1. إن الجزاء من جنس العمل فهؤلاء كانوا خالدين في الكفر فحقّ عليهم الخلود في النار , فإن قال قائل هؤلاء لم يعيشوا إلا فترة محدودة ستين أو سبعين سنة فكيف صاروا خالدين في الكفر ؟! قلنا إن الدنيا كانت نهايتها بيد الله وليست بأيديهم ولو كانت أزمانهم في الدنيا تحت التخيير وليست تحت التسيير-كما هو حال الإيمان و الكفر- لاختاروا الخلود في الدنيا مع بقاءهم على شركهم ولو كانت الأعمار و الصحة والمال و الجمال والقوة بأيديهم أيضاً وليست بيدي الله لاختاروا أن يكونوا شباباَ أصحاء أغنياء جميلين خالدين مع بقاءهم على شركهم , فقد تمّ أمرهم حسب نيتهم وما ظهر منهم في دنياهم قال تعالى " وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" , فلو أن رجلاً وضع قنبلة في حشد من الناس لتنفجر وتقتل أكبر عدد منهم فلم تنفجر القنبلة لسبب ما ولمّا اُعتقل قال للقاضي إنني بريء ولا أستحق العقوبة لأنها لم تنفجر لحكَمَ الناس بوقاحته فالقاضي هنا يحاكمه على نيته وما بدا من أمره , ومن زعم منهم أنه لا يريد الخلود في الدنيا وأنه سينهي حياته بنفسه منتحراً فقد شهد على نفسه بديمومة كفره لعلمه أنه لا توبة له إن انتقل من الدنيا إلى الآخرة الأبدية , و إننا نرى أن بعض مَن يدخلون في دين التوحيد و ينبذون ما كانوا عليه من الكفر هم في سن الشيخوخة و بعضهم تجاوز الثمانين و التسعين , فهذا من رحمة الله عليهم أن أمهلهم لعلمه سبحانه أنهم سيرجعون إلى الحق في يومٍ ما , ولو أن الكفار ممن ماتوا في سن الشباب كانوا سيهتدون في شيخوختهم لأمهلهم الله إلى ذلك الأمد بما يعلم سبحانه من أمرهم , و لكن نية الكفر منعقدة عندهم بإطلاقها .

2. عدم خلود الكافر في العذاب فيه ظلم لغيره وانتقاص من حقه والله تعالى لا يظلم , قال تعالى "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ " وقال تعالى " وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" , ومقام الإفصاح عن طبيعة هذا الظلم يدفعني للتحدث بلغة الرياضيات - وهي لغة الكون كما قال العالم الإيطالي غاليليو- فمن المجمع عليه عند علماء الرياضيات أن الثابت إلى اللانهاية يساوي صفراً أي لا شيء فلو أردت مقارنة أي رقم ثابت 10 كان أو 100 أو 100000000 أو 99999999999 إلى اللانهاية فالنتيجة هي صفر أي لا شيء , فقيمة ∞\100 هي نفسها قيمة ∞\999999999 وهي صفر ! , فالإنسان أختاره الله و كرمه على مخلوفاته اللانهائية من الأشياء واللاأشياء و جعله سيدها في هذا الكون...., فلو عذّبَ الكافر لمدة محدودة مثل مئة أو مليون سنة فهذه الفترة لا تساوي شيئاً بالنسبة للأبدية في الآخرة فهي صفر كما قلنا , فإن أخرجه من النار و ألحقه بعالم الأشياء فما ذنب الأشياء أن يكون الكافر مثلها و هي لم تكفر بالله و لم تنكر نعمه الأبدية اللانهائية ؟ لا بل لم تحصل على فرصة لدخول الجنة و نعيمها الأبدي كما حصل مع الكافر , و نفس الأمر إن ألحقه بعالم اللا أشياء فما ذنب اللا أشياء أن يكون الكافر مثلها وهي لم تكفر بالله ولم تنكر نعمه الأبدية اللانهائية ؟ لا بل لم تحصل على فرصة لدخول الجنة و نعيمها الأبدي كما حصل مع الكافر .
و لا بد أن نشير هنا إلى أن الكفار درجات في عذابهم فمَن عاش كافراً و لم يرتكب جريمة قتل في حياته الدنيا ليس كمن عاش كافراً و يقتل الملايين من البشر مثل ستالين و هتلر .., قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يقول الله - تبارك وتعالى - لأهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا وما فيها، أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم. فيقول أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك (أحسبه قال: ) ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك " , فتعذيب الكافرين درجات تماماً كما أن نعيم المؤمنين درجات قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يُعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى به " .

3. مدة العقوبة لا ترتبط بمدة الجريمة , فنجد عند أحكام البشر أن مَن يقتل شخصاً ما في دقيقةٍ واحدة فقط , يُحكم عليه إما بالسجن المؤبد أي أن مدة العقوبة أضعاف أضعاف مدة الجريمة و لا يُحكم عليه بالسجن حسب مدة الجريمة , و إما أن يحكموه بالإعدام أي حكموا عليه بأبدية اللاوجود الدنيوي مع أنه قام بنقل الضحية من الوجود الدنيوي إلى اللاوجود الدنيوي في دقيقة واحدة فقط ,و من باب أولى أنّ الله عز و جل لا يحده زمان فإنزال العقوبة على جريمة الكفر بالله لا ينبغي لها أن تكون محصورة بمدة الكفر .

4. عدم إدراك حكمة فرع من فروع الأصل لا ينفي حكمة الأصل , فالذهن البشري مهما بلغ من حكمة و سعة أفق و كثير إطلاع لا يستطيع أن يدرك فلسفة الحكمة من وراء كل ظاهرة يسمعها أو يراها أو يقرأها ...,خاصة إذا كانت تلك الظاهرة في عالم غيبي تختلف قوانينه الفيزيائية و البيولوجية مع بقية المؤثرات الخارجية التي يتأثر بها الإنسان على جميع مستوياته نفسياً و فكرياً و سلوكياً...., و هذا الأمر سواء كنا مؤمنين أو غير مؤمنين بالله نتفق عليه , قال المؤرخ و الفيلسوف الملحد ديفيد هيوم في كتابه "تحقيق في الذهن البشري" : (أنّ الأسباب و المفاعيل لا تُكتشف بالعقل , و إنما بالتجربة , فهذه قضية سيكون من السهل أن يُسلّم بها , و لا سيما بالنظر إلى موضوعات نتذكر أنها كانت في يوم ما مجهولة تماماً لنا , لأننا لا بد أن نعي ما نكون فيه ساعتها من العجز المطلق عن التنبؤ بما يمكن أن يخرج منها ) , فمعاييرنا البشرية التي تراكمت عبر ألاف السنين لمفاهيم و ظواهر تتعلق بالعقل نفسه و العدالة و الحقيقة و المساواة ....إلخ , كلها غير صالحة للإسقاط في عالم غيبي لم نره و لم نختبره قط وفي أحسن أحوالنا يستطيع أن يصل إدراكنا إلى أسماء مكوناته المادية من دون حتى إدراك ماهيتها المادية , قال ابن عباس : (ليس في الجنة من دنياكم إلا الأسماء) , فإذا كان هذا حال الماديات المحضة فكيف الحال بالمعنويات العقلانية مثل مفاهيم العدالة و الرحمة و الصواب و الخطأ في ذلك العالم الغيبي ؟ , و لا بد لنا أن نضرب ولو على الأقل مثالاً واحداً على عدم إدراك حكمة فرع مع إدراك حكمة الأصل , لعل من أشهر هذه الأمثلة و أسهلها قصة موسى و الخضر عليهما السلام , فموسى كان مدركاً لحكمة الأصل التي تمثلت في أن الخضر موحىً إليه من ربه و أن الله أمر موسى بأن يتبع الخضر ليتعلم منه , لكن لم يدرك حكمة الفرع التي تمثلت في قتل الخضر لغلام صغير لم يفعل لهما شيئاً ! , لاحظ ذلك المثال حدث في عالم نعرفه و نعيش فيه و ليس في عالم غيبي مختلف تماماً مثل الآخرة , فالإدراك المطلق لم و لن نصل إليه في عالمنا فكيف بعالمٍ لم نحسه بعد ! .

5. نفي صفة عن الموصوف لا تنفي الموصوف نفسه , فإذا كان هنالك شخص دُعي إلى إجتماع ما و تم وصفه بقصر الطول لأصحاب ذلك الإجتماع و عندما حضر وجدوه طويلاً , فإنك تعلم حينها أنه من الحمق أن ننفي حضور ذلك الشخص للإجتماع و نلغي وجوده لمجرد اختلاف صفة من صفاته ! , إن ما يريدوه الملحدون و اللادينيون حينما يدندون حول مسألة الخلود في النار للكافرين أن ينفوا صفة العدل و الرحمة عن الله , و نفي الصفة لا ينفي الموصوف فلا يستقيم لهم بذلك عقلاً أن يبنوا على ذلك نفي الله نفسه ! , فكان عليهم إذا أرادوا أن ينفوا وجود الله نفسه أن يقدموا و لو أطروحة واحدة تنفي "لا إله إلا ألله" , خاصةً إذا كانت أطروحتهم حول العدل و الرحمة في خلود الكافرين في النار منفية بما يقابلها من جنسها المتمثلة في خلود المؤمنين خلوداً أبدياً في الجنة لا لشيء سوى "لا إله إلا الله " ! , فحسب منطقهم يكون هذا رحمة محضة مطلقة و عدلاً محضاً مطلقاً , فكيف جمعوا بين نقيضين في منطقهم ؟! , كيف جمعوا بين غياب الرحمة و العدل من جهة و الرحمة المحضة المطلقة و العدل المحض المطلق من جهة أخرى في نفس المنطق ؟! , إذا كان ما يمنعهم من دخول الإسلام هو مسألة خلود الكافرين بالنار و أن ذلك لا يوافق عقولهم الناقصة فهناك رأي ضعيف للغاية يُنسب لقلة من علماء المسلمين يقول بفناء النار بعد فترة و خروج الكافرين منها , فلماذا لم يسلموا و هم آخذين بهذا الرأي ؟! , و إذا كانت المسألة التي تمنعهم من دخول الإسلام هي "لا إله إلا الله" فكان الأولى بهم ترك اللف و الدوران و مناقشة صحة "لا إله إلا الله" من عدمها , من دون التطرق إلى مواضيع ثانوية فأن طالب الحق و الباحث عن الحقيقة لا يجادل من أجل الجدال ! , فإن النقاش عنده وسيلة و ليست غاية في ذاتها .