النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الفلسفة في الميزان

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2013
    الدولة
    مغرب العقلاء و العاقلات
    المشاركات
    3,002
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الفلسفة في الميزان


    الفلسفة (الحلقة الأولى)

    كتبه الدكتور سفر الحوالي

    لقد كانت الفلسفة قديماً تعني الحكمة، ثم صارت تعني الخروج عن ديانات الأنبياء، والفلاسفة فرقة مارقة تقوم على إنكار أصول الدين وأساسياته، فهم لا يؤمنون بالله ولا بملائكته ولا بكتبه ولا برسله، ولا يؤمنون باليوم الآخر، وهم فرق كثيرة، ومعلمهم الأول هو المشرك الوثني أرسطو، وهو أول من قال بقدم العالم، ثم جاء بعده الفارابي الذي كان مثل سلفه.. وفي عصرنا الحاضر هناك فلسفات لها أصولها ومناهجها، ولها انتشار في أوساط بعض الناس.

    إنكار الفلاسفة لحقيقة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر

    قال المصنف - الطحاوي - رحمه الله تعالى:

    [ وأما أعداؤهم ومن سلك سبيلهم من الفلاسفة وأهل البدع، فهم متفاوتون في جحدها وإنكارها، وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة المسمون عند من يعظمهم بالحكماء، فإن من علم حقيقة قولهم علم أنهم لم يؤمنوا بالله، ولا رسله، ولا كتبه، ولا ملائكته، ولا باليوم الآخر ] اهـ.

    درجات الطوائف من حيث قربهم وبعدهم عن الدين

    الشرح:
    يقول رحمه الله: [وأما أعداؤهم ومن سلك سبيلهم من الفلاسفة وأهل البدع] أي: أعداء الأنبياء والرسل، قال: [فهم متفاوتون في جحدها وإنكارها] أي: في جحد وإنكار الأصول الخمسة، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، قال: [وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة ].
    فـالفلاسفة هم أعظم الناس إنكاراً لهذه الأصول، وهم أبعد الناس عن الإيمان بالله تبارك وتعالى.
    وإذا أردنا أن نرتب المنتسبين إلى الإسلام، والذين يدعون الإسلام بحسب منزلتهم من الكفر، وبحسب درجة بعدهم عن حقيقة الدين، فإن أبعد الطوائف وأكفرها جميعاً هي طائفة الفلاسفة، وكفرهم كفر محض؛ لا يخالطه إيمان، وإنما قد يصانعون أهل الإسلام، فيدَّعون شيئاً من الإيمان، أو يقربون بين الفلسفة والإسلام.
    ثم تأتي بعد هذه الطائفة في الكفر طائفة الباطنية، والتي هي أقرب الطوائف شبهاً بـالفلاسفة، ولهذا نجد أن الفلاسفة ينتسبون إلى الباطنية، فمثلاً نجد أن ابن سينا، ونصير الكفر الطوسي، هما من الباطنية في الأصل، إلا أنهما ينتسبان إلى الفلسفة ويدينان بها، وبالتالي فيسهل على هؤلاء أن يدعوا أنهم من أهل الإيمان ومن أهل الإسلام، وقد يخفى أمرهم وحالهم على الناس.
    والباطنية فرق كثيرة مثل: الإسماعيلية، والبهرة، والنصيرية، والدروز، والقرامطة، وقد يسمى الجميع قرامطة، وقد ظهرت منهم فرق كثيرة، مثل الخرمية أتباع بابك الخرمي، وغيرهم من الطوائف التي ظهرت تحت أسماء كثيرة، وهم لا يؤمنون ولا يدينون بالإسلام، لكنهم يتمسحون به ويدعونه.
    وكتابهم الذي يؤمنون به وهو أصل وأعظم كتبهم هو كتاب: رسائل إخوان الصفا، ومن نظر في هذا الكتاب ظهر له فيه الفلسفة اليونانية مركبة على الإيمان بمبادئ أرسطو، ومن هنا عرفنا أنهم أقرب الناس إلى الفلاسفة، وأبعد الناس عن الإسلام، فدينهم في الحقيقة مركب من دين الفلاسفة .
    فهؤلاء الباطنية بجميع شعبهم وفرقهم هم أكفر الخلق مع الفلاسفة .
    ثم بعد ذلك تأتي الجهمية الغلاة الذين ينفون جميع الصفات، ولا يثبتون شيئاً في الحقيقة، فهم معطلة لا يؤمنون بشيء، ولا يثبتون خالقاً، ومع هؤلاء أو قريب منهم الصوفية والشيعة الغلاة؛ لأن الصوفي إذا غلا أصبح باطنياً، وإذا غلا الباطني أصبح فيلسوفاً، وهذه صورة تقريبية، والشيعي إذا غلا صار رافضياً، فإذا غلا الرافضي أصبح باطنياً، فإذا غلا الباطني أصبح فيلسوفاً محضاً من أتباع الفلاسفة .
    ومن هنا يظهر مقدار التقارب بين الفلاسفة والباطنية .
    أما كلمة (الشيعة) فهي كلمة عامة، فلم تكن تطلق في الصدر الأول من الإسلام على من يكفر أبا بكر وعمر، فإن هذا الأمر لم يكن أي مسلم يسمعه ولا يرضى به أصلاً، إنما كان الشيعي هو الذي يفضل علياً على عثمان، وبعضهم كان يفضله على أبي بكر وعمر، وهؤلاء هم الغلاة، إلا أن الأمر تطور فيما بعد حتى ظهرت الروافض في زمن زيد بن علي -كما سبق أن ذكرنا ذلك- ثم بعد ذلك دخلتهم الفلسفة والاعتزال، ودخلهم الشرك، وبناء المشاهد والقبور وما إلى ذلك، حتى ابتعدوا جداً، ثم غلت منهم الفرق المعروفة كـالنصيرية، والإسماعيلية، فإن هؤلاء غلوا غلواً بعيداً عن الدين وعن الإسلام تماماً. وغلاة الروافض مثل غلاة الجهمية، نستطيع أن نجعلهم بدرجة واحدة، فهم لا يثبتون شيئاً مطلقاً، فكفروا بالله سبحانه وتعالى، فيكونون بذلك قد كفروا بالركن والأصل الأول من الأصول الخمسة للدين، وهو الإيمان بالله، والموجودون اليوم من غلاة الروافض، والذين يزعمون أنهم شيعة، هم في الأصل مشركون يعبدون غير الله، ويدعون غير الله؛ لأنهم جعلوا صفات الألوهية لأئمتهم ولزعمائهم.
    ثم يأتي بعد هؤلاء أصحاب البدع غير المكفرة؛ كـأهل الكلام والمؤولين للصفات كـالأشاعرة وأشباههم، والزيدية، وهم أقرب فرق الشيعة إلى أهل السنة على ما فيهم، وأقرب فرق الخوارج إلى أهل السنة -على ما في الخوارج- هم الإباضية .
    فهذه صورة مجملة لترتيب الناس بحسب بعدهم من الدين وبُعدهم عن حقيقته.
    والشاهد: أن الفلاسفة هم أبعد الناس عن دين الأنبياء، وعن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

