وممن أشار إلى ذلك من الذين ينعتهم الدكتور ب(أتباع ابن تيمية) العلامة حافظ حكمي في كتابه<معارج القبول>، حيث يقول: (أكثر شرك الأمم التي بعث الله إليها رسله وأنزل كتبه غالبهم إنما أشرك في الإلهية ولم يذكر جحود الصانع إلا عن الدهرية والثنوية وأما غيرهم ممن جحدها عنادا كفرعون ونمرود وأضرابهم فهم مقرون بالربوبية باطنا كما قدمنا وقال الله عز و جل عنهم{وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} ، وبقية المشركين يقرون بالربوبية باطنا وظاهرا كما صرح بذلك القرآن فيما قدمنا من الآيات وغيرها مع أن الشرك في الربوبية لازم لهم من جهة إشراكهم في الإلهية وكذا في الأسماء والصفات إذ أنواع التوحيد متلازمة لا ينفك نوع منها عن الآخر وهكذا أضدادها فمن ضاد نوعا من أنواع التوحيد بشيء من الشرك فقد أشرك في الباقي مثال ذلك في هذا الزمن عباد القبور إذا قال أحدهم يا شيخ فلان لذلك المقبور أغثني أو افعل لي كذا ونحو ذلك يناديه من مسافة بعيدة وهو مع ذلك تحت التراب وقد صار ترابا فدعاؤه إياه عبادة صرفها له من دون الله لأن الدعاء مخ العبادة فهذا شرك في الإلهية وسؤاله إياه تلك الحاجة من جلب خير أو دفع ضر أو رد غائب أو شفاء مريض أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله معتقدا أنه قادر على ذلك هذا شرك في الربوبية حيث اعتقد أنه متصرف مع الله تعالى في ملكوته ثم إنه لم يدعه هذا الدعاء إلا مع اعتقاده أنه يسمعه على البعد والقرب في أي وقت كان وفي أي مكان ويصرحون بذلك وهذا شرك في الأسماء والصفات حيث أثبت له سمعا محيطا بجميع المسموعات لا يحجبه قرب ولا بعد فاستلزم هذا الشرك في الإلهية الشرك في الربوبية والأسماء والصفات).
-بل ذكر إمام متكلمي الأشاعرة في عصره ومقدمهم في الأصلين سيف الدين الآمدي[وقد توفي قبل ولادة ابن تيمية بعشرات السنين] في كتابه<أبكار الأفكار2/92> ما هو أبلغ من ذلك ، حيث صحح إطلاق التوحيد على مجرد(الإخبار عن التوحيد ، وإن جهل اعتقاد المخبر به)، أي:ولو لم يدع أن ما أخبر به هو ما يعتقده ، ولو لم ندر حاله ؛ أمسلم هو أو ملحد !
-تنبيه: يكرر كثير ممن انتقدوا ابن تيمية في هذه القضية،ممن اعتمد الدكتور على بعض كلامهم في هذه المحاضرة[كالدجوي وغيره] أن ابن تيمية ينص على أنهم موحدون في الربوبية[بل يزعم بعضهم أن ابن تيمية يسميهم(موحدين)-كذا بإطلاق-!] ، وعبارات ابن تيمية المبثوثة في كتبه[وكذا عبارات بعض تلاميذه كابن القيم وابن كثير] تدور على النص على ما ذكر القرآن إقرارهم به[كأن ينص على أن مشركي العرب يقرون بخلق الله لهم وبخلقه السماوات والأرض...] ، أو يقول بأنهم يقرون بالربوبية[أي: أصل الربوبية-كما سيأتي بعض كلامه في هذا-]، أو يقول بأنهم يقرون بتوحيد الربوبية.
فأنت تراه في هذه العبارات وما شابهها يتحفظ من القول بأنه موحدون في الربوبية ، فضلا عن نعتهم ب(الموحدين)-كذا بإطلاق-!
