كما أسلفت القول في مقال سابق: إنه لا توجد ظاهرة إلحاد حقيقية في مصر أو العالم العربي، لكن توجد أسباب تشكك في الدين، أو التدين نفسه، وأسباب أخرى، ومن هذه الأسباب الوجيهة في نظري: هو كمية الظلم التي يراها الناس في حياتهم، واستئساد الظالم، وكأن ليس للكون رباً ينتقم منه، وارتفاع وتيرة الظلم بشكل جنوني، في بلد كمصر مثلا، فمن فقد صديقه أو صديقتها، أو لها صديقة تم الاعتداء عليها في أقسام الشرطة، أو السجن، أو من قتل في حادثة تعذيب بشكل فيه تمثيل بالجثة، بما يجعل الظالم يشعر وكأن ليس هناك حساب، أو عقاب، وأنه أمن العقوبة الإلهية، حتى وصل الحال ببعض هؤلاء الشباب أن جاءته لحظة صرخ فيها منادياً الله: أنت فين يا رب؟.
أعرف حالات من هذا النوع، بل كان سبب انتحار ناشطة سياسية (زينب المهدي) أنها فقدت الأمل في وجود عدل في هذا الكون، وعلينا أن نفرق بين حالة يأس وإحباط تصيب البعض، فيؤدي ذلك إلى الانتحار، وبين حالة تشكك في وجود خالق يدبر الأمور كلها في هذا الكون.
وهنا عدة أمور ينبغي أن نقف عليها لا بد من توضيحها دينيا:
أولا: إن سؤال الإنسان اليائس والمحبط من الظلم في الدنيا: أين الله من الظالمين؟ هو عين أدلة وجود الله سبحانه وتعالى، فلا يسأل الإنسان عن غائب، ولا عن مجهول، ولا عن غير موجود، بل السؤال دوما يكون عن موجود، فإحساس الإنسان بالعطش هو دليل قوي على وجود الماء، وإحساسه بالجوع دليل على وجود الطعام، وإحساسه بالظلم دليل يقيني على وجود العدل، ولله المثل الأعلى، فالسؤال عن الله، وعن عدله وانتقامه من الظالم، هو دليل واضح وبين أنه سبحانه وتعالى موجود بعدله وحكمته، وأن الناس تنتظر عدل الله في هذا الكون يتحقق بالانتقام من الظالم.
ثانيا: أن الله وضع في كونه سننا وقوانين لا تتخلف، لا مع المسلم ولا مع الكافر، فمن أخذ بها تحقق هدفه، ومن تخلى عنها لم يحالفه التوفيق والنجاح في الدنيا، فالشمس تشرق من المشرق، وتغرب من المغرب، والنجوم لها مسارات محددة لا تحيد عنها، ونهوض وانكسار الأمم له أسباب وقوانين، من أخذ بأسباب النهوض نهض، ومن تخلى عنها هزم وتخلف، فالمسلمون قد أخذوا بأسباب النصر في غزوة بدر، وقد كان معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت غزوة أحد، وخالفوا هذه السنن، وكان معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهزموا، فهل وجود النبي صلى الله عليه وسلم أو عدم وجوده شخصيا عامل من عوامل النصر والهزيمة، وهو أحب الخلق إلى الله عز وجل؟! لا، بل المهم هل سيأخذ المسلمون بالأسباب المادية والروحية أم لا؟ ودور الإسلام هنا أنه يجعل من تمام الإيمان بالله، أن نأخذ بالأسباب التي وضعها الله في هذا الكون.
ثالثا: من يحدد أسباب ووقت العدل والنصر، والانتقام من الظالم، هو الله، خالق هذا الكون، وليس الإنسان، وإلا فما معنى أن يكون خالقا للكون إذن إذا ترك تدبير هذا الكون لمخلوق شأنه شأن الكون الذي يعيش فيه، فكلاهما خلق الله سبحانه وتعالى.
رابعا: قد تكون من حكمة الله وقدره، أن ينجو ظالم من عقاب الله في الدنيا، ليس عن ظلم من الله حاشاه، بل لأن المظلوم لم يأخذ بأسباب نيل حقه من الظالم، وربما كان المظلوم سببا وأداة لتمكين الظالم منه، وعندئذ يكون المظلوم قد جمع عليه ظلمين: ظلم المستبد به، وظلمه لنفسه، بأن كان لقمة سائغة لظالم، دون اللجوء والسعي لامتلاك أسباب القوة التي تحميه، حتى لا ينال منه الظالم.
وهنا يأتي دليل آخر أهم على وجود الله سبحانه وتعالى، فمثل هؤلاء الظلمة الذين لم ينالوا عقابهم في الدنيا من حكام ومسؤولين، وفاسدين، وغيرهم، الذين ماتوا دون محاكمة على ظلمهم للناس، لا يدري الناس كيف كانت وفاتهم، وكيف كانت سكرات الموت لهم، وهي درجة من درجات عذاب النفس، الذي هو أمر وأقسى من عذاب البدن، وكيف كان ينام هؤلاء، وكيف عاشوا برعب يسكن نفوسهم ليل نهار، إضافة إلى عقاب في الآخرة، وكما يقول أحد الفلاسفة: لو لم يكن هناك آخرة، لوجب أن يكون هناك آخرة. لأن من أفلت من العقاب في الدنيا، يقينا لن يفلت من عقاب الله في الآخرة، والدنيا والآخرة هي ملك لله وحده، فدل ذلك على ضرورة أن يؤمن الإنسان بالآخرة، وما فيها من جنة ونار، وثواب وعقاب.
خامسا: من حكمة الله في الدنيا أنه ترك للإنسان حرية الاختيار، فوجود الخير والشر في الدنيا من حكمته سبحانه وتعالى، ووجود الإيمان والكفر كذلك، يقول تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود: 119،118. ولذلك خلقهم: أي وللاختلاف خلقهم، وهذا الاختلاف يقتضي أن يكون فينا الصالح والطالح، فينا الظالم والعادل، ومقتضى ذلك أن توجد سنة التدافع بين القوتين، يقول تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) البقرة: 251.
والله عز وجل يعطي الإنسان الفرصة تلو الأخرى ليكف عن ظلمه، لكن الظالم يظن أنه ينجو بذكائه، وأن قوته وقدرته تنجيه من العقاب الإلهي، يقول تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) الأنعام: 44، ويبين الله أن كل ظالم يؤتى من حيث لا يدري، يقول تعالى: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم إن كيدي متين) ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
سادسا: من رحمة الله بالضعفاء المظلومين أنه لا يطالبهم ببذل ما لا يستطيعون، بل يطالبهم ببذل أقصى ما في وسعهم فقط، فعندما طلب من الإنسان إعداد القوة لملاقاة عدوه، قال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) الأنفال: 60، وقال: (فاتقوا الله ما استطعتم) التغابن: 16، فجعل كل أمر مرهون بالاستطاعة، وليس بما فوق الطاقة (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) البقرة: 286.
وكذلك من رحمته وعدله، أنه لا يبتلي إنسانا بما لا يستطيعه، أو لا يتحمله، بل يبتلي كل إنسان بما يتحمل، ولكنه اختبار النفوس القوية من النفوس الضعيفة، يقول تعالى: (وما ربك بظلام للعبيد) ويقول: (ما يفعل الله بعذابكم) فالله عز وجل غني عن تعذيب الناس، وعن إرهاقهم وعنتهم، كل ما هنالك أن الدنيا دار اختبار لمن يصمد ويصبر.
إننا شعوب متعجلة، نريد جني ثمرة الحرية، والعدل، بلا ثمن، أو بثمن بخس زهيد، دون النظر إلى شعوب العالم المتحضر التي جنت هذه الثمرة بعد طول نضال، إننا عندما نناقش هؤلاء في حقنا في الحرية، تجدهم يقولون: ماذا قدمتم من تضحيات لتنالوا ما نلناه؟ لقد قدمنا كغرب الملايين من البشر، وعقودا من الكفاح لنصل إلى ما وصلنا إليه، فكيف تريدون أن تنالوا ما انتهينا إليه بدون تضحيات؟!
فسؤال: أين الله من الظالمين؟ فيقينا لا يغفل الله عنهم، ومن يبحث عن وجود الله ليعينه على هلكة الظالم، فالله موجود، ونصره وعدله قائم، ويتنزل دائما، لكن لمن يعمل بشروط العدل، التي يتحقق بها، وعون الله دائما لمن يأخذ بها (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

_________________

* من علماء الأزهر
عصام تليمة
المصدر: الجزيرة مباشر