    ظهور الفلسفات الحديثة

    إننا في حديثنا عن الفلسفة نتناول أنواعاً كثيرة منها، وإن كان المصنف رحمه الله قد تعرض هنا للفلسفة القديمة؛ لأنها هي المعروفة، لكن يوجد الآن في العالم فلسفات كثيرة، أما الفلسفة القديمة -وهي فلسفة اليونان عموماً، كفلسفةسقراط وأفلاطون وأرسطو وأمثالهم- فقد أصبحت الآن في حكم التاريخ، وأصبحت تدرس ضمن تاريخ الفلسفة على أنها مجرد تاريخ.
    أما الفلسفات الحديثة فقد ظهرت في القرن التاسع عشر الميلادي -وقد ظهرت قبل ذلك، إلا أنها أكثر ما ظهرت واشتدت في القرن التاسع عشر- ثم امتداداً لها ظهرت فلسفات في القرن العشرين، لها أنظمة ومناهج أخرى، فكانت الفلسفة المثالية، وهي من أشهر الفلسفات التي نادى بها هيجل في القرن التاسع عشر، ثم ظهرت بعد ذلك الفلسفة الوجودية، وهي أكبر وأشهر الفلسفات التي ظهرت في القرن العشرين، وقبل ذلك ظهرت الفلسفة التجريبية، وهي التي ما يزال ينتسب إليها أكثر الغربيين إلى اليوم.
    أما في أمريكا فإن الفلسفة الرائجة التي يدين بها الناس هي الفلسفة العملية، والتي يسمونها: البراجماتية، وهي لا تؤمن بأي شيء، ولا يهمها من أي شيء إلا نتيجته العملية.. فلا يهمهم النظريات، إنما الذي يهمهم هو النتيجة العملية لأي فكرة، فالمقياس والمعيار عندهم لأي فكرة هو نتيجتها وثمرتها العملية؛ وهي بهذا فرع من فروع المذهب النفعي، أو الفلسفة النفعية التي لا تعطي الأشياء قيماً مجردة، وإنما قيمة كل شيء بحسب منفعته.
    وأول من نادى بالمذهب النفعي هو فيلسوف إنجليزي اسمه بنتام، ثم بعد ذلك ظهر وليم جيمس ودعا إلى المذهب البراجماتي الموجود الآن في أمريكا، ثم بعد ذلك موريس... إلخ.
    فالمقصود: أن الفلسفات اليوم كثيرة جداً في العالم، وأشهرها الفلسفة الشيوعية، التي هي في الأصل مشتقة من فلسفة هيجل، التي هي فلسفة ماركس وإنجلز، والتي بني عليها المذهب المادي الشيوعي، وهي أكثر الفلسفات ظهوراً وشمولاً، وقد بنيت عليها ثورات وحقائق واقعية.
    فهذه الفلسفات كلها بابها واحد، وحكمها واحد، لكن كلام المصنف هنا عن الفلسفة التي كان أصحابها يدّعون الإسلام وينتسبون إليه.. ما موقفهم من هذه الأصول الخمسة؟ لأنه يريد أن يبين بعد ذلك موقف المعتزلة وغيرهم من الفرق من أركان الإيمان الأساسية الخمسة، وقد ذكرهم بحسب بُعدهم عنها، وسوف يبين عقيدة الفلاسفة في الله، وعقيدتهم في الإيمان باليوم الآخر، وعقيدتهم في الكتب، وفي الرسل، وهذا الكلام الذي ذكره الشيخ هنا هو في الأصل ملخص ومنقول من كتاب إغاثة اللهفان، ولهذا ينبغي الرجوع إليه ضرورة؛ لأنه يعين بإذن الله على فهم هذه الجملة، ويعطي فكرة عن الفلسفة عموماً التي تعرض لها المصنف هنا؛ لأن هناك صعوبة في فهم أفكار هؤلاء الفلاسفة ونظرياتهم.

    كلام ابن القيم عن الفلسفة ومفهومها

    وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان كلاماً موجزاً وواضحاً يعين إن شاء الله على فهم هذه الطائفة التي تغلغلت ودخلت في الأمة، ولا يزال لها أتباع إلى الآن، وهناك الآن مدرسة في أمريكا تتبنى الأفكار القديمة -والتي تسمى بالفلسفة الخالدة- وتنشرها بين المسلمين، فلا شك أن التأثير والتأثر حاصل بين الماضي والحاضر، وأن هؤلاء لم يتركوا باباً ولا منفذاً لمحاربة هذا الدين إلا ودخلوا منه، ومن ذلك هذه الفلسفات.
    يقول ابن القيم رحمه الله: "فصل في ذكر تلاعبه -أي الشيطان- بـالدهرية .
    وهؤلاء قوم عطلوا المصنوعات عن صانعها -يعني الدهرية والفلاسفة -وقالوا ما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم: ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ))[الجاثية:24]"، ولذلك سموا: الدهرية، والزنادقة، فقيل: إن سبب تسميتهم بـالزنادقة هي من (زندقي)، وهي كلمة فارسية بمعنى الدهر أو الزمان، وهم لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ولا يؤمنون بالبعث من بعد الموت.
    ثم ذكر بعض أصول فرقهم الثلاثة فقال: "فسرت هذه البلايا.." وهي بلاياهم التي هي: تعطيل الله سبحانه وتعالى، والقول بقدم العالم، وتعطيل الكون عن الخالق.. قال: "فسرت هذه البلايا الثلاث في كثير من طوائف الفلاسفة لا في جميعهم"، أي أنه ليس كل الفلاسفة على هذا التعطيل التي تدعيه هذه الطائفة.
    ثم يذكر تعريف الفلسفة فيقول: "فإن الفلسفة من حيث هي لا تعطي ذلك"، أي: أن الفلسفة من حيث هي -كما يزعم أصحابها- لا تقتضي بالضرورة هذا الإلحاد، فقد يمكن أن يتفلسف الإنسان ويخالف هؤلاء؛ ولذا فإنهم فرق كثيرة جداً، يقول: "فإن معناها محبة الحكمة، والفيلسوف أصله (فيلاسوفا) أي: محب الحكمة، فـ(فيلا) هي المحب، و(سوفا) هي الحكمة"، وكلام ابن القيم رحمه الله هنا يدل على علمه وتمكنه؛ فإن المعلوم حتى الآن في قواميس اللغة: أن الفيلسوف معناها: محب الحكمة، أي أن الكلمة يونانية هندية يشترك فيها الهند واليونان؛ لأن الهنود والأوروبيين من جنس واحد وهو الجنس الآري، ولهذا فأصل الفلسفة واحد من بلاد الهند واليونان، وقد حصل بينهم نوع من التلاقح أو اللقاء الفكري.
    فأصل الفلسفة ومعناها: محبة الحكمة، وكل من يحب الحكمة فهو فيلسوف أو يسمى فيلسوفاً؛ ولهذا فإن من أصح الأقوال في سبب تسمية الصوفية بهذا الاسم: أن الهنود يسمونهم (السوفية)، أي: سوفيا، ومعناها: الحكماء، أو أهل الحكمة، ثم لما دخلوا في الإسلام نقلت كما هي العادة في إبدال حروف الصفير بعضها ببعض، ونسي الأصل، وقيل: إنهم سموا بذلك نسبة إلى الصوف.
    أصح الطوائف حكمة من كانت حكمتهم أقرب إلى حكمة الرسل
    ثم يقول ابن القيم : "وأصح الطوائف حكمةً من كانت حكمتهم أقرب إلى حكمة الرسل"، فهناك أمم كثيرة تدعي الحكمة، ولهم أشعار وأخبار وأقوال وكتب في الحكمة، مثل كتاب: كليلة ودمنة - الذي وضعه الحكيم بيدبا وترجمه ابن المقفع، وبيدبا حكيم هندي قديم، وضع هذا الكتاب على لسان الطير؛ ليبين كيف يعيش الإنسان.. وكيف يتعامل.. وكيف تكون نتيجة المراوغة والخيانة، ونتيجة الصدق والكذب.. فهذه كلها من الحكمة؛ لأن فيها عبراً.
    ولا توجد هناك أمة ليس لها دين ولا إيمان ولا كتب؛ لأن حياة الناس لا تقوم إلا بشيء من ذلك، ولا يمكن أن تقوم حياة الناس بالفوضى، وإنما بشيء مما يضبط أمور الناس، ولهذا فإن الأمم التي ليس لديها كتاب ولا رسول تستفيد بمثل هؤلاء الحكماء؛ لأنها تعيش في ظلام دامس، والنبوة نور، فمن أشرقت عليه شمس الرسالة مشى في النور، ومن عاش دون رسالة فإنه في ظلام، لكن قد توجد في الظلام بعض العلامات من جذوع أشجار وأحجار، ربما يتلمسها الإنسان فيعيش شيئاً ما من الحياة في هذا الظلام، وهو أفضل من أن يعيش في ظلام ليس فيه أيُّ علامة.
    وهذا التشبيه هو الذي يمكن أن نصف به مثل هذه العلوم المتمثلة في حكمة الهند وحكمة اليونان، ومن حكمائهم: طاغور الشاعر الهندي المتأخر، الذي كان له حكم يقولها كثيراً، وفيها عبر، ومنهم: تولستوي، وهو حكيم روسي له حكم كثيرة قبل الثورة الشيوعية، ويقال: إنه أسلم، والله أعلم. ففي كل أمة يوجد حكماء يحاولون أن يعرفوها ضرورة استعمال العقل، وأن الخيانة لا خير فيها، وأن الصدق ضروري.. وهكذا، وكل أمة تسميهم: حكماء، وتفخر بانتمائهم إليها.
    إلا أن أعلى وأرقى وأفضل أنواع هذه الحكمة هي ما كان موافقاً لحكمة الأنبياء أو قريباً منها، فبقدر قربها مما جاءت به الرسل تكون درجتها في السمو، وبقدر بعدها تكون درجتها في السفول والعياذ بالله! وقد سمى الله سبحانه وتعالى ما أعطى الرسل حكمة؛ فهم أعظم الحكماء على الإطلاق، يقول ابن القيم رحمه الله مستدلاً لذلك: "قال الله تعالى عن نبيه داود: ((وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ))[ص:20]، وقال المسيح عليه السلام: ((وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ))[آل عمران:48].."، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ورد الكثير من الآيات في وصف ما جاء به صلى الله عليه وسلم بالحكمة، ومن ذلك ما ذكره الله سبحانه وتعالى في حق أمهات المؤمنين: ((وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا))[الأحزاب:34]. وقد جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم بأمرين: بالآيات التي أنزلها الله عليه، وهي هذا القرآن، وبالحكمة التي أنطقه الله تبارك وتعالى بها، وهي الوحي الآخر، قال صلى الله عليه وسلم: {وإني أوتيت القرآن ومثله معه}.

    أصل الحكمة وأساسها هو التوحيد والنهي عن الشرك

    إن أعظم الحكمة وأولها توحيد الله، ولا يمكن أن توجد حكمة ليس فيها توحيد لله، وكل حكمة بنيت على غير التوحيد فهي -كما أشرنا- مجرد إشارات أو علامات في ظلام دامس. فالحكمة الحقيقية هي ما كانت مأخوذة من التوحيد ومبنية عليه، ولذلك فإن الآيات التي تتحدث عن الحكمة في سورة الإسراء بدأت بالتوحيد وبالنهي عن الشرك في عبادة الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا))[الإسراء:22] * ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا))[الإسراء:23]، فذكرت بعد التوحيد طاعة الوالدين، والنهي عن الإسراف، وكيفية الإنفاق، والنهي عن الزنا، وعن قتل الأولاد، وعدم أخذ مال اليتيم، والوفاء في الموازين والمكاييل، والوفاء بالعهد، والنهي عن الكبر ((وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا))[الإسراء:37]، وهذه الأمور كلها من الحكمة، قال تعالى: ((ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ))[الإسراء:39]، هذه هي الحكمة الحقيقية.
    ثم قال: ((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ))[الإسراء:39]، فختمها أيضاً بالنهي عن الشرك.
    فأصل الحكمة وأساسها هو التوحيد، به تبدأ وبه تنتهي، ولا حكمة مع الشرك، ولهذا أنزل الله تعالى ثماني عشرة آية كلها في الحكمة، ولا يمكن أبداً أن يصل العالم إلى حكمة أعظم منها في توحيد الله سبحانه وتعالى، وفي معرفة حق الله، ثم حق الوالدين، ثم حق الأبناء، ثم حق الناس والتعامل معهم بجميع أنواع المعاملات، وانتهاءً بتربية النفس وتهذيبها على أن تكون صادقة أمينة وفية، غير متكبرة ولا متبخترة ولا مسرفة.. وهذا هو غاية الحكمة.
    يقول ابن القيم : "فالحكمة التي جاءت بها الرسل هي الحكمة الحقة المتضمنة للعلم النافع والعمل الصالح، للهدى ودين الحق، لإصابة الحق اعتقاداً وقولاً وعملاً". وذلك كما ذكرنا في هذه الآيات من سورة الإسراء.

    حكمة الأنبياء والرسل جمعت لمحمد صلى الله عليه وسلم

    يقول: "وهذه الحكمة فرقها الله سبحانه وتعالى بين أنبيائه ورسله"، أي: أعطاهم حصصاً وأنصبة منها، "وجمعها لمحمد صلى الله عليه وسلم"، فغاية الحكمة قد جمعها محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: "كما جمع له من المحاسن ما فرَّقه في الأنبياء قبله، وجمع في كتابه من العلوم والأعمال ما فرقه في الكتب قبله"، وزاد على ذلك.. "فلو جُمَعت كل حكمة صحيحة في العالم من كل طائفة، لكانت في الحكمة التي أوتيها النبي صلوات الله وسلامه عليه جزءاً يسيراً جداً لا يُدرِكُ البشر نسبته".
    فلو أخذنا أفضل ما عند الهنود من الحكم، والتي تأتي أحياناً في المجلات والجرائد وفي الإذاعة، باسم: حكمة اليوم، يقولون: قال بيدبا ... قال طاغور ... قال أفلاطون ... قال أرسطو ... فلو جمعنا أفضل ما عندهم من الحكم الصائبة الصادقة، وجمعنا جميع ما عند الأمم جميعاً وانتقينا أفضل ما عندهم؛ لكانت نسبتها بالنسبة إلى ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يدرك البشر نسبته، وذلك مثل نسبة أي معلوم إلى ما لا يتناهى، أي: مثل نسبة الشيء الثابت إلى ما لا يتناهى، وهي القاعدة الرياضية المعروفة، بمعنى: أنك لو افترضت أي رقم ثم نسبته إلى ما لا نهاية له؛ فإنه يكون لا شيء مهما كان هذا الرقم كبيراً.
    وهكذا كل حكم الحكماء بالنسبة إلى ما جاءت به الأنبياء والرسل -وخاصة محمداً صلى الله عليه وسلم- مهما كثرت؛ فإن نسبتها إلى هذه الحكمة الإلهية المبنية على التوحيد لا تعد شيئاً، ولا تكاد تعرف.

    معنى كلمة فيلسوف

    يقول: "والمقصود أن الفلاسفة اسم جنس لمن يحب الحكمة ويؤثرها"، هذا هو الأصل أن الفلاسفة اسم جنس عام لكل من يحب الحكمة ويؤثرها، ولذلك لما سئل أبو العلاء عن الشعراء الثلاثة المشاهير: المتنبي، وأبي تمام، والبحتري، وقد كان أبو العلاء فيلسوفاً ملحداً زنديقاً، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا بالملائكة ولا بالكتب ولا بالنبيين، فلما أراد أن يصنفهم قال: المتنبي وأبو تمام حكيمان، وإنما الشاعر البحتري . لأن المتنبي وأبا تمام يأتيان بالحكمة في كلامهما، كقول المتنبي :
    الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
    أي: أن الرأي قبل الشجاعة، وهذه حكمة طيبة، وكثير من شعر أبي تمام حكم، كقوله:
    أما والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
    فيقول أبو العلاء : إن الشاعر هو البحتري، أما المتنبي وأبو تمام فهما حكيمان، يأتيان بحكم تقبلها العقول، لكن الشاعر هو البحتري الذي يعبر عن مشاعر النفس، وعن أمور ليست مجرد كلام عقلي تقبله العقول، فـالبحتري شاعر لا يخاطب العقل فحسب، وإنما يخاطب الوجدان والشعور.
    الشاهد: أن الفلسفة اسم جنس عام لكل من يحب الحكمة، ولذا كان المعري يسمى: فيلسوف المعرة، وأحياناً إذا قرأت بيتاً من شعره تجد أنه قد كتب تحته: فيلسوف المعرة، وهو أبو العلاء المعري الزنديق الملحد.
    يقول ابن القيم: "وقد صار هذا الاسم" أي: اسم الفلاسفة "في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه"، وهذا هو المشهور الآن عالمياً، فعندما يقال: فيلسوف؛ فإنه يعني الذي خرج عما عليه الأنبياء، فهو لا يؤمن بالأديان وإنما يؤمن -في نظره- بالعقل، ولهذا أول ما بدأ الإلحاد عند الغربيين كان عن طريق الفلاسفة، وأشهر ملاحدة الغربيين هم فلاسفتهم، فإذا قلنا: فيلسوف؛ فإن معناه: أنه لا يؤمن بـالنصرانية، ولا يؤمن بما في الإنجيل، وإن قال: إنه فيلسوف نصراني، فهو من باب النسبة فقط، لكنه هو خارج عما في الأناجيل، وعما في العهد القديم والجديد، ولهذا يسمونه: المفكر الحر، والفلاسفة يسمون: المفكرين الأحرار؛ لأنهم تحرروا من سلطة الكنيسة ومن قبضة الدين التي كانت تفرض عليهم.

    الكلام على الفلسفة المشائية

    يقول: "وأخص من ذلك: أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو، وهم المشاءون خاصة". وهذه هي الفلسفة المشائية، وقيل: إنهم سموا بذلك لأنهم كانوا يفكرون وهم يمشون، وهذا نوع من الناس يفكر دائماً حتى وهو يمشي، ويتكلم وهو يمشي، وهناك طرفة كانت تقال للتندر والضحك، إلا أنها صارت الآن من الحقائق النفسية المعروفة، وهي: أن الفرق بين الجنون وبين الفلسفة شعرة لا غير، أي أنه لا فرق بينهما، فبإمكانك أن تقول عن المرء: إنه مجنون أو فيلسوف، فالفرق بينهما يسير جداً، فـ الفلاسفة يعيشون حياتهم يفكرون في أشياء خارجة عن واقع الناس.
    وهناك الفلاسفة النباتيون، الذين يعيشون على النبات ولا يأكلون اللحم، يقول أبو العلاء المعري :
    غدوت مريض العقل والدين فأتني لتعرف عن بعض العلوم الصحائح
    يقول: إن الناس كلهم مرضى العقول، مرضى القلوب، مرضى الدين، فائتوني حتى تعرفوا العلوم الصحائح، ثم يبين هذه العلوم فيقول: فلا تأكل ما ألقت الطير... إلخ.
    أي: لا تأكل البيض، وهذا الكلام لما قاله أبو العلاء أُخذ على أنه حكمة عظيمة؛ لكن لو جاء مجنون لا يسمي نفسه شاعراً ولا فيلسوفاً، وقال: لا تأكلوا البيض ولا الدجاج، فسوف يسخر منه الناس، مع أن هذه العبارة وعبارة المعري واحدة، والفكرة واحدة، لكن لما جاءت على لسان أبي العلاء قالوا عنها: إنها حكمة عظيمة، ويفتخرون بها، ويصنفونها في أنواع الفلسفات، وعندما جاءت على لسان المجنون العادي قالوا: هذا مجنون! ومن هنا يتبين أن الفرق بين الجنون والحكمة شعرة، والدراسات النفسية الحالية تؤكد هذا الشيء تماماً، فإن المجانين إما فلاسفة أصيبوا بجنون، وإما هم مجانين في الأصل، فالفرق بينهما ليس بكبير.
    وإذا قيل: إن الفلاسفة يطلق على أتباع أرسطو، فإن المقصود: الفلاسفة المشاءون الذين يفكرون وهم يمشون، مع أن الله سبحانه وتعالى قد أعطاهم النور، وأرسل إليهم الرسل، وما ترك عز وجل -من فضله ورحمته- قرية إلا وبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياته، ولكنهم أعرضوا عن هذا الخير والنور، وأخذوا يمشون ويفكرون ويجتهدون بآرائهم الفجة المنحرفة، ولهذا أخرجوا ما سنذكره من أمور غريبة، لا يكاد يصدق العقل أن أحداً من البشر يقولها.
    يقول ابن القيم : "وهم الذين هذَّب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها"، أي أن أشهر من عرَّفها وشرحها من المنتسبين إلى هذه الملة، هو الرئيس -كما يسمونه- أبو علي بن سينا صاحب كتاب الإشارات، فهو الذي سهل كلام أرسطو وشرحه.
    يقول: "وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة "، لكن دخل معهم أعداء الإسلام المنافقون من الروافض ؛ لأن ابن سينا في الأصل رافضي، فقد ذكر شيخ الإسلام وابن القيم والذهبي في سير أعلام النبلاء، أن ابن سينا أصله من الإثني عشرية، ثم دخل في دين العبيديين، وتفلسف وأخذ بكلام المشائين.
    يقول: "ومقالتهم واحدة من مقالات القوم، حتى قيل: إنه ليس فيهم -أي: الفلاسفة القدماء جميعاً- من يقول بقدم الأفلاك غير أرسطو وشيعته"، أي أن كل الفلاسفة القدامى مقرون بوجود الله، وأن الله تعالى هو الذي خلق هذا الكون، والذين يقولون: إن هذه الأفلاك ليس لها أول، وهي تتحرك بذاتها، هم فرقة شاذة، وهم أتباع هذا المشرك الوثني أرسطو .
    يقول: "والأساطين -أي: من الفلاسفة- قبله كانوا يقولون بحدوثه -أي: بحدوث العالم- وإثبات الصانع، ومباينته للعالم، وأنه فوق العالم وفوق السماوات بذاته، كما حكاه عنهم أعلم الناس في زمانه بمقالاتهم: أبو الوليد بن رشد"، وهو من المنتسبين للإسلام، وهو الذي عن طريقه عرفت أوروبا أرسطو، ولذلك فإن الغربيين يعدون ابن رشد فيلسوفاً أوروبياً، ويسمونه أفرَّش، ويعدون كلامه كلاماً أوروبياً، وهو الذي ترجم كلام أرسطو .

    شيخ الإسلام أعلم الناس بكلام الفلاسفة

    لقد كان ابن رشد أعلم الناس في زمانه بـالفلاسفة، إلا أنه جاء بعده من هو أعرف منه،
    فمن يقرأ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، يستطيع أن يقسم بالله باراً غير حانث أنه أعلم الناس بكلام الفلاسفة، فلا يمكن أن يوجد من هو أعلم منه، وهذه كتبه موجودة عندنا شاهدة بذلك.
    فلا نكاد نجد أحداً يعلم مذاهب الفلاسفة جميعاً مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، حتى إنه يعرف عن فلسفة كل مذهب منهم أكثر مما يعرفه بعضهم عن بعض؛ بل إنه يعرف عن فلسفة بعض الطوائف أكثر مما يعرف أساطينها عنها، ومن ذلك أنه يذكر كلام ابن سينا أو الفارابي عن أرسطو، ويصحح كلامهم، ويبين ما قد يقصده أرسطو من كلامه، ومخالفة غيره من الفلاسفة له -كـسقراط وغيره- وهذا شيء عجيب جداً من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرفته بكلامهم ونقضه له!
    وهناك فرق كبير بين شيخ الإسلام وبين غيره ممن رد على الفلاسفة، كـ أبي حامد الغزالي رحمه الله، الذي اشتهر عند الناس أنه أكبر من رد على الفلاسفة، وإذا ذكر عدو الفلاسفة قيل: إنه الغزالي ؛ لأنه ألف كتاب تهافت الفلاسفة، وفي أول كتابه هذا ذكر منهجه فقال ما معناه: (ونحن نستنصر على هذه الفرقة بكلام جميع أهل الإسلام من معتزلة، ومتكلمين، ومرجئة، وكرامية )، فهو يبين أن الفلاسفة خارجون عن جميع الملل، فكل الملل تحاربهم وترد عليهم، وهذا هو منهج الغزالي، أنه يرد عليهم بكلام كل طائفة؛ لأنهم أعداء لجميع الطوائف، بينما منهج شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يأتي بكلامهم كله ثم يبسط الرد عليهم، وإذا وجد أن أحداً ممن رد عليهم قد أخطأ، فإنه يخطئه ويرد عليه الرد الصحيح، وإذا انتقدهم البعض خطأً خطأه شيخ الإسلام، وقال: إن كلامهم لا يحتمل ذلك، بل قد يحتمل معنى آخر، ويصحح كلام منتقدهم، ثم يرد هو عليهم رداً من جميع الوجوه موافقاً للكتاب والسنة.. فأين شيخ الإسلام من الغزالي الذي يرد عليهم بكلام من يخالفونهم فقط، دون النظر إلى موافقة الكتاب والسنة؟!
    ولـابن رشد كلام عجيب جداً في كتاب مناهج الأدلة، والذي يتبادر إلى من يقرؤه أنه يحمل منهج أهل السنة والجماعة.. يقول ابن رشد : "القول في الجهة.. وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كـأبي المعالي ومن اقتدى بقوله -إلى أن قال-: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماوات نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك".
    وإن من يقرأ كلام ابن رشد هذا فإنه يقول: هذا كلام صحيح يوافق منهج أهل السنة. وهو في الحقيقة خطأ؛ لأنه يساوي بين أقوال الحكماء وبين ما جاء به الأنبياء من تشريع عن الله عز وجل.
    وقد رد ابن رشد على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة بكتاب تهافت التهافت، فيقول له: أنت أيها الغزالي أشعري، وكلامكم أنتم الأشاعرة هو الذي لا يقبله العقل ولا النقل، أما نحن فإن كلامنا موافق للشرع لأن الشرع؛ والحكمة والفلسفة سواء. أي: أن كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق، وكل ما جاء به أرسطو وأفلاطون حق، فهما سواء، ولا فرق بينهما.
    فالانحراف والخلل دخل على ابن رشد من هنا، ولذلك فقد أصبح أكثر انحرافاً وضلالاً من الغزالي أو من الأشاعرة، مع أنه يوافقنا على كثير مما نقول، لكن مشكلته أنه يقول ذلك، ويقول: إن الفلسفة والحكمة جاءت به، وتهدي إليه، فهما سواء.
    فهذه هي المخالفة المنهجية الواضحة بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أهل السنة والجماعة، وبين هؤلاء، فمنهج أهل السنة يقول: أولئك وثنيون مشركون ضالون، ولسنا بحاجة لهم على الإطلاق، ولا نذكر كلامهم أبداً إلا في مقام الرد عليهم، لكن ابن رشد يريد أن يجعلهما سواء.. فهذا حق وهذا حق، ونحن نقول: إنما الحق ما جاءت به الرسل، وأما أن العقول السليمة تدل على ما جاءت به الرسل، فهذا حق لا شك في ذلك، لكن ليس هذا من باب إثبات حكمة أرسطو وأفلاطون، بل كل عاقل فهو يرى في نفسه أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو غاية الحق، الذي لا تستطيع العقول أن تأتي بمثله أبداً.

    قدماء الفلاسفة كانوا يعظمون الرسل ولا يتكلمون في الإلهيات

    ثم يذكر ابن القيم كلاماً عجيباً يدل على علمه واطلاعه وإحاطته بالفكر العالمي، كما كان شيخه شيخ الإسلام رحمهما الله، فقد ذكر تاريخهم وتطورهم، مبيناً المتقدم منهم والمتأخر، والاختلاف الذي وقع بينهم، وهذا شيء عجيب!
    قد نقول: إن معرفة التاريخ في الوقت الحاضر أمر سهل، لكن قديماً كيف كانوا يعرفون؟!
    يقول ابن القيم :
    "وكذلك كان أساطينهم ومتقدموهم، العارفون فيهم -يعني من الفلاسفة- معظمين للرسل والشرائع، موجبين لاتِّباعهم، خاضعين لأقوالهم، معترفين بأن ما جاءوا به طور آخر وراء طور العقل"، أي: شيء لا يمكن للعقل أن يصل إليه.. "وأن عقول الرسل وحكمتهم فوق عقول العالمين وحكمتهم"، وهو -تقريباً- نفس الاتجاه الذي أيده ابن رشد . قال:
    "وكانوا لا يتكلمون في الإلهيات" أي: أن الفلاسفة القدماء قبل أرسطو كانوا لا يتكلمون في الإلهيات -وإن كان نسب إليهم كلام بعد ذلك- "ويسلمون باب الكلام فيها إلى الرسل، ويقولون: علومنا إنما هي الرياضيات والطبيعيات وتوابعها"، فما ضرهم لو بقي الأمر على هذا النحو؟! ولذلك فإن أخطر قضية فكرية في العالم، أن الفلاسفة خرجوا من الكلام في العلوم الطبيعية والرياضية، وخاضوا في وجود العالم وفي قدمه، وفي نشأة الكون والحياة، فكفروا وأكفروا الناس، ولو أنهم اقتصروا على هذه العلوم لما كان هناك تعارض، فنقول لهم: اتركوا ما يتعلق بالإله وباليوم الآخر وبالغيب، ودعوه للرسل وللكتب، أما الطبيعيات والتجارب التي أمركم الله تعالى أن تبحثوا فيها، فلا بأس من الخوض فيها، فسيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، وانظروا ماذا في السماوات والأرض، لكن لا تتجاوزوا الكلام في أمور الغيب، ولو بقيت الأمور هكذا لما شهدت أوروبا -ولا العالم الذي أصبح كله تابعاً لها الآن مع الأسف- هذا الصراع الفكري، والعداوة بين العلم والدين، ولو ظلوا يبحثون في موضوع الطبيعيات والرياضيات، كما كان فيثاغورس وأرشميدس وغيرهم ممن كان باحثاً في هذه العلوم، وترك باب الإلهيات؛ لكان هذا أسلم.

    أرسطو هو أول من قال بقدم العالم

    يقول: "وقد حكى أرباب المقالات.." وهم المؤلفون في الفرق، والمقالات: هي اعتقادات الفرق، وذلك مثل مقالات الإسلاميين للأشعري، أي: أقوالهم ومذاهبهم وآراؤهم، يقول رحمه الله:
    "وقد حكى أرباب المقالات أن أول من عرف عنه القول بقدم هذا العالم أرسطو - وهو الذي يعدونه المعلم الأول- وكان مشركاً يعبد الأصنام، وله في الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره، قد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين، حتى الجهمية، والمعتزلة، والقدرية، والرافضة، وفلاسفة الإسلام -أي: الذين انتسبوا إلى الإسلام- أنكروه عليه، وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء"، حتى الفلاسفة الذين ينتسبون إليه، ولكونهم ينتسبون إلى الإسلام لم تستطع عقولهم أن ترضى أن يقروا أرسطو على كل ما قال؛ إذ أن فيه كلاماً لا يقبله العقل أبداً.
    ومن ذلك أنه "أنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئاً من الموجودات، وقرر ذلك بأنه لو علم شيئاً لكمل بمعلوماته، ولم يكن كاملاً في نفسه.. فهذا غاية عقل هذا المعلم والأستاذ".. سبحان الله! من كان هذا كلامه فهو أستاذ الضلالة والعمى.
    يقول: "وقد حكى ذلك أبو البركات، وبالغ في إبطال هذه الحجة وردها"، وأبو البركات عند الفلاسفة هو أبو البركات بن ملكا، فيلسوف من أهل بغداد في القرن السادس، عاش قبل شيخ الإسلام رحمه الله، وقد كان يهودياً فاعتنق الإسلام في آخر عمره، وألف كتاباً مطبوعاً اسمه: المعتبر في الحكمة، وهو على منهج ابن رشد تقريباً؛ فقد نقضَ وردَّ كلام الفلاسفة، وقال: إن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، ولذلك دخل في الإسلام، لكنه بقي متفلسفاً، ويشبهه في ذلك من المعاصرين روجيه جارودي ومصطفى محمود، وقلّ أن تجد أحداً أذهبت عقله الفلسفة ثم عاد سليماً، ولهذا فإن الخير أن يتجنبها الإنسان، وألا يخوض فيها إلا لمعرفة باطلها، مع تمكن الإيمان من قلبه؛ لأن من دخل فيها فإما أن يؤمن بها ثم يرجع، وإما ألا يرجع سالماً، ولهذا كان القاضي أبو بكر ابن العربي -وهو تلميذ من تلاميذ أبي حامد الغزالي- يقول: (شيخنا أبو حامد دخل في الفلسفة ولم يستطع أن يخرج منها)، وهكذا قلَّ من يدخل في الفلسفة في مرحلة الشك ثم يسلم وإن عاد واهتدى.

