النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: مذهب اللَّذّة (النفعية): مرجعية الأخلاق في اللبرالية

  1. #1

    افتراضي مذهب اللَّذّة (النفعية): مرجعية الأخلاق في اللبرالية

    ترجع أصول مذهب اللَّذَّة إلى المدرسة القورينية في الفلسفة اليونانية القديمة (القرن الرابع ق.م) وتُنسب التسمية إلى أرستبوس القورينائي أوَّل من قرن مفهومَي السعادة واللذة ليجعلَ منهما كيانًا واحدًا رُفعت فيه اللذة بفضائلها ورذائلها كأعلى غايات الوجود الإنساني..فاللذة هي الخير الأسمى والغاية القصوى في هذا الوجود والتي ينبغي على الإنسان أن يَحْصُلَ عليها. ثم تبعه أبيقور بعد ذلك في نزعته الحسية وإن كان المذهب الأخلاقي في الأبياقورية يميل إلى تفضيل لذات العقل على لذات الحس ويجعل من غاية الأخلاق الوصول إلى راحة العقل وطمئنينته.
    ثم تجدد بعد ذلك المذهب على يد توماس هوبز الذي يَعتبِرُ الإنسان أنانيٌّ بطبعه. فعرَّف الخير على أنه كل ما يريده الإنسان ويرغب فيه و أن الشر كل ما يضره ويؤذيه، وجون لوك الذي يرى اختيار الإنسان لرغبة ما أو رفضها يسير تبعًا لما تبثه الرغبات من لذة أو ألم ، ومن ثم كانت اللذة والألم الدافع والمحرك الأساسي عنده للسلوك الإنساني وإن كان ما يحسب للوك اعتباره الأخلاق قانون الله وليس من وضع البشر بالرغم من إنكاره المبادئ الفطرية إذ يؤكد لوك على أن العقل عند ولادة الطفل يكون كالصفحة البيضاء ثم كل ما سيأتي يُدْرَك بالتجربة وحدها بما في ذلك الأخلاق. ثم تبعه دافيد هيوم في زعمه أن اللذة والألم هما الدافع الأساسي لسلوك الإنسان وبهما نميز بين الخير والشر ، ولا يصح عنده العقل حكما أخلاقيا وإنما يُرَدُّ الحكمُ إلى غريزة في الإنسان تحكم على أخلاقية العمل بناء على ما يؤدي إليه من لذة أو ألم. ثم بلغ المذهب أوجه على يد جيريمي بانثام الذي أخضع علم الأخلاق إلى نظام كمي فيزيائي يُقاس فيه الإلزام الخُلُقي بدرجة ما يحدثه الفعل من لذة أو ألم. ثم أضاف بانثام للمذهب القديم مبدأ تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس لتبدأ الأنانية الفردية التي كانت سائدة قبله في التقلص تدريجيا ثم لتذوب تماما في الصالح العام مع تلميذه جون ستيوارت ميل.
    وعلى الرغم من تعديلات ميل فإن الفضل ينسب لبنثام في تحويله المناهج النظرية لمن سبقوه إلى خطط عملية تسللت إلى البرلمانات فأثرت في السياسة وسيطرت على التشريع وفرضت أمرا واقعا في حياة الشعوب. وقد كان لتلامذة بانثام الدور الأكبر في نشر المذهب اللَّذِّي أو النفعي وأشهرهم السويسري لويس ديمونت L.dumont الذي استُدْعِيَ إلى روسيا ليضع لها دستورا يقوم على مبادئ بانثام النفعية، ثم في عام 1817 وضع ديمونت دستورا لبلده، وفي عام 1821 استدعيَ بانثام إلى البرتغال من قبل البرلمان ليضع لهم دستورا شاملا ، وبعد عام أعلن بانثام للعالم استعداده لوضع دستور لأي دولة تحتاج إلى تشريع. ومنذُ ذلك الوقت انتشرت النفعية في العالم طولا وعرضا.-1- واقترنت بالديمقراطية والحركات السياسية اللبرالية المطالبة بحقوق الشعب والأفراد ومثلت حلقة الوصل بين اللبرالية التجارية والسياسية وبعض التيارات الإشتراكية.
