صفحة 1 من 13 12311 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 186

الموضوع: فوائد من كتب السلف

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي فوائد من كتب السلف

    يقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله :
    ( كلما ازداد القلب لله حباً؛ ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية؛ ازداد له حباً وحرية عمن سواه – لا يكون القلب عبداً أسيراً لأحد من المخلوقين لا امرأة ولا أحد من الناس –
    ويقول:
    ( القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين:من جهة العبادة، ومن جهة الاستعانة والتوكل فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يسر ولا يطيب، ولا يطمئن ولا يسكن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبة ومطلوب ) [الفتاوى 10 /193 - 194].
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    فإن قيل : كيف يريد الله أمرا ولا يرضاه ولا يحبه ؟ وكيف يشاؤه ويكونه ؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته ؟

    قيل : هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقا ، وتباينت طرقهم وأقوالهم . [ ص: 328 ] فاعلم أن المراد نوعان : مراد لنفسه ، ومراد لغيره .

    فالمراد لنفسه ، مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير ، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد . والمراد لغيره ، قد لا يكون مقصودا لما يريد ، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته ، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده ، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته ، مراد له من حيث قضاؤه وإيصاله إلى مراده . فيجتمع فيه الأمران : بغضه وإرادته . ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما . وهذا كالدواء الكريه ، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه ، وقطع العضو المتآكل ، إذا علم أن في قطعه بقاء جسده ، وكقطع المسافة الشاقة ، إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه . بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب ، وإن خفيت عنه عاقبته ، فكيف ممن لا يخفى عليه خافية . فهو سبحانه يكره الشيء ، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره ، وكونه سببا إلى أمر هو أحب إليه من فوته .

    من ذلك : أنه خلق إبليس ، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات ، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد ، وعملهم بما يغضب الرب سبحانه تبارك وتعالى وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه . ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه ، ووجودها أحب إليه من عدمها . منها : أنه تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات ، فخلق هذه الذات ، التي هي أخبث الذوات وشرها ، وهي [ ص: 329 ] سبب كل شر ، في مقابلة ذات جبريل ، التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها ، وهي مادة كل خير ، فتبارك خالق هذا وهذا . كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار ، والداء والدواء ، والحياة والموت ، والحسن والقبيح ، والخير والشر . وذلك أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه ، فإنه خلق هذه المتضادات ، وقابل بعضها ببعض ، وجعلها محال تصرفه وتدبيره . فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته . ومنها : ظهور آثار أسمائه القهرية ، مثل : القهار ، والمنتقم ، والعدل ، والضار ، والشديد العقاب ، والسريع الحساب ، وذي البطش الشديد ، والخافض ، والمذل . فإن هذه الأسماء والأفعال كمال ، لا بد من وجود متعلقها ، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء .

    ومنها : ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده ، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد . وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله : لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم . [ ص: 330 ] ومنها : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة ، فإنه الحكيم الخبير ، الذي يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها اللائقة بها ، فلا يضع الشيء في غير موضعه ، ولا ينزله غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته . فهو أعلم حيث يجعل رسالاته ، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه ، وأعلم بمن لا يصلح لذلك . فلو قدر عدم الأسباب المكروهة ، لتعطلت حكم كثيرة ، ولفاتت مصالح عديدة ، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر ، لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب ، وهذا كالشمس والمطر والرياح ، التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر .

    ومنها : حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت ، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه . ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى والمعاداة فيه ، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى وإيثار محاب الله تعالى ، وعبودية التوبة والاستغفار ، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه . إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها .

    فإن قيل : فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب ؟ فهذا سؤال فاسد ! وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه ، كفرض وجود الابن بدون الأب . والحركة بدون المتحرك ، والتوبة بدون التائب .

    [ ص: 331 ] فإن قيل : فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم ، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه ، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه ؟ هذا السؤال يرد على وجهين : أحدهما : من جهة الرب تعالى ، وهل يكون محبا لها من جهة إفضائها إلى محبوبه ، وإن كان يبغضها لذاتها ؟ والثاني : من جهة العبد ، وهو أنه هل يسوغ له الرضا بها من تلك الجهة أيضا ؟ فهذا سؤال له شأن .

    فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم ، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه ، وهو من هذه الجهة شر ، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه . مثاله : أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة ، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها ، فإنها خلقت في الأصل متحركة ، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به ، وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه . وحركتها من حيث هي حركة : خير ، وإنما تكون شرا بالإضافة ، لا من حيث هي حركة ، والشر كله ظلم ، وهو وضع الشيء في غير محله ، فلو وضع في موضعه لم يكن شرا ، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية . ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيرا في نفسها ، وإن كانت شرا بالنسبة إلى المحل الذي حلت به ، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له ، فصار ذلك الألم شرا بالنسبة إليها ، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه في موضعه ، فإنه سبحانه لم يخلق شرا محضا من جميع الوجوه والاعتبارات ، فإن [ ص: 332 ] حكمته تأبى ذلك . فلا يمكن في جناب الحق تعالى أن يريد شيئا يكون فسادا من كل وجه ، لا مصلحة في خلقه بوجه ما ، هذا من أبين المحال ، فإنه سبحانه الخير كله بيديه ، والشر ليس إليه ، بل كل ما إليه فخير ، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه ، فلو كان إليه لم يكن شرا ، فتأمله . فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شرا .

    فإن قيل : لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة ؟ قيل : هو من هذه الجهة ليس بشر ، فإن وجوده هو المنسوب إليه ، وهو من هذه الجهة ليس بشر ، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه ، والعدم ليس بشيء ، حتى ينسب إلى من بيده الخير .

    http://library.islamweb.net/newlibra..._no=106&ID=191
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    فصل ( في التخول بالموعظة خشية الملل ) .

    في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يذكر كل خميس فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم ، فقال ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أملكم { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا } . وذكر البيهقي وغيره عن ابن مسعود قال حدث الناس ما أقبلت عليك قلوبهم إذا حدقوك بأبصارهم وإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم ، وذلك إذا اتكأ بعضهم على بعض وقال عكرمة عن ابن عباس حدث الناس كل جمعة مرة فإن أكثرت فمرتين ، فإن أكثرت فثلاثا ولا تمل الناس من هذا القرآن ولتأت القوم وهم في حديث فتقطع عليهم حديثهم وقال : أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه ، وإياك والسجع في الدعاء فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلونه رواه البخاري . وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول على المنبر : أيها الناس لا تبغضوا الله إلى عباده ، فقيل كيف ذاك أصلحك الله قال يجلس أحدكم قاصا فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه ، ويقوم أحدكم إماما فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه . وقالت عائشة رضي الله عنها لعبيد بن عمير إياك وإملال الناس وتقنيطهم وكان الزهري إذا سئل عن الحديث يقول أحمضوا أخلطوا الحديث بغيره حتى تنفتح النفس وقال الزهري نقل الصخر أيسر من تكرير الحديث .

    قال ابن عبد البر كان يقال ستة إذا أهينوا فلا يلوموا أنفسهم : الذاهب إلى مائدة لم يدع إليها وطالب الفضل من اللئام . والداخل بين اثنين في حديثهما من غير أن يدخلاه فيه ، والمستخف بالسلطان ، والجالس مجلسا ليس له بأهل ، والمقبل بحديثه على من لا يسمع منه ولا يصغي إليه . [ ص: 100 ]

    قال ابن عبد البر في بهجة المجالس : كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان : فابتغوا لها طرائف الحكمة .

    وقال ابن مسعود رضي الله عنه أريحوا القلوب فإن القلب إذا كره عمي وقال أيضا : إن للقلوب شهوة وإقبالا ، وفترة وإدبارا . فخذوها عند شهوتها وإقبالها ، وذروها عند فترتها وإدبارها . وفي صحف إبراهيم عليه السلام وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه . وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل ، فإن هذه الساعة عون له على سائر الساعات وقال عمر بن عبد العزيز تحدثوا بكتاب الله وتجالسوا ، وإذا مللتم فحديث من أحاديث الرجال حسن جميل وقال أيضا لابنه عبد الملك يا بني إن نفسي مطيتي وإن حملت عليها فوق الجهد قطعتها .

    وقال بعض الحكماء : حادثوا هذه القلوب بالذكر فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قالوا فما جلاؤها يا رسول الله قال : تلاوة القرآن } وكان يقال : التفكر نور والغفلة ظلمة .

    وفي البخاري من حديث أبي جحيفة قول سلمان لأبي الدرداء : إن لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه . وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " صدق سلمان " وروى الحاكم في تاريخه بإسناده عن سنيد قال : لا تنسى شيئا فتقول : { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } . إلا ذكرته وكان مالك بن أنس إذا جلس مجلسه لا ينطق بشيء حتى يقولها . [ ص: 101 ] وروي أيضا عن الأعمش : جواب الأحمق السكوت عنه وقال الأعمش : السكوت جواب والتغافل يطفئ شرا كثيرا ، ورضى المتجني غاية لا تدرك ، واستعطاف المحب عون للظفر ، ومن غضب على من لا يقدر عليه طال حزنه .

    http://library.islamweb.net/newlibra...k_no=43&ID=158
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    مسئلة حول الاعتراض على فعل الله عز وجل ؟


    قال ابن أبي العز الحنفي في شرحه لقول الطحاوي ـ فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين ـ اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك، كما في الإنجيل: يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا، ولهذا كان سلف هذه الأمة، التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، فأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأمورا، بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته، فإن ظهرت له فعله، وإلا عطله، فإن هذا ينافي الانقياد، ويقدح في الامتثال. انتهى


    قال القرطبي ناقلا عن ابن عبد البر: فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي السؤال، ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم، فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره، ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له، بين له الصواب ليرجع إليه، فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل، لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته، كما يقول جهم وأتباعه.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    جملة (الانسان مخير او مسير)


    قال ابن عثيمين رحمه الله :

    " هذه العبارة لم أرها في كتب المتقدمين من السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، ولا في كلام الأئمة ، ولا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، أو ابن القيم أو غيرهم ممن يتكلمون ، لكن حدثت هذه أخيرا ، وبدءوا يطنطنون بها : " هل الإنسان مسير أم مخير؟ "
    مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (3 / 215)



    وسئل الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله :

    هل الإنسان مسير أم مخير ؟

    فأجاب :

    " هذا اللفظ لم يرد في الكتاب ولا في السنة ، بل الذي دلاَّ عليه أن الإنسان له مشيئة ويتصرف بها ، وله قدرة على أفعاله ، ولكن مشيئته محكومة بمشيئة الله كما قال تعالى : ( لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) التكوير/28، 29 فليست مشيئته مستقلة عن مشيئة الله ، ولفظ : مخير ومسير . لا يصح إطلاقهما ، فلا يقال : الإنسان مسير . ولا يقال : إنه مخير . بل لابد من التفصيل ، فإن أريد أنه مسير بمعنى أنه مجبور ولا مشيئة له ، ولا اختيار ، فهذا باطل ، وإن أريد أنه مسير بمعنى أنه ميسر لما خلق له ، وأنه يفعل ما يفعل بمشيئة الله وتقديره ، فهذا حق ، وكذلك إذا قيل إنه مخير وأريد أنه يتصرف بمحض مشيئته دون مشيئة الله ، فهذا باطل ، وإن أريد أنه مخير بمعنى أن له مشيئة واختيارًا وليس بمجبر ، فهذا حق "
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    قال الامام بن القيم الجوزية عن الفيلسوف سقراط

    "وكان من عبادهم ومتألهيهم وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها فثار عليه العامة واضطروا الملك إلى قتله فأودعه السجن ليكفهم عنه ثم لم يرض المشركون إلا بقتله فسقاه السم خوفا من شرهم بعد مناظرات طويلة جرت له معهم وكان مذهبه في الصفات قريبا من مذهب أهل الإثبات فقال إنه إله كل شىء وخالقه، ومقدره وهو عزيز أي منيع ممتنع أن يضام وحكيم أي محكم أفعاله على النظام.
    وقال : إن علمه وقدرته ووجوده وحكمته بلا نهاية لا يبلغ العقل أن يضعها.
    وقال : إن تناهي المخلوقات بحسب احتمال القوابل لا بحسب الحكمة والقدرة فلما كانت المادة لا تحتمل صورا بلا نهاية تناهت الصور لا من جهة بخل في الواهب بل لقصور في المادة.
    قال : وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت ذاتا وصورة وحيزا ومكانا إلا أنها لا تتناهى زمانا في آخرها لا من نحو أولها فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص باستبقاء الأنواع وذلك بتجدد أمثالها ليحفظ الأشخاص ببقاء الأنواع ويستبقى الأنواع بتجدد الأشخاص فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية ولا الحكمة تقف على غاية.
    ومن مذهبه : أن أخص ما يوصف به الرب سبحانه هو كونه حيا قيوما لأن العلم والقدرة والجود والحكمة تندرج تحت كونه حيا قيوما فهما صفتان جامعتان للكل وكان يقول : هو حي ناطق من جوهره أي من ذاته وحياته ونطقنا وحياتنا لا من جوهرنا ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد ولا يتطرق ذلك إلى حياته ونطقه وكلامه في المعاد والصفات والمبدأ أقرب إلى كلام الأنبياء من كلام غيره وبالجملة فهو أقرب القوم إلى تصديق الرسل ولهذا قتله قومه وكان يقول : إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهوات العقول وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات وقال : لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم وقال : ينبغي أن يغتم بالحياة ويفرح بالموت لأن الإنسان يحيا ليموت ثم يموت ليحيا وقال : قلوب المغرمين بالمعرفة بالحقائق منابر الملائكة وقلوب المؤثرين للشهوات مقاعد للشياطين للحياة حدان أحدهما : الأمل والآخر : الأجل فبالأول بقاؤها وبالآخر فناؤها.
    وكذلك أفلاطون كان معروفا بالتوحيد وإنكار عبادة الأصنام وإثبات حدوث العالم وكان تلميذ سقراط ولما هلك سقراط قام مقامه وجلس على كرسيه، وكان يقول: إن للعالم صانعا محدثا مبدعا أزليا واجبا بذاته عالما بجميع المعلومات، قال: وليس في الوجود رسم ولا طلل إلا ومثاله عند الباري تعالى يشير إلى وجود صور المعلومات في علمه فهو مثبت للصفات وحدوث العالم ومنكر لعبادة الأصنام ولكن لم يواجه قومه بالرد عليهم وعيب آلهتهم فسكتوا عنه وكانوا يعرفون له فضله وعمله وصرح أفلاطون بحدوث العالم كما كان عليه الأساطين، وحكى ذلك عنه تلميذه أرسطو وخالفه فيه فزعم أنه قديم وتبعه على ذلك ملاحدة الفلاسفة من المنتسبين إلى الملل وغيرهم حتى انتهت النوبة إلى أبي علي بن سينا فرام بجهده تقريب هذا الرأي من قول أهل الملل وهيهات اتفاق النقيضين واجتماع الضدين" [إغاثة اللهفان 2/266-267].
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    قال الامام بن القيم عن الفيلسوف افلاطون


    "وكذلك أفلاطون، كان معروفا بالتوحيد، وإنكار عبادة الأصنام، وإثبات حدوث العالم وكان تلميذ سقراط، ولما هلك سقراط قام مقامه، وجلس على كرسيه.
    وكان يقول إن للعالم صانعا محدثا، مبدعا أزليا، واجبا بذاته عالما بجميع المعلومات.
    قال: وليس فى الوجود رسم ولا طلل إلا ومثاله عند البارى تعالى.
    يشير إلى وجود صور المعلومات فى علمه.
    فهو مثبت للصفات وحدوث العالم، ومنكر لعبادة الأصنام، ولكن لم يواجه قومه بالردعليهم، وعيب آلهتهم فسكتوا عنه، وكانوا يعرفون له فضله وعمله.
    وصرح أفلاطون بحدوث العالم. كما كان عليه الأساطين. وحكى ذلك عنه تلميذه إرسطو.وخالفه فيه، فزعم أنه قديم، وتبعه على ذلك ملاحدة الفلاسفة، من المنتسبين إلى الملل وغيرهم، حتى انتهت النوبة إلى أبى علي بن سينا، فرام بجهده تقريب هذا الرأي من قول أهل الملل، وهيهات اتفاق النقيضين،واجتماع الضدين "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (3/266)؛
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    نقولات عن شيخ الاسلام بن تيمية حول فلاسفة اليونان


    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد ذكر طائفة منهم كمحمد بن يوسف العامري، وصاعد بن صاعد الأندلسي أن أساطينهم خمسة ثم أربعة ابندقلس ثم فيثاغورس ثم سقراط ثم أفلاطون قدموا الشام، واستفادوا من بني إسرائيل، ولهذا لم يكن من هؤلاء من قال بقدم العالم بخلاف أرسطو قالوا: فإنه لم يقدم الشام".
    الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 6 /499

    وقال: "واتباع أرسطو من الأولين اشهرهم ثلاثة برقلس والاسكندر الافرديوسي وثامسطيوس صاحب الشروح والترجمة، وإذا قال الرازي في كتبه: "اتفقت الفلاسفة" فهم هؤلاء، وإلا فالفلاسفة طوائف كثيرون وبينهم اختلاف كثير في الطبيعيات والإلهيات وفي الهيئة أيضا، وقد ذكروا أنه أول من قال منهم بقدم العالم أرسطو، وقد ذكر محمد بن يوسف العامري -وهو من المصنفين في مذاهبم- أن قدماءهم دخلوا الشام واخذوا عن اتباع الأنبياء داود وسليمان، وان فيثاغورس معلم سقراط اخذ عن لقمان الحكيم، وسقراط هو معلم أفلاطون، وافلاطون معلم أرسطو".
    الردعلى المنطقيين ص 337

    وقال: "وقد ذكروا أن أساطين الفلاسفة كفيثاغورس وسقراط أفلاطون قدموا الشام وتعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان".
    درء تعارض العقل والنقل7 /80
    __________________
    اللهم
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    قياس ألاولى __لشيخ الاسلام بن تيمية


    وأما ‏[‏ قياس الأولى ‏]‏ الذي كان يسلكه السلف إتباعا للقرآن، فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتًا لغيره، مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل، كما لا يضبط التفاوت بين الخالق وبين المخلوق، بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا ينحصر قدره، وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق، كان هذا مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم من كل ما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره‏.
    ‏‏ فكان ‏[‏قياس الأولى‏]‏ يفيده أمرًا يختص به الرب مع علمه بجنس ذلك الأمر، ولهذا كان الحذاق يختارون أن الأسماء المقولة عليه وعلى غيره مقولة بطريق التشكيك، ليست بطريق الاشتراك اللفظي ولا بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتماثل أفراده، بل بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتفاضل أفراده، كما يطلق لفظ البياض والسواد على الشديد كبياض الثلج وعلى ما دونه كبياض العاج‏.‏
    فكذلك لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن، وهو في الواجب أكمل وأفضل من فضل هذا البياض على هذا البياض، لكن هذا التفاضل في الأسماء المشككة لا يمنع أن يكون أصل المعنى مشتركًا كليًا فلابد في الأسماء المشككة من معنى كلي مشترك وإن كان ذلك لا يكون إلا في الذهن‏.
    ‏‏ وذلك هو مورد ‏[‏التقسيم‏]‏؛ تقسيم الكلي إلى جزئياته إذا قيل‏:‏ الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، فإن مورد التقسيم مشترك بين الأقسام، ثم كون وجود هذا الواجب أكمل من وجود الممكن لا يمنع أن يكون مسمى الوجود معنى كليًا مشتركًا بينهما، وهكذا في سائر الأسماء والصفات المطلقة على الخالق والمخلوق، كاسم الحي والعليم والقدير والسميع والبصير، وكذلك في صفاته كعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وغضبه وفرحه، وسائر ما نطقت به الرسل من أسمائه وصفاته‏.
    ‏‏ والناس تنازعوا في هذا الباب‏.‏
    فقالت طائقة كأبي العباس الناشى من شيوخ المعتزلة الذين كانوا أسبق من أبي علي‏:‏ هي حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق‏.
    ‏‏ وقالت طائفة من الجهمية والباطنية والفلاسفة بالعكس‏:‏هي مجاز في الخالق حقيقة في المخلوق‏.‏
    وقال جماهير الطوائف‏:‏ هي حقيقة فيهما‏.‏
    وهذا قول طوائف النظار من المعتزلة الأشعرية والكرَّامية والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وهو قول الفلاسفة؛ لكن كثيرًا من هؤلاء يتناقض فيقر في بعضها بأنها حقيقة كاسم الموجود والنفس والذات والحقيقة ونحو ذلك، وينازع في بعضها لشبه نفاة الجميع‏.‏ والقول فيما نفاه نظير القول فيما أثبته؛ ولكن هو لقصوره فرق بين المتماثلين، ونفى الجميع يمنع أن يكون موجودًا، وقد علم أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث، وغني وفقير، ومفعول وغير مفعول، وأن وجود الممكن يستلزم وجود الواجب، ووجود المحدث يستلزم وجود القديم، ووجود الفقير يستلزم وجود الغني، ووجود المفعول يستلزم وجود غير المفعول‏.
    ‏‏ وحينئذ فبين الوجودين أمر مشترك، والواجب يختص بما يتميز به، فكذلك القول في الجميع‏.‏
    والأسماء المشككة هي متواطئة باعتبار القدر المشترك، ولهذا كان المتقدمون من نظار الفلاسفة وغيرهم لا يخصون المشككة باسم، بل لفظ المتواطئة يتناول ذلك كله، فالمشككة قسم من المتواطئة العامة، وقسيم المتواطئة الخاصة‏.‏ وإذا كان كذلك فلابد من إثبات قدر مشترك كلي، وهو مسمى المتواطئة العامة، وذلك لا يكون مطلقًا إلا في الذهن، وهذا مدلول قياسهم البرهاني‏.‏
    ولابد من إثبات التفاضل وهو مدلول المشككة التي هي قسيم المتواطئة الخاصة، وذلك هو مدلول الأقيسة البرهانية القرآنية وهي قياس الأولى، ولابد من إثبات خاصة الرب التي بها يتميز عما سواه، وذلك مدلول آياته سبحانه التي يستلزم ثبوتها ثبوت نفسه، لا يدل على هذه قياس لا برهاني ولا غير برهاني ‏.
    ‏‏ فتبين بذلك أن قياسهم البرهاني لا يحصل المطلوب الذي به تكمل النفس في معرفة الموجودات ومعرفة خالقها، فضلا عن أن يقال‏:‏ لا تعلم المطالب إلا به، وهذا باب واسع، لكن المقصود في هذا المقام التنبيه على بطلان قضيتهم السالبة، وهي قولهم ‏:‏إن العلوم النظرية لا تحصل إلا بواسطة برهانهم‏.
    ‏‏ ثم لم يكفهم هذا السلب العام الذي تحجروا فيه واسعا؛ وقصروا العلوم على طريق ضيقة لا تحصل إلا مطلوبًا لا طائل فيه حتى زعموا أن علم الله تعالى وعلم أنبيائه وأوليائه، إنما يحصل بواسطة القياس المشتمل على الحد الأوسط، كما يذكر ذلك ابن سينا وأتباعه، وهم في إثبات ذلك خير ممن نفى علمه وعلم أنبيائه من سلفهم الذين هم من أجهل الناس برب العالمين وأنبيائه وكتبه‏.‏
    فابن سينا لما تميز عن أولئك، بمزيد علم وعقل، سلك طريقهم المنطقي في تقرير ذلك‏.‏
    وصار سالكو هذه الطريق، وإن كانوا أعلم من سلفهم وأكمل، فهم أضل من اليهود والنصارى وأجهل؛ إذ كان أولئك حصل لهم من الإيمان بواجب الوجود وصفاته ما لم يحصل لهؤلاء الضلال لما في صدورهم من الكبر والخيال، وهم من أتباع فرعون وأمثاله؛ ولهذا تجدهم لموسي ومن معه من أهل الملل والشرائع متنقصين أو معادين‏.‏
    قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ‏}‏‏ ‏[‏غافر‏:‏56‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏‏كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏35‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ‏}‏‏ ‏[‏غافر‏:‏83-85‏[‏‏.‏
    وقد بسط الكلام على قول فرعون ومتابعة هؤلاء له والنمروذ بن كنعان وأمثالهما من رؤوس الكفر والضلال، ومخالفتهم لموسى وإبراهيم وغيرهما من رسل الله صلوات الله عليهم في مواضع‏.‏
    وقد جعل الله آل إبراهيم أئمة للمؤمنين أهل الجنة، وآل فرعون أئمة لأهل النار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ ‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}‏‏ ‏[‏القصص‏:‏39-49‏]‏، وقال في آل إبراهيم‏:‏ ‏{‏‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏}‏‏ ‏[‏السجدة‏:‏24‏]‏‏.
    ‏‏ والمقصود أن متأخريهم الذين هم أعلم منهم جعلوا علم الرب يحصل بواسطة القياس البرهاني، وكذلك علم أنبيائه‏.
    ‏‏ وقد بسطنا الكلام في الرد عليهم في غير هذا الموضوع‏.
    ‏‏ والمقصود هنا التنبيه على فساد قولهم‏:‏ إنه لا يحصل العلم إلا بالبرهان الذي وصفوه، وإذا كان هذا السلب باطلا في علم آحاد الناس، كان بطلانه أولى في علم رب العالمين سبحانه وتعالى، ثم ملائكته وأنبيائه، صلوات الله عليهم أجمعين.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    العلوم ثلاتة ___شيخ الاسلام بن تيمية


    ولهذا كانت العلوم ثلاثة‏:‏ إما علم لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج، وهو ‏[‏الطبيعي‏]‏ وموضوعه الجسم، وإما مجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج، وهو ‏[‏الرياضي‏]‏‏:‏ كالكلام في المقدار والعدد‏.‏

    وأما ما يتجرد عن المادة منها، وهو ‏[‏الإلهي‏]‏ وموضوعه الوجود المطلق بلواحقه التي تلحقه من حيث هو وجود، كانقسامه إلى واجب وممكن وجوهر وعرض‏.‏

    وانقسام الجوهر إلى ما هو حال وإلى ما هو محل‏.

    ‏‏ وما ليس بحال ولا محل، بل هو يتعلق بذلك تعلق التدبير، وإلى ما ليس بحال ولا محل ولا هو متعلق بذلك‏.‏

    فالأول‏:‏ هو الصورة‏.‏

    والثاني‏:‏ هو المادة‏.‏

    وهو الهيولى ومعناه في لغتهم المحل‏.

    ‏‏ والثالث ‏:‏ هو النفس‏.

    ‏‏ والرابع ‏:‏ هو العقل‏.‏

    والأول يجعله أكثرهم من مقولة الجوهر، ولكن طائفة من متأخريهم كابن سينا امتنعوا من تسميته جوهرًا، وقالوا‏:‏ الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع، أي لا في محل يستغنى عن الحال فيه، وهذا إنما يكون فيما وجوده غير ماهيته، والأول ليس كذلك، فلا يكون جوهرًا‏.

    ‏‏ وهذا مما خالفوا فيه سلفهم، ونازعوهم فيه نزاعًا لفظيًا، ولم يأتوا بفرق صحيح معقول، فإن تخصيص اسم الجوهر بما ذكروه أمر اصطلاحي، وأولئك يقولون‏:‏ بل هو كل ما ليس في موضوع، كما يقول المتكلمون‏:‏ كل ما هو قائم بنفسه، أو كل ما هو متحيز، أو كل ما قامت به الصفات، أو كل ما حمل الأعراض ونحو ذلك‏.

    ‏‏ وأما الفرق المعنوي، فدعواهم أن وجود الممكنات زائد على ماهيتها في الخارج باطل، ودعواهم أن الأول وجود مقيد بالسلوب أيضا باطل، كما هو مبسوط في موضعه، والمقصود هنا الكلام على البرهان‏.‏

    فيقال‏:‏ هذا الكلام، وإن ضل به طوائف، فهو كلام مزخرف وفيه من الباطل ما يطول وصفه، لكن ننبه هنا على بعض ما فيه، وذلك من وجوه‏:‏

    الأول‏:‏ أن يقال‏:‏ إذا كان البرهان لا يفيد إلا العلم بالكليات، والكليات إنما تتحقق في الأذهان لا في الأعيان، وليس في الخارج إلا موجود معين، لم يعلم بالبرهان شيء من المعينات، فلا يعلم به موجود أصلا، بل إنما يعلم به أمور مقدرة في الأذهان‏.‏

    ومعلوم أن النفس لو قدر أن كمالها في العلم فقط، وإن كانت هذه قضية كاذبة، كما بسط في موضعه، فليس هذا علمًا تكمل به النفس؛ إذ لم تعلم شيئًا من الموجودات، ولا صارت عالما معقولًا موازيًا للعالم الموجود، بل صارت عالما لأمور كلية مقدرة لا يعلم بها شيء من العالم الموجود، وأي خير في هذا فضلا عن أن يكون كمالا‏.

    ‏‏ والثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ أشرف الموجودات هو ‏[‏واجب الوجود‏]‏، ووجوده معين لا كلي؛ فإن الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وواجب الوجود يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإن لم يعلم منه ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، بل إنما علم أمر كلي مشترك بينه وبين غيره لم يكن قد علم واجب الوجود، وكذلك ‏[‏الجواهر العقلية‏]‏ عندهم، وهي العقول العشرة، أو أكثر من ذلك عند من يجعلها أكثر من ذلك عندهم، كالسهروردي المقتول، وأبي البركات وغيرهما‏.

    ‏‏ كلها جواهر معينة، لا أمور كلية، فإذا لم نعلم إلا الكليات، لم نعلم شيئًا منها، وكذلك الأفلاك التي يقولون‏:‏ إنها أزلية أبدية، فإذا لم نعلم إلا الكليات، لم تكن معلومة، فلا نعلم واجب الوجود ولا العقول، ولا شيئًا من النفوس ولا الأفلاك ولا العناصر ولا المولدات، وهذه جملة الموجودات عندهم، فأي علم هنا تكمل به النفس‏؟‏

    الثالث‏:‏ أن تقسيمهم العلوم إلى الطبيعي والرياضي والإلهي، وجعلهم الرياضي أشرف من الطبيعي‏.‏ والإلهي أشرف من الرياضي، هو مما قلبوا به الحقائق، فإن العلم الطبيعي وهو العلم بالأجسام الموجودة في الخارج، ومبدأ حركاتها وتحولاتها من حال إلى حال، وما فيها من الطبائع أشرف من مجرد تصور مقادير مجردة وأعداد مجردة، فإن كون الإنسان لا يتصور إلا شكلا مدورًا أو مثلثًا أو مربعًا ولو تصور كل ما في إقليدس أو لا يتصور إلا أعدادًا مجردة ليس فيه علم بموجود في الخارج، وليس ذلك كمال النفس، ولولا أن ذلك طلب فيه معرفة المعدودات والمقدرات الخارجة التي هي أجسام وأعراض لما جعل علمًا، وإنما جعلوا علم الهندسة مبدأ تعلم الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة، أو ينتفعوا به في عمارة الدنيا، هذا مع أن براهينهم القياسية لا تدل على شيء دلالة مطردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية‏.

    ‏‏ فإن علم الحساب الذي هو علم بالكم المنفصل، والهندسة التي هي علم بالكم المتصل، علم يقيني لا يحتمل النقيض البتة، مثل جمع الأعداد وقسمتها وضربها ونسبة بعضها إلى بعض، فإنك إذا جمعت مائة إلى مائة علمت أنهما مائتان‏.

    ‏‏ فإذا قسمتها على عشرة كان لكل واحد عشرة وإذا ضربتها في عشرة، كان المرتفع مائة، والضرب مقابل للقسمة، فإن ضرب الأعداد الصحيحة تضعيف آحاد أحد العددين بآحاد العدد الآخر، فإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد العددين خرج المضروب الآخر‏.‏وإذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه خرج المقسوم، فالمقسوم نظير المرتفع بالضرب، فكل واحد من المضروبين نظير المقسوم والمقسوم عليه، والنسبة تجمع هذه كلها، فنسبة أحد المضروبين إلى المرتفع كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر، ونسبة المرتفع إلى أحد المضروبين نسبة الآخر إلى الواحد‏.

    ‏‏ فهذه الأمور وأمثالها مما يتكلم فيه الحساب أمر معقول مما يشترك فيه ذوو العقول، وما من أحد من الناس إلا يعرف منه شيئًا فإنه ضروري في العلم، ولهذا يمثلون به في قولهم‏:‏ الواحد نصف الاثنين، ولا ريب أن قضاياه كلية واجبة القبول لا تنتقض البتة‏.‏

    وهذا كان مبدأ فلسفتهم التي وضعها ‏[‏فيثاغورس‏]‏ وكانوا يسمون أصحابه أصحاب العدد، وكانوا يظنون أن الأعداد المجردة موجودة خارجة عن الذهن، ثم تبين لأفلاطون وأصحابه غلط ذلك، وظنوا أن الماهيات المجردة كالإنسان والفرس المطلق موجودات خارج الذهن وأنها أزلية أبدية، ثم تبين لأرسطو وأصحابه غلط ذلك، فقالوا‏:‏ بل هذه الماهيات المطلقة موجودة في الخارج مقارنة لوجود الأشخاص، ومشى من مشى من أتباع أرسطو من المتأخرين على هذا، وهو أيضًا غلط‏.‏

    فإن ما في الخارج ليس بكلي أصلا، وليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص‏.‏

    وإذا قيل‏:‏ الكلي الطبيعي في الخارج، فمعناه إنما هو كلي في الذهن يوجد في الخارج، لكن إذا وجد في الخارج لا يكون إلا معينًا، لا يكون كليًا، فكونه كليا مشروط بكونه في الذهن، ومن أثبت ماهية لا في الذهن ولا في الخارج، فتصور قوله تصورًا تامًا يكفي في العلم بفساد قوله، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏

    والمقصود هنا أن هذا العلم هو الذي تقوم عليه براهين صادقة، لكن لا تكمل بذلك نفس، ولا تنجو به من عذاب، ولا تنال به سعادة؛ ولهذا قال أبوحامد الغزالي وغيره في علوم هؤلاء‏:‏ هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن إثم‏.

    ‏‏ يشيرون بالأول إلى العلوم الرياضية، وبالثاني إلى ما يقولونه في الإلهيات وفي أحكام النجوم ونحو ذلك؛ لكن قد تلتذ النفس بذلك كما تلتذ بغير ذلك، فإن الإنسان يلتذ بعلم ما لم يكن علمه، وسماع ما لم يكن سمعه، إذا لم يكن مشغولا عن ذلك بما هو أهم عنده منه، كما قد يلتذ بأنواع من الأفعال التي هي من جنس اللهو واللعب‏.

    ‏‏ وأيضًا، ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح، والقضايا الصحيحة الصادقة، والقياس المستقيم، فيكون في ذلك تصحيح الذهن والإدراك، وتعود النفس أنها تعلم الحق وتقوله، لنستعين بذلك على المعرفة التي هي فوق ذلك، ولهذا يقال‏:‏ إنه كان أوائل الفلاسفة أول ما يعلمون أولادهم العلم الرياضي، وكثير من شيوخهم في آخر أمره إنما يشتغل بذلك؛ لأنه لما نظر في طرقهم وطرق من عارضهم من أهل الكلام الباطل، ولم يجد في ذلك ما هو حق، أخذ يشغل نفسه بالعلم الرياضي، كما كان يتحرى مثل ذلك من هو من أئمة الفلاسفة كابن واصل وغيره‏.‏ وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك؛ لأن فيه تفريحًا للنفس، وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط‏.

    ‏‏ وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ إذا لهوتم فالهوا بالرمي، وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض‏.

    ‏‏ فإن حساب الفرائض علم معقول مبني على أصل مشروع، فتبقى فيه رياضة العقل وحفظ الشرع، لكن ليس هو علمًا يطلب لذاته، ولا تكمل به النفس‏.

    ‏‏ وأولئك المشركون كانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، ويدعونها بأنواع الدعوات‏.‏

    كما هو معروف من أخبارهم، وما صنف على طريقهم من الكتب الموضوعة في الشرك والسحر ودعوة الكواكب والعزائم والأقسام التي بها يعظم إبليس وجنوده‏.

    ‏‏ وكان الشيطان بسبب الشرك والسحر يغويهم بأشياء هي التي دعتهم إلى ذلك الشرك والسحر، وكانوا يرصدون الكواكب ليتعلموا مقاديرها، ومقادير حركاتها وما بين بعضها من الاتصالات، مستعينين بذلك على ما يرونه مناسبًا لها‏.

    ‏‏ ولما كانت الأفلاك مستديرة، ولم يمكن معرفة حسابها إلا بمعرفة الهندسة وأحكام الخطوط المستقيمة والمنحنية، تكلموا في ‏[‏الهندسة‏]‏ لذلك ولعمارة الدنيا؛ فلهذا صاروا يتوسعون في ذلك، وإلا فلو لم يتعلق بذلك غرض إلا مجرد تصور الأعداد والمقادير، لم تكن هذه الغاية مما يوجب طلبها بالسعي المذكور، وربما كانت هذه غاية لبعض الناس الذين يتلذذون بذلك، فإن لذات النفوس أنواع، ومنهم من يلتذ بالشطرنج والنرد والقمار، حتى يشغله ذلك عما هو أنفع له منه‏.‏

    وكان مبدأ وضع ‏[‏المنطق‏]‏ من الهندسة، وسموه حدودًا، لحدود تلك الأشكال؛ لينتقلوا من الشكل المحسوس إلى الشكل المعقول؛ وهذا لضعف عقولهم وتعذر المعرفة عليهم إلا بالطريق البعيدة‏.

    ‏‏ والله تعالى يسر للمسلمين من العلم والبيان والعمل الصالح والإيمان ما برزوا به على كل نوع من أنواع جنس الإنسان‏.‏

    والحمد لله رب العالمين‏.

    ‏‏ وأما ‏[‏العلم الإلهي‏]‏ الذي هو عندهم مجرد عن المادة في الذهن والخارج، فقد تبين لك أنه ليس له معلوم في الخارج، وإنما هو علم بأمور كلية مطلقة لا توجد كلية إلا في الذهن، وليس في هذا من كمال النفس شيء‏.‏

    وإن عرفوا واجب الوجود بخصوصه، فهو علم بمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وهذا مما لا يدل عليه القياس الذي يسمونه البرهان، فبرهانهم لا يدل على شيء معين بخصوصه، لا واجب الوجود ولا غيره، وإنما يدل على أمر كلي‏.

    ‏‏ والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه‏.‏

    و واجب الوجود يمنع العلم به من وقوع الشركة فيه‏.‏

    ومن لم يتصور ما يمنع الشركة فيه لم يكن قد عرف الله، ومن لم يثبت للرب إلا معرفة الكليات كما يزعمه ابن سينا وأمثاله، وظن أن ذلك كمال للرب، فكذلك يظنه كمالا للنفس بطريق الأولى، لا سيما إذا قال‏:‏ إن النفس لا تدرك إلا الكليات، وإنما يدرك الجزئيات البدن فهذا في غاية الجهل، وهذه الكليات التي لا تعرف بها الجزئيات الموجودة، لا كمال فيها البتة، والنفس إنما تحب معرفة الكليات، لتحيط بها بمعرفة الجزئيات، فإذا لم يحصل ذلك لم تفرح النفس بذلك‏.‏

    الوجه الرابع‏:‏ أن يقال‏:‏ هب أن النفس تكمل بالكليات المجردة، كما يزعمون، فما يذكرونه في العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه ليس كذلك؛ فإن تصور معني الوجود فقط أمر ظاهر حتى يستغني عن الحد عندهم لظهوره، فليس هو المطلوب وإنما المطلوب أقسامه، ونفس أقسامه إلى واجب وممكن، وجوهر وعرض، وعلة ومعلول، وقديم وحادث‏:‏ هو أخص من مسمى الوجود، وليس في مجرد انقسام الأمر العام في الذهن إلى أقسام بدون معرفة الأقسام ما يقتضى علما كليا عظيما عاليا على تصور الوجود‏.

    ‏‏ فإذا عرفت الأقسام فليس ما هو علم بمعلوم لا يقبل التغيير والاستحالة، وليس معهم دليل أصلا يدلهم أن العالم لم يزل ولا يزال هكذا، وجميع ما يحتجون به على دوام الفاعل والفاعلية والزمان والحركة وتوابع ذلك، فإنما يدل على قدم نوع ذلك ودوامه، لا قدم شيء معين ولا دوام شيء معين‏.‏

    فالجزم أن مدلول تلك الأدلة هو هذا العالم أو شيء منه، جهل محض لا مستند له، إلا عدم العلم بموجود غير هذا العالم، وعدم العلم ليس علمًا بالعدم‏.‏

    ولهذا لم يكن عند القوم إيمان بالغيب الذي أخبرت به الأنبياء، فهم لا يؤمنون لا بالله ولا بملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا البعث بعد الموت‏.

    ‏‏ وإذا قالوا‏:‏ نحن نثبت العالم العقلي أو المعقول الخارج عن المحسوس، وذلك هو الغيب، فإن هذا وإن كان قد ذكره طائفة من المتكلمة والمتفلسفة خطأ وضلال، فإن ما يثبتونه من المعقولات، إنما يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان، لا موجودة في الأعيان‏.

    ‏‏ والرسل أخبرت عما هو موجود في الخارج وهو أكمل وأعظم وجودًا مما نشهده في الدنيا‏.

    ‏‏ فأين هذا من هذا‏؟‏‏!‏ وهم لما كانوا مكذبين بما أخبرت به الرسل قالوا‏:‏ إن الرسل قصدوا إخبار الجمهور بما يتخيل إليهم لينتفعوا بذلك في العدل الذي أقاموه لهم‏.‏

    ثم منهم من يقول‏:‏ إن الرسل عرفت ما عرفناه من نفي هذه الأمور‏.‏

    ومنهم من يقول‏:‏ بل لم يكونوا يعرفون هذا، وإنما كان كمالهم في القوة العملية لا النظرية‏.

    ‏‏ وأقل أتباع الرسل إذا تصور حقيقة ما عندهم، وجده مما لا يرضى به أقل أتباع الرسل‏.‏

    وإذا علم بالأدلة العقلية أن هذا العالم يمتنع أن يكون شيء منه قديمًا أزليًا، وعلم بأخبار الأنبياء المؤيدة بالعقل أنه كان قبله عالما آخر منه خلق، وأنه سوف يستحيل وتقوم القيامة ونحو ذلك، علم أن غاية ما عندهم من الأحكام الكلية ليست مطابقة بل هي جهل لا علم‏.‏

    وهب أنهم لا يعلمون ما أخبرت به الرسل، فليس في العقل ما يوجب ما ادعوه من كون هذه الأنواع الكلية في هذا العالم، أزلية أبدية، لم تزل ولا تزال‏.‏ فلا يكون العلم بذلك علما بكليات ثابتة، وعامة ‏[‏فلسفتهم الأولى‏]‏ و ‏[‏حكمتهم العليا‏]‏ من هذا النمط، وكذلك من صنف على طريقتهم؛ كصاحب ‏[‏المباحث المشرقية‏]‏، وصاحب ‏[‏حكمة الإشراق‏]‏، وصاحب ‏[‏دقائق الحقائق‏]‏، و‏[‏رموز الكنوز‏]‏، وصاحب ‏[‏كشف الحقائق‏]‏، وصاحب ‏[‏الأسرار الخفية في العلوم العقلية‏]‏، وأمثال هؤلاء، ممن لم يجرد القول لنصر مذهبهم مطلقًا، ولا تخلص من إشراك ضلالهم مطلقًا، بل شاركهم في كثير من ضلالهم، وشاركهم في كثير من محالهم، وتخلص من بعض وبالهم، وإن كان أيضا لم ينصفهم في بعض ما أصابوا، وأخطأ لعدم علمه بمرادهم أو لعدم معرفته أن ما قالوا صواب‏.‏

    ثم إن هؤلاء إنما يتبعون كلام ابن سينا.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    سئل شيخ الاسلام بن تيمية عن العقل
    ___________________

    سئل شيخ الإسلام الإمام العلامة تقي الدين أحمدد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رضي الله عنه عن ‏[‏العقل‏]‏ الذي للإنسان هل هو عرض‏؟‏ وما هي ‏[‏الروح‏]‏ المدبرة لجسده‏؟‏ هل هي النفس‏؟‏ وهل لها كيفية ‏؟‏ وهل هي عرض أو جوهر‏؟‏ وهل يعلم مسكنها من الجسد ومسكن العقل‏؟‏

    فأجاب‏:‏

    الحمد لله رب العالمين‏.‏

    ‏[‏العقل‏]‏ في كتاب الله وسنة رسوله وكلام الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين هو أمر يقوم بالعاقل، سواء سمي عرضا أو صفة، ليس هو عينًا قائمة بنفسها، سواء سمي جوهرًا أو جسمًا أو غير ذلك، وإنما يوجد التعبير باسم ‏"‏العقل‏"‏ عن الذات العاقلة التي هي جوهر قائم بنفسه في كلام طائفة من المتفلسفة الذين يتكلمون في العقل والنفس، ويدعون ثبوت عقول عشرة، كما يذكر ذلك من يذكره من أتباع أرسطو أو غيره من المتفلسفة المشائين‏.

    ‏‏ ومن تلقي ذلك عنهم من المنتسبن إلى الملل‏.

    ‏‏ وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، وبين أن ما يذكرونه من العقول والنفوس والمجردات والمفارقات والجواهر العقلية لا يثبت لهم منه إلا نفس الإنسان، وما يقول بها من العلوم وتوابعها، فإن أصل تسميتهم لهذه الأمور مفارقات هو مأخوذ من مفارقة النفس البدن بالموت، وهذا أمر صحيح، فإن نفس الميت تفارق بدنه بالموت، وهذا مبني على أن النفس قائمة بنفسها، تبقى بعد فراق البدن بالموت منعمة أو معذبة، وهذا مذهب أهل الملل من المسلمين وغيرهم، وهو قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين، وإن كان كثير من أهل الكلام يزعمون أن النفس هي الحياة القائمة بالبدن‏.‏

    ويقول بعضهم‏:‏ هي جزء من أجزاء البدن كالريح المترددة في البدن أو البخار الخارج من القلب‏.‏

    ففي الجملة، النفس المفارقة للبدن بالموت ليست جزءا من أجزاء البدن، ولا صفة من صفات البدن عند سلف الأمة وأئمتها، وإنما يقول هذا وهذا من يقوله من أهل الكلام المبتدع المحدث من أتباع الجهمية والمعتزلة ونحوهم ‏.‏

    والفلاسفة المشاءون يقرون بأن النفس تبقى إذا فارقت البدن، لكن يصفون النفس بصفات باطلة، فيدعون أنها إذا فارقت البدن كانت عقلا، والعقل عندهم هو المجرد عن المادة وعلائق المادة، والمادة عندهم هي الجسم، وقد يقولون‏:‏ هو المجرد عن التعلق بالهيولي، والهيولي في لغتهم هو بمعنى المحل‏.‏

    ويقولون‏:‏ المادة والصورة‏.

    ‏‏ والعقل عندهم جوهر قائم بنفسه لا يوصف بحركة ولا سكون ولا تتجدد له أحوال البتة‏.

    ‏‏ فحقيقة قولهم‏:‏ إن النفس إذا فارقت البدن لا يتجدد لها حال من الأحوال، لا علوم ولا تصورات، ولا سمع ولا بصر ولا إرادات، ولا فرح وسرور، ولا غير ذلك مما قد يتجدد ويحدث، بل تبقى عندهم على حال واحدة أزلًا وأبدًا، كما يزعمونه في العقل والنفس‏.

    ‏‏ ثم منهم من يقول‏:‏ إن النفوس واحدة بالعين‏.

    ‏‏ ومنهم من يقول‏:‏ هي متعددة‏.

    ‏‏ وفي كلامهم من الباطل ما ليس هذا موضع بسطه‏.

    ‏‏ وإنما المقصود التنبيه على ما يناسب هذا الموضع، فهم يسمون ما اقترن بالمادة التي هي الهيولي وهي الجسم في هذا الموضع نفسًا كنفس الإنسان المدبرة لبدنه، ويزعمون أن للفلك نفسًا تحركه كما للناس نفوس، لكن كان قدماؤهم يقولون‏:‏ إن نفس الفلك عرض قائم بالفلك كنفوس البهائم، وكما يقوم بالإنسان الشهوة والغضب، لكن طائفة منهم كابن سينا وغيره زعموا أن النفس الفلكية جوهر قائم بنفسه كنفس الإنسان، وما دامت نفس الإنسان مدبرة لبدنه سموها نفسًا، فإذا فارقت سموها عقلا؛ لأن العقل عندهم هو المجرد عن المادة وعن علائق المادة، وأما النفس فهي المتعلقة بالبدن تعلق التدبير والتصريف‏.‏

    وأصل تسميتهم هذه مجردات هو مأخوذ من كون الإنسان يجرد الأمور العقلية الكلية عن الأمور الحسية المعينة، فإنه إذا رأى أفرادًا للإنسان كزيد وعمرو عقل قدرًا مشتركًا بين الأناسي وبين الإنسانية الكلية المشتركة المعقولة في قلبه، وإذا رأي الخيل والبغال والحمير وبهيمة الأنعام وغير ذلك من أفراد الحيوان، عقل من ذلك قدرًا كليًا مشتركًا بين الأفراد، وهي الحيوانية الكلية المعقولة، وإذا رأى مع ذلك الحيوان والشجر والنبات، عقل من ذلك قدرًا مشتركًا كليًا وهو الجسم النامي المغتذي، وقد يسمون ذلك النفس النباتية وإذا رأى مع ذلك سائر الأجسام العلوية الفلكية والسفلية العنصرية، عقل من ذلك قدرًا مشتركا كليا وهو الوجود العام الكلي الذي ينقسم إلى جوهر وعرض، وهذا الوجود هو عندهم موضوع ‏"‏العلم الأعلى‏"‏ الناظر في الوجود ولواحقه، وهي ‏[‏الفلسفة الأولى‏]‏ و‏[‏الحكمة العليا‏]‏ عندهم‏.

    ‏‏ وهم يقسمـون الوجود إلى جوهـر وعرض، والأعراض يجعلونها ‏[‏تسعة أنواع‏]‏، هذا هو الذي ذكره أرسطو وأتباعه يجعلون هذا من جملة المنطق؛ لأن فيه المفردات التي تنتهي إليها الحدود المؤلفة، وكذلك من سلك سبيلهم، ممن صنف في هذا الباب كابن حزم وغيره‏.

    ‏‏ وأما ابن سينا وأتباعه فقالوا‏:‏ الكلام في هذا لا يختص بالمنطق، فأخرجوها منه وكذلك من سلك سبيل ابن سينا كأبي حامد والسهروردي المقتول والرازي والآمدي وغيرهم‏.

    ‏‏ وهذه هي ‏[‏المقولات العشر‏]‏ التي يعبرون عنها بقولهم‏:‏الجوهر، والكم والكيف، والأين، ومتى، والإضافة، والوضع، والملك، وأن يفعل، وأن ينفعل، وقد جمعت في بيتين وهي‏:‏

    زيد الطويل الأسود بن مالك ** في داره بالأمس كان متكي

    في يده سيف نضاه فانتضـــا ** فهذه عشر مقولات ســـوا

    وأكثر الناس من أتباعه وغير أتباعه أنكروا حصر الأعراض في تسعة أجناس، وقالوا‏:‏ إن هذا لا يقوم عليه دليل، ويثبتون إمكان ردها إلى ثلاثة وإلى غير ذلك من الأعداد، وجعلوا الجواهر خمسة أنواع‏:‏ الجسم، والعقل، والنفس، والمادة، والصورة‏.

    ‏‏ فالجسم جوهر حسي، والباقية جواهر عقلية، لكن ما يذكرونه من الدليل على إثبات الجواهر العقلية، إنما يدل على ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان‏.‏

    وهذه التي يسمونها ‏[‏المجردات العقلية‏]‏ ويقولون‏:‏ الجواهر تنقسم إلى ماديات، ومجردات، فالماديات القائمة بالمادة وهي الهيولي وهي الجسم، والمجردات هي المجردات عن المادة، وهذه التي يسمونها المجردات أصلها هي هذه الأمور الكلية المعقولة في نفس الإنسان، كما أن المفارقات أصلها مفارقة النفس البدن‏.

    ‏‏ وهذان أمران لا ينكران، لكن ادعوا في صفات النفس وأحوالها أمورًا باطلة، وادعوا أيضًا ثبوت جواهر عقلية قائمة بأنفسها ويقولون فيها‏:‏ العاقل، والمعقول والعقل شيء واحد‏.‏

    كما يقولون‏:‏ مثل ذلك في رب العالمين، فيقولون‏:‏ هو عاقل ومعقول وعقل، وعاشق ومعشوق وعشق، ولذيذ وملتذ ولذة‏.

    ‏‏ ويجعلون الصفة عين الموصوف، ويجعلون كل صفة هي الأخرى، فيجعلون نفس العقل الذي هو العلم نفس العاقل العالم، ونفس العشق الذي هو الحب نفس العاشق المحب، ونفس اللذة هي نفس العلم ونفس الحب، ويجعلون القدرة والإرادة هي نفس العلم، فيجعلون العلم هو القدرة وهو الإرادة وهو المحبة وهو اللذة، ويجعلون العالم المريد المحب الملتذ هو نفس العلم الذي هو نفس الإرادة وهو نفس المحبة وهو نفس اللذة، فيجعلون الحقائق المتنوعة شيئًا واحدًا، ويجعلون نفس الصفات المتنوعة هي نفس الذات الموصوفة، ثم يتناقضون فيثبتون له علما ليس هو نفس ذاته، كما تناقض ابن سينا في إشاراته، وغيره من محققيهم، وبسط الكلام في الرد عليهم بموضع آخر‏.

    ‏‏ والمقصود أنهم يعبرون بلفظ العقل عن جوهر قائم بنفسه، ويثبتون جواهر عقلية يسمونها المجردات والمفارقات للمادة؛ وإذا حقق الأمر عليهم لم يكن عندهم غير نفس الإنسان التي يسمونها الناطقة وغير ما يقوم بها من المعنى الذي يسمى عقلاً.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    سئل شيخ الاسلام عن الحقيقة .


    السؤال: فصـــل: في معنى الحقيقة

    الإجابة: أما قول السائل‏:‏ ما معنى كون ذلك حقيقة‏؟‏ فالحقيقة‏:‏ هواللفظ المستعمل فيما وضع له، وقد يراد بها المعنى الموضوع للفظ الذي يستعمل اللفظ فيه‏.
    ‏‏ فالحقيقة أو المجاز هي من عوارض الألفاظ في اصطلاح أهل الأصول، وقد يجعلونه من عوارض المعاني لكن الأول أشهر، وهذه الأسماء والصفات لم توضع لخصائص المخلوقين عند الإطلاق، ولا عند الإضافة إلى اللّه تعالى ولكن عند الإضافة إليهم‏.
    ‏‏
    ‏‏ فاسم العلم يستعمل مطلقًا، ويستعمل مضافًا إلى العبد، كقوله‏:‏ ‏{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏، ويستعمل مضافًا إلى اللّه كقوله‏:‏ ‏{‏‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏‏ ‏[‏ البقرة‏:‏255‏]‏، فإذا أضيف العلم إلى المخلوق لم يصلح أن يدخل فيه علم الخالق سبحانه ولم يكن علم المخلوق كعلم الخالق، وإذا أضيف إلى الخالق كقوله‏:‏ ‏{‏‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏166‏]‏ لم يصلح أن يدخل فيه علم المخلوقين، ولم يكن علمه كعلمهم‏.
    ‏‏
    ‏‏ وإذا قيل‏:‏ العلم مطلقًا أمكن تقسيمه، فيقال‏:‏ العلم ينقسم إلى العلم القديم والعلم المحدَث، فلفظ العلم عام فيهما، متناول لهما بطريق الحقيقة، وكذلك إذا قيل‏:‏ الوجود ينقسم إلى قديم ومُحدَث وواجب وممكن، وكذلك إذا قيل في الاستواء‏:‏ ينقسم إلى استواء الخالق واستواء المخلوق، وكذلك إذا قيل‏:‏ الإرادة والرحمة والمحبة تنقسم إلى إرادة اللّه ومحبته ورحمته، وإردة العبد ومحبته ورحمته‏.
    ‏‏
    ‏‏ فمن ظن أن ‏[‏الحقيقة‏]‏ إنما تتناول صفة العبد المخلوقة المحدثة دون صفة الخالق، كان في غاية الجهل؛ فإن صفة اللّه أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب، كما لا نسبة بين ذاته وذاته، فكيف يكون العبد مستحقًا للأسماء الحسنى حقيقة، فيستحق أن يقال له‏:‏ عالم قادر سميع بصير، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازًا‏؟‏‏!‏ ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الرب سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى، فكل كمال حصل للمخلوق فالخالق أحق به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أحق أن ينزه عنه؛ ولهذا كان للّه ‏[‏المثل الأعلى‏]‏، فإنه لا يقاس بخلقه ولا يمثل بهم، ولا تضرب له الأمثال‏.‏
    فلا يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل بمثل؛ ولا في قياس شمول تستوي أفراده، بل ‏{‏‏وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

    ‏‏ ومن الناس من يسمى هذه الأسماء ‏[‏المشككة‏]‏؛ لكون المعنى في أحد المحلين أكمل منه في الآخر، فإن الوجود بالواجب أحق منه بالممكن، والبياض بالثلج أحق منه بالعاج، وأسماؤه وصفاته من هذا الباب؛ فإن اللّه تعالى يوصف بها على وجه لا يماثل أحدًا من المخلوقين وإن كان بين كل قسمين قدرٌ مشترك، وذلك القدر المشترك هو مسمى اللفظ عند الإطلاق، فإذا قيد بأحد المحلين تقيد به‏.
    ‏‏
    ‏‏ فإذا قيل‏:‏ وجود وماهية وذات، كان هذا الاسم متناولًا للخالق والمخلوق، وإن كان الخالق أحق به من المخلوق، وهو حقيقة فيهما‏.
    ‏‏
    ‏‏ فإذا قيل‏:‏ وجود اللّه وماهيته وذاته اختص هذا باللّه، ولم يبق للمخلوق دخول في هذا المسمى، وكان حقيقة للّه وحده‏.‏

    ‏‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ وجود المخلوق وذاته اختص ذلك بالمخلوق وكان حقيقة للمخلوق‏.
    ‏‏ فإذا قيل‏:‏ وجود العبد وماهيته وحقيقته لم يدخل الخالق في هذا المسمى، وكان حقيقة للمخلوق وحده‏.‏

    ‏‏ والجاهل يظن أن اسم الحقيقة إنما يتناول المخلوق وحده، وهذا ضلال معلوم الفساد بالضرورة في ‏[‏العقول‏]‏ و‏[‏الشرائع‏]‏ و‏[‏اللغات‏]‏، فإنه من المعلوم بالضرورة أن بين كل موجودين قدرًا مشتركًا وقدرًا مميزًا، والدال على ما به الاشتراك وحده لا يستلزم ما به الامتياز، ومعلوم بالضرورة من دين المسلمين أن اللّه مستحق للأسماء الحسنى، وقد سمى بعض عباده ببعض تلك الأسماء، كما سمى العبد سميعًا بصيرًا، وحيًا وعليمًا، وحكيمًا، ورءوفا رحيمًا، وملكًا، وعزيزًا، ومؤمنًا، وكريمًا، وغير ذلك‏.
    ‏‏
    ‏‏ مع العلم بأن الاتفاق في الاسم لا يوجب مماثلة الخالق بالمخلوق، وإنما يوجب الدلالة على أن بين المسميين قدرًا مشتركًا فقط، مع أن المميز الفارق أعظم من المشترك الجامع‏.‏

    ‏‏ وأما ‏[‏اللغات‏]‏ فإن جميع أهل اللغات من العرب والروم، والفرس، والترك، والبربر، وغيرهم يقع مثل هذا في لغاتهم، وهو حقيقة في لغات جميع الأمم، بل يعلمون أن اللّه أحق بأن يكون قادرًا فاعلًا من العبد، وأن استحقاق اسم الرب القادر له حقيقة أعظم من استحقاق العبد لذلك، وكذلك غيره من الأسماء الحسنى‏.‏

    ‏‏ وقول الناس‏:‏ إن بين المسميين قدرًا مشتركًا، لا يريدون بأن يكون في الخارج عن الأذهان أمر مشترك بين الخالق والمخلوق؛ فإنه ليس بين مخلوق ومخلوق في الخارج شيء مشترك بينهما، فكيف بين الخالق والمخلوق، وإنما توهم هذا من توهمه من أهل ‏[‏المنطق اليوناني‏]‏ ومن اتبعهم، حتى ظنوا أن في الخارج ماهيات مطلقة مشتركة بين الأعيان المحسوسة، ثم منهم من يجردها عن الأعيان كأفلاطون، ومنهم من يقول‏:‏لا تنفك عن الأعيان كأرسطو، وابن سينا، وأشباههما‏.‏

    ‏‏ وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبينا ما دخل على من اتبعهم من الضلال في هذا الموضع في ‏[‏المنطق والإلهيات‏]‏، حتى إن طوائف من النظار قالوا‏:‏ إنا إذا قلنا‏:‏ إن وجود الرب عين ماهيته كما هو قول أهل الإثبات، ومتكلمة أهل الصفات‏:‏ كابن كلاب، والأشعري وغيرهما يلزم من ذلك أن يكون لفظ ‏[‏الوجود‏]‏ مقولًا عليهما بالإشتراك اللفظي، كما ذكره أبو عبد اللّّه الرازي عن الأشعري، وأبي الحسين البصري وغيرهم؛ وليس هذا مذهبهم، بل مذهبهم‏:‏ أن لفظ ‏[‏الوجود‏]‏ مقول بالتواطؤ، وأنه ينقسم إلى قديم ومُحدَث، مع قولهم‏:‏ إن وجود الرب عين ماهيته، فإن لفظ الوجود عندهم كلفظ الماهية‏.‏

    ‏‏ وكما أن الماهية والذات تنقسم إلى قديمة ومحدثة، وماهـية الـرب عـين ذاتـه، فكـذلك الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، ووجود الرب عين ذاته، ووجود العبد عين ذاته، وذات الشيء هي ماهيته‏.‏

    ‏‏ فاللفظ من الألفاظ المتواطئة، ولكن بالإضافة يخص أحد المسميين، والمسميان إذا اشتركا في مسمى الوجود والذات والماهية، لم يكن بينهما في الخارج أمر مشترك يكون زائدًا على خصوصية كل واحد، كما يظنه أرسطو، وابن سينا، والرازي، وأمثالهم، بل ليس في الخارج وجود مطلق، ولا ماهية مطلقة، ولا ذات مطلقة‏.
    ‏‏
    ‏‏ أما المطلق بشرط الإطلاق فقد اتفق هؤلاء وغيرهم على أنه ليس بموجود في الخارج، وأن على تقدير ثبوته عن أفلاطون وأتباعه، هو قول باطل ضرورة‏.‏

    ‏‏ وأما المطلق لا بشرط، فقد يظن أنه في الخارج وأنه جزء من المعين، وهذا غلط، بل ليس في الخارج إلا المعينات، وليس في الخارج مطلق يكون جزء معين، لكن هؤلاء يريدون بالجزء ما هو صفة ذاتية للموصوف؛ بناء على أن الموصوف مركب من تلك الصفات التي يسمونها الأجزاء الذاتية‏.‏ كما يقولون‏:‏ الإنسان مركب من الحيوان والناطق؛ أو من الحيوانية والناطقية، وهذا التركيب تركيب ذهني؛ فالماهية المركبة في الذهن مركبة من هذه الأمور وهي أجزاء تلك الماهية‏.
    ‏‏
    ‏‏ وأما الحقيقة الموجودة في الخارج فهي موصوفة بهذه الصفات، ولكن كثيرًا من هؤلاء اشتبه عليه الوجود الذهني بالخارجي، وهذا الغلط وقع كثيرًا في أقوال المتفلسفة، فأوائلهم كأصحاب فيثاغورس كانوا يقولون بوجود أعداد مجردة عن المعدودات في الخارج، وأصحاب أفلاطون يقولون‏:‏ بوجود المثل الأفلاطونية، وهي الحقائق المطلقة عن المعينات في الخارج‏.‏

    ‏‏ وهذه الحقائق مقارنة للمعينات في الخارج كما أثبتوا جواهر عقلية، وهي المجردات‏:‏ كالمادة، والهيولى؛ والعقول والنفوس على قول بعضهم‏.
    ‏‏
    ‏‏ ومن هذا الباب تفريقهم بين الصفات الذاتية المتقدمة للماهية، التي تتركب منها الأنواع ويسمونها الأجناس والفصول، وبين الصفات العارضة اللازمة للماهية التي يسمونها خواصًا وأعراضًا عامة‏.‏
    وهذه الخمسة هي الكليات؛ وهي الجنس، والفصل، والنوع، والعرض العام، والخاصة، وقد وقع بسبب ذلك من الغلط في ‏[‏منطقهم‏]‏ وفي ‏[‏الإلهيات‏]‏ ما ضل به كثير من الخلق، وقد نبهنا على ذلك في غير هذا الموضع بما لا يتسع له هذا الموضع؛ ولهذا كان لفظ المركب عندهم يقال على خمسة معان‏:‏ على المركب من الوجود والماهية، والمركب من الذات والصفات، والمركب من الخاص والعام، والمركب من المادة والصورة، والقائلون بالجوهر الفرد يثبتون التركيب من الجواهر المفردة‏.
    ‏‏
    ‏‏ والمحققون من أهل العلم يعلمون أن تسمية مثل هذه المعاني تركيبًا أمر اصطلاحي، وهو إما أمر ذهني لا وجود له في الخارج، وإما أن يعود إلى صفات متعددة قائمة بالموصوف، وهذا حق‏.
    ‏‏
    ‏‏ فإن مذهب أهل السنة والجماعة‏:‏ إثبات الصفات للّه تعالى بل صفات الكمال لازمة لذاته، يمتنع ثبوت ذاته بدون صفات الكمال اللازمة له، بل يمتنع تحقق ذات من الذوات عَرِيَّة عن جميع الصفات، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

    ‏‏ والمقصود هنا أنه إذا قيل‏:‏هذا إنسان، فالمشار إليه بهذا المسمى بإنسان، وليس الإنسان المطلق جزءًا من هذا، وليس الإنسان هنا إلا مقيدًا وإنما يوجد مطلقًا في الذهن؛ لا في الخارج‏.

    ‏‏ وإذا قيل هذا في الإنسانية فالمعنى‏:‏ أن بينهما تشابها فيها؛ لا أن هناك شيئًا موجودًا في الأعيان يشتركان فيه‏.‏

    ‏‏ فليتدبر اللبيب هذا، فإنه يحل شبهات كثيرة، ومن فهم هذا الموضع تبين له غلط من جعل هذه الأسماء مقولة بالاشتراك اللفظي لا المعنوي، وغلط من جعل أسماء اللّه تعالى أعلامًا محضة لا تدل على معان، ومن زعم أن في الخارج حقائق مطلقة يشترك فيها الأعيان، وعلم أن ما يستحق الرب لنفسه لا يشركه فيه غيره بوجه من الوجوه، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات‏.‏

    ‏‏ وأما المخلوق فقد يماثله غيره في صفاته، لكن لا يشركه في غير ما يستحقه منها، والأسماء المتواطئة المقولة على هذا وهذا حقيقة في هذا وهذا؛ فإذا كانت عامة لهما تناولتهما، وإن كانت مطلقة لم يمنع تصورهما من اشتراكهما فيها، وإن كانت مقيدة اختصت بمحلها‏.
    ‏‏
    ‏‏ فإذا قال‏:‏ وجود اللّه، وذات اللّه، وعلم اللّه، وقدرة اللّه، وسمع اللّه، وبصر اللّه، وأرادة اللّه، وكلام اللّه، ورحمة اللّه، وغضب اللّه واستواء اللّه، ونزول اللّه، ومحبة اللّه، وإرادة الله ونحو ذلك، كانت هذه الأسماء كلها حقيقة للّه تعالى من غير أن يدخل فيها شيء من المخلوقات، ومن غير أن يماثله فيها شيء من المخلوقات‏.

    ‏‏ ‏‏ وإذا قال‏:‏ وجود العبد وذاته، وماهيته، وعلمه، وقدرته، وسمعه، وبصره، وكلامه، واستواؤه، ونزوله، كان هذا حقيقة للعبد مختصة به، من غير أن تماثل صفات اللّه تعالى‏.‏

    ‏‏ بل أبلغ من ذلك أن اللّه أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح، ما ذكره في كتابه، كما أخبر أن فيها لبنا، وعسلًا، وخمرًا، ولحمًا، وحريرًا، وذهبًا، وفضة، وحورًا، وقصورًا، ونحو ذلك، وقد قال ابن عباس‏:‏ ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء‏.‏

    ‏‏ فتلك الحقائق التي في الآخرة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه، والاسم يتناولها حقيقة، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق، فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته اللّه تعالى من أسمائه وصفاته مماثلا لمخلوقاته‏؟‏ وأن يقال‏:‏ ليس ذلك بحقيقة، وهل يكون أحق بهذه الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض‏؟‏‏!‏ مع أن مباينته للمخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق‏.‏

    ‏‏ والجاهل يضل بقول المتكلمين‏:‏إن العرب وضعوا لفظ الاستواء لاستواء الإنسان على المنزل أو الفلك، أو استواء السفينة على الجودي، ونحو ذلك من استواء بعض المخلوقات، فهذا كما يقول القائل‏:‏ إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفانا وأصمخة وأذنًا وشفتين، وهذا ضلال في الشرع وكذب، وإنما وضعوا لفظ الرحمة والعلم والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاد، وهذا كله جهل منه‏.‏

    ‏‏ فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافته إليه، فإذا قالت‏:‏ سمع العبد، وبصره، وكلامه، وعلمه، وإرادته، ورحمته، فما يخص به يتناول ذلك خصائص العبد‏.‏

    ‏‏ وإذا قيل‏:‏ سمع اللّه وبصره، وكلامه وعلمه، وإرادته ورحمته، كان هذا متناولًا لما يخص به الرب، لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين، فمن ظن أن هذا الاستواء إذا كان حقيقة يتناول شيئًا من صفات المخلوقين مع كون النص قد خصه باللّه، كان جاهلًا جدًا بدلالات اللغات، ومعرفة الحقيقة والمجاز‏.
    ‏‏
    ‏‏ وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق، ثم ينفون ذلك ويعطلونه، فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق، وينفون مضمون ذلك، ويكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته، وألحدوا في أسماء اللّه وآياته، وخرجوا عن القياس العقلي والنص الشرعي، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح ولا منقول صحيح، ثم لابد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات‏.‏
    فإذا أثبتوا البعض ونفوا البعض قيل لهم‏:‏ ما الفرق بين ما أثبتموه ونفيتموه‏؟‏ ولم كان هذا حقيقة ولم يكن هذا حقيقة‏؟‏ لم يكن لهم جواب أصلا، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعًا وقدرًا‏.
    ‏‏
    ‏‏ وقد تدبرت كلام عامة من ينفي شيئًا مما أثبته الرسل من الأسماء والصفات، فوجدتهم كلهم متناقضين؛ فإنهم يحتجون لما نفوه بنظير ما يحتج به النافي لما أثبتوه، فيلزمهم إما إثبات الأمرين وإما نفيهما، فإذا نفوهما فلا بد لهم أن يقولوا بالواجب الوجود وعدمه جميعًا‏.‏
    وهذا نهاية هؤلاء النفاة الملاحدة الغلاة من القرامطة وغلاة المتفلسفة، فإنهم إذا أخذوا ينفون النقيضين جميعًا، فالنقيضان كما أنهما لا يجتمعان، فلا يرتفعان‏.‏

    ‏‏ ومن جهة أن ما يسلبون عنه النقيضين لابد أن يتصوروه وأن يعبروا عنه؛ فإن التصديق مسبوق بالتصور، ومتى تصوروه وعبروا عنه كقولهم‏:‏ الثابت والواجب أو أي شيء قالوه، لزمهم فيه من إثبات القدر المشترك نظير ما يلزمهم فيما نفوه، ولا يمكن أن يتصور شيء من ذلك مع قولهم‏:‏ أسماء اللّه مقولة بالاشتراك اللفظي فقط‏.‏

    ‏‏ فإن المشتركين اشتراكًا لفظيًا لا معنويًا كلفظ ‏[‏المشتري‏]‏ المقول على الكوكب والمبتاع، وسهيل المقول على الكوكب وعلى ابن عمرو، فإنه إذا سمع المستمع قائلًا يقول له‏:‏ جاءني سهيل بن عمرو، وهذا هو المشتري لهذه السلعة، لم يفهم من هذا اللفظ كوكبًا أصلًا، إلا أن يعرف أن اللفظ موضوع له، فإذا لم تكن أسماؤه متواطئة لم يفهم العباد من أسمائه شيئًا أصلًا، إلا أن يعرفوا ما يخص ذاته، وهم لم يعرفوا ما يخص ذاته، فلم يعرفوا شيئًا‏.‏

    ‏‏ ثم إن العلم بانقسام الوجود إلى قديم ومحدث وأمثال ذلك علم ضروري، فالقادح سفسطائي‏.‏
    ‏‏
    وكذلك العلم بأن بين الاسمين قدرًا مشتركًا علم ضروري‏.
    ‏‏
    ‏‏ وإذا قيل‏:‏ إن اللفظ حقيقة فيهما، لم يحتج ذلك إلى أن يكون أهل اللغة قد تكلموا باللفظ مطلقًا، فعبروا عن المعنى المطلق المشترك؛ فإن المعاني التي لا تكون إلا مضافة إلى غيرها‏:‏ كالحياة والعلم، والقدرة والاستواء؛ بل واليد وغير ذلك مما لا يكون إلا صفة قائمة بغيره أو جسما قائمًا بغيره بحيث لا يوجد في الخارج مجردًا عن محله‏.‏
    ‏‏
    ولكن أهل النظر لما أرادوا تجريد المعاني الكلية المطلقة عبروا عنها بالألفاظ الكلية المطلقة، وأهل اللغة في ابتداء خطابهم يقولون مثلا ‏:‏ جاء زيد، وهذا وجه زيد؛ ويشيرون إلى ما قام به من المجيء والوجه، فيفهم المخاطب ذلك‏.‏

    ‏‏ ثم يقولون تارة أخرى‏:‏ جاء عمرو، ورأيت وجه عمرو، وجاء الفرس، ورأيت وجه الفرس، فيفهم المستمع أن بين هذه قدرًا مشتركًا وقدرًا مميزًا، وأن لعمرو مجيئًا ووجهًا نسبته إليه كنسبة مجيء زيد ووجهه إليه، فإذا علم أن عمرًا مثل زيد، علم أن مجيئه، مثل مجيئه، ووجهه مثل وجهه، وإن علم أن الفرس ليست مثل زيد بل تشابهه من بعض الوجوه، علم أن مجيئها ووجهها ليس مجيء زيد ووجهه، بل تشبهه في بعض الوجوه‏.
    ‏‏
    ‏‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ جاءت الملائكة ورأت الأنبياء وجوه الملائكة، علم أن للملائكة مجيئًا ووجوهًا نسبتها إليها كنسبة مجيء الإنسان ووجهه إليه، ثم معرفته بحقيقة ذلك تبع معرفته بحقيقة الملائكة؛ فإن كان لا يعرف الملائكة إلا من جهة الجملة ولا يتصور كيفيتهم، كان ذلك في مجيئهم ووجوههم لا يعرفها إلا من حيث الجملة ولا يتصور كيفيتها‏.
    ‏‏
    ‏‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ جاءت الجن، فاللفظ في جميع هذه المواضع يدل على معانيها بطريق الحقيقة، بل إذا قيل‏:‏ حقيقة الملك وماهيته ليست مثل حقيقة الجني وماهيته كان لفظ الحقيقة والماهية مستعملًا فيهما على سبيل الحقيقة، وكان من الأسماء المتواطئة، مع أن المسميات قد صرح فيها بنفي التماثل‏.
    ‏‏
    ‏‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ خمر الدنيا ليس كمثل خمر الآخرة، ولا ذهبها مثل ذهبها، ولا لبنها مثل لبنها، ولا عسلها مثل عسلها، كان قد صرح في ذلك بنفي التماثل، مع أن الاسم مستعمل فيها على سبيل الحقيقة‏.‏

    ‏‏ ونظائر هذا كثيرة؛ فإنه لو قال القائل‏:‏ هذا المخلوق ما هو مثل هذا المخلوق، وهذا الحيوان الذي هو الناطق ليس مثل الحيوان الذي هو الصامت، أو هذا اللون الذي هو الأبيض ليس مثل الأسود، أو الموجود الذي هو الخالق ليس هو مثل الموجود الذي هو المخلوق، ونحو ذلك كانت هذه الأسماء مستعملة على سبيل الحقيقة في المسميين اللذين صرح بنفي التماثل بينهما، فالأسماء المتواطئة إنما تقتضي أن يكون بين المسميين قدرًا مشتركًا، وإن كان المسميان مختلفين أو متضادين‏.
    ‏‏
    ‏‏ فمن ظن أن أسماء اللّه تعالى وصفاته إذا كانت حقيقة، لزم أن يكون مماثلًا للمخلوقين، وأن صفاته مماثلة لصفاتهم كان من أجهل الناس، وكان أول كلامه سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه يقتضي نفي جميع أسماء اللّه تعالى وصفاته، و هذا هو غاية الزندقة والإلحاد‏.
    ‏‏
    ‏‏ ومن فرق بين صفة وصفة، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز، كان متناقضًا في قوله، متهافتًا في مذهبه، مشابهًا لمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض‏.‏

    ‏‏ وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور، تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد، والصحة والاطراد، وأنه مقتضى المعقول الصريح والمنقول الصحيح، وأن من خالفه كان مع تناقض قوله المختلف، الذي يؤفك عنه من أفك، خارجًا عن موجب العقل والسمع، مخالفًا للفطرة والسمع، واللّه يتم نعمته علينا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين، ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة‏.‏

    ‏‏ وهذا لا تعلق له بصفات اللّه تعالى قال بعضهم‏:‏ قد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏، فقد ذم اللّه من اتخذ إلهًا جسدًا، و‏[‏الجسد‏]‏ هو الجسم؛ فيكون اللّه قد ذم من اتخذ إلهًا هو جسم‏.
    ‏وإثبات هذه الصفات يستلزم أن يكون جسمًا، وهذا منتف بهذا الدليل الشرعي‏.‏

    ‏‏ فهذا خلاصة ما يقوله من يزعم أنه يعتمد في ذلك على الشرع، فيقال له‏:‏ هذا باطل من وجوه‏:‏
    ‏‏
    أحدها‏:‏ أن هذا إذا دل إنما يدل على نفي أن يكون جسدًا، لا على نفي أن يكون جسمًا، والجسم في اصطلاح هؤلاء نفاة الصفات أعم من الجسد؛ فإن الجسم ينقسم عندهم إلى كثيف ولطيف، بخلاف الجسد‏.‏

    ‏‏ فإن أردت بقولك الجسم اللغوي وهو الذي قال أهل اللغة‏:‏ إنه هو الجسد قيل لك‏:‏ لا يلزم من إثبات الاستواء على العرش أن يكون جسدًا، وهو الجسم اللغوي‏.‏

    ‏‏ فإنا نعلم بالضرورة أن الهواء يعلو على الأرض وليس هو بجسد، والجسد هو الجسم اللغوي‏.‏

    ‏‏ فقول القائل‏:‏ لو كان مستويًا على العرش لكان جسمًا، والجسم هو الجسد، والجسد منتف بالشرع كلام ملبس‏.‏

    ‏‏ فإنه إن عنى بالجسم الجسد، كانت المقدمة الأولى ممنوعة؛ فإن عاقلًا لا يقول‏:‏إنه لو كان فوق العرش لكان جسدًا، ولا يقول عاقل‏:‏ إنه لو كان له علم وقدرة، لكان جسدًا‏.

    ‏‏ ‏‏ ولا يقول عاقل‏:‏ إنه لو كان يرى ويتكلم لكان جسدًا وبدنًا‏.‏

    ‏‏ فإن الملائكة لهم علم وقدرة وترى وتتكلم، وكذلك الجن، وكذلك الهواء يعلو على غيره وليس بجسد‏.‏

    ‏‏ وإن عنى بالجسم ما يعنيه أهل الكلام؛ من أنه الذي يشار إليه، وجعلوا كل ما يشار إليه جسمًا، وكل ما يرى جسمًا أو كل ما يمكن أنه يرى أو يوصف بالصفات فهو جسم، أو كل ما يعلو على غيره ويكون فوقه فهو جسم فيقال له‏:‏ فالجسد والجسم بهذا التفسير الكلامي ليس هو جسدًا في لغة العرب، بل هو منقسم إلى غليظ ورقيق، إلى ما هو جسد وإلى ما ليس بجسد‏.‏

    ‏‏ ولذا يقول الفقهاء‏:‏ النجاسة إن كانت متجسدة كالميتة فحكمها كذا، وإن كانت غير متجسدة كالبول فحكمها كذا‏.‏

    ‏‏ وإذا قدر أن الدليل دل على أنه ليس بجسد لم يلزم ألا يكون جسمًا بهذا الاصطلاح؛ لأن الجسم أعم عندهم من الجسد، ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام؛ كما إذا قلت‏:‏ ليس هو بإنسان، فإنه لا يلزم أنه ليس بحيوان‏.‏

    ‏‏ فلفظ الجسم فيه اشتراك بين معناه في اللغة ومعناه في عرف أهل الكلام؛ فإذا كان معناه في اللغة هو معنى الجسد وهذا منتف بما ذكر من الدليل بطل قول من نفي الاستواء بالذات؛ أو غيره من الصفات، بأنه لو كان موصوفًا بذلك لكان جسمًا، فإن التلازم حينئذ منتف، فإحدى المقدمتين باطلة؛ إما الأولى وإما الثانية‏.‏

    ‏‏ ونظير هذا أن يقول‏:‏ لو كان له علم وقدرة لكان محلًا للأعراض، وما كان محلا للأعراض فهو محل الآفات والعيوب، فلا يكون قدوسا،ولا سلامًا؛لأن أهل اللغة قالوا‏:‏ العَرَض بالتحريك ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه، فلو جاز أن تقوم به هذه لكان تعالى وتقدس معيبًا ناقصًا، وهو سبحانه مقدس عن ذلك؛ إذ هو السلام القدوس‏.‏
    ‏‏
    فيقال‏:‏ لفظ العَرَض مشترك بين ما ذكر من معناه في اللغة، وبين معناه في عرف أهل الكلام، فإن معناه عند من يسمى العلم والقدرة مطلقًا عرضًا‏:‏ ما قام بغيره كالحياة، والعلم، والقدرة والحركة، والسكون ونحو ذلك‏.
    ‏‏ وآخرون يقولون‏:‏ هو ما لا يبقى زمانين‏.‏

    ‏‏ ويقولون‏:‏ إن صفات الخالق باقية، بخلاف ما يقوم بالمخلوقات من الصفات، فإنها لا تبقى زمانين‏.‏

    ‏‏ والمقصود هنا‏:‏ أنه إذا قال‏:‏ لو قام به العلم والقدرة لكان عرضًا، وما قام به العرض قامت به الآفات، كلام فيه تلبيس، فإن إحدى المقدمتين باطلة‏.
    ‏‏
    ‏‏ فإن لفظ العَرَض إن فسر بالصفة، فالمقدمة الثانية باطلة، وإن فسر بما يعرض للإنسان من المرض ونحوه، فالمقدمة الأولى باطلة‏.‏

    ‏‏ ونظير ذلك أن يقول‏:‏ لو كان قد استوى على العرش لكان قد أحدث حدثًا، وقامت به الحوادث؛ لأن الاستواء فعل حادث كان بعد أن لم يكن فلو قام به الاستواء لقامت به الحوادث، ومن قامت به الحوادث فقد أحدث حدثًا، واللّه تعالى منزه عن ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لعن اللّه من أحدث حدثًا، أو آوى محدثا‏"‏‏ ولقوله "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏".

    ‏‏ ‏‏ فإنه يقال له‏:‏ الحادث في اللغة ما كان بعد أن لم يكن، واللّه تعالى يفعل ما يشاء؛ فما من فعل يفعله إلا وقد حدث بعد أن لم يكن‏.
    ‏‏
    ‏‏ وأما المحدثات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي المحدثات في الدين، وهو أن يحدث الرجل بدعة في الدين لم يشرعها اللّه، والإحداث في الدين مذموم من العباد، واللّه يحدث ما يشاء لا معقب لحكمه‏.‏
    فاللفظ المشتبه المجمل إذا خص في الاستدلال وقع فيه الضلال والإضلال‏.

    ‏‏ ‏‏ وقد قيل‏:‏ إن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه الثاني في بيان بطلان ما ذكر من الاستدلال‏:‏ أن يقال‏:‏ إن اللّه سبحانه منزه أن يكون من جنس شيء من المخلوقات‏:‏ لا أجساد الآدميين، ولا أرواحهم، ولا غير ذلك من المخلوقات؛ فإنه لو كان من جنس شيء من ذلك بحيث تكون حقيقته كحقيقته، للزم أن يجوز على كل منهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، وهذا ممتنع؛ لأنه يستلزم أن يكون القديم الواجب الوجود بنفسه، غير قديم واجب الوجود بنفسه، وأن يكون المخلوق الذي يمتنع غناه غنيًا يمتنع افتقاره إلى الخالق، وأمثال ذلك من الأُمور المتناقضة، واللّه تعالى نزه نفسه أن يكون له كُفو، ومثل، أو سََمِيٌّ، أو نِدٌّ‏.
    ‏‏
    ‏‏ فهذه الأدلة الشرعية والعقلية يعلم بها تنزه اللّه تعالى أن يكون من جنس أجساد الآدميين، أو غيرها من المخلوقات، لكن المستدل على ذلك بقوله‏:‏‏{‏‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ استدل بحجة ضعيفة؛ فإن ‏[‏الجسد‏]‏ وإن كان قد قال الجوهري وغيره‏:‏ إن الجسد هو البدن، يقال‏:‏ منه تجسد، كما يقال‏:‏ من الجسم تجسم، والجسد أيضًا الزعفران ونحوه من الصبغ، وهو الدم أيضا؛ كما قال النابغة‏:‏
    ‏‏
    وما أريـق على الأصـنام مـن جسد فليس المراد بالجسد في القرآن لا هذا ولا هذا، فليس المراد من العجل أن له بدنًا مثل بدن الآدميين، ولا بدنًا كأبدان البقر، فإن العجل لم يكن كذلك، والعرب تقول‏:‏ جسد به الدم يجسد جسدًا‏:‏ إذا لصق به، فهو جاسد وجسد‏.
    ‏‏
    ‏‏ قال الشاعر‏:‏
    ‏‏
    ساعد به جسد مورس ** من الدماء مائع ويبــس
    ‏‏
    والجسد الأحمر والمجسد ما أشبع صبغه من الثياب؛ لكمال ما لصق به من الصبغ، فاللفظ فيه معنى التكاثف والتلاصق؛ ولهذا يقول الفقهاء‏:‏ نجاسة متجسدة وغير متجسدة، وهو في القرآن يراد به الجسد المصمت المتلاصق المتكاثف، أو الذي لا حياة فيه‏.
    ‏‏
    ‏‏ وقد ذكر اللّه تعالى لفظة الجسد في أربعة مواضع، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ‏}‏‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏8‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏‏وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ‏}‏‏ ‏[‏ص‏:‏34‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏ 88‏]‏ كأنه عجل مصمت لا جوف له‏.‏

    ‏‏ وقد يقال‏:‏ إنه لا حياة فيه، خار خورة، ولم يقل‏:‏ عجلًا له جسد، له بدن، له جسم؛ لأنه من المعلوم أن كل عجل له جسد هو بدنه وهو جسمه، والعجل المعروف جسد فيه روح‏.‏

    ‏‏ والمقصود‏:‏ أنّ ما أخرجه كان جسدًا مصمتًا لا روح فيه حتى تبين نقصه، وأنه كان مسلوب الحياة والحركة‏.
    ‏‏ وقد روى أنه إنما خارخورة واحدة، وقد يقال‏:‏ إن أريد بالجسد المصمت أو الغليظ ونحوه، فلم قيل‏:‏ إن ذلك ذكر لبيان نقصه من هذا الوجه، بل من هذا الوجه ضلوا به، وإنما كان النقص من جهة‏{‏‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏‏‏.‏‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏ وقد يقال‏:‏ إذا كان لا حياة فيه فالنقص كان فيه من جهة عدم الحياة، وغيرها من صفات الكمال، لا من جهة كونه له بدن، أو ليس له بدن، فالآدمي له بدن‏.‏

    ‏‏ ولو أخرج لهم عجلًا كسائر العجول، أو آدميًا كاملًا، أو فرسًا حيًا، أو جملًا أو غير ذلك من الحيوان لكان أيضًا له بدن، ولكان ذلك أعجوبة عظيمة، وكانت الفتنة به أشد، ولكن اللّه سبحانه بين أن المخرج كان موصوفًا بصفات النقص يحقق ذلك‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه الثالث‏:‏ وهو أنه سبحانه قال‏:‏ ‏{‏‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏‏‏.‏‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏ فلم يذكر فيما عابه به كونه ذا جسد؛ ولكن ذكر فيما عابه به ‏{‏‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏‏‏.‏ ‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏، ولو كان مجرد كونه ذا بدن عيبًا ونقصًا لذكر ذلك‏.
    ‏‏
    ‏‏ فعلم أن الآية تدل على نقص حجة من يحتج بها، على أن كون الشيء ذا بدن عيبًا ونقصًا، وهذه الحجة نظير احتجاجهم بالأفول، فإنهم غيروا معناه في اللغة، وجعلوه الحركة، فظنوا أن إبراهيم احتج بذلك على كونه ليس رب العالمين، ولو كان كما ذكروه لكان حجة عليهم لا لهم‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه الرابع ‏:‏ أن اللّه تعالى وصفه بكونه عجلًا جسدًا له خوار، ثم قال‏:‏ ‏{‏‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏‏‏.‏ ‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏، وقال في السورة الأخرى‏:‏ ‏{‏‏فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏87ـ89‏]‏، فلم يقتصر في وصفه على مجرد كونه جسدًا، بل وصفه بأن له خوارًا، وبين أنه لا يكلمهم، ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا‏.
    ‏‏
    ‏‏ فالموجب لنقصه إما أن يكون مجموع الصفات أو بعضها، أو كل واحد منها؛ فإن كان المجموع لم يدل على أن نقصها واحدة نقص، وإن كان بعضها فليس كونه جسدًا بأولى من كونه له خوار‏.‏
    وليس هذا وهذا بأولى من كونه مسلوب التكلم والقدرة على النفع والضر، وإن كان كل منهما؛ فمعلوم أنهم إنما ضلوا بخواره ونحو ذلك، واللّه تعالى إنما احتج عليهم بعدم التكلم والقدرة على النفع والضر‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه الخامس‏:‏ أنه ليس في القرآن دلالة على أن كونه جسدًا وكونه له خوار صفة نقص، وإنما الذي دل عليه القرآن أن كونه لا يكلمهم ولا يقدر على نفعهم وضرهم نقص، يبين ذلك‏:‏ أن الخوار هو الصوت والإنسان الذي يصوت، ويقال‏:‏ خار يخور الثور، وهو يكلم غيره، وقد يهديه السبيل‏.‏

    ‏‏ واللّه سبحانه بين أن صفات العجل ناقصة عن صفات الإنسان، الذي يكلم غيره ويهديه، فالعابد أكمل من المعبود، يبين هذا أنه لو كلمهم لكان أيضًا مصوتًا، فلو كان ذكر الصوت لبيان نقصه لبطل الاستدلال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏ فإن تكليمه لهم لو كلمهم إنما كان يكون بصوت يسمعونه منه‏.‏

    ‏‏ فعلم أن ذكر التصويت لم يكن لكونه صفة نقص، فكذلك ذكر الجسد‏.
    ‏‏
    ‏‏ وبالجملة، من ذكر أن القرآن دل على هذا وهذا هو العيب الذي عابه به، وجعله دليلًا على نفي إلهيته؛ فقد قال على القرآن ما لا يدل عليه؛ بل هو على نقيضه أدل‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه السادس‏:‏ أن اللّه تعالى ذكر عن الخليل صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏{‏‏يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا‏}‏‏ ‏[‏مريم‏:‏ 24‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 72ـ74‏]‏ فاحتج على نفي إلهيتها بكونها لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، مع كون كل منهما له بدن وجسم، سواء كان حجرًا أو غيره‏.
    ‏‏
    ‏‏ فلو كان مجرد هذا الاحتجاج كافيًا لذكره إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام بل إنما احتجوا بمثل ما احتج اللّه به من نفي صفات الكمال عنها؛ كالتكلم والقدرة، والحركة وغير ذلك‏.‏

    ‏‏ الوجه السابع‏:‏ أن يقال‏:‏ ما ذكره اللّه تعالى إما أن يكون دالًا على أن الإله سبحانه موصوف ببعض هذه الصفات؛ وإما ألا يدل‏.‏ فإن لم يدل بطل ما ذكروه؛ وإن دل فهو يدل على إثبات صفات الكمال للّه تعالى، وهو التكليم للعباد، والسمع والبصر والقدرة، والنفع والضر‏.‏

    ‏‏ وهذا يقتضى أن تكون الآيات دليلًا على إثبات الصفات، لا على نفيها، ونفاة الصفات إنما نفوها لزعمهم أن إثباتها يقتضى التجسيم، والتجسيد‏.‏ فالآيات التي احتجوا بها هي عليهم لا لهم‏.‏

    ‏‏ وهذا أمر قد وجدناه مطردًا في عامة ما يحتج به نفاة الصفات من الآيات، فإنما تدل على نقيض مطلوبهم، لا على مطلوبهم‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه الثامن‏:‏ أنه إذا كان كل جسم جسدًا، وكل ما عبد من دون اللّه تعالى من الشمس والقمر، والكواكب والأوثان وغير ذلك، أجسامًا، وهي أجساد، فإن كان اللّه ذكر هذا في العجل لينفي به عنه الإلهية، لزم أن يطرد هذا الدليل في جميع المعبودات‏.‏

    ‏‏ ومعلوم أن اللّه لم يذكر هذا في غير العجل‏.‏

    ‏‏ إنه ذكر كونه جسدًا لبيان سبب افتتانهم به، لا أنه جعل ذلك هو الحجة عليهم، بل احتج عليهم بكونه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلًا‏.‏

    ‏‏ الوجه التاسع‏:‏ أنه سبحانه قال في الأعراف‏:‏ ‏{‏‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏195‏]‏ وللناس في هذه الآية قولان‏:‏
    ‏‏
    أحدهما‏:‏ أنه وصفهم بهذه النقائص ليبين أن العابد أكمل من المعبود‏.‏

    ‏‏ الثاني‏:‏ أنه ذكر ذلك لأن المعبود يجب أن يكون موصوفًا بنقيض هذه الصفات، فإن قيل بالقول الأول، أمكن أن يقال بمثله في آية العجل، فلا يكون فيه تعرض لصفات الإله.‏

    ‏‏ وإن قيل بالثاني، وجب أن يتصف الرب تعالى بما نفاه عن الأصنام‏.‏

    ‏‏ وحينئذ، فإن كانت هذه الأمور أجسامًا كانت هذه الدلالة معارضة لما ذكر في تلك الآية، وإن لم تكن أجسامًا بطل نفيهم لها عن اللّه تعالى ووجب أن يوصف اللّه عز وجل بما جاء به الكتاب والسنة، من الأيدي وغيرها، ولا يجب أن تكون أجسامًا، ولا يكون ذلك تجسيمًا، وإذا لم يكن هذا تجسيمًا فإثبات العلو أولى ألا يكون تجسيمًا‏.‏

    ‏‏ فدل على أنه لا يكون تجسيما، فدل على أن الشرع مناقض لما ذكروه‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه العاشر‏:‏ أن يقال‏:‏ دلالة الكتاب والسنة على إثبات صفات الكمال، وأنه نفسه فوق العرش أعظم من أن تحصر، كقوله‏:‏ ‏{‏‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏158‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏‏ ‏[‏المعارج‏:‏4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏206‏]‏‏.
    ‏‏
    ‏‏ وقد قيل‏:‏ إن ذلك يبلغ ثلاثمائة آية، وهي دلائل جلية بينة، مفهومة من القرآن، معقولة من كلام اللّه تعالى‏.

    ‏‏ ‏‏ فإن كان إثبات هذا يستلزم أن يكون اللّه جسمًا، وجسدًا، لم يمكن دفع موجب هذه النصوص بما ذكر في قصة العجل؛ لأنه ليس فيها أن مجرد كونه جسدًا هو النقص الذي عابه اللّه وجعله مانعًا من إلهيته وإن كان إثبات العلو والصفات لا يستلزم أن يكون جسمًا وجسدًا بطل أصل كلامهم، في أن عمدتهم أن إثبات العلو يقتضي التجسيم والتجسد، فإذا سلموا أنه لا يستلزم التجسيم والتجسد، لم يكن لهم دليل على نفي ذلك‏.
    ‏‏
    ‏‏ وحينئذ، فإذا دلت قصة العجل أوغيرها على امتناع كون الرب تعالى جسدًا أو جسمًا، لم يكن بين النصوص منافاة، بل يوصف بأنه نفسه فوق العرش، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه سبحانه وتعالى‏.
    ‏‏
    ‏‏ والمقصود أن الشرع ليس فيه ما يوافق النفاة للعلو وغيره من الصفات بوجه من الوجوه‏.‏


    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس (العقيدة) ‏‏
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    سئل شيخ الاسلام عن الحقيقة .


    السؤال: فصـــل: في معنى الحقيقة

    الإجابة: أما قول السائل‏:‏ ما معنى كون ذلك حقيقة‏؟‏ فالحقيقة‏:‏ هواللفظ المستعمل فيما وضع له، وقد يراد بها المعنى الموضوع للفظ الذي يستعمل اللفظ فيه‏.
    ‏‏ فالحقيقة أو المجاز هي من عوارض الألفاظ في اصطلاح أهل الأصول، وقد يجعلونه من عوارض المعاني لكن الأول أشهر، وهذه الأسماء والصفات لم توضع لخصائص المخلوقين عند الإطلاق، ولا عند الإضافة إلى اللّه تعالى ولكن عند الإضافة إليهم‏.
    ‏‏
    ‏‏ فاسم العلم يستعمل مطلقًا، ويستعمل مضافًا إلى العبد، كقوله‏:‏ ‏{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏، ويستعمل مضافًا إلى اللّه كقوله‏:‏ ‏{‏‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏‏ ‏[‏ البقرة‏:‏255‏]‏، فإذا أضيف العلم إلى المخلوق لم يصلح أن يدخل فيه علم الخالق سبحانه ولم يكن علم المخلوق كعلم الخالق، وإذا أضيف إلى الخالق كقوله‏:‏ ‏{‏‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏166‏]‏ لم يصلح أن يدخل فيه علم المخلوقين، ولم يكن علمه كعلمهم‏.
    ‏‏
    ‏‏ وإذا قيل‏:‏ العلم مطلقًا أمكن تقسيمه، فيقال‏:‏ العلم ينقسم إلى العلم القديم والعلم المحدَث، فلفظ العلم عام فيهما، متناول لهما بطريق الحقيقة، وكذلك إذا قيل‏:‏ الوجود ينقسم إلى قديم ومُحدَث وواجب وممكن، وكذلك إذا قيل في الاستواء‏:‏ ينقسم إلى استواء الخالق واستواء المخلوق، وكذلك إذا قيل‏:‏ الإرادة والرحمة والمحبة تنقسم إلى إرادة اللّه ومحبته ورحمته، وإردة العبد ومحبته ورحمته‏.
    ‏‏
    ‏‏ فمن ظن أن ‏[‏الحقيقة‏]‏ إنما تتناول صفة العبد المخلوقة المحدثة دون صفة الخالق، كان في غاية الجهل؛ فإن صفة اللّه أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب، كما لا نسبة بين ذاته وذاته، فكيف يكون العبد مستحقًا للأسماء الحسنى حقيقة، فيستحق أن يقال له‏:‏ عالم قادر سميع بصير، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازًا‏؟‏‏!‏ ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الرب سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى، فكل كمال حصل للمخلوق فالخالق أحق به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أحق أن ينزه عنه؛ ولهذا كان للّه ‏[‏المثل الأعلى‏]‏، فإنه لا يقاس بخلقه ولا يمثل بهم، ولا تضرب له الأمثال‏.‏
    فلا يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل بمثل؛ ولا في قياس شمول تستوي أفراده، بل ‏{‏‏وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

    ‏‏ ومن الناس من يسمى هذه الأسماء ‏[‏المشككة‏]‏؛ لكون المعنى في أحد المحلين أكمل منه في الآخر، فإن الوجود بالواجب أحق منه بالممكن، والبياض بالثلج أحق منه بالعاج، وأسماؤه وصفاته من هذا الباب؛ فإن اللّه تعالى يوصف بها على وجه لا يماثل أحدًا من المخلوقين وإن كان بين كل قسمين قدرٌ مشترك، وذلك القدر المشترك هو مسمى اللفظ عند الإطلاق، فإذا قيد بأحد المحلين تقيد به‏.
    ‏‏
    ‏‏ فإذا قيل‏:‏ وجود وماهية وذات، كان هذا الاسم متناولًا للخالق والمخلوق، وإن كان الخالق أحق به من المخلوق، وهو حقيقة فيهما‏.
    ‏‏
    ‏‏ فإذا قيل‏:‏ وجود اللّه وماهيته وذاته اختص هذا باللّه، ولم يبق للمخلوق دخول في هذا المسمى، وكان حقيقة للّه وحده‏.‏

    ‏‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ وجود المخلوق وذاته اختص ذلك بالمخلوق وكان حقيقة للمخلوق‏.
    ‏‏ فإذا قيل‏:‏ وجود العبد وماهيته وحقيقته لم يدخل الخالق في هذا المسمى، وكان حقيقة للمخلوق وحده‏.‏

    ‏‏ والجاهل يظن أن اسم الحقيقة إنما يتناول المخلوق وحده، وهذا ضلال معلوم الفساد بالضرورة في ‏[‏العقول‏]‏ و‏[‏الشرائع‏]‏ و‏[‏اللغات‏]‏، فإنه من المعلوم بالضرورة أن بين كل موجودين قدرًا مشتركًا وقدرًا مميزًا، والدال على ما به الاشتراك وحده لا يستلزم ما به الامتياز، ومعلوم بالضرورة من دين المسلمين أن اللّه مستحق للأسماء الحسنى، وقد سمى بعض عباده ببعض تلك الأسماء، كما سمى العبد سميعًا بصيرًا، وحيًا وعليمًا، وحكيمًا، ورءوفا رحيمًا، وملكًا، وعزيزًا، ومؤمنًا، وكريمًا، وغير ذلك‏.
    ‏‏
    ‏‏ مع العلم بأن الاتفاق في الاسم لا يوجب مماثلة الخالق بالمخلوق، وإنما يوجب الدلالة على أن بين المسميين قدرًا مشتركًا فقط، مع أن المميز الفارق أعظم من المشترك الجامع‏.‏

    ‏‏ وأما ‏[‏اللغات‏]‏ فإن جميع أهل اللغات من العرب والروم، والفرس، والترك، والبربر، وغيرهم يقع مثل هذا في لغاتهم، وهو حقيقة في لغات جميع الأمم، بل يعلمون أن اللّه أحق بأن يكون قادرًا فاعلًا من العبد، وأن استحقاق اسم الرب القادر له حقيقة أعظم من استحقاق العبد لذلك، وكذلك غيره من الأسماء الحسنى‏.‏

    ‏‏ وقول الناس‏:‏ إن بين المسميين قدرًا مشتركًا، لا يريدون بأن يكون في الخارج عن الأذهان أمر مشترك بين الخالق والمخلوق؛ فإنه ليس بين مخلوق ومخلوق في الخارج شيء مشترك بينهما، فكيف بين الخالق والمخلوق، وإنما توهم هذا من توهمه من أهل ‏[‏المنطق اليوناني‏]‏ ومن اتبعهم، حتى ظنوا أن في الخارج ماهيات مطلقة مشتركة بين الأعيان المحسوسة، ثم منهم من يجردها عن الأعيان كأفلاطون، ومنهم من يقول‏:‏لا تنفك عن الأعيان كأرسطو، وابن سينا، وأشباههما‏.‏

    ‏‏ وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبينا ما دخل على من اتبعهم من الضلال في هذا الموضع في ‏[‏المنطق والإلهيات‏]‏، حتى إن طوائف من النظار قالوا‏:‏ إنا إذا قلنا‏:‏ إن وجود الرب عين ماهيته كما هو قول أهل الإثبات، ومتكلمة أهل الصفات‏:‏ كابن كلاب، والأشعري وغيرهما يلزم من ذلك أن يكون لفظ ‏[‏الوجود‏]‏ مقولًا عليهما بالإشتراك اللفظي، كما ذكره أبو عبد اللّّه الرازي عن الأشعري، وأبي الحسين البصري وغيرهم؛ وليس هذا مذهبهم، بل مذهبهم‏:‏ أن لفظ ‏[‏الوجود‏]‏ مقول بالتواطؤ، وأنه ينقسم إلى قديم ومُحدَث، مع قولهم‏:‏ إن وجود الرب عين ماهيته، فإن لفظ الوجود عندهم كلفظ الماهية‏.‏

    ‏‏ وكما أن الماهية والذات تنقسم إلى قديمة ومحدثة، وماهـية الـرب عـين ذاتـه، فكـذلك الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، ووجود الرب عين ذاته، ووجود العبد عين ذاته، وذات الشيء هي ماهيته‏.‏

    ‏‏ فاللفظ من الألفاظ المتواطئة، ولكن بالإضافة يخص أحد المسميين، والمسميان إذا اشتركا في مسمى الوجود والذات والماهية، لم يكن بينهما في الخارج أمر مشترك يكون زائدًا على خصوصية كل واحد، كما يظنه أرسطو، وابن سينا، والرازي، وأمثالهم، بل ليس في الخارج وجود مطلق، ولا ماهية مطلقة، ولا ذات مطلقة‏.
    ‏‏
    ‏‏ أما المطلق بشرط الإطلاق فقد اتفق هؤلاء وغيرهم على أنه ليس بموجود في الخارج، وأن على تقدير ثبوته عن أفلاطون وأتباعه، هو قول باطل ضرورة‏.‏

    ‏‏ وأما المطلق لا بشرط، فقد يظن أنه في الخارج وأنه جزء من المعين، وهذا غلط، بل ليس في الخارج إلا المعينات، وليس في الخارج مطلق يكون جزء معين، لكن هؤلاء يريدون بالجزء ما هو صفة ذاتية للموصوف؛ بناء على أن الموصوف مركب من تلك الصفات التي يسمونها الأجزاء الذاتية‏.‏ كما يقولون‏:‏ الإنسان مركب من الحيوان والناطق؛ أو من الحيوانية والناطقية، وهذا التركيب تركيب ذهني؛ فالماهية المركبة في الذهن مركبة من هذه الأمور وهي أجزاء تلك الماهية‏.
    ‏‏
    ‏‏ وأما الحقيقة الموجودة في الخارج فهي موصوفة بهذه الصفات، ولكن كثيرًا من هؤلاء اشتبه عليه الوجود الذهني بالخارجي، وهذا الغلط وقع كثيرًا في أقوال المتفلسفة، فأوائلهم كأصحاب فيثاغورس كانوا يقولون بوجود أعداد مجردة عن المعدودات في الخارج، وأصحاب أفلاطون يقولون‏:‏ بوجود المثل الأفلاطونية، وهي الحقائق المطلقة عن المعينات في الخارج‏.‏

    ‏‏ وهذه الحقائق مقارنة للمعينات في الخارج كما أثبتوا جواهر عقلية، وهي المجردات‏:‏ كالمادة، والهيولى؛ والعقول والنفوس على قول بعضهم‏.
    ‏‏
    ‏‏ ومن هذا الباب تفريقهم بين الصفات الذاتية المتقدمة للماهية، التي تتركب منها الأنواع ويسمونها الأجناس والفصول، وبين الصفات العارضة اللازمة للماهية التي يسمونها خواصًا وأعراضًا عامة‏.‏
    وهذه الخمسة هي الكليات؛ وهي الجنس، والفصل، والنوع، والعرض العام، والخاصة، وقد وقع بسبب ذلك من الغلط في ‏[‏منطقهم‏]‏ وفي ‏[‏الإلهيات‏]‏ ما ضل به كثير من الخلق، وقد نبهنا على ذلك في غير هذا الموضع بما لا يتسع له هذا الموضع؛ ولهذا كان لفظ المركب عندهم يقال على خمسة معان‏:‏ على المركب من الوجود والماهية، والمركب من الذات والصفات، والمركب من الخاص والعام، والمركب من المادة والصورة، والقائلون بالجوهر الفرد يثبتون التركيب من الجواهر المفردة‏.
    ‏‏
    ‏‏ والمحققون من أهل العلم يعلمون أن تسمية مثل هذه المعاني تركيبًا أمر اصطلاحي، وهو إما أمر ذهني لا وجود له في الخارج، وإما أن يعود إلى صفات متعددة قائمة بالموصوف، وهذا حق‏.
    ‏‏
    ‏‏ فإن مذهب أهل السنة والجماعة‏:‏ إثبات الصفات للّه تعالى بل صفات الكمال لازمة لذاته، يمتنع ثبوت ذاته بدون صفات الكمال اللازمة له، بل يمتنع تحقق ذات من الذوات عَرِيَّة عن جميع الصفات، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

    ‏‏ والمقصود هنا أنه إذا قيل‏:‏هذا إنسان، فالمشار إليه بهذا المسمى بإنسان، وليس الإنسان المطلق جزءًا من هذا، وليس الإنسان هنا إلا مقيدًا وإنما يوجد مطلقًا في الذهن؛ لا في الخارج‏.

