كيف يخلق الله الكافر وهو يعلم أنه سيدخل النار؟!!
سلطان العميري
يطرح هذا الاعتراض بصياغات مختلفة , ولكن حقيقته ترجع إلى أنه إذا كان الله عالما بكل شيء قبل حدوثه , فإنه خلق للكافر مع علمه بدخوله النار يستلزم نسبة النقص والعيب إليه ؛ لأن خلقه لمن يعلم قبل وجوده بأنه سيدخل النار منافٍ للرحمة الكلية , فلو كان الله كلي الرحمة ؛ لامتنع عن خلق من سيعلم أنه داخل النار بعد موته .

فنحن في مثل هذه الحالة إما أن نقول : إن الله غير عالم بحال الكافر قبل وجوده , وهذا نقص في العلم وإما أن نقول : إنه كان عالما به قبل وجوده , وهذا نقص في الرحمة , ففي كلا الحالين لا بد من نسبة النقص والعيب إلى الله .

وفضلا عن ذلك , فإن خلق الله للكافر منافيا للعدل أيضا , لكون الله سيعذب إنسانا لا يمكنه أن يخرج عما قدره الله وعلمه قبل وجوده , وليس له قدرة ولا إرادة يستطيع بها تغيير علم الله السابق( ).

وهذا الاعتراض من أكثر الاعتراضات التي يرددها الناقدون للأديان من الربوبيين والملاحدة , ومن أشهر ما يوردنه على مناظريهم من المسلمين وغيرهم , والمعتمدون عليه جمعوا بين خطئين كبيرين : الأول : سوء الفهم لطبيعة الكمال الإلهي كما يعتقده المسلمون , والثاني : أنهم حددوا لأنفسهم ضوابط معينة للكمال في صفة الرحمة والعدل , ثم طفقوا يحاكمون أفعال الله إليها , فحين وجدوها غير متفقة معها , انتهى بهم الأمر إلى القدح في وجود الله وكماله .

والجواب المنضبط على هذا الاعتراض لا بد فيه من الكشف عن أن خلق الله للكافر لا ينافي الكمال في الرحمة ولا الكمال في العدل ولا الحكمة , وإنما هو مستق مع تلك المعاني اتساقا تاما ومستقيم مع مقتضياتها استقامة كاملة , ولا بد لنا من إثبات صحة هذه الدعوى , وإقامة براهينها , وتجلية تفاصيلها , لأن ذلك سيـؤدي بالضـرورة إلى نسف ذلك الاعتراض من جذوره , وتهشم بنيانه على قواعده .

1- أما بيان عدم مناقضة ذلك للكمال في الرحمة الإلهية , فإن الرحمة صفة من صفات الأفعال , كالعفو والكرم والمعفرة وغيرها , وصفات الأفعال لا تكون كمالا إلا إذا كانت مقرونة بالحكمة التي تعني وضع كل شيء في موضعه الصحيح , وبالعدل الذي يعني إعطاء كل ذي حق حقه وما يستحقه .

والنظر في صفات الأفعال الإلهية لا بد فيه من اعتبار اقترانها بهذين المعنيين , فالعفو لا يكون كمالا إذا كان مستقا مع الحكمة والعدل ؛ ولأجل هذا فالعفو عن المعاند والمتكبر والتساهل والمستخف في حقوق الآخرين ليس كمالا , ولا يكون كمالا إلا إذا نزل في محله المناسب له , كالعفو عن المخطئ والنادم والجاهل والناسي , ونحو ذلك , فإذا لم يعفُ الله عن أحد لكونه لا يستحق العفو , فذلك ليس نقصا , بل هو الكمال بعينه .

وكذلك الكرم لا يكون صفة كمال في كل الأحوال , فإن التكرم على المعاند , أو على من يعلم بأنه سيتمادى في ظلمه وغيه وضلاله ليس كمالا , ولا يكون كمالا إلا إذا نزل في محله المناسب كله , فإذا لم يتكرم الله على أحد لكونه لا يستحق إنزال الكرم فيه , فذلك ليس نقصا بل هو الكمال بعينه .

وكذلك الحال في صفة الرحمة , فإنها من صفات الأفعال , فهي محكومة إذن بالحكمة والعدل , فلا تكون صفة كمال في كل الأحوال , فإن رحمة المتكبر الذي ظلم الناس وقهر الآخرين وتمادى في الطغيان والعفو عنه منافٍ للعدل والحكمة , ولا تكون صفة الرحمة كمالا إلا إذا أنزلت في المحل المناسب لها , كرحمة النادم والناسي والجاهل , ونحو ذلك .

ولكن المعترضين على خلق الله للكافر أعرضوا عن هذه الحقيقة , وتعاملوا مع صفة الرحمة بقطعها عن علاقتها بالحكمة والعدل , فاعتقدوا أن كمال رحمة الله يقتضي أن تكون شاملة لكل أحد بلا استثناء , ومن غير تفريق بين الناس , وبين من يستحق أن يرحم وبين من لا يستحق , فحين وجدوا أن الله لم يرحم الكافر بإدخاله النار , توهموا أن ذلك مخالفا لكمال الرحمة .

والحقيقة أن الأمر ليس كذلك ؛ لأن صفة الرحمة لا تكون كمالا إلا إذا أنزلت في محلها المناسب لها , فكان الواجب عليهم أن يثبتوا أن الكافر مستحق للرحمة , ثم يعترضوا على عدم رحمة الله له , ولكنهم لم يفعلوا ذلك وقفزوا مبـاشرة إلى النـظر في بناء تصور محدد لكمال الرحمة ثم طفقوا يحاكمون أفعال الله إليها .

2- أما بيان عدم مناقضة خلق الله للكفار لصفة العدل , فهذه راجعة إلى العلاقة بين التقدير السابق وبين أفعال العباد , وقد سبق في مناقشة الاعتراض السابق الجواب المفصل على ذلك , وحاصله: أن الله تعالى أخفى علمه السابق عن كل الناس , فلا يمكن لأحد أن يعلم ما قدره الله وما شاءه , ثم هو سبحانه في الوقت نفسه خلق الإنسان خلقة يستطيع معها أن يختار أفعاله ويحدد سلوكه بإرادته وقدرته , فكل إنسان يملك قوة يستطيع بها أن يؤثر في أفعاله وسلوكه , وعلمه بذلك ضروري فطري لا شك فيه , فاختيار الكافر لأفعاله إذن ليس خارجا عن تلك الحقيقة , فهو يملك قدرة وإرادة مثل غيره من المؤمنين , والله تعالى لم يفرق بين المؤمن والكافر في إعطاء كل منهما أدوات الفعل والاختيار , فخلق الله الكافر كخلقه للمؤمن , سواء بسواء , فقد خلق الله كلا منهما وهو يملك قدرة وإرادة يستطيع بها أن يؤثر في أفعاله ويحدد تصرفاته , وأخفى علمه عن كل منهما , وأمر كلا منهما بالطاعة ونهاه عن المعصية , وساوى بينهما في البيان والإرشاد , ولكن الكافر اختار بما يجده في نفسه من إرادة وقدرة الكفر بالله تعالى والمؤمن اختيار بما يجده في نفسه من إرادة وقدرة الإيمان بالله .

فمن الأسباب المؤثرة في افتراق حال الكافر عن حال المؤمن ما يرجع إلى اختلاف اختيار كل واحد منهما , وليس إلى علم الله فقط , فعلم الله سابق لا سائق , ثم إن كل واحد منهما في حال فعله لا يدري عن علم الله شيئا , وإنما كانا يفـعلان الفعل بناءً على ما يجـده كل واحد منهما في نفسه من الإرادة والقصد .
إن حال المؤمن والكافر مع قدر الله السابق يشبه حال رجلين أرسلهما أبوهما إلى مدينة بعيدة , وذكر لهما الطريق السالم من الآفات والطرق المهلكة , وترك لهما حرية الاختيار , فاختار أحدهما الطـريق السالمة فوصل ونجى , واختار الآخر الطريق المهلكة , فهلك وخسر , فلا يقول أحد من العقلاء : إن الأب كان ظالما لأحدهما .

ويشبه كذلك حال رجل كريم قدم الطعام إلى رجلين جائعين , وترك لهما حرية الاختيار , فأقدم أحدهما على الطعام وأكل منه , فنجى من الموت , وأعرض الآخر عنه وبقي على جوعه , حتى أدركه الموت , ولا يقول أحد من العقلاء : إن ذلك الرجل كان ظالما لأحدهما .

ويزيد من وضوح هذه القضية أن الله تعالى لم يخلق الكافر كافرا منذ أول ولادته , و إنما خلقه على الفطرة التي تقتضي في حال استقامته وسلامته من المفسدات الإقرار بالخالق , والإيمان بوجوده وكماله والخضوع له , وهو لا يختلف في ذلك عن المؤمن , ولكن الكافر انحرف عن الفطرة , واختار سبيل الكفر بالله , وبلغه الله البيان والإرشاد الدلالي على ضرورة الإيمان به , ولكنه أعرض عن ذلك كله , فالكافر في حقيقته متساوٍ مع المؤمن في الخلق على الفطرة , وفي خلق أدوات الاختيار والقدرة والتأثير , وفي حصول البيان والإرشاد الدليلي لكل منهما , وكفى بذلك عدلا ورحمة .

ولكنْ المعترضون غفلوا عن هذه المعاني كلها , فتوهموا أن الله خص المؤمن من الأدوات والمؤهلات ما يجعله يختار الأعمال الموجبة لدخول الجنة , وحرم الكافر منها , وأعطاه من الأدوات والمؤهلات ما يجعله يختار الأعمال الموجبة لدخول النار .

والحقـيقة أن الأمر ليس كذلك , فالمؤمن والكافر كل منهما أعطي مثلما أعطي الآخر من الأدوات والمؤهلات .

3- وأما بيان عدم مناقضة خلق الله للكافر للكمال في صفة الحكمة , فلا بد من التذكير أولا بأن حكمة الله تعالى واسعة لا يمكن أن يحيط بها الناس , وقد سبق في أول البحث إقامة الأدلة الدالة على ذلك , وحال الناس مع حكمة الله دائرة بين الجهل المطلق وبين العلم ببعض ما يمكن أن ينكشف للعقل الإنساني منها , وبين ما يتفضل الله بإظهاره لعباده .

فإذا لم يظهر للإنسان وجه الحكمة من خلق الله للكافر , فإنه يجب عليه الإقرار بعجزه , ولا يصح له في العقل إن يبادر إلى إنكار الحكمة مطلقا أو أن يقدح في وجود الله وكماله , فإن معنى ذلك أن الإنسان يحاكم الله إلى مقـدار علمه ويصـدر أحكـامه على تدبير الله وأفعاله , بناءً على ما لديه من علم ناقض وإدراك قاصر , وكل ذلك انحراف عن الطريقة المستقيمة في النظر إلى العظمة الإلهية التي دلت عليها دلائل كثيرة , من أقربها عظمة الكون واتساعه .

ومع ذلك , فإننا إذا أوسعنا النظر والتأمل في تنوع مخلوقات الله , فإنه يمكننا أن نتعرف على عدد من الحكم الإلهية المتعلقة بخلق الله للكافر , فمن تلك الحكم( ) :

أ- أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات , فخلق هذه الذوات المضادة : المهتدية والضالة , والنعيم والعذاب من أقوى ما يظهر كمال الله في القدرة , كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والدواء والداء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر. وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه ، فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض، وجعلها مجال تصـرفه وتدبيره، , فخلو الوجود عن بعضـها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته .
ب- ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع العقاب ، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل ، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال ، لا بد من وجود متعلقها ، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء .

ج- ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه , وعتقه لمن شاء من عبيده ، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله : "لو لم تذنبوا , لذهب الله بكم , ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون , فيغفر لهم"( ).

ولو أعمل الناظر عقله في التأمل , لاستطاع أن يقف على حكم عديدة غير ما ذُكر , ولكنْ المعترضون على وجود الله لا يريدون البحث في الحكمة , ولا يرغبون في ربط أفعال الله بها , بل تراهم كثيرا ما يتهربون من ذلك , وينفرون منها نفرة الغزال من الأسد ؛ لأنهم يدركون أن ربط أفعال الله بالحكمة يغلق عليهم كل الأبواب التي يسعون إلى دخولها للتشكيك في وجود الله وكماله , ويفسد عليهم كل التصورات التي بنوها عن معاني الرحمة والعدل .

فثبت من خلال التوضيح السابق أن خلق الله للكافر ليس منافيا للكمال في صفة الحكمة , ولا في صفة الرحمة , ولا في صفة العدل , وبهذا يثبت أن ذلك الاعتراض باطل , قائم على تصورات خاطئة ومسلمات زائفة , ليس لها أساس من الصحة , ولا مستند من العقل
https://www.facebook.com/permalink.p...00000115328012
.