إلى نظرية التطور : لا إكراه في الدين !
الكاتب :أحمد محمد بلقيس
نظرية التطور هي من أكثر المساحات النقاشية سخونة في المناقشات العلمية الدينية ، فهي مساحة مشتركة بين أطياف مختلفة: ملاحدة ، مؤمنون ، ربوبيون ، أنصار التصميم الذكي .. ، وهذه الأطياف المختلفة كلها تحاول تسخير هذه النظرية – سواء بإثباتها أو بنفيها – لصالح خطابها العقدي.
هذا المقال أعتبره نوعا ما مكملا لمقال آخر تحدث فيه عن جهود المدرسة السلفية في مواجهة الإلحاد ، وفي آخر المقال نبهت على أني سأفرد ما سميتهم بالفئة الثالثة وهم "الداروينيون العرب" بمقال أتطرق فيه إلى اشكاليات هذا الخطاب ، ويجب أن أنبه إلى أمر وهو أني وصفت هذه الفئة بأنها فئة مهمشة وأنها أضعف الفئات خطابا ، هذا الكلام إنما هو بالنسبة للمدارس الأخرى التي تعنى بمواجهة الظاهرة الإلحادية أما بالنسبة لقبول الخطاب ووجود أثر وصدى له بين الناس فلا شك أنه حاضر وبقوة ، وسأفرد لهذا جزءا من المقال في حينه إن شاء الله.
التطور والدين .. ربط إكراه:
أساس الإشكال في الربط بين نظرية التطور وبين الدين هو قصة آدم المذكورة في نصوص الوحي ، لو نظرنا نظرة عامة إلى العقائد السماوية الثلاث – إسلامية ، نصرانية ، يهودية – سنجد أمرا مهما وهو أنه كلما كانت النصوص أكثر صراحة وإحكاما كانت قابلية التأويل واستيعاب النظرية أقل ، فمثلا ما زالت بعض الدوائر المسيحية ترفض هذه النظرية رفضا قطعيا بل إن كثيرا من المراكز التي تحارب نظرية التطور هي مراكز دينية علمية نصرانية ، والسبب في هذا يرجع إلى أن الديانة النصرانية تحمل نصوصا صريحة لا تقبل التأويل في أن الخلق هو الحقيقة العلمية ويمكن مشاهدة هذا في سفر التكوين بوضوح ، وقد قوبلت نظرية داروين بحرب شعواء من قبل الكنيسة وخفتت هذه النبرة الحادة مع ظهور رسالة بيوس الثاني عشر " الجنس البشري" وفيه خطاب هادئ جدا موجه إلى العلماء التجريبيين بأن الكنيسة لا تمانع البحث في هذا المجال أبدا ، ومن ثم توالت التصريحات المتكررة على أن نظرية التطور لا تعارض الكتاب المقدس وتم التلفيق بين النظرية وبين معتقدات الكنيسة بنجاح.
هذه الإشكالية لم تكن حاضرة بهذه القوة في الوسط الإسلامي من حيث كونها إشكالية نصية ، فكل ردود الفعل العنيفة على الداروينية من قبل المسلمين إنما كان منشأها أن الداروينية هي معول الهدم الذي يستخدمه الملاحدة لهدم العقائد ولا بد علينا أن نكسر هذا المعول ، والجميع يعترف أن مساحة التأويل في التراث الإسلامي أوسع منها في النصوص النصرانية ، مع وجود آيات وأحاديث محكمة ترفض التأويل البتة ولكننا نتحدث الآن عن أي المساحتين أوسع.
احتوائية النظرية : نظرية كنسية بامتياز !
محاولات إظهار إحتواء الدين للنظرية التطورية هي طريقة كنسية بحتة ، ألق نظرة على تاريخ الكنيسة ، ستجد أن رسم المنحنى (Curve) عندهم في هبوط واضح ، فقبل بضع مئات من السنوات كانت الكنيسة محتكرة لكل فكر أو عمل علمي ، لا يمكن أن يمرر شيء إلا بإذنها كانت سلطوية وذات نفوذ وتمارس الدكتاتورية باحتراف.
بعد الثورة الصناعية شعرت الكنيسة بخوف يحيط بها ويحدق بها من كل حدب وصوب ، ما هي أنجح طريقة للنجاة من الطوفان ؟ ركوب الأمواج ! فبدأت خطابات الكنيسة بالإنحدار من الحدة إلى التودد ، أصبحت الكنيسة لا تمانع أبدا بعد قتل جاليليو أن يعتقد النصراني بكروية الأرض ! وكذلك حدث مع نظرية التطور لم تستطع الكنيسة أن تواجه الخطاب التجريبي المتعلق بهذه النظرية ، فارتأت لنفسها الابتعاد عن أي تصادم مع الخطاب العلموي التجريبي خوفا من سلطته وجرأته فهو الآن له الكلمة الحاضرة في المجتمع الغربي عدا أيام الأحد[1] ! تماما كما كان الحال سابقا ولكن مع تبادل للأدوار.
يظهر اليوم المسلمون الداروينيون أو كما يسميهم عمرو عبدالعزيز : الداروينيون المتأسلمون ، ليخرجوا بهذه النظرية التلفيقية بين الخلق والتطور ، سماها الأستاذ عمرو شريف ب: التطوير ! أي الله جل وعلا هو من طور هذه المخلوقات.
سؤال: صلاحية السؤال للاستهلاك ؟
أجد كثيرا من المؤيدين لنظرية التطور من المسلمين لا يقطعون أبدا بصحة نظريتهم ولكنهم يحاولون الخروج من إشكال دائم الحضور في ذهنهم وهو ، ماذا لو أثبت العلم التجريبي مستقبلا صحة هذه النظرية فانقلبت إلى حقيقة ؟ ما هو موقف الدين من هذا ؟
فإجابة على هذا السؤال رأى كثير من الداروينيين المتأسلمين أن طريقة الحل الوسط هي أنجح الطرق ، تطور مع تدخل إلهي !
يقول الدكتور عمرو شريف في كتابه " وهم الإلحاد: " اذا لم يقدم الخلقويون ( القائلين بالخلق الخاص ) ادلة علمية قوية تنفي حدوث التطور ، فان في القول بالتطوير الالهي مخرجا وجيها وصحيحا من وجهتي النظر العلمية والدينية " .
هذه الكلمات تقتطع جزءا كبيرا من النقاش وهو: ما مدى صلاحية هذا السؤال ؟
إن هذا السؤال يطرح فرضية معينة وهي أن النظرية العلمية قد تعارض نصوص الوحي الشريف ، ولكن هل الجواب عن هذا السؤال يصح ترجمته إلى أرض الواقع فتنشئ نظرية وتهدم اعتقادا شبه متواتر ، فقط لأن ثمة احتمالية مزعومة بحصول تعارض يوما ما بين النظرية وبين نصوص الوحي ؟ هذه الفوبيا من التطور وأن يتطور هو الآخر ليلتهم الدين ومعتقداته تعشعش في عقول الداروينيين المتأسلمين بشكل واضح !
ماذا لو طرح أحدهم سؤال ، وهو: ماذا لو ظهر نبي بمعجزات ومعه وحي من السماء على أنه نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ماذا سيكون موقف المسلمين من هذا التعارض بين ظهور نبي جديد وبين النصوص الدالة على ختم النبي صلى الله عليه وسلم ؟
بهذا المنطق يجب علينا أن نذعن لهذه الفرضية ونفترض أو نطبق طريقة تأويلية للنصوص في هذا الباب ، ونقحم هذه النصوص المحكمة إلى أبواب المتشابه تماما كما فعل مع نصوص خلق آدم من طين !
ولكن الجواب الأمثل سيكون هو أن هذه الفرضية غير ممكنة أصلا لأن نصوص الوحي هي المهيمنة على افتراضات العقل وليس العقل هو من يهيمن على نصوص الوحي ، وهنا أستحضر حديث الدجال لما قتل الرجل ثم أحياه والإماتة والإحياء من خصائص الباري جل وعلا ، فقال الرجل: " والله ما ازددت فيك إلا بصيرو أو يقينا " ، هذه التركيبة السليمة للمحكم والمتشابه ، فيعتقد الرجل اعتقادا قاطعا بأن الله هو الذي يحيي ويميت وأنه لا يتجلى لأحد في هذه الحياة الدنيا ، فبالتالي لو ظهر ما ظهر مما يظن أنه من الأدلة الدامغة على صدق المدعي بأنه إله ، فجاء بإحياء وإماتة وشبه على الناس حمله صفات الباري ، فإن هذا كله لا يمكن له أن يصمد أمام إحكامية الأصل الأول ، لذلك لم يلجئ الرجل إلى أي سبيل من سبل التأويل لنصوص الشريعة التي تخص هذا المقام مع احتياجه لمثل هذا ، ولم ينجرف كما انجرف الناس ممن اتبعوا الدجال وظنوا فيه أنه إله.
المقصود هو أن توهم التعارض ابتداء هو توهم غير سليم بالمرة ، ولا يجب أبدا أن يترجم إلى أمور عملية على الأرض فالنصوص المحكمة تصبح متشابهة وتبدأ آلة العبث التأويلية تلعب بالنصوص يمنة ويسرة لأجل أن تهدئ بالكذب وهما يقبع في نفوس بعض المتشككين ، فالقرآن الكريم قد ميز عن غيره بميزة المحكم والمتشابه ، وهذه المحكمات لا تتغير بتغير الزمان والمكان والحال ، أما النصوص المحرفة فلا يضبط فهمها عقال.
فيجب علينا حل الإشكال من أصله والنظر إلى بواعث هذه الفكرة واجتثاثها من أصولها لا التماشي مع الواقع والتسليم لوهمه.
ولكن ماذا لو قلبنا السؤال فأصبح: ماذا لو أثبت العلم التجريبي كذب النظرية مستقبلا ؟ ما هو موقف الدين من هذا ؟ ثم نعيد فنقلبه مرة أخرى: ماذا لو أعاد العلم التجريبي طرح هذه المسألة للنقاش مجددا فتبين كذب تكذيب هذه النظرية فأثبتت من جديد ؟ هل ستظل نصوص الدين تتمايل مع هذا التمايل ؟
من تشبع نصوص الكتاب في قلبه علم أن هذا ليس من خصائص نصوص الكتاب بأن يتمايل ويتلون بتلون الأحداث فيوافق مرة ويعارض مرة أخرى ثم يعود للموافقة ! خصوصا وأنها مسألة عقدية غيبية لا بد للدين فيها من قول فصل.
لذلك تجد أن الدارويني المتأسلم هو يشكل حالة من حالات اللاأدرية في هذا الجزء تماما ، فكثير منهم يرى أن الأدلة متكافئة فلا بد من إيجاد حل يرضي جميع الأطراف ، فتجد عنده تخبطا واضحا فيما يخص هذه المسألة لذلك يحتم عليه هذا الموقف أن بقف موقف الإحتواء ، ويمتنع من الهجوم.
من تابع مناظرة الدكتور عمرو شريف يجد هذا بوضوح ، ففي الأسئلة التي تتعلق بوجود الخالق تجد رد الدكتور عمرو كان يتخذ موقف المهاجم وبقوة ، بيد أنه لما كان الحديث عن مسألة نشأة الإنسان وتطرق الأمر للتطور ظهرت النبرة التسامحية تحت عنوان " أنا أوافق الطرف الآخر في كل ما يقوله باستثناء : أنها تطوير وليست تطور".
هذه الطريقة لن تفلح أبدا بل ستفتح آفاقا جديدة من الإشكاليات ، تخيل أن ملحدا ناقش داروينيا متأسلما ، وكان النقاش الأساسي حول التطور ونظرة الدين ، فقدم المسلم نظرته عن نظرية التطوير ، أظن أن جواب الملحد سيكون بسيطا وسهلا : هذه وجهة نظرك الخاصة ، ولكن وجهة نظر عموم علماء الدين مخالفة لما تقول !
هنا ستتفتح آفاق أخرى ومستويات أخرى للنقاش لا ينبغي لها أن تكون ، فما يظنه الدارويني المتأسلم حلا ، ليس كذلك.
يجب أن تكون العقائد الدينية مهيمنة ومسيطرة على الخطاب لا العكس ، وأنا أقول عقائد وليس التشريع ، فالتشريع في كثير من أموره يرجع إلى العرف وإلى أهل العلم من الأطباء وعلماء المخابر ، ولكن باب العقائد هذا باب مفصلي الدين فيه هو المهيمن بلا شك ، فالذي يجري الآن بطرح نظرية التطوير هو جعل عقائد الدين تابعة لنظرية علمية تجريبية وهذا ينافي طبيعة العقائد الدينية التي تعتبر حقائق يقينية بخلاف النظريات العلمية فهي تبقى فرضية أو نظرية ، فإنزال الدين من مستوى أعلى إلى آخر أنزل هو خطأ شنيع لا ريب فيه.
ولا يمكن أن يحصر النقاش في باب البحث المخبري أو التجريبي فقط ، بل إن القول بنظرية التطوير تأبى هذا أصلا ؛ فهي تنتهي إلى استخدام الميتافيزيقيا في فك إشكاليات وفجوات التطور.
خطورة هذا الخطاب يكمن في أنه يواكب الحالة الإنهزامية الفكرية العامة في الوسط الإسلامي ، فالمسلمون اليوم يبحثون عن مهرب ومخرج من التصادم الفكري بينهم وبين أنصار التطور من الملاحدة ، هم ببساطة يحاولون ترويض النقاش بينهم وبين الملاحدة فيما يخص هذا الباب ، لذلك لا عجب أبدا من اتباع كثير من الشباب لهذا النمط من أنماط الخطاب لأنه يشبع عندهم هذا الخوف.
بعيدا عن مناقشة شبه الداروينين المتأسلمين ، وأنهم يحاولون إرغام الداروينية على النطق بالشهادتين ؛ فإن جر الخطاب الإسلامي في مواجهة الإلحاد إلى هذا المستوى من مستويات الخنوع في قضية مركزية تشكل تحديا للعقائد السماوية هو جر إلى الهاوية لا ينبغي أن يكون.
" هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا "
Bookmarks