بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله :

نشرت إحدى الأخوات على صفحتها تساؤلات حول القضاء و القدر و هل الإنسان مخير أم مسير ، و هي تساؤلات كثيرا ما تراود الإنسان و قد أجبتها في صفحتها ثم أردت نشرها لتعم الفائدة إن شاء الله :
سأقسم ردي إلى قسمين ، و هو بالمناسبة ملخص لما قد شرحه الإمام محمد الغزالي في كتابه " عقيدة المسلم " :
1) أولا: " أمور لا إرادة لنا فيها "
فهناك أمور تحدث و تتم وفق المشيئة الإلهية وحدها ، و هي تنفذ في الناس طوعا و كرها ، سواء اشعروا بها أو لم يشعروا ، فميولات كل شخص و صفاته الشكلية من طول و قصر ، و الزمان و المكان الذي يولد فيه ، و الوالدان اللذان ينحدر منهما ، و الموت .....إلخ كل هذا لا يد للإنسان فيه ، فالله وحده من يوجه هذه الأمور بحكمته ، للحفاظ على النظام العام للحياة و موازينها ، لأن نظرة الإنسان قاصرة جدا و لو ترك الأمر بيده في هذه الأمور لاختلت موازين الحياة
و مواضع الرجوع إلى القضاء و التسليم لله فيما أراد كثيرة و متنوعة ، و هي تعطي الشخص صلابة و قوة و أملا ، و تملؤه عزيمة و تحملا ، كما قال المؤمنون :
(( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )) سورة التوبة الآية 51

2) ثانيا : " هنا إرادتنا حرة "
هذا القسم يتصل بأعمال نحن نشعر عند أدائها بيقظة عقولنا و رقابة ضمائرنا ، و نحس باستقلال إرادتنا و قدرتنا حين نقوم بها ، و نجد القرآن الكريم يؤكد هذا الإحساس و يقر بحرية الإرادة الإنسانية :
(( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )) سورة الكهف الآية 29
و لا يعفيها من المسؤولية :
(( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )) سورة يونس الآية 108

و طبيعة الدين ـ و هي التكليف و الإبتلاء ـ لا تتحقق أبدا مع استبعاد الإرادة و تقييدها

ومن هنا يظهر موقف العلم الإلهي من هذه الأعمال ، هذا الموقف هو موقف الإحاطة التامة و الشمول الكامل :
(( قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى )) سورة طه الآية 52

فالعلم الإلهي لا يتصل بالأعمال اتصال تصريف و تحريك و لكن اتصال انكشاف و وضوح ، فما يمتاز به العلم الإلهي أنه لا يكشف الحاضر فقط و لكنه يكشف ـ أيضا ـ الماضي و المستقبل ، فهو يرى الأشياء على ما كانت عليه و على ما ستكون ، كما يراها و هي كائنة الآن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
لكن هناك من يجد صعوبة في الربط و التوفيق بين هيمنة القدرة العليا على الخلائق كافة و بين حرية الإرادة الإنسانية ، و هذا ما سنوضحه فيما يلي :
فالأمر سهل و لن نذهب لأبعد من كتاب الله لمن أراد الفهم :
(( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ )) سورة القمر الآية 17

فنجد أن إطلاق المشيئة في آية تقيده آية أخرى يذكر فيها الإختيار الإنساني صريحا
أي أن إضلال الله لشخص معناه أن هذا الشخص آثر الغي على الرشاد فأقره الله على مراده و تمم له ما يريد لنفسه :
(( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )) سورة الصف الآية 5
(( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) سورة النساء الآية115
فمعنى قوله (( يضل من يشاء )) لا يتعدى قوله :
(( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ )) سورة البقرة

ثم إن كل فعل اختياري يصح أن ننسبه إلى الإنسان على أنه هو السبب فيه و إلى الله على أنه هو الخالق له
فالزراعة تنسب إلى الفلاح و تنسب إلى الله ، فالأول سبب البذر و الله أساس الإيجاد
و إذا نسب الفعل إلى الإنسان و حده أو إلى الله وحده ، فإن ذكر ناحية لا يعني انعدام الأخرى
و هنا نتلمس رائعة من روائع القرآن توضح هذه العلاقة ، في صورة يجرد المؤمنون أنفسهم من كل فضل و ينسبون إلى الله كل توفيق و يقولون :
(( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ )) سورة الأعراف الآية 43
و مع ذلك فإن الله تعالى يذكر لهم نشاطهم و سعيهم :
(( وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )) نفس الآية السابقة
و من هنا تتجلى حقيقة القضاء و القدر
(( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )) سورة التوبة 105
و الحمد لله رب العالمين