    نكتفي بهذا عرضا للجذور الفكرية والسيرورة التاريخية لمنظومة الأخلاق في اللبرالية والتي من خلالها أدركنا وتيقنَّا أنها ليست ثمرة من ثمرات عصر التنوير أو الحداثة الغربية كما شاع وذاع بقدر ما هي ارتداد إلى ماضٍ سحيق ونبش في فلسفات ما قبل الميلاد. لننتقل بعدها إلى مناقشة أهم الأفكار كما صيغت على يد مؤسسها في العصر الحديث جيريمي بانثام ثم التعديلات التي أحدثها تلميذه جون ستيوارت ميل ثم أخيرا لنعرف إن كانت المدرسة الحسية التجريبية قد نجحت في صياغة فلسفة أخلاقية متكاملة تكون بديلا عن المنظومة الأخلاقية التي عرفتها الأديان أو تلك التي عرفتها المدارس المثالية والرواقية في الفلسفة.

    جيرمي بانثام
    في فلسفة بانثام الأخلاقية تبرز لنا النزعة التجريبية في صورتها المثالية..فهو أول من حوَّل علم الأخلاق إلى علم الحساب نتيجة تأثره بنيوتن في العلوم الطبيعة ولتأثره أيضا بهيوم وهوبز. فدرس الأخلاق كما تدرس العلوم الطبيعية ، هاجم معيارية الأخلاق التقليدية وحاول وضع علم رياضي لقياس اللذات ووزن الآلام!..معايير القياس عنده تستند إلى: قياس الشدة أو الزخم ، قياس الدوام ، قياس التأكد أو عدمه ، قياس القرب والبعد ، الخصب ، الصفاء أو النقاوة ، الإمتدد والإنتشار. وغاية هذه المعايير هو التوصل إلى إدخال معطيات العمل الأخلاقي في حاسوب فيجيبنا قبل أن نقدم على أي تصرف إن كان الفعل أخلاقيا أم لا!...إن معيارية الأخلاق في فلسفة بانثام لا ترتكز إلا على الحساب ولا شيء غير الحساب ، إن فاقت قيمة اللذة أو المنفعة قيمة الألم فالعمل أخلاقي وإن رجحت كفة الألم فهو فعل غير أخلاقي لا يجب الإقدام عليه. إن معيارية الأخلاق في النفعية تلخصها مقولة الفيزيائي دافيد مرمين: shut-up and calculate " اصمت ، إحسب فقط!

    لقد برهن برغسون في كتابه ((مقالة حول المعطيات المباشرة للوعي)) بأن اللذة أو الألم لا يمكن أن يقاسا لأنهما ينتميان إلى العالم الداخلي للفرد ، العالم الذي لا يخضع إلى أي حساب بل يتمرد عليه وناقش في كتابه النظريات التي يطرحها علم النفس الفيزيائي والذي استقى منه بانثام نظريته الكمية وقد برهن برغسون على استحالة القياس وهي نفس النتيجة التي توصل إليها علم النفس الحديث من أن أحداث الوعي قل أن تخضع للطرائق التجريبية والأساليب السائدة في العلوم الوضعية. فالألم مثلا وحين يتخطى عتبة معينة تصبح جميع الآلام واحدة فلا يعود هناك من ألم صغير أو ألم كبير أو شديد أو ضعيف. وكذلك فإن لذّة معينة إذا ما تعوَّد بها الفرد تصير بلا معنى وبلا قيمة فهي بمثابة التضخم في عالمي السوق والمال كلما أغرنا السوق قَلَّت القيمة. إن تحويل الكيفيات إلى كميات ممكن فقط في الظواهر الطبيعية أما في مجال المشاعر والوجدانيات فهذا يستحيل ضبطه وهي الفكرة التي يؤكدها علم النفس الحديث علم النفس المعرفي. كما أن مفهوم التضحية في الأخلاق يحرج كثيرا حسابات بانثام ويلقي بها بعيدا لأنها مناقضة تماما لمفهومي المنفعة واللذة رغم محاولة ميل فيم بعد لحل هذا الإشكال..يقول جورج زيناتي : (( إن التضحية تسخر تماما من كل حسابات وتقذف برياضيات بانثام بعيدا..بل تحطمها. التضحية تُعطي العمل الإنساني عظمة لا تُقدر بحساب وتُضفي على التجربة الإنسانية بعدا لا يستطيع العقل أن يجاريه لعظمته. )) -2-
    إن كان الهدف الأسمى من كل عمل هو السعادة بما معناه اللذة فهذا يعني أن هذا الهدف غير قابل للتحقق واقعا ، لأن اللذة لا يمكن إشباعها إطلاقا فهي طلبات متكررة لا تهدأ أبدأ كالأجرب الذي لا يفتأ يحس بالحاجة إلى حك جلده وكلما فعل ذلك شعر بالحاجة للمزيد دون بلوغ الرضا المنشود. مما يعني أن السعادة في المذهب اللذي هي هدف يستحيل بلوغه ، فكل لذة تموت حالما تتحقق فكيف نجعل منها أساس السعادة! ومن هذا الإشكال تظهر لنا نقطة التصادم بين اللذة pleasure التي هي وجدان يصاحب إشباع الرغبات الشخصية وبين السعادة happiness والذي هو وجدان يصاحب تحقق الذات ككل بقطع النظر عن إشباع الرغبات الشخصية. ومنه أيضا تظهر المغالطة التي تعتبر اللذة هي السعادة يقول جورج زيناتي: (( إن كلمة سعادة كلمة تجذب الناس بسهولة ولها وقع حسن في النفوس وقد استتر بانثام وميل وراءها لإخفاء الكثير من القصور وللخلط بين مفاهيم اللذة والسعادة والمنفعة. إذ يمكننا أن نقول بأنه من السهل جدا أن نتصور إنسانا يتصرف من أجل منفعته دون أن ينتج عن هذا التصرّف أية لذة ضرورة. إذن من العبث الخلط بينهما كذلك من الخطأ الخلط بين اللذة والسعادة فاللذة هي اللحظة التي ما إن يعيها الوعي حتى تتلاشى في حين أن السعادة رغم أنها تقيم بعض العلاقات مع اللذة إلا أنها تطمح لأن تملأ الحياة بأكملها وحدودها لا متناهية. )) -3-
    وتصديقا لذلك فإن غالبا ما تكون الآلام سبلاً في تحقيق النفع كتناول الدواء المر أو العلاج الطبي عموما..ومن الآلام أيضا ما يجلب سعادة كآلام الولادة وما يصاحبها من سعادة وكثيرة هي الأمثلة ، يقول زيناتي: (( إن الترقي في عالم القيم غالبا ما يكون ولادة في ألم..ولادة عسيرة يمازجها الحزن والتألم. إن تضحية أية أم هي النقيض لكل جداول حسابات بانثام. ))-4- ..وفي المقابل نجد أن هناك من يتلذذ بتعذيب النفس والغير كالسادية والمازوشية فهل نعتبر أفعال هؤلاء أخلاقية وخيِّرة لا لشيء إلا لكون أصحابها ينشدون اللذة ؟..بمقياس مذهب النفعية الإجابة نعم!..ولهذا لا يصح أخلاقيا ولا منطقيا أن نعتبر البحث عن اللذة هو الخير وهو الخُلق كما يجب أن يكون.
    وتزداد المغالطة وضوحا فيما لو سلمنا بأن اللذة هي السعادة للزم أن نقحم في مذهب اللذة من هم أشد احتقارا ومقتا للذة غايةً للأخلاقية في الوقت الذي يجعلون من السعادة هي الغاية كما هو الحال لدى أفلاطون وسقراط..يقول توفيق الطويل: (( غاية الأخلاقية عند "بنثام" و"مل" هي السعادة وكذلك الحال عند أفلاطون ومع ذلك فإن من الخطأ البيّن أن يُحشر أفلاطون في زمرة النفعيين..ولو أنه -أي أفلاطون- أدرك "مل" لاحتقر نظريته ورآها شبيهة بنظرية السفسطائية التي وحدت بين الفضيلة ولذّة الفرد وإن كان "مل" يتجاوز لذة لفرد إلى لذة الجماعة..إن أفلاطون يرفض النظريتين معا لأن كلتيهما تضع غاية الأخلاقية خارج الأخلاقية نفسها ويكفي هذا ليكون أفلاطون على خلاف بيّن مع "مل" كما كان بالفعل مع السفسطائية. ولا عبرة بعد هذا باتفاق أفلاطون مع النفعيين في اعتبار السعادة غاية الأخلاقية. )) -5-
    اختصار العمل الأخلاقي ومساواته باللذة والمنفعة يؤسس بالفعل للعمل الأخلاقي خارج المنظمومة الأخلاقية كما يقول توفيق الطويل بل قد يؤدي إلى إنكار العمل الأخلاقي وإسقاطه رأسا ، إن علاقة حب بين صديقين إذا ما تأسست على شيء من المنفعة واللذة هو ليس بحب كما أكد أرسطو في تحليله لمعنى الصداقة..فصداقة المنفعة أو المصلحة هي علاقة تخضع لملابسات ظرفية فلا تدوم إلا بدوام المنفعة أو المتعة ومن ثم يعتبرها أرسطو صداقة غير كاملة أو عرضية إذا ما قورنت بصداقة الفضيلة التي هي أتم وأنقى والتي يريد فيها كل طرف الخير للآخر من غير أن تكون المنفعة أو المتعة هي الهدف الأساسي..كما أن اختصار العمل الأخلاقي ومساواته باللذة والمنفعة يؤسس لأخلاق النفاق بل ويرفعها درجة! فإحسان المحسن لمجرد الإحسان للآخرين وإحسان المحتال للآخرين لتحقيق نفعه الذاتي لا يستويان في النفعية..فخلق المحتال هنا أسمى في نظر اللذيين لأنه حقق النفع لذاته وللآخرين بينما الأول أسقط ذاته من حساباته!.

    جون ستيوارت ميل..والتعديلات
    ورث ميل عن سلفه نقائص بالجملة كانت كفيلة بالحكم على النفعية وعلى المدرسة التجريببة عموما بفشلها في تأسيسها منظومة أخلاقية متكاملة..الشيء الذي دفع ميل لإدخال عناصر رواقية وأخرى مسيحية مع محافظته على الإطار العام الذي يعتبر اللذة هي قوام الأخلاقية وغاية الإنسان وهي محاولة منه لأنسنة النفعية..الشيء الذي جعله يسقط في مغالطات منطقية وأخطاء سيكولوجية وأخلاقية..وحسبنا مناقشة هذه المعطيات الثلاث فقد سبق مناقشة النقاط المشتركة مع بانثام.
    سقط ميل في مغالطة غموض التركيب Fallacy of Composition فهو يعتبر أن سعادة المجموع هي خير لمجموع أفراده أي إذا ما جمعنا سعادة الأفراد فردا فردا سنحصل على سعادة المجتمع ككل وهي المغالطة التي بُنيت عليها مفاهيم الحرية في اللبرالية ونتائجها هو ما نراه اليوم. فكل فرد لديه الحرية المطلقة في الحصول على خيره ولذته الشخصية لأن في سعادة الفرد تكمن سعادة المجموع ( ما إن لم تتعارض سعادة الفرد مع سعادة المجموع ) ..يقول الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ماكنزي J.S. Mackenzie: (( في قول ميل إن سعادة المجموع خير لمجموع أفراده مغالطة تُعرف في المنطق باسم "مغالطة غموض التركيب" Fallacy of Composition لأن ميل يعتبر سعادة المجموع مجموع سعادات أفراده أي طالما كانت لذَّاتي خيرا لي ولذَّاتك خيرا لك ولذَّاته خيرا له..وهلم جرا..كانت لذَّاتي مضافة إلى لذَّاتك ولذَّاته خيرا لي ولك وله مجتمعين! ولم يفطن ميل إلى أن أنواع اللذات لا يمكن جمعها كما تُجمع أفراد الناس. وشبيه برأي ميل في هذا الصدد أن نقول إن الفرقة التي تتألف من مائة جندي طول كل منهم ستة أقدام لا بد أن يكون طول هذه الفرقة ستمائة قدم… ! وكان يمكن أن يكون هذا صحيحا لو وقف كل جندي فوق رأس جندي آخر... ! أي أن حجة ميل السالفة الذكر كان يمكن أن تكون صحيحة لو أن عقول الناس جميعا أمكن أن يندمج بعضها في بعض وتصبح مجموعا عقليا واحدا ولكن مجموع الأفراد ليس فردا ومن ثم لا تكون لذاته لذاتِِ لأي فرد آخر. )) -6-
    المغالطة الثانية هي أن ميل أُجبر أمام النقد والواقع أن يفرق بين اللذت كيفا بعد أن قصر سلفه التفرقة على الكم دون الكيف..ومذهب النفعية يجعل اللذة معيارا وحيدا للأفعال الإنسانية ومن ثم لا يكون بين اللذات خلاف إلا من ناحية الكم وهو ما التزم به بانثام إلا أن ميل خالف معلمه وألزم نفسه مصادرة بتفريقه بين اللذات كما وكيفا وهي سقطة تؤدي للقول بوجود مقياس غير اللذة يستخدم في التفرقة بين أنواعها فالإنتقال إلى الحديث عن كيفها لا يمكن أن تكون اللذة أساسه..يقول توفيق الطويل: (( إن المذهب الذي يقوم على مصادرة هي أن اللذة هي الخير الوحيد وواضح أن اللذات بما هي لذات لا تسمح بتفرقة كيفية لأن هذه التفرقة تتنافى مع المصادرة السالفة ولا تتمشى مع منطق لمذهب الإستقرائي في الأخلاق )) -7-
    ومن الأخطاء السكولوجية محاولة ميل تفسير بعض القيم التي تكون خيِّرة في ذاتها كأن تحب الأم ابنها لذاته لا لما يحدثه الطفل من لذة بأنها قيم كانت تهدف في بدايتها إلى تحقيق لذة لصاحبها ثم تحولت بالتدريج عن طريق قانون تداعي المعاني إلى أفعال خيرة في ذاتها. وقانون تداعي المعاني هذا الذي التجأ إليه ميل كان قد اقتبسه من دافيد هارتلي فهو أهم قانون للمدرسة الترابطية التي ترفض الأفكار الفطرية وتفسر أحداث العقل بأنها نتاج التجربة ، فبتوارد الصور الحسية ثم ترابطها تتصل المعاني ببعضها البعض وتتعاقب الظواهر النفسية بأن تستدعي حالة نفسية معينة حالة أخرى مختلفة عنها وهذه تستدعي أخرى كسلسلة مترابطة فيما بينها. وكل ذلك يتم بصورة تلقائية وعبثية من دون أن يكون للإرادة أو الفكر أي أثر!. وقد سبق لنا نقد هذه الأطروحة الفلسفية التي تعود أصولها إلى جون لوك وبينَّا تهافتها في مقالنا عن السلوكية الراديكلية (الترابطية الحديثة) ولبيان مكانة هذه القوانين اليوم في علم النفس الحديث نكتفي بالإشارة إلى ما جاء في كتاب "نظريات التعلم دراسة مقارنة": (( حقيقة إن النظريات الحديثة لا تولي مفاهيم نظرية الإرتباط في التعلم مثل الإقتران والتكرار والأثر أهمية كبيرة وخصوصا وأنها أصبحت الآن مفاهيم تقليدية ولكن رغم ذلك فلا مجال لإنكار أهميتها في فهم عملية التعلم في الماضي والمستقبل. )) -8- ..ويقول بول جيوم: (( إن غالبية علماء النفس يعرفون للترابطية نصيبها فهم يميزون بين مستوين فالمستوى الأدنى هو مستوى الميكانيزم الصرف تحكمه قوانين الترابط وعلى وجه الدقة لا يوجد ههنا فكر بمعنى الكلمة..ومستوى أعلى هو مستوى التأليف العقلي فالفكر هنا يتسم بالخصوبة والذكاء..ولهذه المفاهيم قيمة عيانية وكلينيكية تعلو على الجدل إنها تزودنا بتباينات الألون والمستويات هذه التي تفتقر إليها اللوحة التي رسمتها لنا الترابطية الصرفة عن الحياة العقلية فكانت خلوة من الظلال والنتوءات... التحديد المنطقي إنما هو علاقة باطنية بين الأفكار يستحيل خفضها إلى مجرد علاقة خارجية ناشئة عن الترابط )) -9-..ويقول توفيق الطويل: (( ولكن الدراسات السيكولوجية قد أثبتت تهافت هذا الزعم وانتهت بالتفرقة بين أفعال الإنسان التي تصدر عن دوافع فطرية خالصة وبين تصرفاته التي تجري بمقتضى مبدأ أو قانون..ورأى علماء النفس في مباحثهم في سيكولوجيا الشعور أن أحكام الناس التي قُوِّم بها الأفعال الإنسانية قد ظهرت في أول أمرها في صورة أفكار دينية وتقاليد إجتماعية قديمة قدم الحياة الإجتماعية. )) -10-
    أخيرا نشير إلى أن ميل قبل على خلاف سلفه بمفهوم التضحية وإن كان في قبوله نوعا من التشويه لهذا الخُلق..فميل لا يعتبر التضحية خيِّرة في ذاتها وإنما خيرتها معلقة بما تحدثه من لذة وسعادة لمجموع الأفراد..والتضحية التي لا تؤدي إلى زيادة مقدار السعادة العامة فلا مكان لها في منظمومة الأخلاق..فالذي يضحي من أجل قيم عليا في ذاتها كالمثل الأعلى أو حتى فكرة أو قيمة اعتبارية هي من الأخلاق المنبوذة التي لا يجب إتيانها في النفعية! وهذا تشويه ولا شك لخُلق التضحية فأحيانا يعجب المرأ بتضحية إنسان حتى لو كان هذا الإنسان عدوا له وقد يجلب له ضررا بتضحيته تلك..فإعجاب العدو مع الضرر بتضحية هذا الشخص لهو دليل على أن خلق التضحية خيِّر في ذاته لما كما نص ميل.

    المدرسة الحدسية..الأخلاق..الدين ووجود الله
    فشل المدرسة الحسية في تأسيس منظمومة أخلاقية متكاملة قد يقود ضمنا إلى تقرير ما دعت إليه نقيضتها المدرسة الحدسة وعلى رأسهم إمام "العقليين" إمانيويل كانط فهذه المدرسة وعلى نقيض الأولى تعتبر خيرية الأفعال وشريتها تكمن في ذاتها فالتعاطف خير لأن في طبيعته ما يحتم اعتباره خير والقتل شر لأن في طبيعته العدوانية ما يحتم اعتباره شرا..فلا تتوقف خيرية الأفعال ولا شريتها على النتائج كما تقول النفعية ولا على إرادة الإنسان ولا حتى على إرادة الله التي تمثلها الأوامر والنواهي المتضمنة في الكتب المُنَزَّلَة. وإنما مرده إلى البواعث ، والباعث هنا حدس فطري أو استدلال عقلي عند البعض ترد فيه الخيرية إلى العقل ويدركه الإنسان في كل زمان ومكان. فالقانون الخلقي هو قانون عقلي لدى هؤلاء وهو ما يعبر عنه بالواجب الأخلاقي.
    ولكن المدرسة الحدسية هنا تغفل نقطتين هامتين الأولى هي مرجعية الواجب الأخلاقي..إذ لا يكفي القول بأن هناك واجب اخلاقي لتفسير قيام التصرفات الأخلاقية فالمعرفة الأخلاقية لا تستقل بنفسها في تأسيس الأخلاق ولا يكفي أن تعرف أن هذا خير حتى تأتيه ولا يكفي أن تعرف أن هذا شر حتى تنأى وتنهى عنه إذ أن المعرفة تحتاج إلى إلزام ومصدر أقوى يفرض إتيان الخير وتجنب الشر واقعا وهذا قدر زائد من المعرفة يتميز به الدِّين عن المعرفة العقلية الصرفة. إن قولهم عن الخيرية بأنها قائمة في طبيعة الأفعال الخيّرة وأنها تدرك بحدس فطري يقيني مباشر لا يحل إشكال الأخلاقية ولا يبرر قيامها..إن الأخلاقية لا تساغ بغير نظر في الطبيعة البشرية في نزوعها إلى الكمال ولا تستقيم بغير غاية يضعها العقل هدفا للسلوك الإرادي وتفكير يبرر الأخلاقية ويفسر مقوماتها-11- ..والعقليين لا يضعون غاية للسلوك الأخلاقي مكتفين بمجرد المعرفة العقلية الصورية. يقول الكاتب التركي مقداد يلجن: (( ...الأخلاق الكانطية التي لا تربط الأخلاق بالجزاء إطلاقا؛ لأنها ترى أن الأخلاق يجب أن تطبق بصرف النظر عما يترتب عليها من جزاء، أو مكافأة فإن مثل هذه الأخلاق إن تصلح لفئة خاصة أمثال "كانط" فإنها لا تصلح لجميع الفئات، والأخلاق الإسلامية جاءت لجميع الفئات مراعية لجميع النفوس ولجميع الفروق الفردية.-12- إن الفرق بين الفريقين هو كالفرق بين طريقين سيارة أحدهما مراقب بجهاز رادار والثاني بدون مراقبة ووقع إعلام مرتادي الطريقين بأن من يتجاوز سرعة معينة في الطريق الأول سيقع ضبطه وستسلط عليه عقوبات ردعية أما الطريق الثاني فسيعتمد فقط على ضمير السائق في احترام السرعة المطلوبة. إن النتيجة الحتمية التي لن يختلف فيها اثنان هو أن نسبة احترام قوانين السرعة في الطريق الأولى ستكون أضعافا مضاعفة عما هو عليه في الطريق الثاني ذلك أن الضمير هو شرطٌ ضروري ولكنه ليس بالشرط الكافي حتى يتحقق على أرض الواقع ما يجزم نفس هذا الضمير بصحته نظريا. لأن خيرية الأفعال في ذاتها لا يبرر قيام الخير واقعا إذ لا بد من إلزام أقوى يفرض تجسيد تلك المعرفة العقلية وإخراجها من النظري إلى العملي وهو ما تنفرد به المعرفة الدينية عن المعرفة العقلية الصرفة في التأسيس للأخلاق.
    أضف أيضا وجود كثير من التصرفات أو الممارسات البَيْنِيَّة أي تلك التي تقع بين طرفي النقيض الأخلاقي واللااخلاقي فيعجز الواجب الخلقي عن وصفها وتصنيفها ومن ذلك تلك الممارسات التي كثيرا ما يحدث حولها جدلا عقليا واسعا وتجاذبا في التصنيف بين من يراها بعقله أخلاقية وآخر يراها غير أخلاقية كالذي يصطلح عليه بالموت الرحيم مثلا وغيره من القضايا ، فتظهر الحاجة إلى ضرورة وجود معرفة أخلاقية زائدة تفصل في المسألة لاستحالة أن يكون الفعل أخلاقيا وفي ذات الوقت غير أخلاقيا.
    النقطة الثانية التي أغفلتها المدرسة الحدسية والعقلية هي فكرة الكائن اللانهائي التي يحملها الإنسان في ذهنه والتي تظهر في نزعة الإنسان نحو الكمال الأخلاقي فكلما ارتقى هذا الإنسان في سلم الأخلاق يدرك أن هناك مراتب أعلى لم يصلها بعد..فمن أين جاءت هذه الصورة ؟ هل مصدرها داخل الإنسان أم هي خارجة ومستقلة عنه ؟ يجيب ديكارت: (( النتيجة لا يمكن أن تكون أعم من سببها..وإذا اسعرضتَ أفكارك صادفتَ بينها فكرة ممتازة هي فكرة الكائن اللانهائي..أعني أن في ذهنك صورة عن كائن لا نهاية له ولاحدود فمن أين جاءتك هذه الصورة ؟ يستحيل أن تكون نبعت من نفسك لأنها أوسع منك..فأنت على نقيضها كائن نهائي محدود وبديهي ألا تجيء الصورة أشمل من أصلها..إذن فمن أين جاءتك هذه الفكرة بعد أن أيقنتَ أنها لم تتفرع عن فطرتك ؟ )) -13-
    يقول الدكتور هاني يحي نصري في نقض الإلحاد: (( إن ارتباط فكرنا بالكمال ورؤيتنا لكل نقص نمارسه ونحن نظن فيه خيرا وكمالا يدفعنا إلى الملاحظة أن بي وجودا كاملا يدفعني ويمكنني من ملاحظة نواقصي..كذلك يمكننا أن نلاحظ أن هذا الوجود الكامل موجودا أيضا خارج عقولنا ...وارتباط فكرنا بالفكر الكامل ارتباط خارجي يدفع بمفهوم الكمال إلينا ذاتيا كي نصنع أفكارنا بناء على نماذجه ))
    وارتباط فكرنا بالكمال اللانهائي يعتبرها ديكارت بمثابة الختم الإلهي تماما كما يختم الفنان صنعته باسمه..يقول: (( والحق أنه لا ينبغي أن نعجب أن الله حين خلقني غرس فيَّ هذه الفكرة لكي تكون علامة للصانع مطبوعة على صنعته. وليس من الضروري كذلك أن تكون هذه العلامة شيئا مختلفا عن هذه الصنعة نفسها ولكن مجرد اعتبار أن الله خلقني يرجح عندي الإعتقاد بأنه قد جعلني من بعض الوجوه على صورته أو على مثاله" .
    "أي أني حين أجعل نفسي موضوع تفكيري لا أتبين فقط أني شخص ناقص غير تام ومعتمد على غيري ودائم النزوع والإشتياق إلى شيء أحسن وأعظم مني..بل أعرف أيضا في الوقت نفسه أن الذي اعتمد عليه كل هذه الأشياء العظيمة التي أشتاق إليها والتي أجد في نفسي أفكارا عنها..وأنه يملكها لا على نحو غير معين أو بالقوة فحسب بل يتمتع بها في الواقع وبالفعل وإلى غير نهاية..ومن ثمة أعرف أنه هو الله )) -14-

    1- مذهب النفعية العامة في فلسفة الاخلاق. 98
    2- رحلات داخل الفلسفة الغربية 61
    3- المرجع السابق 60
    4- المرجع السابق 61
    5- مذهب النفعية العامة في فلسفة الاخلاق. 30
    6- المرجع السابق 185
    7- المرجع السابق 176
    8- نظريات التعلم دراسة مقارنة 28
    9- بول جييوم علم نفس الجشتلت 22-25
    10- مذهب النفعية في فلسفة الأخلاق. 298
    11- المرجع السابق 322
    12- علم الأخلاق الإسلامية. 289
    13- قصة الفلسفة الحديثة 101
    14- المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت. 120
    التعديل الأخير تم 03-23-2023 الساعة 03:46 PM
    التعقيد في الفلسفة بمثابة أوثان مقدسة يُحرَّمُ الإقتراب منها بالتبسيط أو فك الطلاسم
    فمن خلال التبسيط يتكشَّف المعنى السخيف -لبداهَتِه أو لبلاهَتِه- المُتخفي وراء بهرج التعقيد وغموض التركيب..

    مقالاتي حول المذاهب والفلسفات المعاصرة


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء