النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: العقلانية الأداتية : التكنولوجيا وإيديولوجيا مجتمع الرفاه

  1. #1

    افتراضي العقلانية الأداتية : التكنولوجيا وإيديولوجيا مجتمع الرفاه

    .
    « إذا فقدتَ سجادتك تستطيع الحصول على سجادة غير أصلية، وإذا فقدت ضحكتك يمكنك الحصول على ضحكة مصطنعة، وإذا فقدتَ عقلك يمكن بالمثل الحصول على عقل صناعي...أنتَ تعرف الناس الذين أقصدهم..البناتِ اللاَّتي دون وعيٍ يحتذينَ النموذجَ الذي يحبذهُ مقدموا عروض الصبية، وهيَ عروضٌ حافلةٌ بالألحان المعيبة والمرح..والرجال الذين تكشف طرائق سلوكهم عن تدخل مذيع نشرة الأخبار وعن بُقَعِ المسلسلات التلفزيونية وتلويثِ الأفلامِ السينمائية. » مارتن أميس // رواية نقود Money

    بنوعٍ من الكوميديا السوداء وبعباراتٍ ساخرة ..يصوِّرُ مارتن أميس في روايته نقود طريقة إنتاج الناس في المجتمعِ الإستهلاكيِّ أو ما اتَّفق عليه هوركهايمر وادورنو في كتابهما المشترك جدل التنوير على أنه إنتاجٌ للفردِ والأنا بشكلٍ متسلسلٍ كالأقفالِ التي تنتجُ تحتَ ماركة يال والتي لا يختلف الواحدُ منها عن الآخرِ إلا بفروقاتٍ من أجزاءٍ من المليميتر. يكفي أن يقال موضة هذا العام هي كذا لون العام هو كذا حتى يقفُ الناس طوابير كآلات في وضع التصنيع والنتيجة آلات متشابهة متساوية من طريقة التفكير إلى طريقة اللباس إلى طريقة التفاعل: «إن خصوصية الأنا إنتاجٌ مصرحٌ به محدَّدٌ من خلالِ المجتمع والتي يُصار لتصويرها كأمرٍ طبيعيّ.» [1]
    مجتمع ما بعد الصناعة مجتمع الرأسمالية متعددة القوميات أو المتأخرة، المجتمع الإستهلاكي أو المجتمع الإعلامي جميعها تسميات لمجتمع يفرض على منخرطيه أن يتشابهوا في الفكرِ في الأكلِ في طريقة الكلام في اللباس إذ لا حاجة لأن تكونَ مختلف، على الجميع أن يوجهوا أوعيةَ ذواتهم الفارغة نحو نماذجَ من الصور والمواقف المختلطة ما بين العالم الواقعي والعالم كما تصوره الإعلانات ووسائل الإعلام أين يتمُّ خلق حاجياتٍ مزيفة لانهائية يخلفُ بعضُها بعضًا، تجعل من الإنسان ينغمسُ بعمقٍ في العقلية الإستهلاكية الحافلة بالمتع.. حتى التفكير لا تفكر سنفكر بدلاً عنك سنقدم لك التحاليل الفنية والإخبارية والرياضية سنوفر لك عقولاً تفكر بدلاً عنك حتى الثرثرة ومواضيعها سنحددها لك.
    إنهم لا يستحون من إخبارك أنك ذو رائحةٍ كريهةٍ مُنَفِّرة لأنك لا تستعمل مزيل العرق الفولاني، وأنَّ الجراثيمَ التي تسكنُ يدك بالعدد الذي بات يشكِّلُ خطرًا عليك وعلى من حولك والمنقذُ هو الصابون الفولاني وإعلانات العطور توحي إليك أنك كريه من دونه..استعملي كذا لتحافظي على رشاقتك ووزنك، وشعرك لن يحافظ على قُوَّتِهِ وأناقتهِ ما لم تستعمل الشامبو كذا الممزوج بكذا وملابسك لن تحافظ على نصاعة اللون وجَوْدَةَ القماش ما لم تستعمل المسحوق كذا ذو الحبيبات الزرقاء ثم الحمراء ثم الخضراء ثم وثم..وأخرى توحي إليك أن أبناءَك سيعانونَ من نقصٍ في الكالسيوم إذا لم يستهلكوا المنتوج الجديد الذي يمزج العصير بالحليب..و نقصٍ في الحديد إذ لم يستهلكوا البسكويت المحشو شكلاطة،..وأخرى توحي إليك بالغباء والعزلة لأن لباسك لا يواكبُ الموضة وتسريحة شعرك مخالفة لما هو متداول وجهاز الآي فون 4 انتهى زمنه خذلك الأي فون 5 وإن هي مدة قصيرة وسنأتي لك بالسادس وما يليه.
    إن التعرُّضَ باستمرار لهذا النوع من التكرار قد حوَّل الإنسان الحديث إلى نوع من الآلة القائمة على المبد البافلوفي مثير/استجابة وكأن هناك من يهمس في أذنيه: استهلك واصمت فما أنتَ إلاَّ مَكَنَة تحكمها رغباتٍ لا متناهية. إن التقنية قد خلقت لك نسخةٍ أرضية من الفردوس الأعلى حيث لا إيديولوجيا يُمارسُ باسمها الإستعباد، لا شقاء لا قمع أنتَ السيِّد هنا تختر حكامك وتمارس حرياتك وتستمتع بما ننتجه لك من تسلية ورفاه ورخاء..إنها جنتك فاحذر أن يخرجوك منها..فتشقى.
    هذا الهمس الذي يبدو في ظاهره عقلاني يسميه أقطاب النظرية النقدية لمدرسة فرانكفروت بالعقلانية الأداتية la rationalité instrumental أين يكون الإنسان كالأداة، ردودُ أفعالهِ آلية شَرطية وهي الفكرة التي تمثل حلقة وامتداد للمشروع المعرفي الغربي المرتبط بفكرة السيطرة. لقد وقع استخدام منتجات التكنولوجيا لتمرير هذا المشروع وتثبيته وعولمته واتخذت هذه المنتجات ذريعة لتكريس حلم الحضارة الغربية في السيطرةِ على الطبيعة بما في ذلك الإنسان. إنَّ على هذا الإنسان أن يَرُدَّ الجميل ويقدم ضريبة النعيم.. وضريبة النعيم هي الإنسان نفسه وكأن الإنسان في ظل الحضارة البرجوازية "المستنيرة" هو صورة جديدة من "أوديسيوس" العقلاني الماكر المساوم كما تذكرنا به ملحمة هوميروس وهو في كهف العملاق بوليفيم ذي العين الواحدة الذي انتصر بدهائه على هذا المارد الطبيعي المتوحش وخرج من انتصاره عليه بالوعي بحريته وبوجوده غير أنه خرج منه كذلك بفقدان هويته لذاتيته الحقيقية..وبذلك جسد مبدأ "المقايضة" الذي تنهض عليه الحياة في المجتمع البرجوازي..إذ يتم كل شيء على ما يرام ويبرم العقد ومع ذلك يُخدَعُ الشريك.[2] ولهذا يرى عديد النقاد أن الإنسان الحديث لم يتخلص بعد من قيود العبودية والإيديولوجية ويرون ان شعارات الحرية والديمقراطية وأدوات التواصل والرفاه التقني إن هي إلا أدوات لزيادة تثبيت تلك القيود. بينما يرى الطرف الآخر أن التكنولوجيا ومنتجاتها خارجة عن كل تأمل فلسفي وأنها الحل لنهاية كل الإيديولوجيات والجرائم المقترفة باسمها.

    « إنَّ التكنولوجيا هي نقطة الوصول نقطة الذروة في الحضارة الغربية..إنَّ التكنوقراطية لها ذاكرة وذاكرتها هو تاريخ الحضارة الغربية وجوهرها...إنَّ إقامة الفردوس الأرضي بفضل التقدم العلمي كانت القصة المثيرة لمغامرة الغرب الحضارية. » جورج زيناتي // رحلات

    السيطرة الحديثة باتت تعتمد على نوعٍ من العقلانية يسميها أقطاب النظرية النقدية "العقلانية الأداتية" ويُعرفونها على أنها نمطٌ من التفكير السائد في المجتمعات الغربية المعاصرة وخاصَّةً منها المتقدمة علميا وتكنولوجيًّا سواء أكانت رأسمالية أم إشتراكية. وما يميز هذا التفكير الأداتي هو: «التزامه بالإجراءات والوسائل دون النظر إلى الغايات هل هي في خدمة الإنسان أم هي معادية له..فهو يكتفي بالنظر إلى الإنسان أو إلى الحياة الإجتماعية من منظور العلوم الطبيعية باعتبارها شيئا ثابتا يعتمد على المقولات الكمية ويخضع الوقائع والظواهر الطبيعية والإنسانية إلى قوانين شكلية وقواعد قياسية ونماذج رياضية حتى يتمكن من التحكم في الواقع الطبيعي أو الإجتماعي.»[3] ذلك أن فكرة السيطرة على الطبيعة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بكل تاريخ الحضارة الغربية من منطق أرسطو الذي يميل إلى إخضاع جميع الموضوعات لنفس القوانين العامة للتنظيم ومقولة فرانسيس بيكون في الأوغانون الجديد ((لا يمكن السيطرة على الطبيعة إلا بمعرفة قوانينها)) وهو موقف نفعي أداتي يهدف إلى تحويل الطبيعة إلى أداة ذات قابلية للتحكم والتوجيه. وبالنظر إلى كون الإنسان في الفلسفة الغربية يُعتبر جزءا من الطبيعة فهذا يعني قابليته هو أيضا للتشيأ وهو ما نلمسه في المدرسة السلوكية حيث عُوضت دراسة الإنسان بدراسة القرينين مثير/استجابة وفرويد ورؤيته الإنسان على أنه حيوانا تحكمه الرغبة وأوجست كانت الذي كان يقول بإمكانية دراسة المجتمع بنفس الأساليب والطرق والخطوات المنهجية التي تدرس بها العلوم الطبيعية وهيدغر الذي أعلن نهاية الفلسفة وحلول العلوم الحديثة مكانها لأن مهمة التقنية هي إدماج الإنسان في وسطه بل إن العقلانية الديكارتية نفسها قد ظهرت في لحظة بدأت تتبلور فيها رؤية تعتبر أن المعرفة العلمية والتقنية سلطة أو قوة غرضها الأساسي تملك الطبيعة والسيطرة عليها كما ذهب إلى ذلك هوركهايمر وأدورنو في جدل التنوير. ولهذا يقول جورج زيناتي أن التكنولوجيا هي ذروة الحضارة الغربية إنها تحقق الحلم الذي طالما راود الأقدمون حلم تحقيق السعادة الكاملة عن طريق التقدم التقني حلم عالم بلا مشكلات وبلا إيديولوجيات فردوس أرضي يسحب البساط من تحت دعوة لطالما بشرت بها واحتكرتها الأديان السماوية.
    إن تحويل الإنسان إلى أداة أو آلة بغية السيطرة عليه وتوجيهه هو نمط التفكير الذي لطالما دعت إليه الفلسفة الوضعية العلموية والذي يقوم على ربط الفكر والسلوك ربطا وثيقا بعالم الواقع ويتخذ من التقدم العلمي والتقني أداة سيطرة. وهي الجزئية التي وجه لها فلاسفة فرانكفورت سهام نقدهم إذ أن التقدم ليس بمصطلح محايد إنما هو حركة نحو غايات نوعية يتم تحديدها والتحكم بها وهو ما أشار إليه هابرماس في كتابه العلم والتقنية كإيديولوجيا..ويرى رواد النظرية النقدية أن الإعتراض والنقد ليس على منتجات التكنولوجيا كعلم ومعرفة يمكن الإستفادة منها وتسخيره لخدمة الإنسان، إنما الإعتراض على النزعة العلموية التي تهدف إلى تحويل الإنسان إلى شيء إلى أداة قابل للتحكم به والسيطرة عليه وتوجيهه ولهذا يعتبر هاربرت ماركوز أن تحول التكنولوجيا إلى إيديولوجيا يمثل عقبة في وجه التكنولوجيا ذاتها وأن الإنسان لن يتحرر من التكنولوجيا إلا من خلال تحرير التكنولوجيا من الإيديولوجيا المسلطة عليها.

    « لا تكون ما بعد الحداثة إلا إيديولوجيا الرأسمالية الإستهلاكية » دافيد هوكس // الإيديولوجيا

    إنَّ القول بحياد التكنولوجيا وخروجِها عن كل تأمل فلسفي وميتافيزيقي أو إيديولوجي هو حكم مرفوض فلسفيًّا. ذلك أن أيَّة محاولة للإجابة على سؤال كانط الفلسفي: ماهو الإنسان ؟ يعني اقتحامنا لميدان الميتافيزيقا من أوسعِ الأبواب وعلى هذا الأساس يعتبر جورج زيناتي أن التكنولوجيا الحديثة تقوم على ميتافيزيقا وميتافيزيقا ساذجة إذْ أنها تجيبنا على سؤال كانط بأن هذا الإنسان هو مجموعة من الرغبات اللاَّمحدودة يمكن إرضائه باستهلاك منتجات الصناعة التي بإمكان آلياتها أن تخلق له رغباتٍ مصطنعة إلى ما لا نهاية.
    ومع ذلك نجد أنصار التكنولوجيا يدَّعون الحياد ويدينون كل أشكال الميتافيزيقا بل ويعلنون موت الإيديولوجيا في المجتمع التقني الصناعي الرأسمالي المتأخر وهذا الإعلان يكشف لنا في حقيقة الأمر عن الطابع الإيديولوجي المابعد حداثي للتكنولوجيا حيث تطفو على السطح فلسفة اللامركز التي أعلنت موت النقد نتيجة قولها باللاَّفرق بين الحقيقة والزيف. فالحقيقة ما كان نقيضها هو أيضا حقيقة (راجع مقالنا عن التفكيكية) وهو ما يتوافق تماما مع واقع المجتمع الإستهلاكي أين لم يعد من الممكن الحديث عن وجود منافقين أو نقد مواقفهم وتصرفاتهم ذلك أن الفرق بين ما هو حقيقي وما هو زائف قد انتفى تماما، ويشرح دافيد هوكس هذه الفكرة بقوله أن كلمة منافق تعني أنَّ مظهره الخارجي أو صورته أو ضحكته وابتسامته لا تعكس مشاعرهم الداخلية الواقعية ويتساءل ماذا إذا كانت الذات الداخلية نفسها زائفة؟..ماذا إن كانت شخصيته لا تزيد عن كونها كتلة مختلطة من الصور والمواقف التي تمَّ تمثُّلها من البيئة الخارجية من وسائل الإعلام وتقنيات التأثير على الجماهير؟ يقول هوكس : « في هذه الحال لا معنى لانتقاد أحد الناس لأن صورته تخفق في أن تناظر شخصيته الحقة »[4]..وبناء على هذه الفكرة يعتبر أنصار ما بعد الحداثة أنه وبانتفاء هذا الفرق بين ماهو حقيقي وماهو زائف فقد تم إعلان موت الإيديولوجيا ذلك أن كلمة فكر زائف وطريقة تفكير زائفة والذي هو تعريف الإيديولوجيا وفق الكثيرين يصبح زائد عن الحاجة في ظل غياب التمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف.
    ولكن هذا الإعلان يعتبره دافيد هوكس أيضا إيديولوجيا فهو: « برهنة على مشروعية الإيدولوجية كمقولة تفسيرية داخل فعل الهجوم عليها نفسه »[5] وهو أيضا تأكيد لما قرره أرسطو منذ القدم من أن من يحاول هدم الفلسفة فهو لا يحاول في الواقع إلا أن يقيم فلسفة جديدة ذلك أن عملية الهدم تستدعي بالضرورة إقامة فلسفة جديدة.
    إضافة إلى انتفاء المعيار الذي به نحكم على ما هو واقعي وما هو زائف فإن ارتباط إيديولوجيا ما بعد الحداثة بسطوة الرأسمالية المتأخرة يظهر بقوة في ما يسميه هوكس باستقلال وسائل التمثيل عن المفاهيم. حيث أن اللغة في الإيديولوجيا المابعد حداثية مستقلة بذاتها فهي سابقة عن المنطق والمفهوم وهي من يشكل ويحدد تجربتنا الخاصة..وبالمثل نجد في المجتمع الإستهلاكي هذا الإستقلال يقول هوكس «وبالمثل تتسم فلسفة ما بعد الحداثة باستقلال التمثيل..فالسيموطيقا والتفكيك يتحديان الإعتقاد الواقعي للقرن التاسع عشر الذي يذهب إلى أن العلاقات اللغوية تشير ببساطة نحو أشياء واقعية على نحو شفاف لا تعقيد فيه وبدلا منه يوحيان بأن ما ندركه بوصفه العالم الواقعي قد شيدته لنا أنظمة الدلالة التي نستخدمها لتمثيله»[6]
    فالنقود كانت تشير في السابق إلى أشياءٍ واقعية وقيمتُها في الشيء الخارجي الذي تشير إليه بينما اليوم صارت قيمتها في ذاتها تحولت إلى أرقام إلى حسابات بنكية وبطاقات إئتمان، فلم تعد النقود تشيرُ إلى أشياءٍ واقعية بل صارت هي من يصنع الواقع وتشكله كما تشاء، فكل إنسانٍ ليس أكثر مما يمثل إرثه وعائداته وموقعه وكما يقول أدورنو وهوركهايمر في جدل التنوير: «فكلٌّ يساوي ما يكسبه ويكسب ما يساويه..وهو سيعرف ما هو عليه من خلال حالاتِ التبادلِ في وجوده الإقتصادي وهو لا يتعرَّف على نفسه بشكل آخر»، فرأس المال قد بات هو العامل المحدد سواء على المستوى الدولي حيث صندوق النقد الدولي والبنك الدولي هو من يمنح القروض وهو من يفرض أين وكيف تُصرف. القِوى الدولة هي من تُشكِّل طبيعة المفاهيم التي يجب أن تكون هو من يحدد لك ماذا تعني كلمة أمن إرهاب وماذا يعني مفهوم الحرية إيخاء عدالة ديمقراطية سلم حرب تماما كم تنص فلسفة اللغة الما بعدحداثية حيث الشكل والنحت اللغوي يتم التحكم فيه وتوجيه مفاهيميا يقول مركوز: «إن المجتمع يعبر عن مطالبه مباشرة بالأدوات اللغوية..ففي عالم السلوك هذا تميل الكلمات والمفاهيم إلى تغطية بعضها بعضًا تغطية تامة دقيقة. أو يميل المفهوم بالأحرى إلى الإمتصاص من قبل الكلمة المعمم والموحد نمطيا. وما مضمون المفهوم إلا المفهوم المشار إليه من قبل الكلمة والكلمة لا ترجع إلا إلى رد الفعل المكيف بالدعاية والإعلان والموحد نمطيا. وهكذا تصبح الكلمة كليشه تسيطر على اللغة المنطوقة والمكتوبة...فالكلمة هي التي تأمر وتنظم وهي التي تحث الناس على العمل والشراء والقبول... إن البنية التحليلية تعزل الكلمة الرئيسية عن مضامينها التي تهدد بنقضها أو على الأقل بوضع العراقيل أمام المعنى الذي تستخدم به في التصريحات السياسية والرأي العام...هناك تعريف متصلب ومغلق الذي تعطيه لمفاهيم الحرية والمساواة. هذه السلطات التي تصنع في الوقت الراهن عالم اللغة وهكذا نجد أنفسنا أمام لغة أورويل الدارجة ( الحرب إنما هي السلم والسلم إنما هو الحرب )..»[7]
    ويوافقه أدورنو وهوركهايمر في جدل لتنوير بالقول: «لا وجود لكلمة لا يمكن للكذبة أن تستخدمها»[8] ثم نفس هذه الممارسات والآليات نجدها على المستوى المحلي حيث رأس المال يسيطر على وسائل التمثيل في مستوى أدنى من إعلام وتسويق وسياسة وثقافة ليحول الناس إلى مستهلكين ومن ثم يشكلهم بالطريقة التي يريد. ولهذا يتساءل هوكس «هل تستخدم رأسمالية السوق لتشكيل شخصيات الناس والتحكم فيها؟..هل تحدد صناعات الإعلان والتسويق نماذج السلوك عند الناس وصورتهم عن أنفسهم وآرائهم؟ »[9]
    لقد أعلنت الرأس مالية المتأخرة موت الإنسان وأعلنت قيام مجتمع ميكانيكي تسوده الآلة الجميع متساوون يتعرضون لنفس الرسائل وينتجون وفق نفس النماذج فقد تخلى الإنسان عن وجهه ولم يبق له سوى وجه تلك التي أذاب شخصيته فيها ويصبح بدوره آلة لتتوافق مثل هذه النتائج والوقائع مع تنظيرات آركيولوجيا فوكو الذي تحدث في كتابه الكلمات والأشياء عن مسح الوجه واختفائه وراء القناع وتأكيدًا لفلسفة دريدا التفكيكية التي نادت بالجمع بين المتنقضات وبموت المؤلف موت الفاعل موت التميز الفردي. إن المنادة باللاَّمركز وتماثل المتناقضات الذي تدعو إليه إيديولوجيا ما بعد الحداثة والذي تحدثنا عنه بإطناب في موضوعنا السابق عن التفكيكية يتأكد أكثر فأكثر عند التعريج على الديمقراطية، فهذا النظام السياسي وإن كان وجوده يرجع إلى حقبة تاريخية قديمة إلا أن عولمته اليوم وانتشاره باتت السمة البارزة للمجتمعات المتقدمة تقنيا فإحياء هذا النظام والتركيز عليه والترويج له وعولمته ليس أمرا اعتباطيًا حسب العديد من المفكرين ذلك أن الديمقراطية تعني ثقافةَ الإختلاف وقبول الآخر حتى ولو كان مناقضًا لك فهي إذن جمع بين المتناقضات المبدأ الذي تبشر به ما بعد الحداثة. والتعددية السياسية والتعددية الرئاسية في هذا النظام هي تكريس لمبدأ الثورة على المركز وثورة على الثبات الذي كرسته الفلسفة التفكيكية وليس من قبيل الصدفة أيضا احتضان الجامعات الأمريكية للفلسفة التفكيكية بالتزامن مع ظهور الرأس مالية المتأخرة. ويعتبر عديد الفلاسفة أمثال كورنل وست واندرياس هايسن أن ما بعد الحداثة هي صناعة وماركة أمريكية مسجلة فهي ثورة على حداثة المتاحف والثوابت الأدبية والأكاديمية والسياسية التي كانت سائدة في أروبا آنذاك حيث عاشت أمريكا حالة تفتت بعد حديث من الناحية السياسية و تعددية سياسية لم يشهدها الأروبين الذين كانوا "أقل تقدمية" بتمركزهم حول الرموز السياسية والأدبية آنذاك وهو ما يعبر عنه بحداثة المتاحف.[10] ولهذا يعتبر بيتر بروكر أن ما بعد الحداثة تناقش قضية أمركة العالم ويسميه كورنل وست بالهجوم الأمريكي على العالمية باسم الإختلاف خاصة بعد تحول أمريكا إلى ما يشبه أكاديمية تكوين لرجال السياسة ورجال الإقتصاد والثقافة من مختلف جنسيات العالم فالديمقرطية تخبرنا في خفاء أن فلسفة التفكيك قد صارت اليوم منطق مجتمع معولم في وسعه الإستغناء عن المنطق وتأسيس مجتمع تتصالح فيه المتناقضات.
    وفي مجتمعِ كهذا يفقد التاريخ كل قيمته فالتراث والذاكرة التاريخية كانت تمثل ضمانة وصيانة للكيانات الإجتماعية القائمة حيث تعرف الذات ذاتها وتعرف الآخرين وفي مجتمع الآلات والإستهلاك والتماثل ما من حاجة للذاكرة والتاريخ فالذات هي كينونة وهمية وبالتالي لا يكون التاريخ إلا تعاقب غير متصل من الأحداث يمثله دريدا بمباراة شطرنج حيث المشاهد الذي سيدرك سير المباراة لن يكون في حاجة إلى العودة للوضعيات السابقة حتى يفهم الوضع القائم وبهذا يكون التاريخ بلا معنى وبلا حاجة. ومن هنا نفهم الهجمة التي تحياها هذه المجتمعات على رموزه التاريخية وهويته التي لا يمكن للذات أن تعرف نفسها إلا من خلالها. فقطع الصلة بين الإنسان وذاكرته أو هويته التاريخية هي قطع للصلة بين الإنسان وبين بناء الذات وفقا لمفاهيم ثابتة ولهذا يقول بيتر بروكر في كتابه الحداثة وما بعد الحداثة: «وبالتالي تصبح وظيفة نقل المعلومات الموكلة إلى وسائل الإعلام تهدف إلى مساعدتنا على النسيان وفقدان الذاكرة التاريخية»[11] وبالنظر لكل هذه التقاطعات والتعريفات المشتركة يقول دافيد هوكس جازما في كتابه الإيديولوجيا : «لا تكون ما بعد الحداثة إلا إيديولوجيا الرأسمالية الإستهلاكية» [12] ولكن قد يطفو على السطح رأيا يعتبر أن لا إشكال في التكنوقراطية والرأسمالية الإستهلاكية سواء أكانت قائمة على إيديولوجيا أم لا طالما أن منتجاتها ستحقق لمجتمعاتها الرفاه والضمان الإجتماعي ومبادئ الحرية والمساواة وتلغي العبودية وتقضي على الفقر والتجويع وتمنح شعوبها الحق في تقرير مصيرهم باختيار من يحكمونهم. وهو ما يعترض عليه الطرف الآخر بالقول أن كلمة إيديولوجيا تشير في المعتاد إلى طريقة في التفكير خاطئة أو زائفة أو التصور الذي يعتبرها نسقا من التفكير ينشر الزيف من أجل المصلحة الأنانية وهو التعريف الذي أدرجه ديفيد وكس في كتابه الإيديولوجيا ومن ثم لا تكون إعتراضات الطرف الأول سوى وعي أو شعور زائف بامتيازات وهمية شعور فرضته آليات العقلانية الأداتية وإيدلوجيا ما بعد الحداثة وأن تلك الإمتيازات سبق وأن وفرتها ألمانيا هتلر كما جاء على لسان هوركهايمر وادورنو: «لا أحد يجب أن يجوع أو ان يبرد وكل متسبب بذلك مصيره معسكرات الإعتقال" هذه المزحة الآتية من ألمانيا هتلر يمكن أن تكون إعلانا على كل مدخل مؤسسات الصناعة الثقافية. إنها تفترض سذاجة على جانب من الحيلة وتلك إحدى ميزات مجتمعنا الأكثر حداثة..صحيح أن ثمة شيئا لا تستطيع الإيدويولوجيا المجوفة أن تمزح معه أبدا: الضمان الإجتماعي.»[13] ولهذا يعتبران أن الإنسان مايزالُ قابعًا تحت القمعِ والسيطرة والإستعباد يعتبرها شريكهم في الجيل الأول للنظرية النقدية هاربرت ماركوز بأنها سيطرة أكثر شمولية وتوتاليتارية من السيطرة التقليدية التي عرفها الإنسان قديما وهي النقطة التي سنسلط عليها الضوء في محاورنا القادمة.

    « هناك نوعين من السيطرة سيطرة قامعة وسيطرة محررة » يورغن هابرماس // العلم والتقنية كإيديولوجيا

    هذا ما ذكره هابرماس في كتابه العلم والتقنية كإيديوجيا ويقول ماركوز في الإنسان ذو البعد الواحد أن الحرية يمكن أن تكون أداة سيطرة قوية. ومعنى ذلك أن ممارسة كل أشكال التحرر والمناداة بالمساواة وإلغاء الرق والعبودية وتحقيق كل ذلك على أرض الوقع أوممارسة الحق في تقرير المصير واختيار الحكام لا يمثل ضمانة لهذه المجتمعات من أنها قد تجاوزت فعليًّا نقيض تلك الممارسات وإنما هي تعبير متقدم عن تطور أشكال الرقابة والقمع والسيطرة. ذلك أن الحرية الإنسانية لا تقاس بالخيارات المتاحة وإنما تقاس بما يستطيع الإنسان اختياره وما يختاره. إن هذا المستوى من الإختيار أو مجال الحرية المسموح به هنا يراه ماركوز بأنه شبيه بالعبد الذي يتوهم أنه حر لمجرد أنه منحت له حرية اختيار سادته وأن قدرة العبد على اختيار سادته بحرية لا تلغي لا السادة ولا العبيد بتعبير ماركوز. إن الحرية تكمن في التقاط الإختيارات والحلول البديلة المحظورة وهو ما تفتقده مجتمعات ما بعد الصناعة.
    كما أن وهم الحرية أيضًا يُمارس باسم إديولوجيا خفية إيديولوجيا ما بعد الحداثة التي دورها تمويه الفرق بين ما هو واقعي وما هو زائف وتحويل الشعوب إلى مجرد قطعان تحوم حول معابد الإستهلاك في حركة دائرية لانهائية تكون نتيجتها سيطرة يعتبرها مفكرو النظرية النقدية أكثر شمولية وتوتاليتارية وأكثر خطورة من السيطرة التقليدية التي عرفها الإنسان في الماضي ذلك أنها شملت عقله وعواطفه ورغباته وغرائزه وجسده..فهل أن الإنسان في المجتمع البرجوازي والديقراطي سيد نفسه هل فعلا يختار الإنسان ويستهلك ما يريد من سلع بمنأى عن الإيديولوجيا والتحكم؟ هل فعلا يمارس حقه في تقرير المصير وأن النظام الديمقراطي الرأسمالي يكفل له هذا الحق؟ هل يختار مغنيه المفضل وهل ما يعرض على الشاشات والمسارح من أنماط غنائية وأفلام سنمائية هو إيفاء لرغبات هذه الجماهير؟ هل تحقق معنى المساواة وانتفت الطبقية والعبودية إلى غير رجعة ؟.يجيب هوركهايمر وادورنو في كلمات: (( كل ذلك هو بهلونيات خالصة ))...

    « يترك الطغيان الجسد ويذهب مباشرة إلى الروح..فالسيد لم يعد يقول: إما أن تفكروا مثلي وإما الموت. بل يقول: أنتم احرار. حياتكم وخيراتكم هي لكم. ولكن بدءا من اليوم أنتم غرباء بيننا » توكفيل // الديمقراطية في أمريكا

    إن مقولة تقرير المصير في المجتمع الديقراطي يمثلها أدورنو وهوركهايمر بعنادٍ بشوشٍ لكلبٍ يقفز باستمرار أمام باب لا يعرفُ كيف يفتحه فيُتْرَكُ في تلك الحالة نهائيا مادام قبضة الباب ليست في متناوله. عندما يتحول الناخبون إلى صناديق الإقتراع لاختيار من يمثلهم في السلطة ومن يمثلهم في المعارضة نكتشف أننا أمام حرية مصطنعة مغلفة بعقلانية كاذبة فالخيارات التي تم توفيرها على أرض الواقع ليست هي كل الخيارات المتاحة. فمثلا يتم فرض المصلحة القومية ابتداءًا كتعبير عن إرادة الشعوب كلائكية الدولة أو قوميتها أو رأسماليتها ّأو شيوعيتها ومن ثم يمنع على كل فكر مخالف لهاته المصلحة التواجد في جملة الخيارات وهذا ملاحظ بشدة خصوصا في الدول التي تعتمد نظام الحزبين أو الأحزاب التي لا تفعل غير تبادل الأدوار ما بين حكومة ومعارضة اندمجت مع السلطة اندماجا كليا ومثلت جدارا يحيل دون أي تحول بالمعنى الكيفي أو قيام مؤسسات تختلف اختلافا جوهريا عما هو كائن. ومن ثم لا يكون الإنتخاب إلا مجرد لعبة عقلية ففي كل ديمقرطيات العالم تتحدد سلفا التيارات المشاركة في الإنتخابات تحت بند الرخصة أو الموافقة والتي هي شرط تكوين حزب ومن ثم المشاركة في العملية الديقراطية وطبعا هذه الموافقات والرُّخص التي تُمنح في الغرف المغلقة بعيدا عن إرادة الشعوب لا تمنح لما يمكن أن يؤدي إلى أي تغيير جذري اقتصادي كان أو اجتماعي أو سياسي ولهذا يتساءل ماركوز عمَّن يربي هؤلاء المربين وأين البرهان على أنهم يملكون "مفتاح الخير" ؟ ويقول عن هذا النظام بأنه: «يؤدي دوره عن طريق تحكمه بالحاجات باسم مصلحة عامة زائفة. ولا يمكن في مثل هذه الشروط قيام معارضة فعالة للنظام فالنزعة الكلية الإستبدادية ليست مجرد شكل حكومي أو حزبي نوعي وإنما تنبثق بالأحرى عن نظام نوعي للإنتاج والتوزيع متوافق تمام التوافق مع تعدد الأحزاب والصحف ومع انفصال السلطات إلخ »[14]
    هذه اللعبة العقلية التي تمارسها الديمقراطية تجعل من الصعب أن نُبرِّر عقلانيًّا ضرورة تجاوز هذا المجتمع ذلك أن المجتمع المعاصر اليوم هو مجتمع الدمج يدمج مفاهيمَ النقضِ والهدمِ مع القوى التي من المفترض أن تلعب دور المقاوم والبديل. فبعد دمج المعارضة تم دمج الشعوب سواء بواسطة لغة الإتصال الوظيفي الموجه لغة يسميها ماركوز بلغة شخصية الطابع لغة تتقمص شخصية وذات المخاطَب توهمه قصرا أنه صاحب الفعل وأنه هو السيد فنجد ألفاظ من قبيل هذا نائبكم "أنتم" هذا طريقكم "أنتم" هذا مخزنكم المفضل.. هذه صحيفتكم المفضلة استورد خصيصا لكم "أنتم" وبهذه الصورة تبدو الأشياء والوظائف المفروضة من فوق والموحدة نمطيا وكأنها صنعت خصيصا وفقا لطلبكم أنتم وهي لغة يعتبرها ماركوز لغة مناهضة في جوهرها للنقد ومن خلالها تمتص العقلانية العاملية وعقلانية السلوك عناصر العقل المتعالية السالبة المعارضة.
    وتزداد صعوبة تجاوز هذا المجتمع مع الإنجازات العظيمة للمجتمع الصناعي المتقدم فانتاجه الخيرات وتوزيعها يلعب دور الإغراء مما يجعل أي خطوة مناهضة لهذا الإتجاه هي خطوة رجعية محفوفة بالمخاطر وهي الخطوة التي حكمت على الماركسية الثورية مثلاً بالموت وأدت إلى ظهور تيار ما بعد الماركسية ذلك أن طبقة البلوريتاريا قد اندمجت تماما وباتت الجدار الأول المناهض لقيام أي ثورة قد تعصف بامتيازاتها ومكتسباتها. فالسيطرة في العصور الماضية كان يمارسها حاكم مستبد وطاغية وهي سيطرة لا تستند على أي أساس عقلي أو منطقي الشيء الذي يسهل معه خلق مبرر عقلاني في نفوس الجموع المستعبدة إذ يكفي أن يأتي من يرفع منسوب الوعي والذكاء على حساب منسوب الجهل والتجهيل حتى تفك أغلال العبودية. ولكننا اليوم لسنا في عصر الجهل إننا في عصر صار فيه الذكاء إصطناعيا ويباع على قارعة الطريق إننا أمام شعوب تعتقد في نفسها الذكاء والفطنة تنظر للاعقلانية على أنها عين العقل وترى في العقل غباءً ولاعقلانية. ولذا يرى ماركوز أنه قد صار صعبا إمساك الناس عبر لجام ذلك أن التقدم في إظهار حمقهم قد صار موازيا مع درجة تقدمهم في الذكاء.[15] لأجل هذا النوع من العقلانية اعتبرت السيطرة الحديثة أكثر الأنواع شمولية واعتُبِر نظامها الديمقراطي حسب ماركوز: «أنجع نظام للسيطرة»[16]

    « أندريس ستيفنسن: ما مصير موسيقى الراب ؟..كورنل وست: نفس مصير معظم المنتجات الأمريكية بعد الحديثة..يتم تغليفها وتقنينها وتوزيعها وتداولها واستهلاكها » بيتر بروكر // الحداثة وما بعد الحداثة

    إن اختيار المستهلكين لفنانهم المفضل أو انسجامهم مع موسيقى الراب والجاز مثلا يبدو في الظاهر وكأنه إيفاء لرغبات هاته الجماهير أو أنه نابع عن إرادة حرة واختيار واعٍ غير أن الواقع يؤكد أن ما يتم تداوله قد تم تقنينه سلفًا من قبل الصناعة الثقافية التي تفرض أنماطًا بعينها لا تختلف إلا من حيث الشكل تكررها في وسائل الإتصال بشكل دوري وتفرضها على المستهلكين بشكل قمعي من خلال المهرجانات والحفلات والجوائز وتستثني بالمقابل ما لا ينسجم مع المعايير المعدة سلفًا. ولهذا يعتبر أدورنو وهوركهامير أن الصناعة الثقافية الحديثة تقمع ولا ترفع ابدا ويرون أنه: «من الناحية الديمقراطية فقد حولت الراديو كل المشاركين إلى مستمعين مخضعة إياهم قصريا لالتقاط برامج مختلف المحطات والتي تتشابه بمجموعها ...أما إذا اقتضى الأمر استخدام مجال آخر من الفن كالأوبرا أو حين يقتضي استخدام الجاز أو ماكان تقليدا له أو استخدام موسيقى لبيتهوفن في سياق روائي لتولستوي أو موسيقى تصويرية لفلم ما. فإن لأمر كان يفهم وكأنه إيفاء لرغبات الجمهور أما في الواقع فلم يكن إلا بهلونيات خالصة..قرار السلطات التنفيذية التي تقرر أن لا تنتج شيئا أو تدعه يمر ما لم ينسجم مع المعايير التي تضعها أو عن الفكرة التي يضعونها عن المستهلكين والتي يتشابهون معها»[17]
    ويكشفان أيضا عن الطابع القمعي للأفلام والموسيقى التصويرية المصاحبة له. فمن بداية الفلم نعرف ماذا ستكون نهايته هل سيعاقب أو سيكافأ ومع سماع الموسيقى الخفيفة تعتاد الأذن منذ الخطوات الأولى عليها وتكتشف الخطوات التالية وتجد نفسها مكتفية إذ تمر الأمور كما كان متوقعا بل إن طول القصة القصيرة قد تحدد سلفا ولا يمكن تغيير شيء في هذه الأمور كما أن التأثيرات الخاصة والمزحات والقطشات قد تحددت في الأطر الذي يجب أن تؤخذ فيه. إن ذلك من عمل المحترفين والهامش الذي ترك لإضفاء التنوع قد صار من عمل الذين يعملون في المكاتب الإدارية ويقول هاركهايمر وأدورنو: «الفارق بين الأفلام من الفئة A او من الفئة B او بين القصص التي تطبع في المجلات المختلفة الأسعار لا يقام على محتوى هذه الأفلام أو القصص بقدر ما هو لخدمة المستهلكين ولإعادة تربيتهم فقد وضع لكلٍّ ما يناسبه حتى لا يستطيع أحد الفلتان..فعلى كل أن يتصرف بعفوية إذا صح القول بما يتناسب مع مستواه المحدد سلفا تبعا لاحصائيات وأن يختار من المنتوجات المعمولة للجمهور مع ما يتناسب ونموذجه.. فالفلم يساعد المشاهد الضحية على التماهي مباشرة مع الواقع وتمنع عنه كل نشاط عقلي. كل الأفلام والمنتجات الثقافية التي عليه أن يعرفها بشكل إلزامي قد حملت المشاهد على الإنتباه إليها بشكل آلي فهي تعيد إنتاج الناس طبقا لنماذج الصناعة ككل» [18]
    كما أن الصناعة الثقافية لا تسمح لأحد بالفلتان حتى أولئك الذي من المفترض أن تكون لهم نظرة مخالفة لا تنسجم مع ما هو متداول ثقافيًّا. فالنقد الفني ذاته قد تم استيعابه من ذوات المنتجين أنفسهم فالوعي النقدي العقلاني يغيب لحظة بروز تقييمات من قبيل أن هذا الفلم نال تقييما 7 من 10 أو 8 من 10 والأعمال الفنية عموما تقيم بمعايير من قبيل جوائز الأسكار الدب الذهبي والتنين الذهبي والسعفة الذهبية وغيرها من تقييمات كمعيار إرادات قاعات السينما أو الأوديمات والإحصائيات الموجهة..إن السطو قد طال النقد ذاته فلا يحق لك النقد فهناك من يقوم بالمهمة بدلاً عنك وأية محاولة مناهضة لتلك التقييمات يعني آليا تهمة الجهل بآليات النقد الفني ومخالفة الميولات العامة.

    « ما من غاية للحياة سوى زيادة كمية الإستهلاك » جورج زيناتي // رحلات

    كل شيء تحول إلى سلعة تجارية حتى المناصب السياسية يتم الترويج لأصحابها كالسلع تماما لا تختلف إلا من حيث ربطة العنق ولون البدلة. والإختيار بين أجناسا واحدة من السلع لا تختلف إلا من حيث الشكل وجودها فُرض قصرًا على المستهلك من قبل وسائل الإتصال والإشهار لا يعني أنك حر وإنما يعني أن الرقابة الإيديولوجية لما بعد الحداثة ناجعة وفعالة من جهة استيعابك وتحويلك إلى مستهلك لا نهائي حيث أن معنى الإستهلاك لم يعد ذاك المعنى الثابت الذي يقتصر على توفير أشياء بعينها وإنما أُرجأ المعنى إلى ما لانهاية بإنتاج حاجات وهمية لانهائية لا تختلف إلا من حيث الشكل وهو تعبير عن معاني الأشياء في الفلسفة المابعد حداثية أين يرجأ المعنى إلى ما لانهاية والوعد الذي يمثله ليس إلا وهما وتحويرا ولا نصل إليه.
    إن المنتوجات المختلفة قد صارت هي نفسها على الدوام. يقول أدورنو وهوركهامير: «إن الفوارق بين ما تنتجه مجموعة كرايزلر أو جنرال موتورز هي واقعا مجرد وهم ما يسترعي حتى انتباه الطفل الذي يهوى السيارات المتنوعة. أما الحسنات والسيئات التي يناقشها العارفون فلم تكن تبغي سوى إيهام المستهلك بالفرق بين الشركات والخيارات. ينطبق الأمر نفسه على شركات إنتاج الأفلام السينيمائية فالفارق صار يقاس بعدد النجوم في الفلم الواحد واستعراض التقنيات وعمل الفرق واستخدام كليشهات علم النفس الاكثر جدة»[19]
    كل شيء قابل أن يتحول إلى سلعة بما في ذلك الأعمال الفنية وفرضها يكون بالتحكم في الغريزة وإثارة اللذة البدائية في المستهلك والتي من شأنها أن تخلق ردود أفعال تستدرجه لا إراديا نحو الإستهلاك فالزواج تحول إلى وكالات تخضع لقانون العرض والطلب. والحب تحول إلى حوانيت جنس. والإشهار تحول إلى خطاب مباشر للغريزة البدائية. ومفاهيم التحرر والرقي باتت تُقرنُ بكل ما له علاقة باللذة. وتكرار هذه الصور بطريقة متسلسلة ومنتظمة يخلق نوعًا من القمع على الأذهان يلغي ملكة التفكير فلا يفك هذا الإرتباط المفاهيمي إذ العقول التي تتعرض باستمرار لهذا النوع من التكرار تتحول إلى نوع من الآلة القائمة على المبدأ البافلوفي مثير/استجابة يقول صاحبي جدل التنوير: «إن اللأعمال الفنية أعمال زهدية ولا حياء فيها والصناعة الثقافية صناعة برنوغرافية وتتصنع الحياء فهي تحيل الحب إلى الرومنسية وبعد إحالة كهذه تصبح أشياء كثيرة أشياء مسموح بها حتى الزندقة مع توصيف يعلن جرأة الذات. إن إنتاج ما هو جنسي بشكل متسلسل أمر ينظم القمع بشكل آلي ... إن الصناعة الثقافة لا ترفع أبدا بل هي تقمع وفي حالة عرض موضوع اللذة باستمرار كعرض الصدر وصدر البطل الرياضي عاريا فإن هذه الصناعة لا تقوم بشيء سوى إثارة اللذة البدائية غير المتعالية»[20]

    « العبودية لا تتحدد بالطاعة ولا بقوة الكدح وإنما بالإنسان المحول إلى أداة أو شيء ولهذا سُمِّيَ العبيد في الحضارة الرومانية والفرعونية » فرونسوا بيرو

    الجميع يرفع سماعة الهاتف ليقول هاللو الجميع يلبس نفس اللباس ويأكلون نفس الأكل يشاهدون نفس البرامج ونفس الإعلانات. الجميع يمارس نفس الأنشطة الترفيهية والتثقيفية هذه هي المساواة في مجتمع ما بعد الحديث.
    وهو مفهوم يختلف كليا عن المساواة الإنسانية كما يجب أن تكون. مفهوم اختُزل في مستوى أدنى هو مستوى الإستهلاك مستوى شبيه بالمساواة بين السيارات المصنعة معمليا أو البطاقات البيوميترية حيث لا يكون الإختلاف إلا من جهة الرقم التسلسلي. فهو نوع من التماثل الذي لا يؤدي إلا لتأكيد الهوة الواسعة فالتشابه الكامل يعني الخلاف المطلق. وماهية النوع تمنع ماهية الحالة الفردية.
    إن هذا النوع من المساواة قد ألغى ولا شك العبودية التقليدية التي يكون فيها السيد مختلف كل الإختلاف عن العبد المقهور المغلوب على أمره ولكنها خلقت ولا شك بدلا عن تلك العلاقة التقليدية حلقة مفرغة من العبودية السيد والعبد محبوسان فيها على حد سواء.
    إن المساواة الإنسانية غايتها أن ترقى بالعبد لمرتبة لأسياد بينما المساواة التقنية نزلت بالسيد إلى مصاف العبيد. إن العبودية وكما يُعرِّفُها عالم لإقتصاد فرونسوا بيرو لا تتحدد بالطاعة ولا بقوة الكدح وإنما بالإنسان المحول إلى أداة أو شيء ولهذا سُمِّيَ العبيد في الحضارة الرومانية والفرعونية عبيدا ذلك أن الإنسان وجد كأداة أو كشيء والإنسان في المجتمع الحديث ينظر إليه أيضا كأداة وكشيء ولهذا يرى ماركوز انه حتى لو لبس مظهرا جميلا يختار بنفسه قوته المادي والفكري فإنه لن يخرج عن الشكل الخالص للعبودية. إن عبيد الحضارة الصناعية المتقدمة يراهم ماركوز عبيدًا متسامون ولكنهم يبقون عبيدًا.[21]

    « أن تتسلى يعني أن تكون موافقا..فالتسلية تعني دائما ألا تفكر بشيء وأنس العذاب » هوركهايمر وأدورنو // جدل التنوير

    يقال عن مجتمع ما بعد الصناعة أنه مجتمع التسلية والضحك. إن البرامج الترفيهية تتصدر المشهد وآليات القمع تنتزع منك أحاسيس وتفاعلات رغما عنك إن الجماهير المؤثثة للبرامج لم يكن وجودها أبدا اعتباطيًّا. إن تفاعلها المصطنع والذي يأتمر بمن لا يظهرون على الشاشة ينقلون إليك قصرا أحاسيسهم المصطنعة بالضحك ربما على مواقف لا تحتاج منك سوى لحظات من التفكير الجاد لتدرك انها قضايا محورية جوهرية وهامة وقع التعمية عليها. مواقف تستوجب أحاسيس من قبيل التعاطف أو الرفض إن لتلك الجماهير تأثيرا يجعل من مخالفتهم وكأنها مخالفة للميولات العامة وهو ما يعتبره هوركهامير وأدورنو بأخلاقية ثقافة الجمهور ويعتبرانها الشكل المنحط للأخلاق. أو بعض مقدمي البرامج المنتقون بعناية حيث يقدمون لك مواقف وقضايا خطرة أو ما يعرف ببرامج المقالب وما عليك إلا ان تتسلى فتقبل دون أن تشعر بدل أن تتعاطف وترفض.. إن تجارة اللهو والتسلية وحسب العديد من النقاد والمفكرين هي أحدث آليات القمع والسيطرة فأن تتسلى يعني أن تكون موافقا «فالتسلية تعني دائما ألا تفكر بشيء وأنس العذاب حتى حيث يبدو ظاهرا للعيان..إن التحرر الذي تعد التسلية به هو التحرر من التفكير بوصفه نفيًا»[22]
    إن الضحك اللامتناه ومن كل المواقف يعني أننا لا نضحك أبدا فلامركزية الضحك والتسلية يعني الإنعدام التام للضحك والتسلية. ومن هنا أيضا تطفو إيديولوجيا ما بعد الحداثة إلى السطح أيت تُقوِّض تعدد الآلهة مركزية الإله وتعدد المعاني وتناقضها يقوض المعنى وتعدد ما هو زائف دوره التعمية عما هو حقيقي وواقعي. ولهذا يقول صاحبي جدل لتنوير: «إننا نضحك من عدم إيجدانا سببا للضحك...التسلية هي بمثابة حمام مريح تحاول تجارة اللهو وصفه باستمرار فهي تجعل من الضحك أداة تجارة خادعة عن السعادة..وفي أوقات السعادة لا نضحك أبدًا...وفي المجتمع المغشوش حلَّ الضحك بوصفه مرضًا مكان السعادة ساحبًا إيَّاها إلى شقاءٍ كامل... إن جمهورًا يضحك بهذه الطريقة لهو محاكاةٍ ساخرة للإنسانية. وأفرادها هم مونودات يستسلم كل منها للشهوة الحسية على حساب كل شيء آخر. أما تناغمها فليس إلا صورةً كاركاتورية عن التضامن. ما هو شيطاني في الضحك الذي يرن خطأ هو أنه يحاكي بسخرية ما هو جيِّد»[23] ويقول مكاوي عبد الغفار إن الذين يعترضون باستمرار لهذا النوع من القمع يجعلهم «يتوهمون أنهم يحيون حياة سعيدة هانئة في الوقت الذي تطيل فيه أمد عبوديتهم وشقائهم وتضاعف القهر غير الضروري لدوافعهم وحاجاتهم الحقيقية»[24]

    « إن عددكم هو في حد ذاته جريمة » الشاعر استيفان جورج

    مجتمع الرفاه مجتمع ما بعد الصناعة هو مجتمع اخترع الآليات التقنية والمبررات العقلية لإبادته. مجتمع باتت فيه الحروب تُدارُ بضميرٍ سعيد وتحولت الجرائم المقترفة بحق الإنسانية مشروعا عقلانيَّا خالصًا. مشروع يائس كليًّا ومشروط بتعبير هاربرت ماركوز تمثل فيه اللاعقلانية عين العقل ويُرجع هابرمس هذه الحال إلى القوة الإيديولوجية للوعي التكنوقراطي التي يكمن دورها في تمويه الفرق بين الفعل العقلاني والتفاعل اللاعقلاني.[25]
    وقد أجاد ماركوز في كتابه الإنسان ذو البعد الوحد إبراز هذا الفرق وتسليط الضوء على الإديولوجيا التسلطية في المجتمع الحديث. إن الحرب وإبادة الأبرياء هي فكرة مرفوضة عقلا بينما تتحول إلى مشروع عقلاني بامتياز عندما تقرن الحرب بالإزدهار وحياة الرفاه يقول ماركوز أن «الضمير السعيد يحجب عن نفسه الصلة التي يمكن أن تكون قائمة بين هاتين الواقعتين: الحرب والإزدهار»[26]
    وباستخدم منتجات ما بعد الحداثة أو ما يسميه مركوز الطابع الإستبدادي للغة أو لغة التنويم والجمع بين المتناقضات يقع تمويه الفرق بين الفعل والتفاعل. يقع الجمع بين عبارات من قبيل أب القنبلة الهيدروجينية أو أب القنبلة النووية كلمة الأب الحنون الذي يهب الحياة تنسب إلى الشيء الذي ينزع الحياة لتضيف له شيئ من أخلاقيتها. أو عبارات من قبيل القنبلة النظيفة ( النيوترونية النووية ) الحرب الباردة أو ثعلب الصحراء و فجر كذا وغيرها من التعابير التي وبتعبير مركوز: «تنسب إلى الإبادة نزاهة أخلاقية ومادية»[27].. أو إعلانات ترتكز في مضمونها على الرفاه للتعمية على الشقاء إعلانات من شاكلة "مخبأ فخم ضد الإشعاعات الذرية" إنها لغة تؤدي إلى خلق ردود أافعال ساذجة لاوعية يقول ماركوز : «هي مصطلحات متناقضة غير قابلة للتوفيق و لا يمكن لأي لغة ولأي منطق أن يجمعا بين مصطلحات الفخامة والإشعاعات الذرية. بيد أنَّ المنطق واللغة يصبحان عقلانيين تماما عندم نعلم أن "غواصة ذرية حاملة للصواريخ تكلف 120 مليون دولار" وان "نموذج المخبأ الذي يكلف 1000 مجهز بسجادة ومروحة وجهاز تلفزيون ... إن استعمال المسند التحليلي يشكل إنشاءًا قمعيًّا من هذا النوع. فاقتران الإسم النوعي بنفس الصفات بنفس الأخبار التفسيرية يحوّل الجملة إلى صيغة من صيغ التنويم المغناطيسي تفرض نفسها من كثرة تكرارها اللامتناهي على فكر من يتلقاها. وهكذا لا تعود تحضر في بال هذا الأخير المعاني الأخرى للكلمة المختلفة وربما الأصح»[28]
    إن هذه الوسائل القمعية لا تجعل من الضمير السعيد يبارك إبادة الأبرياء وحسب وإنما تجعله لا يمانع في اقتناص سبل إزالته هو وكأنه يعيش فصولا من مسرحية رقصة الموت لسترندبرغ إذ لا يمانع في ابتلاعِ قوتٍ مشبعٍ بالإشعاعات النووية والكيمايائية لا يمانع في عقلنة إبادته بشرعنة تقليص عدد سكان العالم مستقبلا تحت ذريعة المصلحة العمومية سواء بتحديد النسل أو بفوائد انتشار الأمراض والأوبئة أو شرعنة التجارب على البشر تحت ذريعة الإكتشافات العلمية. يقول ماركوز: «إن هذ الضمير السعيد يأوي ويحمي الإعتقاد بأن الواقع عقلاني وبأن النظام القائم يوزع في خاتمة المطااف الخيرات...وهكذا يسلم الضمير زمام أمره للتشيأ...لقد اقشعر العلم في الماضي اشمئززا من معسكرت الإعتقال وهاهم الناس يُدرَّبُون اليوم على ابتلاع قوت مشبع بالإشعاع الذري...إن الضمير السعيد الذي يعتقد بأن الواقع عقلاني وبأن النظام يلبي الحاجات هو خير مثال على الإمتثالية الجديدة السلوك الإجتماعي المتأثر بالعقلانية التكنولوجية... إن المجتمع الذي يتفاقم فيه الصراع في سبيل البقاء بنتيجة تزايد عدد سكانه لهو مجتمع مجرم»[29]
    ولهذا يعتبر يورغن هابرمس أن الموضوعية العلمية ليست سوى وهم وأن التكنولوجيا تحولت إلى أداة بيد الإيديولوجيا. ففي مقاله المعنون "المعرفة والمصلحة" والذي نشر بعد ذلك في كتابه العلم والتقنية كإيديولوجيا أدان التكنولوجيا كعقلنة جماعية كاذبة تخفي هدفها الحقيقي ولا تخدم في الواقع إلا المصلحة الخاصة مصلحة السيطرة والهيمنة التي تخبئها العلوم التجريبية التحليلية فقد جعلت للإنسان اليوم قابلية للخضوع والخنوع أكثر من أي وقتٍ مضى فهي تتم بمباركة عقلانية وعلمية وإن كانت كاذبة. «فعندما ينكب رجل العلم على سبيل المثال على مشكلة الإبادة الجماعية الباعثة على القلق فيجرون حسابات رياضية عن كيفية القتل وعن كيفية القتل بصورة مثلى ويحسبون المسافات التي يمكن أن تغطيها الإشعاعات ويجربون تحمل الاجسام في شروط غير طبيعية..يكون العلم قد انساق للتضليل الأسطوري وذلك بمقدار ما يتطلب بل يفرض سلوكا يقبل بذلك لمشروع الجنوني ..وخطوة العلم هذه مناقضة للسلوك العقلاني الحقيقي الذي يفترض فيه أن يرفض الإستمرار في ذلك المشروع وأن يحاول التأثير على الشروط التي أوجدته..إن هذا السياق التجريبي هذا العالم الإختباري الواقعي ما يزال إلى اليوم أيضًا سياق غرف الغاز ومعسكرات الإعتقال سياق هيروشيما وناغازاكي سياق البنتاغون والكرملين سياق المدن النووية والكومونات الصينية سياق كوبا سياق عمليات غسل الدماغ والمجازر ..ولكن «العالم الإختباري الواقعي هو أيضًا العالم الذي تعتبر فيه هذه الأشياء مقبولة أو منسية أو ملغاة أو مجهولة عالم يعلق أهمية على مكنسة وطعم الأناناس عالم تتلخص تجربته كلها في العمل والرفاه اليوميين فما الهدف سوى إيجاد مكنسة أو تذوق الأناناس.» [30]

    « طالما أن الوعظ لا يستسلم للنسخ لآلي..فمن الصعب تحطيمه بتحويله إلى سلعة تجارية » أنديرس ستيفنسن

    هكذ تساءل أنديرز ستيفنسن في حواره مع كورنل وست للتعبير عن قدرة الوعظ الديني في الإفلات من النسخ الآلي الذي خلفته النزعة المادية الإستهلاكية وليس فقط قدرتِه على الإفلات وإنما قدرته أيضًا على التأثير باتخاذه صورة رد فعل وإقناع بالإستمرار في الكفاح والنضال والمقاومة.
    فكرة "مجتمع ما بعد العلمنة" والدعوة إلى تغيير النظرة تجاه الدين باعتباره أكثر "من بقايا ماضٍ ولّى ولن يعود". هي الفكرة التي يتبناها الفكر الغربي اليوم كرد فعل على انسداد الأفق بتلاشي حلم تحقيق السعادة عن طريق التقدم والرفاه. ولهذا فضل هوركهايمر ذو المرجعية الماركسية الإرتماء في أواخر حياته في أحضان اللاهوت الديني اليهودي وصاغ أفكاره الاخيرة في إطار هذا اللاهوت مؤكدًا أنه لا يمكن أن ينفصل الفكر الفلسفي عن البعد الديني باعتباره أفقًا يمكن أن يتحرر فيه الإنسان من طغيان العقلانية الأداتية[31]
    إن حالة اليأس واللامعنى التي خلفتها ثقافة الاستهلاك والمتع اللا محدودة قد زادت من اتساع نفوذ التوجهات الفكرية والفلسفية المناهضة للفكر العلماني التقليدي في الغرب ذلك أن أشهر ممثل للعقل الغربي اليوم وهو الفيلسوف الألماني يورغن هابرمس الذي يقدم نفسه كفيلسوف غير متدين نجده من أكبر منظري مرحلة ما بات يعرف بمجتمع ما بعد العلمانية. هابرماس يعتبر أن سطوة الثقافة الاستهلاكية وشيوعها لم يكن إلا بسبب العلمانية المتطرفة التي جعلت الإنسان مجرد رقم في معادلة. وأن حالة اليأس والحيرة التي بلغتها المجتمعات الإستهلاكية المعاصرة إن هي إلا ثمرة من ثمار النزعة العلمانية المتطرفة التي أبعدت العنصر الديني من مكونات السياسة والمجتمع. ويرى هابرماس بضرورة مأسسة المجتمع ما بعد العلمانية حيث يأخذالدين مكانته الطبيعية في الفضاء السياسي ويفتح له الباب أيضا في المجال المجتمعي بوصفه يوفر أحد جناحي الحياة ويعني بذلك البعد الروحي. والشهرة الواسعة التي يحضى بها هذا الفيلسوف جعلت من أفكاره تدخل حيز التطبيق العملي في الغرب فهو الفيلسوف الوحيد الذي فرض نفسه على المشهد السياسي والثقافي في ألمانيا حتى أن وزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر وصفه بــ"فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة" ونظريته في الفعل التواصلي أو العقلانية التواصلية كانت بمثابة هوية فلسفية لألمانيا ما بعد النازية ويكفي إلقاء نظرة على البرلمان الألماني البوندستاغ لنجد تمثيلية محترمة لحزب الاتحاد المسيحي الاجتماعي في بافاريا والتمثيلية الأكبر للحزب الحاكم الاتحاد الديموقراطي المسيحي لزعيمته انجيلا ميركل. وتقريبا نفس التوجه تشهده أغلب برلمنات أروبا من حالة انعطاف ملحوظ نحو الدين سواء سياسيا أو مجتمعيا. في الوقت الذي لا تزال أقلام بالية في عالمنا العربي تقدم نفسها علمانية تقدمية وهي تنهل من فلسفات بالية أثبتت فشلها عمليا وانفض عنها أصحابها. أقلامًا تدعونا بلا اسحياء ليلا نهارا إلى فصل الدين عن السياسة وفصل الدين عن الحياة العامة الفكرة التي باتت موضع مساءلة ومراجعة في الفكر والواقع الغربي المعاصر. لهؤلاء الذين عودونا الوصول متأخِّرًا وكأنهم يحاكون في سخرية فارق التوقيت الزمني مع الغرب يهمس ميكاييل فوسيل : «نجاح الحركات الإنجيلية والإسلامية في العالم وحضور الأطروحات الانثروبولوجية في المناقشات العمومية والوعي بالأزمة التي تميز كل الديمقراطيات الليبرالية عزز الشعور بأننا قد نكون دخلنا عصر ما بعد العلمنة»[32] ...

    [1]- جدل التنوير ص181 // هوركهايمر وأدورنو
    [2]- النظرية النقدية ص70 // مكاوي عبد الغفار
    [3]- النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت ص44 // كمال بومنير
    [4]- الإيديولوجيا ص3 // دافيد هوكس
    [5]- نفس المصدر ص11
    [6]- مفس المصدر ص5
    [7]- الإنسان ذو البعد الواحد ص124-125-126 // هاربرت ماركوز
    [8]- جدل التنوير ص259
    [9]- الإيديولوجيا ص9 // هوكس
    [10]- راجع بيتر بروكر الحداثة وما بعد الحداثة ص335-336
    [11]- نفس المصدر ص280
    [12]- الإيديولوجيا ص11 // هوكس
    [13]- جدل التنوير ص174
    [14]- الإنسان ذو البعد الواحد ص38
    [15]- نفس المصدر ص169
    [16]- نفس المصدر ص88
    [17]- جدل التنوير ص143-144
    [18]- راجع جدل التنوير ص144-147-148
    [19]- نفس المصدر ص145
    [20]- نفس المصدر ص163-164
    [21]- راجع الإنسان ذو البعد الواحد 68
    [22]- جدل التنوير ص169
    [23]- نفس المصدر ص164-165
    [24]- النظرية النقدية ص31 // مكاوي عبد الغفار
    [25]- راجع العلم والتقنية كإيديولوجيا ص67 // هابرماس
    [26]- الإنسان ذو البعد الواحد 121-122
    [27]- نفس المصدر ص131
    [28]- نفس المصدر ص127-128
    [29]- نفس المصدر ص116-120-254
    [30]- نفس المصدر ص202-203-209-210
    [31]- راجع النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت ص33 // كمال بومنير
    [32]- معتقدات الإنسان الديمقراطي // مقال لميكاييل فوسيل
    التعديل الأخير تم 03-23-2023 الساعة 03:02 PM
    التعقيد في الفلسفة بمثابة أوثان مقدسة يُحرَّمُ الإقتراب منها بالتبسيط أو فك الطلاسم
    فمن خلال التبسيط يتكشَّف المعنى السخيف -لبداهَتِه أو لبلاهَتِه- المُتخفي وراء بهرج التعقيد وغموض التركيب..

    مقالاتي حول المذاهب والفلسفات المعاصرة


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء