سلسلة التوحيد العملى – المقالة السابعة عشر – " رحيق البلاء -1 من3". تم النشر بجريدة الراى الكويتيه
فتحت أبواب القدر سيول البلاء على نفسى,وضربتها أمواج الألم فى بحار الحيرة,فما أفاقت النفس إلا على شاطىء جزيرة الفكر ,ذاهلة , وحيده , مع أفكارى فى حالى وأعمالى والماضى ومألى, لم يترك البلاء منى شيئا إلا أتى عليه, وهطل عليها وابل السؤال . قالت " ابتلاء أم عقوبة ؟ قلت لها هذا سؤال لا يحل لكى أن تسأليه..أليس من أركان الإيمان أن نؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره . قالت هذا حديثى معك , قلت إنما هى ذنوب جرت وخطايا أُقترفت وفضائل تنحت ونوايا تشتتت وأعمال تبعثرت... قالت " ابتلاء أم عقوبة ؟ سؤالى يدوى فى جنباتى يضرم القلب بحزن عميق وألم شفيق , سؤالى يعتصرني حسره ويقتلنى ندم فأجبنى,قلت أعلى العقوبه الحرمان من لذة الإيمان والحرمان من الأنس بالرحمن قالت ابتلاء أم عقوبه ؟ سؤال آراه فى عيون من يعودونى وأحس به فى أيدى من يصافحونى فأين إجابتك ؟؟ " قلت تأملى قوله تعالى "مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ " النساء *123*وصفحات السوء يا نفس فى أيامك كثيرة , قالت نعم لكن أكان السوء بقدر هذا البلاء الذى لم يترك شيئا من القلب والجسد والمال حتى نال منه , قلت تأملى قوله تعالى "مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّـهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ " *النساء 79*وتأملى قوله تعالى " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير" الشورى ﴿٣٠﴾ " و قوله تعالى " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " الزلزله ﴿٨﴾" وأنتِ تعلمين يا نفس أن الشر عندك ليس بمثاقيل الذر ولكن بمثاقيل الجبال وأعداد الرمال...أم تراكى يا نفس نسيتى الجنايات والخطيئات والزلات والعثرات هل نسيتى قوله تعالى (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) الجاثيه ﴿٢١﴾ سكتت واعتبرت وفى صحراء وحشة الذنوب شردت وتفكرت وتذكرت ولم يتركها الشيطان حتى لاح لها سراب حسن الظن فقالت أين قُرباتى وسجداتى وختماتى وزكاتى ودعواتى ودعوتى وقيادتى ؟ ,ألم يتمنى موضعى الأكابر والأكارم ؟.. أكانت إدعاءً أم رياءاً أم نفاقاً ؟..قالت إنه اذاً الابتلاء . قلت تريدين أن يكون إبتلاءاً لا عقوبه.. تريدين يا نفس أن تكونى محل رفعه لا محل تهمه , يانفس لما تسالين وعلاما تبحثين , تبحثين عما يرضيكِ ويبرؤكِ ويزكيكِ , ألا تخافين من هجوم قوله تعالى " وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا " الفرقان ﴿٢٣﴾ أو من بطش قوله تعالى "وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّـهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " الزمر ﴿٤٧﴾"... لا إله إلا الله..." وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّـهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ" ها هو يا نفس قد بدى لك عاقبة أمرك فى الدنيا فاحذرى من الاخرة , ساء حكمك يا نفس وخسر حسابك وليس لكِى إلا الخوف من أن تكونى ممن قال الله تعالى فيهم "قُل هَل نُنَبِّئُكُم بِالأَخسَرينَ أَعمالًا ﴿١٠٣﴾ الَّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا " الكهف ﴿١٠٤﴾ "
يا نفس لقد ذقت أنواعاً من البلاء وتقلبت فى منعطفات الفتن وتجرعت مرارة المحن ..وما رأيت فى ثمراتها إلا العطاء وما كانت يوماً عقوبه لا عند حدوثها ولا بعد إنجلائها.. بل كما قيل " قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلى الله بعض الناس بالنعم " , يا نفس يقولون " أن من يعصى الملك فى بلاطه ليس كمن يعصيه بعيداً عن أرضه" فالموجود فى بلاط الملك عقوبته حاضرة سريعة قويه فإن كنت يانفس تدعين أنك مقربة من بلاط الملك فأحسن الظن بك أن هذا عقاب المقرب...وهنا إتسع لها السراب ... وظنت القرب .. وراحت تقلب فى ماضى أقوالى وأفكارى عن البلاء والابتلاء , قالت ألست أنت وحدك القائل أنواع الابتلاء ثمانية , 1) ابتلاء بداية الإيمان 2) ابتلاء ثبات الإيمان 3) ابتلاء زيادة الإيمان 4) ابتلاء الإختبار والتمحيص 5) ابتلاء التشريع والتكليف 6) ابتلاء التنبيه والتوجيهه 7) ابتلاء التمكين والإمامه فى الارض 8) ابتلاء العقوبات على الذنوب 0 هذه زهور أفكارك ونصوص أقوالك سطرتها للناس ودافعت عنها يوم أن حصروا الابتلاء فى العقوبه , نعم أنت القائل " إبتلاء بداية قول الايمان , لمجرد التلفظ بقول الايمان قال تعالى (أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ*2* ولَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )﴿٣﴾ * العنكبوت * ,فالابتلاء من أجل تصديق القلب وعمل القلب وعمل الجوارح فالقول وحده ليس كافى وهذا هو الثابت فى عقيدة أهل السنة والجماعه وهذا من أبلغ الرد على من خالفهم من باقى الفرق وهذا ايضا ليس عقوبه ولا بسبب ذنب بل بسبب بداية الايمان فليس كل ابتلاء بذنب,ولا كل ابتلاء عقوبة. ولفظ البلاء فى القران والسنه يختلف معناه عند الإطلاق أو التقيد أوالإفراد أوالإضافه.
عبد الحميد طنطاوى أبو عبد الرحمن