6-عرف الدكتور العبادة بأنها(أقصى الذل والخضوع قلبا وقالبا). وعزاه إلى الجمهور[!] وقال بأنه لابد من هذين القيدين ، وهذا التعريف مع كونه لا يشفع لما أراد الدكتور معارضة ابن تيمية وغيره به ، فإن عليه مؤاخذات ، ومن أقرب هذه المؤاخذات: أنه يلزم من هذا التعريف أن لا تكون أعمال القلوب كالحب والبغض في الله ، وخوف الله ورجائه... = عبادة ؛ لأنه لم يتوفر فيها القيد الثاني(قالبا) !
7-قوله بأن السجود للصنم ليس كفرا بذاته ما لم يعتقد بقلبه؛لأنه لو أكره على السجود وقلبه مطمئن بالإيمان لم يكفر.
0وهذا استدلال غريب ، ومن أسهل ما يرد به عليه=أن ساب الله ورسوله يحكم بكفره بإجماع العلماء ولم يقل أحد بأن الحكم بتكفيره يتوقف على سؤاله:ماذا يعتقد قلبك في الله ورسوله ! ومع ذلك فإن المكره على السب لا يكفر بإجماع العلماء؛لصريح الآية{إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.
8-يرد الدكتور على ابن تيمية وغيره بصور تدل على أن المشركين كانوا يعتقدون النفع والضر في من يعبدونه.
0فيقال: إنهم لا ينازعونك في هذا، والمشركون في زمان ابن تيمية وغيره يعتقدون ذلك ، وإلا فلماذا دعوهم ؟! [وأنت نفسك أقررت بذلك في كلامك الذي نقلته عنك قبل قليل]
8-يكرر أن ابن تيمية يخالف جمهور علماء الكلام ، وأنه يكفرهم.
0وأحسب أن هذا الفهم هو الذي جعل حكمه في المسألة مشوشا ؛ وهذه جادة الأحكام التي تكون نتاجا نفسيا ، لا علميا.
-ثم إن ابن تيمية لم ينفرد بكلامه في أهل الكلام ، بل قد تكلم فيهم أئمة من المذاهب الثلاثة-الحنفية والمالكية والشافعية-[لا كما يطلق الدكتور أن هذه المذاهب الثلاثة مذهبها مذهب أهل الكلام] وغيرها ، فلو أخذنا المذهب الشافعي مثلا[لأنه المذهب الذي يقول الدكتور بأنه يتمذهب به] لوجدنا النقل عن رأس المذهب الإمام الشافعي في ذمهم كالمتواتر[كما أشار لذلك الحافظ الذهبي-وهو شافعي- في سير أعلام النبلاء10/29] ، ومن ذلك قول الإمام الشافعي: (لقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقول ذلك). رواه ابن أبي حاتم في<آداب الشافعي ومناقبه>ص182 وغيره بسند صحيح جدا ، بل حكى الفقيه الحافظ أبومحمد البغوي-وهو شافعي- في كتابه[شرح السنة1/216] الاتفاق على ذلك.
-ثم لوسلمنا جدلا بأن ابن تيمية كفر أعيان علماء الكلام[وهذا الإطلاق لايشك من قرأ كتب ابن تيمية في غلط نسبة مثله إليه]= فإن كتب المتكلمين طافحة بتكفير ابن تيمية ، بل تكفير من سبقه من أئمة السنة والحديث ووصمهم بالتشبيه ، بل أفتى بعضهم بأن من يطلق على ابن تيمية لقب(شيخ الإسلام)=فهو أيضا كافر !! ثم إنه لا يخفى عليك أنه بفتوى بعض أهل الكلام سجن ابن تيمية وأصحابه مرارا ، حتى كان موته رحمه الله مسجونا. [وبعد هذا كله=من تظنه الأولى بدعوى المظلومية ؟!]
- وكتب المتكلمين مليئة بتكفير من لايجوز تكفيرهم ، لاينكر ذلك إلا مكابر أو من لم يطالعها ، فهذا أبومنصور البغدادي-مثلا-[وهو من كبار أئمة متكلمي الأشاعرة،توفي سنة429،وعلى كتبه معول كثير ممن بعده من أئمة الأشاعرة] يقول في خاتمة كتابه<أصول الإيمان269>-حاكيا قول أصحابه الأشاعرة- : (وأما الشاك في كفر أهل الأهواء، فإن شك في أن قولهم هل هو فاسد أم لا ؟ =فهو كافر. وإن علم أن قولهم بدعة وضلالة،وشك في كونه كفرا = فبين أصحابنا في تكفير هذا الشاك خلاف، وقد قال أكثر المعتزلة بتكفير الشاك في كفر مخالفيهم، ونحن بتكفير الشاك في كفرهم أولى)!
-وأما التكفير في كتب الماتريدية فأكثر من أن يحصر حتى في كتبهم الفقهية-فضلا عن كتبهم الكلامية- ، فهم يكفرون بأدنى شيء ؛ فبعضهم-مثلا- يكفرونك بقولك: (مسيجد)! بل بعضهم يكفرون من يثبت ما نص القرآن عليه ،كحكمهم بارتداد من يقول بزيادة الإيمان[مع كثرة وشهرة وصراحة الآيات التي تنص على زيادة الإيمان].
-ثم إن الدكتور نفسه يقرر ضمنا خطأ بعض علماء الكلام ؛لأنه أقر في أول المحاضرة أنه لايجوز دعاء غير الله فيما لايقدر عليه إلا الله .[ وهل كان إنكار ابن تيمية عليهم إلا لأجل هذا الفعل-الذي أنكرته أنت نفسك- وأمثاله]
9-يقرر الدكتور في مقام الرد على ابن تيمية ومن وافقه =أن توحيد الألوهية متضمن توحيد الربوبية ، وأنه لا يوحد أحد توحيد الألوهية إلا وقد أقر الربوبية.
0وهذا في غاية العجب؛ فإن ابن تيمية و من وافقه لم يخالفوا في هذا ،بل تقرير هذا في كتبهم كثير جدا.
10-ادعى الدكتور التقدير في نحو قوله تعالى{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله}لقمان25 ، وأنه المفروض عليهم ، لا حقيقة اعتقادهم ! [ثم زاد الدكتور ضغثا على إبالة=فنسب هذا القول إلى(العلماء) كذا بإطلاق!]
0وهذا غريب منه ؛فالآيات صريحة في أنهم يعتقدون ذلك ابتداء ، بل لو كانت هذه الآيات ليست نصوصا صريحة في ذلك=لما قبل من الدكتور هذا التقدير ؛ لعدم الدليل ،ولأن الآيات في ذلك كثيرة ولم يأت التقدير في أي موضع منها ولا في السنة ، وهذا عند العلماء يصير الظاهر نصا ؛ لأن ادعاء التقدير في مثل ذلك=حكم بأن القرآن غير مبين ، وأن الله-سبحانه- يخفي التقدير في كل هذه المواضع ! وهذا لا يكون إلا ممن يريد التعمية على المخاطب وإخفاء الحقيقة عنه أو تشويهها وإلباسها عليه ، تعالى الله عن مثل ذلك. {بلسان عربي مبين} {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} {وأنزلنا إليكم نورا مبينا}.
-ثم إن الدكتور لم يسم أحدا من العلماء إلا ابن عاشور[كرر ذكره] ، وأنا أستغرب من الدكتور كيف يحتج على ابن تيمية[في مقام اعتراضه عليه بأنه لم يسبق من متقدم] بكلام عالم معاصر ، ولو كان تفسير عالم حجة على غيره-وحاشا لله أن نقول ذلك- =لكان ابن تيمية-فضلا عن غيره- أولى من ابن عاشور ؛ لكونه أعلم منه وأسبق وأقرب إلى زمان التنزيل والسلف باتفاق أهل المعرفة.
0فكيف إذا عرفت بعد هذا أن نسبة الدكتور ذلك القول إلى ابن عاشور من أصلها نسبة غير صحيحة ، وكلام ابن عاشور يخالف صراحة ما نسبه إليه في نفس ذلك الموضع المشار إليه-آية لقمان25- ، وفي غيرها أيضا من آيات هذا الباب[في تفسيره آيات يونس والمؤمنون والعنكبوت والزمر والزخرف وغيرها].
0فإن ابن عاشور رحمه الله نص في عدة مواضع من تفسيره[=<التحرير والتنوير>11/155 ، 18/109 ، 25/271] على أن الاستفهام(استفهام تقريري).
-وقال عند آية يونس(11/157) : (وإنما أخبر الله عنهم بأنهم سيعترفون بأن الرازق والخالق والمدبر هو الله؛ لأنهم لم يكونوا يعتقدون غير ذلك).
-وقال عند نفس آية لقمان (21/179) : (...عقولهم التي تجمع بين الإقرار لله بالخلق،وبين اعتقاد إلهية غيره).
-وقال عند آية الزمر{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} (24/17) : (هو تمهيد لما يأتي بعده من قوله:{قل أرأيتم ما تدعون من دون الله} ؛ لأنه قصد به التوطئة إليه بما لا نزاع فيه ؛ لأنهم يعترفون بأن الله هو المتصرف في عظائم الأمور).
-وقال عند آية الزخرف الأولى9 (25/168) : (هم يقولون:خلقهن الله...، وذلك هو المستقرى من كلامهم؛نثرا وشعرا في الجاهلية).
- وأما قول الدكتور بأنه تعليق لم يثبت حصوله ، ثم كلامه على أداة الشرط(إن).
0فأقول:كيف غفل عن كون الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ؟!
0ثم كيف غفل عن وجود آيات أخرى في الباب ليس فيها أداة الشرط هذه، بل تبتدئ بالأمر={قل:...}، ثم يخبرنا سبحانه بردهم={سيقولون:...}.
-ثم تأمل خاتمة مثل هذه الآيات[مثلا في سورة المؤمنون(84-)] بعد جوابهم ، واستعن بكتب التفسير-وخاصة التفاسير العالية المتقدمة كالطبري وابن أبي حاتم-=ليزداد لك الأمر وضوحا ، فإن كنت مستعجلا فلا أقل من أن تتأمل قوله تعالى في آية الزمر38 :{ولئن سألتهم من<خلق> السماوات والأرض ليقولن الله ، قل أفرأيتم ما<تدعون> من دون الله...}
0ثم إن في بعض هذه الآيات ترتيب أمر آخر على جوابهم ، فإذا سمع ردهم قال لهم قولا آخر كما في نحو قوله تعالى{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ} ثم سيجيبونك: {فَسَيَقُولُونَ اللّه}ُ ، فإذا أجابوك={فقل أفلا تتقون}.
0ثم ماذا تفعل بنحو قوله تعالى:{فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين,فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} ؟
هل ما زلت تشك في أن هؤلاء المشركين كانوا يؤمنون بأن الله هو الرب المدبر ، وأن بقية آلهتهم إنما هي وسائط وشفعاء{ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ، وأنهم يخلصون حال الشدة في دعاء الله[والدعاء من توحيد الألوهية] ، ثم إذا نجاهم أشركوا فيه-أي:الدعاء- ؟!
-وقد روى الطبري1/393 و ابن أبي حاتم وغيرهما[بإسناد يثبته ابن حجر في الفتح والسيوطي في الإتقان وغيرهما] عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال-عند قوله تعالى:{فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون}- : (أي: لاتشركوا بالله غيره من الأنداد...،وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره===). [وسيأتي إن شاء الله نقل مثل هذا عن جماعة من التابعين]
يتبع===
Bookmarks