    ‏‏ وإذا قيل هذا في الإنسانية فالمعنى‏:‏ أن بينهما تشابها فيها؛ لا أن هناك شيئًا موجودًا في الأعيان يشتركان فيه‏.‏

    ‏‏ فليتدبر اللبيب هذا، فإنه يحل شبهات كثيرة، ومن فهم هذا الموضع تبين له غلط من جعل هذه الأسماء مقولة بالاشتراك اللفظي لا المعنوي، وغلط من جعل أسماء اللّه تعالى أعلامًا محضة لا تدل على معان، ومن زعم أن في الخارج حقائق مطلقة يشترك فيها الأعيان، وعلم أن ما يستحق الرب لنفسه لا يشركه فيه غيره بوجه من الوجوه، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات‏.‏

    ‏‏ وأما المخلوق فقد يماثله غيره في صفاته، لكن لا يشركه في غير ما يستحقه منها، والأسماء المتواطئة المقولة على هذا وهذا حقيقة في هذا وهذا؛ فإذا كانت عامة لهما تناولتهما، وإن كانت مطلقة لم يمنع تصورهما من اشتراكهما فيها، وإن كانت مقيدة اختصت بمحلها‏.
    ‏‏
    ‏‏ فإذا قال‏:‏ وجود اللّه، وذات اللّه، وعلم اللّه، وقدرة اللّه، وسمع اللّه، وبصر اللّه، وأرادة اللّه، وكلام اللّه، ورحمة اللّه، وغضب اللّه واستواء اللّه، ونزول اللّه، ومحبة اللّه، وإرادة الله ونحو ذلك، كانت هذه الأسماء كلها حقيقة للّه تعالى من غير أن يدخل فيها شيء من المخلوقات، ومن غير أن يماثله فيها شيء من المخلوقات‏.

    ‏‏ ‏‏ وإذا قال‏:‏ وجود العبد وذاته، وماهيته، وعلمه، وقدرته، وسمعه، وبصره، وكلامه، واستواؤه، ونزوله، كان هذا حقيقة للعبد مختصة به، من غير أن تماثل صفات اللّه تعالى‏.‏

    ‏‏ بل أبلغ من ذلك أن اللّه أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح، ما ذكره في كتابه، كما أخبر أن فيها لبنا، وعسلًا، وخمرًا، ولحمًا، وحريرًا، وذهبًا، وفضة، وحورًا، وقصورًا، ونحو ذلك، وقد قال ابن عباس‏:‏ ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء‏.‏

    ‏‏ فتلك الحقائق التي في الآخرة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه، والاسم يتناولها حقيقة، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق، فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته اللّه تعالى من أسمائه وصفاته مماثلا لمخلوقاته‏؟‏ وأن يقال‏:‏ ليس ذلك بحقيقة، وهل يكون أحق بهذه الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض‏؟‏‏!‏ مع أن مباينته للمخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق‏.‏

    ‏‏ والجاهل يضل بقول المتكلمين‏:‏إن العرب وضعوا لفظ الاستواء لاستواء الإنسان على المنزل أو الفلك، أو استواء السفينة على الجودي، ونحو ذلك من استواء بعض المخلوقات، فهذا كما يقول القائل‏:‏ إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفانا وأصمخة وأذنًا وشفتين، وهذا ضلال في الشرع وكذب، وإنما وضعوا لفظ الرحمة والعلم والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاد، وهذا كله جهل منه‏.‏

    ‏‏ فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافته إليه، فإذا قالت‏:‏ سمع العبد، وبصره، وكلامه، وعلمه، وإرادته، ورحمته، فما يخص به يتناول ذلك خصائص العبد‏.‏

    ‏‏ وإذا قيل‏:‏ سمع اللّه وبصره، وكلامه وعلمه، وإرادته ورحمته، كان هذا متناولًا لما يخص به الرب، لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين، فمن ظن أن هذا الاستواء إذا كان حقيقة يتناول شيئًا من صفات المخلوقين مع كون النص قد خصه باللّه، كان جاهلًا جدًا بدلالات اللغات، ومعرفة الحقيقة والمجاز‏.
    ‏‏
    ‏‏ وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق، ثم ينفون ذلك ويعطلونه، فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق، وينفون مضمون ذلك، ويكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته، وألحدوا في أسماء اللّه وآياته، وخرجوا عن القياس العقلي والنص الشرعي، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح ولا منقول صحيح، ثم لابد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات‏.‏
    فإذا أثبتوا البعض ونفوا البعض قيل لهم‏:‏ ما الفرق بين ما أثبتموه ونفيتموه‏؟‏ ولم كان هذا حقيقة ولم يكن هذا حقيقة‏؟‏ لم يكن لهم جواب أصلا، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعًا وقدرًا‏.
    ‏‏
    ‏‏ وقد تدبرت كلام عامة من ينفي شيئًا مما أثبته الرسل من الأسماء والصفات، فوجدتهم كلهم متناقضين؛ فإنهم يحتجون لما نفوه بنظير ما يحتج به النافي لما أثبتوه، فيلزمهم إما إثبات الأمرين وإما نفيهما، فإذا نفوهما فلا بد لهم أن يقولوا بالواجب الوجود وعدمه جميعًا‏.‏
    وهذا نهاية هؤلاء النفاة الملاحدة الغلاة من القرامطة وغلاة المتفلسفة، فإنهم إذا أخذوا ينفون النقيضين جميعًا، فالنقيضان كما أنهما لا يجتمعان، فلا يرتفعان‏.‏

    ‏‏ ومن جهة أن ما يسلبون عنه النقيضين لابد أن يتصوروه وأن يعبروا عنه؛ فإن التصديق مسبوق بالتصور، ومتى تصوروه وعبروا عنه كقولهم‏:‏ الثابت والواجب أو أي شيء قالوه، لزمهم فيه من إثبات القدر المشترك نظير ما يلزمهم فيما نفوه، ولا يمكن أن يتصور شيء من ذلك مع قولهم‏:‏ أسماء اللّه مقولة بالاشتراك اللفظي فقط‏.‏

    ‏‏ فإن المشتركين اشتراكًا لفظيًا لا معنويًا كلفظ ‏[‏المشتري‏]‏ المقول على الكوكب والمبتاع، وسهيل المقول على الكوكب وعلى ابن عمرو، فإنه إذا سمع المستمع قائلًا يقول له‏:‏ جاءني سهيل بن عمرو، وهذا هو المشتري لهذه السلعة، لم يفهم من هذا اللفظ كوكبًا أصلًا، إلا أن يعرف أن اللفظ موضوع له، فإذا لم تكن أسماؤه متواطئة لم يفهم العباد من أسمائه شيئًا أصلًا، إلا أن يعرفوا ما يخص ذاته، وهم لم يعرفوا ما يخص ذاته، فلم يعرفوا شيئًا‏.‏

    ‏‏ ثم إن العلم بانقسام الوجود إلى قديم ومحدث وأمثال ذلك علم ضروري، فالقادح سفسطائي‏.‏
    ‏‏
    وكذلك العلم بأن بين الاسمين قدرًا مشتركًا علم ضروري‏.
    ‏‏
    ‏‏ وإذا قيل‏:‏ إن اللفظ حقيقة فيهما، لم يحتج ذلك إلى أن يكون أهل اللغة قد تكلموا باللفظ مطلقًا، فعبروا عن المعنى المطلق المشترك؛ فإن المعاني التي لا تكون إلا مضافة إلى غيرها‏:‏ كالحياة والعلم، والقدرة والاستواء؛ بل واليد وغير ذلك مما لا يكون إلا صفة قائمة بغيره أو جسما قائمًا بغيره بحيث لا يوجد في الخارج مجردًا عن محله‏.‏
    ‏‏
    ولكن أهل النظر لما أرادوا تجريد المعاني الكلية المطلقة عبروا عنها بالألفاظ الكلية المطلقة، وأهل اللغة في ابتداء خطابهم يقولون مثلا ‏:‏ جاء زيد، وهذا وجه زيد؛ ويشيرون إلى ما قام به من المجيء والوجه، فيفهم المخاطب ذلك‏.‏

    ‏‏ ثم يقولون تارة أخرى‏:‏ جاء عمرو، ورأيت وجه عمرو، وجاء الفرس، ورأيت وجه الفرس، فيفهم المستمع أن بين هذه قدرًا مشتركًا وقدرًا مميزًا، وأن لعمرو مجيئًا ووجهًا نسبته إليه كنسبة مجيء زيد ووجهه إليه، فإذا علم أن عمرًا مثل زيد، علم أن مجيئه، مثل مجيئه، ووجهه مثل وجهه، وإن علم أن الفرس ليست مثل زيد بل تشابهه من بعض الوجوه، علم أن مجيئها ووجهها ليس مجيء زيد ووجهه، بل تشبهه في بعض الوجوه‏.
    ‏‏
    ‏‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ جاءت الملائكة ورأت الأنبياء وجوه الملائكة، علم أن للملائكة مجيئًا ووجوهًا نسبتها إليها كنسبة مجيء الإنسان ووجهه إليه، ثم معرفته بحقيقة ذلك تبع معرفته بحقيقة الملائكة؛ فإن كان لا يعرف الملائكة إلا من جهة الجملة ولا يتصور كيفيتهم، كان ذلك في مجيئهم ووجوههم لا يعرفها إلا من حيث الجملة ولا يتصور كيفيتها‏.
    ‏‏
    ‏‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ جاءت الجن، فاللفظ في جميع هذه المواضع يدل على معانيها بطريق الحقيقة، بل إذا قيل‏:‏ حقيقة الملك وماهيته ليست مثل حقيقة الجني وماهيته كان لفظ الحقيقة والماهية مستعملًا فيهما على سبيل الحقيقة، وكان من الأسماء المتواطئة، مع أن المسميات قد صرح فيها بنفي التماثل‏.
    ‏‏
    ‏‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ خمر الدنيا ليس كمثل خمر الآخرة، ولا ذهبها مثل ذهبها، ولا لبنها مثل لبنها، ولا عسلها مثل عسلها، كان قد صرح في ذلك بنفي التماثل، مع أن الاسم مستعمل فيها على سبيل الحقيقة‏.‏

    ‏‏ ونظائر هذا كثيرة؛ فإنه لو قال القائل‏:‏ هذا المخلوق ما هو مثل هذا المخلوق، وهذا الحيوان الذي هو الناطق ليس مثل الحيوان الذي هو الصامت، أو هذا اللون الذي هو الأبيض ليس مثل الأسود، أو الموجود الذي هو الخالق ليس هو مثل الموجود الذي هو المخلوق، ونحو ذلك كانت هذه الأسماء مستعملة على سبيل الحقيقة في المسميين اللذين صرح بنفي التماثل بينهما، فالأسماء المتواطئة إنما تقتضي أن يكون بين المسميين قدرًا مشتركًا، وإن كان المسميان مختلفين أو متضادين‏.
    ‏‏
    ‏‏ فمن ظن أن أسماء اللّه تعالى وصفاته إذا كانت حقيقة، لزم أن يكون مماثلًا للمخلوقين، وأن صفاته مماثلة لصفاتهم كان من أجهل الناس، وكان أول كلامه سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه يقتضي نفي جميع أسماء اللّه تعالى وصفاته، و هذا هو غاية الزندقة والإلحاد‏.
    ‏‏
    ‏‏ ومن فرق بين صفة وصفة، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز، كان متناقضًا في قوله، متهافتًا في مذهبه، مشابهًا لمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض‏.‏

    ‏‏ وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور، تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد، والصحة والاطراد، وأنه مقتضى المعقول الصريح والمنقول الصحيح، وأن من خالفه كان مع تناقض قوله المختلف، الذي يؤفك عنه من أفك، خارجًا عن موجب العقل والسمع، مخالفًا للفطرة والسمع، واللّه يتم نعمته علينا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين، ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة‏.‏

    ‏‏ وهذا لا تعلق له بصفات اللّه تعالى قال بعضهم‏:‏ قد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏، فقد ذم اللّه من اتخذ إلهًا جسدًا، و‏[‏الجسد‏]‏ هو الجسم؛ فيكون اللّه قد ذم من اتخذ إلهًا هو جسم‏.
    ‏وإثبات هذه الصفات يستلزم أن يكون جسمًا، وهذا منتف بهذا الدليل الشرعي‏.‏

    ‏‏ فهذا خلاصة ما يقوله من يزعم أنه يعتمد في ذلك على الشرع، فيقال له‏:‏ هذا باطل من وجوه‏:‏
    ‏‏
    أحدها‏:‏ أن هذا إذا دل إنما يدل على نفي أن يكون جسدًا، لا على نفي أن يكون جسمًا، والجسم في اصطلاح هؤلاء نفاة الصفات أعم من الجسد؛ فإن الجسم ينقسم عندهم إلى كثيف ولطيف، بخلاف الجسد‏.‏

    ‏‏ فإن أردت بقولك الجسم اللغوي وهو الذي قال أهل اللغة‏:‏ إنه هو الجسد قيل لك‏:‏ لا يلزم من إثبات الاستواء على العرش أن يكون جسدًا، وهو الجسم اللغوي‏.‏

    ‏‏ فإنا نعلم بالضرورة أن الهواء يعلو على الأرض وليس هو بجسد، والجسد هو الجسم اللغوي‏.‏

    ‏‏ فقول القائل‏:‏ لو كان مستويًا على العرش لكان جسمًا، والجسم هو الجسد، والجسد منتف بالشرع كلام ملبس‏.‏

    ‏‏ فإنه إن عنى بالجسم الجسد، كانت المقدمة الأولى ممنوعة؛ فإن عاقلًا لا يقول‏:‏إنه لو كان فوق العرش لكان جسدًا، ولا يقول عاقل‏:‏ إنه لو كان له علم وقدرة، لكان جسدًا‏.

    ‏‏ ‏‏ ولا يقول عاقل‏:‏ إنه لو كان يرى ويتكلم لكان جسدًا وبدنًا‏.‏

    ‏‏ فإن الملائكة لهم علم وقدرة وترى وتتكلم، وكذلك الجن، وكذلك الهواء يعلو على غيره وليس بجسد‏.‏

    ‏‏ وإن عنى بالجسم ما يعنيه أهل الكلام؛ من أنه الذي يشار إليه، وجعلوا كل ما يشار إليه جسمًا، وكل ما يرى جسمًا أو كل ما يمكن أنه يرى أو يوصف بالصفات فهو جسم، أو كل ما يعلو على غيره ويكون فوقه فهو جسم فيقال له‏:‏ فالجسد والجسم بهذا التفسير الكلامي ليس هو جسدًا في لغة العرب، بل هو منقسم إلى غليظ ورقيق، إلى ما هو جسد وإلى ما ليس بجسد‏.‏

    ‏‏ ولذا يقول الفقهاء‏:‏ النجاسة إن كانت متجسدة كالميتة فحكمها كذا، وإن كانت غير متجسدة كالبول فحكمها كذا‏.‏

    ‏‏ وإذا قدر أن الدليل دل على أنه ليس بجسد لم يلزم ألا يكون جسمًا بهذا الاصطلاح؛ لأن الجسم أعم عندهم من الجسد، ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام؛ كما إذا قلت‏:‏ ليس هو بإنسان، فإنه لا يلزم أنه ليس بحيوان‏.‏

    ‏‏ فلفظ الجسم فيه اشتراك بين معناه في اللغة ومعناه في عرف أهل الكلام؛ فإذا كان معناه في اللغة هو معنى الجسد وهذا منتف بما ذكر من الدليل بطل قول من نفي الاستواء بالذات؛ أو غيره من الصفات، بأنه لو كان موصوفًا بذلك لكان جسمًا، فإن التلازم حينئذ منتف، فإحدى المقدمتين باطلة؛ إما الأولى وإما الثانية‏.‏

    ‏‏ ونظير هذا أن يقول‏:‏ لو كان له علم وقدرة لكان محلًا للأعراض، وما كان محلا للأعراض فهو محل الآفات والعيوب، فلا يكون قدوسا،ولا سلامًا؛لأن أهل اللغة قالوا‏:‏ العَرَض بالتحريك ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه، فلو جاز أن تقوم به هذه لكان تعالى وتقدس معيبًا ناقصًا، وهو سبحانه مقدس عن ذلك؛ إذ هو السلام القدوس‏.‏
    ‏‏
    فيقال‏:‏ لفظ العَرَض مشترك بين ما ذكر من معناه في اللغة، وبين معناه في عرف أهل الكلام، فإن معناه عند من يسمى العلم والقدرة مطلقًا عرضًا‏:‏ ما قام بغيره كالحياة، والعلم، والقدرة والحركة، والسكون ونحو ذلك‏. يتبع ==
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    وآخرون يقولون‏:‏ هو ما لا يبقى زمانين‏.‏

    ‏‏ ويقولون‏:‏ إن صفات الخالق باقية، بخلاف ما يقوم بالمخلوقات من الصفات، فإنها لا تبقى زمانين‏.‏

    ‏‏ والمقصود هنا‏:‏ أنه إذا قال‏:‏ لو قام به العلم والقدرة لكان عرضًا، وما قام به العرض قامت به الآفات، كلام فيه تلبيس، فإن إحدى المقدمتين باطلة‏.
    ‏‏
    ‏‏ فإن لفظ العَرَض إن فسر بالصفة، فالمقدمة الثانية باطلة، وإن فسر بما يعرض للإنسان من المرض ونحوه، فالمقدمة الأولى باطلة‏.‏

    ‏‏ ونظير ذلك أن يقول‏:‏ لو كان قد استوى على العرش لكان قد أحدث حدثًا، وقامت به الحوادث؛ لأن الاستواء فعل حادث كان بعد أن لم يكن فلو قام به الاستواء لقامت به الحوادث، ومن قامت به الحوادث فقد أحدث حدثًا، واللّه تعالى منزه عن ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لعن اللّه من أحدث حدثًا، أو آوى محدثا‏"‏‏ ولقوله "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏".

    ‏‏ ‏‏ فإنه يقال له‏:‏ الحادث في اللغة ما كان بعد أن لم يكن، واللّه تعالى يفعل ما يشاء؛ فما من فعل يفعله إلا وقد حدث بعد أن لم يكن‏.
    ‏‏
    ‏‏ وأما المحدثات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي المحدثات في الدين، وهو أن يحدث الرجل بدعة في الدين لم يشرعها اللّه، والإحداث في الدين مذموم من العباد، واللّه يحدث ما يشاء لا معقب لحكمه‏.‏
    فاللفظ المشتبه المجمل إذا خص في الاستدلال وقع فيه الضلال والإضلال‏.

    ‏‏ ‏‏ وقد قيل‏:‏ إن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه الثاني في بيان بطلان ما ذكر من الاستدلال‏:‏ أن يقال‏:‏ إن اللّه سبحانه منزه أن يكون من جنس شيء من المخلوقات‏:‏ لا أجساد الآدميين، ولا أرواحهم، ولا غير ذلك من المخلوقات؛ فإنه لو كان من جنس شيء من ذلك بحيث تكون حقيقته كحقيقته، للزم أن يجوز على كل منهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، وهذا ممتنع؛ لأنه يستلزم أن يكون القديم الواجب الوجود بنفسه، غير قديم واجب الوجود بنفسه، وأن يكون المخلوق الذي يمتنع غناه غنيًا يمتنع افتقاره إلى الخالق، وأمثال ذلك من الأُمور المتناقضة، واللّه تعالى نزه نفسه أن يكون له كُفو، ومثل، أو سََمِيٌّ، أو نِدٌّ‏.
    ‏‏
    ‏‏ فهذه الأدلة الشرعية والعقلية يعلم بها تنزه اللّه تعالى أن يكون من جنس أجساد الآدميين، أو غيرها من المخلوقات، لكن المستدل على ذلك بقوله‏:‏‏{‏‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ استدل بحجة ضعيفة؛ فإن ‏[‏الجسد‏]‏ وإن كان قد قال الجوهري وغيره‏:‏ إن الجسد هو البدن، يقال‏:‏ منه تجسد، كما يقال‏:‏ من الجسم تجسم، والجسد أيضًا الزعفران ونحوه من الصبغ، وهو الدم أيضا؛ كما قال النابغة‏:‏
    ‏‏
    وما أريـق على الأصـنام مـن جسد فليس المراد بالجسد في القرآن لا هذا ولا هذا، فليس المراد من العجل أن له بدنًا مثل بدن الآدميين، ولا بدنًا كأبدان البقر، فإن العجل لم يكن كذلك، والعرب تقول‏:‏ جسد به الدم يجسد جسدًا‏:‏ إذا لصق به، فهو جاسد وجسد‏.
    ‏‏
    ‏‏ قال الشاعر‏:‏
    ‏‏
    ساعد به جسد مورس ** من الدماء مائع ويبــس
    ‏‏
    والجسد الأحمر والمجسد ما أشبع صبغه من الثياب؛ لكمال ما لصق به من الصبغ، فاللفظ فيه معنى التكاثف والتلاصق؛ ولهذا يقول الفقهاء‏:‏ نجاسة متجسدة وغير متجسدة، وهو في القرآن يراد به الجسد المصمت المتلاصق المتكاثف، أو الذي لا حياة فيه‏.
    ‏‏
    ‏‏ وقد ذكر اللّه تعالى لفظة الجسد في أربعة مواضع، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ‏}‏‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏8‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏‏وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ‏}‏‏ ‏[‏ص‏:‏34‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏ 88‏]‏ كأنه عجل مصمت لا جوف له‏.‏

    ‏‏ وقد يقال‏:‏ إنه لا حياة فيه، خار خورة، ولم يقل‏:‏ عجلًا له جسد، له بدن، له جسم؛ لأنه من المعلوم أن كل عجل له جسد هو بدنه وهو جسمه، والعجل المعروف جسد فيه روح‏.‏

    ‏‏ والمقصود‏:‏ أنّ ما أخرجه كان جسدًا مصمتًا لا روح فيه حتى تبين نقصه، وأنه كان مسلوب الحياة والحركة‏.
    ‏‏ وقد روى أنه إنما خارخورة واحدة، وقد يقال‏:‏ إن أريد بالجسد المصمت أو الغليظ ونحوه، فلم قيل‏:‏ إن ذلك ذكر لبيان نقصه من هذا الوجه، بل من هذا الوجه ضلوا به، وإنما كان النقص من جهة‏{‏‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏‏‏.‏‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏ وقد يقال‏:‏ إذا كان لا حياة فيه فالنقص كان فيه من جهة عدم الحياة، وغيرها من صفات الكمال، لا من جهة كونه له بدن، أو ليس له بدن، فالآدمي له بدن‏.‏

    ‏‏ ولو أخرج لهم عجلًا كسائر العجول، أو آدميًا كاملًا، أو فرسًا حيًا، أو جملًا أو غير ذلك من الحيوان لكان أيضًا له بدن، ولكان ذلك أعجوبة عظيمة، وكانت الفتنة به أشد، ولكن اللّه سبحانه بين أن المخرج كان موصوفًا بصفات النقص يحقق ذلك‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه الثالث‏:‏ وهو أنه سبحانه قال‏:‏ ‏{‏‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏‏‏.‏‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏ فلم يذكر فيما عابه به كونه ذا جسد؛ ولكن ذكر فيما عابه به ‏{‏‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏‏‏.‏ ‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏، ولو كان مجرد كونه ذا بدن عيبًا ونقصًا لذكر ذلك‏.
    ‏‏
    ‏‏ فعلم أن الآية تدل على نقص حجة من يحتج بها، على أن كون الشيء ذا بدن عيبًا ونقصًا، وهذه الحجة نظير احتجاجهم بالأفول، فإنهم غيروا معناه في اللغة، وجعلوه الحركة، فظنوا أن إبراهيم احتج بذلك على كونه ليس رب العالمين، ولو كان كما ذكروه لكان حجة عليهم لا لهم‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه الرابع ‏:‏ أن اللّه تعالى وصفه بكونه عجلًا جسدًا له خوار، ثم قال‏:‏ ‏{‏‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏‏‏.‏ ‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏، وقال في السورة الأخرى‏:‏ ‏{‏‏فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏87ـ89‏]‏، فلم يقتصر في وصفه على مجرد كونه جسدًا، بل وصفه بأن له خوارًا، وبين أنه لا يكلمهم، ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا‏.
    ‏‏
    ‏‏ فالموجب لنقصه إما أن يكون مجموع الصفات أو بعضها، أو كل واحد منها؛ فإن كان المجموع لم يدل على أن نقصها واحدة نقص، وإن كان بعضها فليس كونه جسدًا بأولى من كونه له خوار‏.‏
    وليس هذا وهذا بأولى من كونه مسلوب التكلم والقدرة على النفع والضر، وإن كان كل منهما؛ فمعلوم أنهم إنما ضلوا بخواره ونحو ذلك، واللّه تعالى إنما احتج عليهم بعدم التكلم والقدرة على النفع والضر‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه الخامس‏:‏ أنه ليس في القرآن دلالة على أن كونه جسدًا وكونه له خوار صفة نقص، وإنما الذي دل عليه القرآن أن كونه لا يكلمهم ولا يقدر على نفعهم وضرهم نقص، يبين ذلك‏:‏ أن الخوار هو الصوت والإنسان الذي يصوت، ويقال‏:‏ خار يخور الثور، وهو يكلم غيره، وقد يهديه السبيل‏.‏

    ‏‏ واللّه سبحانه بين أن صفات العجل ناقصة عن صفات الإنسان، الذي يكلم غيره ويهديه، فالعابد أكمل من المعبود، يبين هذا أنه لو كلمهم لكان أيضًا مصوتًا، فلو كان ذكر الصوت لبيان نقصه لبطل الاستدلال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏ فإن تكليمه لهم لو كلمهم إنما كان يكون بصوت يسمعونه منه‏.‏

    ‏‏ فعلم أن ذكر التصويت لم يكن لكونه صفة نقص، فكذلك ذكر الجسد‏.
    ‏‏
    ‏‏ وبالجملة، من ذكر أن القرآن دل على هذا وهذا هو العيب الذي عابه به، وجعله دليلًا على نفي إلهيته؛ فقد قال على القرآن ما لا يدل عليه؛ بل هو على نقيضه أدل‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه السادس‏:‏ أن اللّه تعالى ذكر عن الخليل صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏{‏‏يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا‏}‏‏ ‏[‏مريم‏:‏ 24‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 72ـ74‏]‏ فاحتج على نفي إلهيتها بكونها لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، مع كون كل منهما له بدن وجسم، سواء كان حجرًا أو غيره‏.
    ‏‏
    ‏‏ فلو كان مجرد هذا الاحتجاج كافيًا لذكره إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام بل إنما احتجوا بمثل ما احتج اللّه به من نفي صفات الكمال عنها؛ كالتكلم والقدرة، والحركة وغير ذلك‏.‏

    ‏‏ الوجه السابع‏:‏ أن يقال‏:‏ ما ذكره اللّه تعالى إما أن يكون دالًا على أن الإله سبحانه موصوف ببعض هذه الصفات؛ وإما ألا يدل‏.‏ فإن لم يدل بطل ما ذكروه؛ وإن دل فهو يدل على إثبات صفات الكمال للّه تعالى، وهو التكليم للعباد، والسمع والبصر والقدرة، والنفع والضر‏.‏

    ‏‏ وهذا يقتضى أن تكون الآيات دليلًا على إثبات الصفات، لا على نفيها، ونفاة الصفات إنما نفوها لزعمهم أن إثباتها يقتضى التجسيم، والتجسيد‏.‏ فالآيات التي احتجوا بها هي عليهم لا لهم‏.‏

    ‏‏ وهذا أمر قد وجدناه مطردًا في عامة ما يحتج به نفاة الصفات من الآيات، فإنما تدل على نقيض مطلوبهم، لا على مطلوبهم‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه الثامن‏:‏ أنه إذا كان كل جسم جسدًا، وكل ما عبد من دون اللّه تعالى من الشمس والقمر، والكواكب والأوثان وغير ذلك، أجسامًا، وهي أجساد، فإن كان اللّه ذكر هذا في العجل لينفي به عنه الإلهية، لزم أن يطرد هذا الدليل في جميع المعبودات‏.‏

    ‏‏ ومعلوم أن اللّه لم يذكر هذا في غير العجل‏.‏

    ‏‏ إنه ذكر كونه جسدًا لبيان سبب افتتانهم به، لا أنه جعل ذلك هو الحجة عليهم، بل احتج عليهم بكونه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلًا‏.‏

    ‏‏ الوجه التاسع‏:‏ أنه سبحانه قال في الأعراف‏:‏ ‏{‏‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏195‏]‏ وللناس في هذه الآية قولان‏:‏
    ‏‏
    أحدهما‏:‏ أنه وصفهم بهذه النقائص ليبين أن العابد أكمل من المعبود‏.‏

    ‏‏ الثاني‏:‏ أنه ذكر ذلك لأن المعبود يجب أن يكون موصوفًا بنقيض هذه الصفات، فإن قيل بالقول الأول، أمكن أن يقال بمثله في آية العجل، فلا يكون فيه تعرض لصفات الإله.‏

    ‏‏ وإن قيل بالثاني، وجب أن يتصف الرب تعالى بما نفاه عن الأصنام‏.‏

    ‏‏ وحينئذ، فإن كانت هذه الأمور أجسامًا كانت هذه الدلالة معارضة لما ذكر في تلك الآية، وإن لم تكن أجسامًا بطل نفيهم لها عن اللّه تعالى ووجب أن يوصف اللّه عز وجل بما جاء به الكتاب والسنة، من الأيدي وغيرها، ولا يجب أن تكون أجسامًا، ولا يكون ذلك تجسيمًا، وإذا لم يكن هذا تجسيمًا فإثبات العلو أولى ألا يكون تجسيمًا‏.‏

    ‏‏ فدل على أنه لا يكون تجسيما، فدل على أن الشرع مناقض لما ذكروه‏.
    ‏‏
    ‏‏ الوجه العاشر‏:‏ أن يقال‏:‏ دلالة الكتاب والسنة على إثبات صفات الكمال، وأنه نفسه فوق العرش أعظم من أن تحصر، كقوله‏:‏ ‏{‏‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏158‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏‏ ‏[‏المعارج‏:‏4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏206‏]‏‏.
    ‏‏
    ‏‏ وقد قيل‏:‏ إن ذلك يبلغ ثلاثمائة آية، وهي دلائل جلية بينة، مفهومة من القرآن، معقولة من كلام اللّه تعالى‏.

    ‏‏ ‏‏ فإن كان إثبات هذا يستلزم أن يكون اللّه جسمًا، وجسدًا، لم يمكن دفع موجب هذه النصوص بما ذكر في قصة العجل؛ لأنه ليس فيها أن مجرد كونه جسدًا هو النقص الذي عابه اللّه وجعله مانعًا من إلهيته وإن كان إثبات العلو والصفات لا يستلزم أن يكون جسمًا وجسدًا بطل أصل كلامهم، في أن عمدتهم أن إثبات العلو يقتضي التجسيم والتجسد، فإذا سلموا أنه لا يستلزم التجسيم والتجسد، لم يكن لهم دليل على نفي ذلك‏.
    ‏‏
    ‏‏ وحينئذ، فإذا دلت قصة العجل أوغيرها على امتناع كون الرب تعالى جسدًا أو جسمًا، لم يكن بين النصوص منافاة، بل يوصف بأنه نفسه فوق العرش، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه سبحانه وتعالى‏.
    ‏‏
    ‏‏ والمقصود أن الشرع ليس فيه ما يوافق النفاة للعلو وغيره من الصفات بوجه من الوجوه‏.‏


    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس (العقيدة)
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Oct 2014
    الدولة
    ليبيا
    المشاركات
    1,105
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    سئل شيخ الاسلام عن المنطق

    الإجابة:

    ما تقولون في ‏[‏المنطق‏]‏، وهل من قال‏:‏ إنه فرض كفاية، مصيب أم مخطئ‏؟‏

    فأجاب‏:‏

    الحمد للّه، أما المنطق‏:‏ فمن قال‏:‏ إنه فرض كفاية، وأن من ليس له به خبرة فليس له ثقة بشيء من علومه، فهذا القول في غاية الفساد من وجوه كثيرة التعداد، مشتمل على أمور فاسدة، ودعاوى باطلة كثيرة، لا يتسع هذا الموضع لاستقصائها‏.‏

    بل الواقع قديمًا وحديثًا‏:‏ أنك لا تجد من يلزم نفسه أن ينظر في علومه به، ويناظر به إلا وهو فاسد النظر والمناظرة، كثير العجز عن تحقيق علمه وبيانه‏.‏

    فأحسن ما يحمل عليه كلام المتكلم في هذا، أن يكون قد كان هو وأمثاله في غاية الجهالة والضلالة، وقد فقدوا أسباب الهدى كلها، فلم يجدوا ما يردهم عن تلك الجهالات إلا بعض ما في المنطق من الأمور التي هي صحيحة، فإنه بسبب بعض ذلك رجع كثير من هؤلاء عن بعض باطلهم، وإن لم يحصل لهم حق ينفعهم، وإن وقعوا في باطل آخر‏.

    ‏‏ ومع هذا، فلا يصح نسبة وجوبه إلى شريعة الإسلام بوجه من الوجوه؛ إذ من هذه حاله فإنما أتى من نفسه بترك ما أمر اللّه به من الحق، حتى احتاج إلى الباطل‏.‏

    ومن المعلوم أن القول بوجوبه قول غلاته و جهال أصحابه‏.

    ‏‏ ونفس الحذاق منهم لا يلتزمون قوانينه في كل علومهم، بل يعرضون عنها‏.

    ‏‏ إما لطولها، وإما لعدم فائدتها، وإما لفسادها، وإما لعدم تميزها وما فيها من الإجمال والاشتباه‏.

    ‏‏ فإن فيه مواضع كثيرة هي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل‏.

    ‏‏ ولهذا مازال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه ويذمون أهله، وينهون عنه وعن أهله حتى رأيت للمتأخرين فتيا فيها خطوط جماعة من أعيان زمانهم من أئمة الشافعية والحنفية وغيرهم، فيها كلام عظيم في تحريمه وعقوبة أهله، حتى إن من الحكايات المشهورة التي بلغتنا‏:‏ أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال‏:‏ أخذها منه أفضل من أخذ عكا، مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرًا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاما، وأمثلهم اعتقادًا‏.

    ‏‏ ومن المعلوم أن الأمور الدقيقة سواء كانت حقا أو باطلًا، إيمانًا أو كفرًا لا تعلم إلا بذكاء وفطنة، فكذلك أهله قد يستجهلون من لم يشركهم في علمهم، وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم، إذا كان فيه قصور في الذكاء والبيان، وهم كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ‏.‏ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ‏.‏ وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ‏.‏ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ّ‏.‏ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ‏.‏ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ‏.‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ‏.‏ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏‏ ‏[‏المطففين‏:‏29-36‏]‏‏.

    ‏‏ فإذا تقلدوا عن طواغيتهم أن كل ما لم يحصل بهذه الطريق القياسية فليس يعلم، وقد لا يحصل لكثير منهم من هذه الطريق القياسية ما يستفيد به الإيمان الواجب، فيكون كافرا زنديقًا منافقًا جاهلًا ضالًا مضلا، ظلوما كفورا، ويكون من أكابر أعداء الرسل، الذين قال اللّه فيهم‏:‏ ‏{‏‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا‏.‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا‏.‏ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏‏ ‏[‏الفرقان ‏:‏ 31-33‏]‏‏.‏

    وربما حصل لبعضهم إيمان، إما من هذه الطريق أو من غيرها‏.

    ‏‏ ويحصل له أيضا منها نفاق، فيكون فيه إيمان ونفاق، ويكون في حال مؤمنًا وفي حال منافقا، ويكون مرتدًا، إما عن أصل الدين، أو عن بعض شرائعه، إما ردة نفاق، وإما ردة كفر‏.‏

    وهذا كثير غالب، لاسيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق‏.‏

    فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقام‏.‏

    ولهذا لما تفطن كثير منهم لما في هذا النفي من الجهل والضلال، صاروا يقولون‏:‏ النفوس القدسية كنفوس الأنبياء والأولياء تفيض عليها المعارف بدون الطريق القياسية‏.‏

    وهم متفقون جميعهم على أن من النفوس من تستغني عن وزن علومها بالموازين الصناعية في المنطق، لكن قد يقولون‏:‏ هو حكيم بالطبع‏.‏

    والقياس ينعقد في نفسه بدون تعلم هذه الصناعة، كما ينطق العربي بالعربية بدون النحو، وكما يقرض الشاعر الشعر بدون معرفة العروض‏.

    ‏‏ لكن استغناء بعض الناس عن هذه الموازين لا يوجب استغناء الآخرين، فاستغناء كثير من النفوس عن هذه الصناعة لا ينازع فيه أحد منهم‏.‏

    والكلام هنا‏:‏ هل تستغني النفوس في علومها بالكلية عن نفس القياس المذكور، ومواده المعينة‏؟‏ فالاستغناء عن جنس هذا القياس شيء، وعن الصناعة القانونية التي يوزن بها القياس شيء آخر، فإنهم يزعمون أنه آلة قانونية تمنع مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، وفساد هذا مبسوط مذكور في موضع غير هذا‏.

    ‏‏ ونحن بعد أن تبينا عدم فائدته، وإن كان قد يتضمن من العلم ما يحصل بدونه، ثم تبينا أنا لو قدرنا أنه قد يفيد بعض الناس من العلم ما يفيده هو، فلا يجوز أن يقال‏:‏ ليس إلى ذلك العلم لذلك الشخص، ولسائر بني آدم طريق إلا بمثل القياس المنطقي؛ فإن هذا قول بلا علم، وهو كذب محقق؛ ولهذا مازال متكلمو المسلمين وإن كان فيهم نوع من البدعة لهم من الرد عليه وعلى أهله وبيان الاستغناء عنه، وحصول الضرر والجهل به والكفر، ما ليس هذا موضعه؛ دع غيرهم من طوائف المسلمين وعلمائهم وأئمتهم، كما ذكره القاضي أبو بكر ابن الباقلاني في كتاب ‏(‏الدقائق‏)‏‏.

    ‏‏ فأما الشعري وهو ما يفيد مجرد التخييل وتحريك النفس، وذلك يظهر بأنهم جعلوا الأقيسة خمسة‏:‏ البرهاني، والخطابي، والجدلي، والشعري، والمغلطي السوفسطائي، وهو ما يشبه الحق وهو باطل، وهو الحكمة المموهة فلا غرض لنا فيه هنا، ولكن غرضنا تلك الثلاثة‏.

    ‏‏ قالوا‏:‏ ‏[‏الجدلي‏]‏ ما سلم المخاطب مقدماته‏.

    ‏‏ والخطابي‏:‏ ما كانت مقدماته مشهورة بين الناس، والبرهاني‏:‏ ما كانت مقدماته معلومة‏.‏

    وكثير من المقدمات تكون مع كونها خطابية أو جدلية يقينية برهانية، بل وكذلك مع كونها شعرية، ولكن هي من جهة التيقن بها تسمى‏:‏ برهانية، ومن جهة شهرتها عند عموم الناس وقبولهم لها تسمى‏:‏ خطابية، ومن جهة تسليم الشخص المعين لها تسمي‏:‏ جدلية‏.

    ‏‏ وهذا كلام أولئك المبتدعة من الصابئة الذين لم يذكروا النبوات، ولا تعرضوا لها بنفي ولا إثبات‏.‏

    وعدم التصديق للرسل وأتباعهم كفر وضلال، وإن لم يعتقد تكذيبهم فالكفر والضلال أعم من التكذيب‏.

    ‏‏ وأما قول بعض المتأخرين في المشهورات‏:‏ هي المقبولات لكون صاحبها مؤيدًا بأمر يوجب قبول قوله ونحو ذلك فهذه من الزيادات التي ألزمتهم إياها الحجة، ورأوا وجوب قبولها على طريقة الأولين؛ ولهذا كان غالب صابئة المتأخرين الذين هم الفلاسفة ممتزجين بالحنيفية، كما أن غالب من دخل في الفلسفة من الحنفاء مزج الحنيفية بالصبء، ولبس الحق بالباطل‏.‏

    أعني بالصبء‏:‏ المبتدع الذي ليس فيه إيمان بالنبوات، كصبء صاحب المنطق وأتباعه‏.

    ‏‏ وأما الصبء القديم، فذاك أصحابه منهم المؤمنون باللّه واليوم الآخر، الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏.‏

    فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما أن التهود والتنصر منه ما أهله مبتدعون ضلال قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، ومنه ما كان أهله متبعين للحق، وهم الذين آمنوا باللّه واليوم الآخر وعملوا الصالحات، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏

    ومن قال من العلماء المصنفين في المنطق‏:‏ إن القياس الخطابي هو ما يفيد الظن، كما أن البرهاني ما يفيد العلم، فلم يعرف مقصود القوم، ولا قال حقا‏.‏

    فإن كل واحد من الخطابي والجدلي قد يفيد الظن، كما أن البرهاني قد تكون مقدماته مشهورة ومسلمة‏.‏

    فالتقسيم لمواد القياس وقع باعتبار الجهات التي يقبل منها، فتارة يقبل القول؛ لأنه معلوم؛ إذ العلم يوجب القبول‏.‏ وأما كونه لا يفيد العلم فلا يوجب قبوله إلا لسبب؛ فإن كان لشهرته، فهو خطابي، ولو لم يفد علمًا ولا ظنًا‏.‏

    وهو أيضًا خطابي إذا كانت قضيته مشهورة، وإن أفاد علما أو ظنا‏.‏

    والقول في الجدلي كذلك‏.‏

    ثم إنهم قد يمثلون المشهورات المقبولات التي ليست علمية بقولنا‏:‏ العلم حسن، والجهل قبيح، والعدل حسن، والظلم قبيح، ونحو ذلك من الأحكام العملية العقلية التي يثبتها من يقول بالتحسين والتقبيح، ويزعمون أنا إذا رجعنا إلى محض العقل لم نجد فيه حكما بذلك‏.

    ‏‏ وقد يمثلونها بأن الموجود لابد أن يكون مباينا للموجود الآخر أو محايثا له، أو أن الموجود لابد أن يكون بجهة من الجهات، أو يكون جائز الرؤية ويزعمون أن هذا من أحكام الوهم لا الفطرة العقلية‏.

    ‏‏ قالوا‏:‏ لأن العقل يسلم مقدمات يعلم بها فساد الحكم الأول‏.

    ‏‏ وهذا كله تخليط ظاهر لمن تدبره‏.

    ‏‏ فأما تلك القضايا التي سموها مشهورات غير معلومة، فهي من العلوم العقلية البديهية التي جزم العقول بها أعظم من جزمها بكثير من العلوم الحسابية والطبيعية، وهي كما قال أكثر المتكلمين من أهل الإسلام، بل أكثر متكلمي أهل الأرض من جميع الطوائف‏:‏ أنها قضايا بديهية عقلية، لكن قد لا يحسنون تفسير ذلك؛ فإن حسن ذلك وقبحه هو حسن الأفعال وقبحها، وحسن الفعل هو كونه مقتضيا لما يطلبه الحي لذاته ويريده من المقاصد، وقبحه بالعكس، والأمر كذلك‏.‏

    فإن العلم والصدق والعدل هي كذلك محصلة لما يطلب لذاته ويراد لنفسه من المقاصد، فحسن الفعل وقبحه هو لكونه محصلا للمقصود المراد بذاته أو منافيا لذلك‏.‏

    ولهذا كان الحق يطلق تارة بمعنى النفي والإثبات فيقال‏:‏ هذا حق، أي ثابت، وهذا باطل، أي‏:‏ منتف‏.

    ‏‏ وفي الأفعال بمعنى‏:‏ التحصيل للمقصود، فيقال‏:‏ هذا الفعل حق، أي‏:‏ نافع، أو محصل للمقصود، ويقال‏:‏ باطل، أي‏:‏ لا فائدة فيه ونحو ذلك‏.

    ‏‏ وأما زعمهم‏:‏ أن البديهة والفطرة قد تحكم بما يتبين لها بالقياس فساده، فهذا غلط؛ لأن القياس لابد له من مقدمات بديهية فطرية؛ فإن جوز أن تكون المقدمات الفطرية البديهية غلطًا من غير تبيين غلطها إلا بالقياس، لكان قد تعارضت المقدمات الفطرية بنفسها، ومقتضى القياس الذي مقدماته فطرية‏.‏

    فليس رد هذه المقدمات الفطرية لأجل تلك بأولى من العكس، بل الغلط فيما تقل مقدماته أولى، فما يعلم بالقياس وبمقدمات فطرية أقرب إلى الغلط مما يعلم بمجرد الفطرة‏.‏

    وهذا يذكرونه في نفي علو الله على العرش ونحو ذلك من أباطيلهم‏.

    ‏‏ والمقصود هنا أن متقدميهم لم يذكروا المقدمات المتلقاة من الأنبياء، ولكن المتأخرون رتبوه على ذلك؛ إما بطريق الصابئة الذين لبسوا الحنيفية بالصابئة، كابن سينا ونحوه، وإما بطريق المتكلمين الذين أحسنوا الظن بما ذكره المنطقيون، وقرروا إثبات العلم بموجب النبوات به‏.‏

    أما الأول، فإنه جعل علوم الأنبياء من العلوم الحدسية؛ لقوة صفاء تلك النفوس القدسية وطهارتها، وأن قوى النفوس في الحدس لا تقف عند حد، ولابد للعالم من نظام ينصبه حكيم، فيعطي النفوس المؤيدة من القوة ما تعلم به ما لا يعلمه غيرها بطريق الحدس، ويتمثل لها ما تسمعه وتراه في نفسها من الكلام ومن الملائكة ما لا يسمعه غيرها، ويكون لها من القوة العملية التي تطيعها بها هيولي العالم ما ليس لغيرها‏.

    ‏‏ فهذه الخوارق في قوى العلم مع السمع والبصر، وقوة العمل والقدرة، هي النبوة عندهم‏.

    ‏‏ ومعلوم أن الحدس راجع إلى قياس التمثيل كما تقدم وأما ما يسمع ويرى في نفسه، فهو من جنس الرؤيا، وهذا القدر يحصل مثله لكثير من عوام الناس وكفارهم، فضلا عن أولياء الله وأنبيائه، فكيف يجعل ذلك هو غاية النبوة‏؟‏ وإن كان الذي يثبتونه للأنبياء أكمل وأشرف، فهو كملك أقوى من ملك؛ ولهذا صاروا يقولون‏:‏ النبوة مكتسبة، ولم يثبتوا نزول ملائكة من عند اللّه إلى من يختاره ويصطفيه من عباده، ولا قصد إلى تكليم شخص معين من رسله؛ كما يذكر عن بعض قدمائهم أنه قال لموسى بن عمران‏:‏ أنا أصدقك في كل شيء إلا في أن علة العلل كلمك، ما أقدر أن أصدقك في هذا؛ ولهذا صار من ضل بمثل هذا الكلام يدعي مساواة الأنبياء والمرسلين أو التقدم عليهم، وهذا كثير فى كثير من الناس الذين يعتقدون في أنفسهم أنهم أكمل النوع، وهم من أجهل الناس وأظلمهم وأكفرهم وأعظمهم نفاقا‏.

    ‏‏ وأما المتكلمون المنطقيون فيقولون‏:‏ يعلم بهذا القياس ثبوت الصانع وقدرته وجواز إرسال الرسل، وتأييد الله لهم بما يوجب تصديقهم فيما يقولونه‏.

    ‏‏ وهذه الطريقة أقرب إلى طريقة العلماء المؤمنين، وإن كان قد يكون فيها أنواع من الباطل، تارة من جهة ما تقلدوه عن المنطقيين، وتارة من جهة ما ابتدعوه هم، مما ليس هذا موضعه‏.

    ‏‏ ومنطقية اليهود والنصارى كذلك، لكن الهدى والعلم والبيان في فلاسفة المسلمين ومتكلميهم أعظم منه في أهل الكتابين؛ لما في تينك الملتين من الفساد‏.

    ‏‏ ولكن الغرض تقرير جنس النبوات؛ فإن أهل الملل متفقون عليها، لكن اليهود والنصارى آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، والصابئة الفلاسفة ونحوهم آمنوا ببعض صفات الرسالة دون بعض، فإذا اتفق متفلسف من أهل الكتاب جمع الكفرين؛ الكفر بخاتم المرسلين، والكفر بحقائق صفات الرسالة في جميع المرسلين، فهذا هذا‏.

    ‏‏ فيقال لهم مع علمهم بتفاوت قوى بني آدم في الإدراك‏:‏ ما المانع من أن يخرق سمع أحدهم وبصره، حتى يسمع ويرى من الأمور الموجودة في الخارج ما لا يراه غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد‏"‏‏، فهذا إحساس بالظاهر أو الباطن لما هو في الخارج‏.

    ‏‏ وكذلك العلوم الكلية البديهية، قد علمتم أنها ليس لها حد في بني آدم، فمن أين لكم أن بعض النفوس يكون لها من العلوم البديهية ما يختص بها وحدها أو بها وبأمثالها ما لا يكون من البديهيات عندكم‏؟‏ وإذا كان هذا ممكنا وعامة أهل الأرض على أنه واقع لغير الأنبياء دع الأنبياء فمثل هذه العلوم ليس في منطقكم طريق إليها؛ إذ ليست من المشهورات ولا الجدليات، ولا موادها عندكم يقينية، وأنتم لا تعلمون نفيها، وجمهور أهل الأرض من الأولين والآخرين على إثباتها، فإن كذبتم بها، كنتم مع الكفر والتكذيب بالحق وخسارة الدنيا والآخرة تاركين لمنطقكم أيضا، وخارجين عما أوجبتموه على أنفسكم؛ أنكم لا تقولون إلا بموجب القياس، إذ ليس لكم بهذا النفي قياس ولا حجة تذكر؛ ولهذا لم تذكروا عليه حجة؛ وإنما اندرج هذا النفي في كلامكم بغير حجة‏.‏

    وإن قلتم‏:‏ بل هي حق، اعترفتم بأن من الحق ما لا يوزن بميزان منطقكم‏.

    ‏‏ وإن قلتم‏:‏ لا ندري أحق هي أم باطل‏؟‏ اعترفتم بأن أعظم المطالب وأجلها لا يوزن بميزان المنطق‏.‏

    فإن صدقتم لم يوافقكم المنطق، وإن كذبتم لم يوافقكم المنطق، وإن ارتبتم لم ينفعكم المنطق‏.‏

    ومن المعلوم أن موازين الأموال لا يقصد أن يوزن بها الحطب والرصاص دون الذهب والفضة‏.

    ‏‏ وأمر النبوات وما جاءت به الرسل أعظم في العلوم من الذهب في الأموال‏.

    ‏‏ فإذا لم يكن في منطقكم ميزان له، كان الميزان مع أنه ميزان عائلا جائرًا، وهو أيضا عاجز‏.

    ‏‏ فهو ميزان جاهل ظالم؛ إذ هو إما أن يرد الحق ويدفعه فيكون ظالما، أو لا يزنه ولا يبين أمره فيكون جاهلا، أو يجتمع فيه الأمران فيرد الحق ويدفعه وهو الحق الذي ليس للنفوس عنه عوض، ولا لها عنه مندوحة، وليست سعادتها إلا فيه ولا هلاكها إلا بتركه فكيف يستقيم مع هذا أن تقولوا‏:‏ إنه وما وزنتموه به من المتاع الخسيس الذي أنتم في وزنكم إياه به ظالمون عائلون، لم تزنوا بالقسطاس المستقيم، و لم تستدلوا بالآيات البينات‏:‏ هو معيار العلوم الحقيقية، والحكمة اليقينية، التي فاز بالسعادة عالمها، وخاب بالشقاوة جاهلها، ورأس مال السادة، وغاية العالم المنصف منكم أن يعترف بعجز ميزانكم عنه‏.

    ‏ وأما عوام علمائكم فيكذبون به ويردونه، وإن كان منطقكم يرد عليهم، فلستم بتحريف أمر منطقكم أحسن حالا من اليهود والنصارى في تحريف كتاب اللّه، الذي هو في الأصل حق هاد، لا ريب فيه، فهذا هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.

    ‏‏ وأيضًا، هم متفقون على أنه لا يفيد إلا أمورًا كلية مقدرة في الذهن، لا يفيد العلم بشيء موجود محقق في الخارج إلا بتوسط شيء آخر غيره‏.‏

    والأمور الكلية الذهنية ليست هي الحقائق الخارجية، ولا هي أيضًا علما بالحقائق الخارجية؛ إذ لكل موجود حقيقة يتميز بها عن غيره، هو بها هو، وتلك ليست كلية، فالعلم بالأمر المشترك لا يكون علما بها، فلا يكون في القياس المنطقي علم تحقيق شيء من الأشياء وهو المطلوب‏.

    ‏‏ وأيضًا، هم يطعنون في قياس التمثيل، إنه لا يفيد إلا الظن، وربما تكلموا على بعض الأقيسة الفرعية، أو الأصلية التي تكون مقدماتها ضعيفة أو مظنونة، مثل كلام السهروردى المقتول على الزندقة صاحب ‏[‏التلويحات‏]‏ و‏[‏الألواح‏]‏ و ‏[‏حكمة الإشراق‏]‏‏.

    ‏‏ وكان في فلسفته مستمدًا من الروم الصابئين والفرس المجوس‏.

    ‏‏ وهاتان المادتان هما مادتا القرامطة الباطنية، ومن دخل ويدخل فيهم من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم، وهم ممن دخل في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه‏‏، قالوا‏:‏ فارس والروم‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏فمن‏؟‏‏!‏‏"‏‏‏.‏

    والمقصود أن ذكر كلام السهروردي هذا على قياس ضربه، وهو أن يقال‏:‏ السماء محدثة، قياسًا على البيت، بجامع ما يشتركان فيه من التأليف، فيحتاج أن يثبت أن علة حدوث البناء هو التأليف، وأنه موجود في الفرع‏.

    ‏‏ والتحقيق‏:‏ أن ‏[‏قياس التمثيل‏]‏ أبلغ في إفادة العلم واليقين من ‏[‏قياس الشمول‏]‏، وإن كان علم قياس الشمول أكثر فذاك أكبر، فقياس التمثيل في القياس العقلي كالبصر في العلم الحسي، وقياس الشمول كالسمع في العلم الحسي‏.

    ‏‏ ولا ريب أن البصر أعظم وأكمل، والسمع أوسع وأشمل، فقياس التمثيل بمنزلة البصر، كما قيل‏:‏ من قاس ما لم يره بما رأى‏.‏

    وقياس الشمول يشابه السمع من جهة العموم‏.

    ‏‏ ثم إن كل واحد من القياسين في كونه علميًا أو ظنيًا يتبع مقدماته، فقياس التمثيل في الحسيات وكل شيء؛ إذا علمنا أن هذا مثل هذا، علمنا أن حكمه حكمه، وإن لم نعلم علة الحكم، وإن علمنا علة الحكم استدللنا بثبوتها على ثبوت الحكم، فبكل واحد من العلم بقياس التمثيل وقياس التعليل يعلم الحكم‏.

    ‏ وقياس التعليل هو في الحقيقة من نوع قياس الشمول، لكنه امتاز عنه بأن الحد الأوسط الذي هو الدليل فيه هو علة الحكم، ويسمى قياس العلة، وبرهان العلة‏.

    ‏‏ وذلك يسمى قياس الدلالة وبرهان الدلالة، وإن لم نعلم التماثل والعلة، بل ظنناها ظنًا كان الحكم كذلك‏.‏

    وهكذا الأمر في قياس الشمول، إن كانت المقدمتان معلومتين كانت النتيجة معلومة، و إلا فالنتيجة تتبع أضعف المقدمات‏.

    ‏‏ فأما دعواهم‏:‏ أن هذا لا يفيد العلم، فهو غلط محض محسوس، بل عامة علوم بني آدم العقلية المحضة هي من قياس التمثيل‏.

    ‏‏ وأيضًا، فإن علومهم التي جعلوا هذه الصناعة ميزانًا لها بالقصد الأول، لا يكاد ينتفع بهذه الصناعة المنطقية في هذه العلوم إلا قليلا‏.

    ‏‏ فإن العلوم الرياضية من حساب العدد، وحساب المقدار الذهني والخارجي قد علم أن الخائضين فيها من الأولين والآخرين مستقلون بها من غير التفات إلى هذه الصناعة المنطقية واصطلاح أهلها‏.

    ‏‏ وكذلك ما يصح من العلوم الطبيعية الكلية والطبية، تجد الحاذقين فيها لم يستعينوا عليها بشيء من صناعة المنطق، بل إمام صناعة الطب بقراط له فيها من الكلام الذي تلقاه أهل الطب بالقبول ووجدوا مصداقه بالتجارب، وله فيها من القضايا الكلية التي هي عند عقلاء بني آدم من أعظم الأمور، ومع هذا فليس هو مستعينًا بشيء من هذه الصناعة، بل كان قبل واضعها‏.

    ‏‏ وهم وإن كان العلم الطبيعي عندهم أعلم وأعلى من علم الطب، فلا ريب أنه متصل به‏.

    ‏‏ فبالعلم بطبائع الأجسام المعينة المحسوسة تعلم طبائع سائر الأجسام، ومبدأ الحركة والسكون الذي في الجسم، ويستدل بالجزء على الكل؛ ولهذا كثيرًا ما يتناظرون في مسائل، ويتنازع فيها هؤلاء وهؤلاء، كتناظر الفقهاء والمتكلمين في مسائل كثيرة تتفق فيها الصناعتان، وأولئك يدعون عموم النظر، ولكن الخطأ والغلط عند المتكلمين والمتفلسفة أكثر مما هو عند الفقهاء والأطباء، وكلامهم وعلمهم أنفع، وأولئك أكثر ضلالا وأقل نفعًا؛ لأنهم طلبوا بالقياس ما لا يعلم بالقياس، وزاحموا الفطرة والنبوة مزاحمة أوجبت من مخالفتهم للفطرة والنبوة ما صاروا به من شياطين الإنس والجن الذين يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، بخلاف الطب المحض، فإنه علم نافع، وكذلك الفقه المحض‏.

    ‏‏ وأما علم ما بعد الطبيعة وإن كانوا يعظمونه، ويقولون‏:‏ هو الفلسفة الأولى، وهو العلم الكلي الناظر في الوجود ولواحقه، ويسميه متأخروهم العلم الإلهي، وزعم المعلم الأول لهم أنه غاية فلسفتهم ونهاية حكمتهم فالحق فيه من المسائل قليل نزر، وغالبه علم بأحكام ذهنية لا حقائق خارجية‏.

    ‏‏ وليس على أكثرهم قياس منطقي؛ فإن الوجود المجرد والوجوب والإمكان والعلة المجردة والمعلول، وانقسام ذلك إلى جزء الماهية، وهو المادة والصورة، وإلى علتي وجودها‏.

    ‏‏ وهما الفاعل والغاية، والكلام في انقسام الوجود إلى الجواهر والأعراض التسعة؛ التي هي‏:‏ الكم والكيف والإضافة والأين ومتى والوضع والملك، وأن يفعل وأن ينفعل، كما أنشد بعضهم فيها ‏:‏

    زيد الطويل الأسود بن مالك ** في داره بالأمس كــان يتكي

    في يده سيف نضاه فانتضـى ** فهذه عشر مقــولات ســواء

    ليس عليها ولا على أقسامها قياس منطقي، بل غالبها مجرد استقراء، قد نوزع صاحبه في كثير منه‏.

    ‏‏ فإذا كانت صناعتهم بين علوم لا يحتاج فيها إلى القياس المنطقي، وبين ما لا يمكنهم أن يستعملوا فيه القياس المنطقي، كان عديم الفائدة في علومهم، بل كان فيه من شغل القلب عن العلوم والأعمال النافعة ما ضر كثيرًا من الناس، كما سد على كثير منهم طريق العلم، وأوقعهم في أودية الضلال والجهل‏.

    ‏‏ فما الظن بغير علومهم من العلوم التي لا تحد للأولين والآخرين‏.

    ‏‏ وأيضًا، لا تجد أحدًا من أهل الأرض حقق علمًا من العلوم وصار إمامًا فيه مستعينًا بصناعة المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والحساب والكتاب ونحوهم يحققون ما يحققون من علومهم وصناعاتهم بغير صناعة المنطق‏.‏

    وقد صنف في الإسلام علوم النحو واللغة والعروض والفقه وأصوله والكلام وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطق، بل عامتهم كانوا قبل أن يعرب هذا المنطق اليوناني‏.‏

    وأما العلوم الموروثة عن الأنبياء صرفًا، وإن كان الفقه وأصوله متصلا بذلك، فهي أجل وأعظم من أن يظن أن لأهلها التفاتًا إلى المنطق؛ إذ ليس في القرون الثلاثة من هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس وأفضلها القرون الثلاثة، من كان يلتفت إلى المنطق أو يعرج عليه، مع أنهم في تحقيق العلوم وكمالها بالغاية التي لا يدرك أحد شأوها، كانوا أعمق الناس علمًا، وأقلهم تكلفا، وأبرهم قلوبًا‏.‏

    ولا يوجد لغيرهم كلام فيما تكلموا فيه إلا وجدت بين الكلامين من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق، بل الذي وجدناه بالاستقراء أن من المعلوم أن من الخائضين في العلوم من أهل هذه الصناعة أكثر الناس شكا واضطرابًا، وأقلهم علمًا وتحقيقًا، وأبعدهم عن تحقيق علم موزون، وإن كان فيهم من قد يحقق شيئًا من العلم‏.

    ‏‏ فذلك لصحة المادة والأدلة التي ينظر فيها، وصحة ذهنه وإدراكه، لا لأجل المنطق، بل إدخال صناعة المنطق في العلوم الصحيحة يطول العبارة ويبعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيدًا، واليسير منه عسيرًا‏.

    ‏‏ ولهذا تجد من أدخله في الخلاف والكلام وأصول الفقه وغير ذلك، لم يفد إلا كثرة الكلام والتشقيق، مع قلة العلم والتحقيق‏.

    ‏‏ فعلم أنه من أعظم حشو الكلام، وأبعد الأشياء عن طريقة ذوي الأحلام‏.‏

    نعم لا ينكر أن في المنطق ما قد يستفيد ببعضه من كان في كفر وضلال، وتقليد، ممن نشأ بينهم من الجهال، كعوام النصارى واليهود والرافضة ونحوهم، فأورثهم المنطق ترك ما عليه أولئك من تلك العقائد، ولكن يصير غالب هؤلاء مداهنين لعوامهم، مضلين لهم عن سبيل اللّه، أو يصيرون منافقين زنادقة، لا يقرون بحق ولا بباطل، بل يتركون الحق كما تركوا الباطل‏.

    ‏‏ فأذكياء طوائف الضلال إما مضللون مداهنون، وإما زنادقة منافقون، لا يكاد يخلو أحد منهم عن هذين، فأما أن يكون المنطق وقفهم على حق يهتدون به، فهذا لا يقع بالمنطق‏.

    ‏‏ ففي الجملة، ما يحصل به لبعض الناس من شحذ ذهن، أو رجوع عن باطل أو تعبير عن حق، فإنما هو لكونه كان في أسوأ حال، لا لما في صناعة المنطق من الكمال‏.‏

    ومن المعلوم أن المشرك إذا تمجس، والمجوسي إذا تهود، حسنت حاله بالنسبة إلى ما كان فيه قبل ذلك، لكن لا يصلح أن يجعل ذلك عمدة لأهل الحق المبين‏.‏

    وهذا ليس مختصًا به، بل هذا شأن كل من نظر في الأمور التي فيها دقة ولها نوع إحاطة، كما تجد ذلك في علم النحو؛ فإنه من المعلوم أن لأهله من التحقيق والتدقيق والتقسيم والتحديد ما ليس لأهل المنطق، وأن أهله يتكلمون في صورة المعاني المعقولة على أكمل القواعد‏.

    ‏‏ فالمعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى وضع خاص، بخلاف قوالبها التي هي الألفاظ، فإنها تتنوع، فمتى تعلموا أكمل الصور والقوالب للمعاني مع الفطرة الصحيحة، كان ذلك أكمل وأنفع وأعون على تحقيق العلوم من صناعة اصطلاحية في أمور فطرية عقلية لا يحتاج فيها إلى اصطلاح خاص‏. يتبع ==
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين )
    { درء التعارض : 1\357 }

صفحة 1 من 13 12311 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء