بينها وبين الرجال، هذا وهنّ ملتزماتٌ بساعاتٍ قليلةٍ في العمل تصل إلى ثماني ساعات في الغالب؟! ألا ينظر أحدهم فيعلم مقدار الجهد الذي ستبذله الأمة وهي التي في هذه الحال طوال اليوم -تخدم مولاها وأضيافه وتخرج وتشتري- لو كلّفت بإدناء الجلباب أو تغطية الوجه؟! أم أنّهم لا يعرفون شيئًا عن حال هؤلاء العاملات ولا يبالون إلّا بالاعتراض على ما لا يتصورونه من أحكام الشريعة التي تأتي مناسبةً للأحوال؟!

النقطة الرابعة: أنّ هذا الذي ذكرناه من حال الأمَة وعملها هو الذي التمس به علماء المسلمين الحكمة في اختصاص الحرائر بزيادة التستر الواجب، وهذا التمييز إنّما كان لمناسبة حال الأمَة، ولم يكن الحجاب لمجرد التمييز بين الحرة والأمة، وإنما للتخفيف على الأمة، وبيان ذلك من وجوه:

الوجه الأول: لو كانت علة التفرقة هي في كونها أمةً فحسب، لكان هناك فرقٌ في عورة الرجل بين العبد والحر، وليس في الشريعة هذا الفرق.

الوجه الثاني: قال ابن تيمية رحمه الله "الأصل إن عورة الأمة كعورة الحرة كما إن عورة العبد كعورة الحر، لكن لما كانت مظنة المهنة والخدمة، وحرمتها تنقص عن حرمة الحرة، رخص لها في إبداء ما تحتاج إلى إبدائه و قطع شبهها بالحرة"(1) ، فالتخفيف عن الأمة في شأن الحجاب جاء مراعاة لشأنها وعملها مع ما عُلِم من ضعف غيرة الرجال عليها، فكان الأنسب لها التخفيف عليها.

الوجه الثالث: أنّ عورة الأمة مع الرجال أشبهت عورة الحرة مع محارمها، وعورة الحرة مع محارمها راعت عملها في مهنة بيتها وحركتها فيه وتعاملها مع محارمها، فكذلك عورة الأمة مع الرجال راعت غلبة خروجها وحركتها في الشارع وتعاملها مع الرجال، قال شيخ الإسلام برهان الدين المرغيناني الحنفي: "لأنّها تخرج لحاجة مولاها في ثياب مهنتها عادةً فاعتُبر حالها بذوات المحارام في حق جميع الرجال دفعًا للحرج" وعلّق عليه ابن الهمام الحنفي رحمه الله قائلًا "المسقط لحكم العورة حتى تبعته هي في السقوط: الحرج اللازم من إعطاء بدنها كله حكم العورة مع الحاجة إلى خروجها ومباشرتها الأعمال الموجِبة للمخالطة"(2).

الوجه الرابع: يرى الفقهاء أنّ الستر في حق الإماء أمام الأجانب أولى منه في حقّ الحرة أمام محارمها، يقول العلامة الزيلعي رحمه الله في الاستدلال بقياس الأولى على أنّ ظهر الأمة عورة "ولهذا لو جعل امرأته كظهر أمّه الأمة كان مظاهرًا منها، والظّهار لا يكون إلا بما لا يحل النظر إليه، فإذا حرُم على الابن فعلى الأجنبي أولى أن يحرُم، ويدخل في هذا الجواب أم الولد والمُدبّرة والمكاتبة والمستسعاة عند أبي حنيفة"(3) ، فكما ترى أنّ الحكمة التي التمسها العلماء كانت من طبيعة حياة الأمة، وأنزلوها منزلة عورة المرأة مع محارمها مع جعل شأنها أمام الأجانب أولى بالستر.

الوجه الخامس: أنّ هذا التشريع كما يراعي منع الحرج الذي سيقع على الإماء لظروف عملهن، يراعي فقرهن وعدم المشقة على من تلزمه نفقتهن، وفي الصحيح أنّ أم عطية لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء بالخروج للعيد قالت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: لتلبسها أختها من جلبابها!

الوجه السادس: أنّه يراعي إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية يراعي الحالة الدينية، فالغالب في وسط الإماء ضعف الوازع الديني، فتراعي الشريعة فيمن هذا حاله ألا تشدد عليه بالتكاليف، ولذلك فمثل هذا لو أخطأ تكون العقوبة في حقه أخف، وهذا من حسن وجمال الشريعة الإسلامية، ومن ذلك أن الأمة لو زنت فعليها نصف الحد الذي على الحرة، لقوله تعالى"فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَات مِنَ العَذَاب"، قال ابن عاشور رحمه الله عند تعرضه لأحد المذاهب في التخفيف على الإماء في الحد لطبيعة مهنتهن وظروف حياتهن "أن فيه للمتبصر بتصريف الشريعة عبرةً في تغليظ العقوبة بمقدار قوة الخيانة وضعف المعذرة"!

الوجه السابع: لو كانت العلة في العبودية والحرية لما قال بعض فقهاء المسلمين إنّ الأمة لو خلت من غلبة المهنة عليها فإنّها تصير كالحرة كما في القول الخامس من المقال السابق.

الوجه الثامن: أن من الحرائر من تكون عورتها –على قولٍ لبعض أهل العلم- أمام الأجانب كعورة الأمة أمامهم، وذلك بمراعاة انقطاع الشهوة فيهن، ولو كان الحجاب متعلقًا بالحرية فحسب لالتزمت به الحرة وإن بلغت من العمر أرذله، قال تعالى "وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (النور: 60).
الوجه التاسع: لو كان محل النظر هو الحرية والعبودية في الحجاب، لما كان في الفقهاء من علّق الحكم بجمال الإماء أو بفساد الزمان، كما هو القول الخامس من أقوال أهل العلم الذي سبق بيانُه أعلاه، فقول هؤلاء نفسه قرينة على أنّ العبرة لم تكن بالحرية أو العبودية في تشريع الحجاب.

الوجه العاشر: أن الشرع الإسلامي أتى بأقصى الممكن في حسن معاملة الإماء والعبيد مع فتح أبواب العتق على مصراعيها، وفي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم"، أفيُقال في هذا الشرع أنّه جاء للتمييز بين الأمة والحرة في الحجاب من أجل التمييز وحسب؟! لا والله! بل جاء لرفع الحرج عن الإماء إن كُلّفن به!

النقطة الخامسة: أنّ المقصد من الستر في الصلاة ليس هو كالمقصد من الستر في باب النظر فيما يتعلق بمراعاة الغيرة ودفع الشهوة وتزكية القلب وذهاب الرجس، فإن المقصد في الستر في الصلاة هو اتخاذ الزينة لقوله تعالى "يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ"، والمقصد في الستر في الخلوة هو الحياء من الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن عورة المرء خاليا "الله أحق أن يُستحيا منه من الناس".

فرغم أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة في باب النظر إلا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء"(متفقٌ عليه واللفظ لمسلم)، وبينما نُقل الإجماع على ترك المرأة تغطية وجهها في الصلاة إن لم تكن تصلي بحضرة الرجال الأجانب، فقد اتفق العلماء على استحباب تغطية الوجه في باب النظر خارج الصلاة!!

فالعورة في الصلاة تراعي تحقق الزينة وتراعي الحياء من الله وتراعي عدم المشقة في التكليف، فلا ضير أن تكون عورة الأمة في الصلاة كعورتها خارجها بكشف ما يظهر غالبا، لأنّ هذا بالنسبة لها زينة ويراعي الحياء الذي اعتادته ولا يشق عليها، ولا ضير أن تكون عورة الحرة جسدها ماعدا الوجه والكفين، لأن هذا بالنسبة لها زينة ويراعي الحياء الذي اعتادته ولا يشق عليها، فعورة الأمة في الصلاة كعورتها خارجها، وعورة الحرة في الصلاة كعورتها خارجها عند القائلين بأنّ الوجه والكفين ليسا بعورة.

قال علي رضي الله عنه " تصلي الأمة كما تخرج"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "فإنّ الأمة إذا كانت تخرج مكشوفة الرأس، فأن تصح صلاتها هكذا كان أولى وأحرى، فإن ما تستره المرأة عن الناس أشد مما تستره في الصلاة، ولأنه إذا لم يكن الاختمار واجبًا عليها ولا كانت عادة إمائهن ذلك فمعلومٌ أنهم لم يكونوا وقت الصلاة يضعون لهن خمرًا، ولا يغيرون لهن هيئة، وهذا مما لا نعلم فيه خلافًا"(4) ، وقال رحمه الله "الله تعالى أمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، وقميص الأَمة ورداؤها من زينتها بخلاف الخمار، ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى الرجل أن يصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء تكميلًا للتزين بستر المنكب، فكيف يأذن للأمة أن تصلي وظهرها وصدرها مكشوف مع العلم بأن انكشاف ذلك منها أشد قبحًا و تفاحشًا من انكشاف منكب الرجل"(5)!

فالمقصود أنّ مفهوم الزينة والحياء عند الأمة والحرة مطلوبٌ وثابت، ولكن تحققه وضبطه في الصلاة متروكٌ للشرع ليس لا للعقل فيه مدخل، لأنّ الصلاة اصطاف المرء بين يدي ربه، والله هو الذي شرع تفاصيل الحجاب، ومثل هذا لا يُعترض عليه بالعقل، طالما روعي اختلاف الوسط والقدرة المالية والسيرة العملية في الحياة.

النقطة السادسة: يخطئ كذلك من يجعل الحجاب قضية مرتبطة بالقبيلة ومقصورة على زمان النبوة، إذ النصوص الواردة في الحجاب قد أتت كلّها مصرّحة بقيمٍ تتجاوز تراتيب القبيلة وحدود مجتمعها، فلا يُقال فيما شُرِع للطُهر وإذهاب الرجس وسد ذريعة الأذى ومراعاة غيرة المحارم والعفة والفلاح، كل هذه القيم والمبادئ لا يمكن ربطها بالقبيلة ولا وجود الإماء، وإنّما هي مقاصد أو مثل عليا تُراعي أو يُسعى إليها في كل حين.

النقطة السابعة: أنّ النظر المقاصدي –الذي يُراعي مقاصد الشريعة- لموضوع الحجاب يرجّح كِفة الالتزام والتمسك بالحجاب، ولذلك فدعوة العقلانيين لتقييد الحجاب والاكتفاء بالإلحاح على الإشارة للمقاصد العامة للشريعة، هذا الكلام يخالف مقتضى النظر المقاصدي الذي يدّعون غلبته عليهم في سائر القضايا، إذ التكليف بالحجاب كما هو ظاهر يمتد ليشمل عدة مقاصد ويحول دون الاستغراق في تحقيق هذه المقاصد مراعاة حال النساء، فكمال طُهر القلب ودفع تأذي الزوج والمحارم يتأتى بخطاب الرجال في البيوت من وراء حجاب عند وجود الحاجة حتى في حالة وجود محرم، ولما كان هذان المقصدان أشد إلحاحا في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمرن بذلك، ولو أمر بهن سائر النساء لشقّ ذلك عليهن، فمقتضى النظر المقاصدي أنّه لو تيسر لامرأة من النساء أن تتستر من الرجال بشخصها فلتفعل، بينما النظر التوقيفي -الملتزم بالنص- يلتزم بخصوصية نساء النبي صلى الله عليه وسلم حتى ولو تيسر فعله لمن سواهن.

وكذلك تميز الحرائر بالإدناء عليهن من جلابيبهن حال الخروج حتى لا يؤذين، ولو أمر به الإماء لشقّ عليهن كما سبق بيانه، فمقتضى النظر المقاصدي أنّه لو كانت أمةٌ تستطيع الالتزام بهذا الإدناء ولا يشق عليها فإنّها تفعله وهذا هو القول الخامس من أقول أهل العلم في المقالة السابقة، ومقتضى النظر التوقيفي الملتزم بالنص أنّ يلتزم بخصوصية الحرة مقابل الأمة وهذا هو مدار النظر في الأقوال الأربعة الأولى من المقال السابق، ولذلك فأنا متردد في الترجيح بين القول الرابع والخامس من جهة ترجيح النظر المقاصدي والنظر التوقيفي، والمقصود أنّ النظر المقاصدي يقتضي الالتزام بالحجاب بعكس ما يروج له العقلانيون.

النقطة الثامنة: ليس من شرط اعتبار المقصد شرعًا أن ينفرد التشريع بمراعاته، فقد يراعي التشريع مقصدًا فيأتي بما يناسب كمال تحقق هذا المقصد، ثمّ يأتي تشريع آخر أو نفس التشريع فيراعي هذا المقصد ويتنازعه مقصد آخر فيأتي بما يناسب تحقق المقصدين جميعًا دون أن ينفي ذلك إرادتهما للشارع، فغض البصر مثلًا أتى ليحقق كمال تحقق العفة والطهر وذهاب الرجس ومراعاة غيرة المحارم ودفع الأذى على أكمل تحقق ممكن، لكن لم يأمر الله ألا يخرج الرجال من بيوتهم مثلًا لأنّ هذا لا يناسب السعي وعمارة الأرض، كذلك الحجاب يراعي تحقق العفة والطهر وذهاب الرجس ومراعاة غيرة المحارم ودفع الأذى على أكمل تحقق ممكن، لكن لم يأمر الله نساء المؤمنين بمخاطبة الرجال من وراء حجاب حتى في وجود المحارم وإنما خص به نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أمر تعالى الإماء بالإدناء عليهن من جلابيبهن وذلك مراعاةً لعدم التكليف بما لا يُطاق ورفع العنت، وهذا من مقاصد الشريعة كما قال تعالى "وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ" (محمد: 36-37).

وأخيرًا ..
- الأمَة والحرة يُتعرض لهنّ بالأذى .. فما العمل؟!
- أتخذ كافة السبل لمنع الأذية..
- فإن كان هناك سبيلٌ يصلح للحرة دون الأمة ..
- سألجأ إليه في حق الحرة، حتى لا أشق على الأمَة.
- فإن فهم أحد بلجوئك إليها أنّك تؤيد أذية الأمَة؟!
- هذا من سوء فهمه، وإلا فالنصوص الصريحة في منع الأذية، وعقوبة المؤذين، وإجماع العلماء على عدم جواز إيذاء الأمة، ومنع السيد من إيذاء أمته، ومنع المسلمين من التعرض للنساء المشركات في الحرب، كل هذا يقطع شبهة الرضا بالأذية في حق الأمة!

---
الهامش:
1) ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 :275).
2) فتح القدير لابن الهمام الحنفي على متن شرح الهداية لشيخ الإسلام برهان الدين – المطبعة الكبرى الأميرية 1325 هـ - نسخة مصورة- صفحة 183- 184.
3) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي رحمه الله – نسخة مصورة – 1:97.
4) ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 272).
5) ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 274،275).