    حقيقة معلميهم: أرسطو والفارابي

    يقول: "فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه.."، فهو معلم أتباعه لا معلم المسلمين ولا الإنسانية كما يقال يقول: "فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه هو: الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر"، فهذه الأصول الخمسة كان يكفر بها أرسطو جميعاً.
    ثم ذكر ابن القيم تعظيم أتباعه له، وأنه وضع المنطق -كما أن الخليل بن أحمد وضع عروض الشعر- وأن الفارابي هو المعلم الثاني، لكن الفارابي وضع التعاليم الصوتية، كما وضع أرسطو التعاليم الحرفية، والتعاليم الصوتية التي وضعها الفارابي هي الموسيقى، فـالفارابي هو المعلم أو الفيلسوف الموسيقي الذي لم يعرف العالم القديم مثله؛ لأنه كان يضرب على القيثار فيهز القوم من الطرب حتى يضحكوا جميعاً، ثم يغير الضرب على القيثار حتى يبكوا جميعاً! هكذا كان يؤثر في القلوب الضعيفة المدمنة على هذا اللهو، لكن المؤمن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أن هذا حرام، وقلبه قوي بالإيمان؛ فإن هذا اللهو والموسيقى عنده مثل نهيق الحمير أو نباح الكلاب، فيتأذى منه ويريد أن يفارقه ويبتعد عنه، فأصحاب القلوب المريضة الذين كانوا في عهد الفارابي كان يضحكهم ثم يبكيهم، وفي الأخير كان يعزف حتى يناموا جميعاً، ثم يخرج ويتركهم.. وهذا يدل على قوة التأثير!
    وهذا مما ينسب إليه، فهو المعلم في الموسيقى، وعند الفلاسفة أن الشعر والموسيقى هما أرقى الفنون، وبعضهم يجعل الفنون أربعة: الشعر، والموسيقى، والتمثيل، والحكمة، فأما التمثيل -ولله الحمد- فقد سلمت منه الأمة الإسلامية في تلك الفترة، وهذا مما نعجب له.. إذ كيف سلم المسلمون من التمثيل والمسرحيات، بالرغم من أنهم نقلوا كل ما عند اليونان؟! ولعل السبب -والله أعلم- هو أن الذوق العربي -والإسلامي عموماً- يرفض هذا التصنع، فلذلك أخذوا عنهم جميع الفنون، ولم يأخذوا كلامهم في المسرحيات وكيفيتها، ولا في أنواع الشعر؛ لأن العرب أصلاً يرون أن شعرهم غاية الشعر، وبيانهم غاية البيان، ويعتبرون كلام وشعر غيرهم رطانة أعاجم، ولذلك يسمي العرب الدابةُ: عجماء، ويسمون الذي لا يتكلم العربية: أعجمياً، وكأن الذي لا يتكلم العربية لا يتكلم شيئاً؛ لأنه لا يقول شيئاً ولا يفهم شيئاً إلا دعاءً ونداءً، ولذلك فلم يهتم أحد بترجمة كلام أرسطو في فن الشعر، فهذا أشد تلامذته حباً له يمر عليه مروراً عابراً لا يهمه أمره، لكن في هذا العصر، عصر الضعف والانحطاط، أصبحنا نسمع في المقابلات الشعرية من يقول: تأثرت بشعر إيليوت.. أو بشعر وردزورث، أو كلولردج، أو شيللي، وقد يكون تأثر بمن لا قيمة له عند قومه، فإن بعض الشعراء لا تعرفهم أممهم ولا دولهم، فأتينا نحن وأخذنا عنهم حتى الشعر، وأصبح القدوة هم شعراء الانحطاط من الغربيين وأشباههم، وكذلك فن التمثيل -كما يسمى- أخذ منهم برمته.. أفلام العنف، والجنس، والرعب، وكل المصائب، أخذها وقلدها -مع الأسف- متأخرو المسلمين، والله المستعان.
    فالمقصود: أن هذه الفنون الأربعة التي وضعها أرسطو، رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، ورد عليه أيضاً السيرافي، وغيرهم.
    منهج الفلاسفة في الكلام عن الدين وما يتعلق به
    ثم جاء المعلم الثاني بعد أرسطو وهو أبو نصر الفارابي، يقول ابن القيم : "وبالغ في ذلك" أي: الفارابي "، وكان على طريقة سلفه" يعني: على طريقة أرسطو "، من الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك فليس بفيلسوف في الحقيقة".
    هذه هي القاعدة عندهم، ففي أوروبا الآن إذا تحدث أحد عن الدين قالوا: ليس هذا فيلسوفاً، إنما هو مسيحي، ويقولون له: اذهب إلى الكنيسة ولا تتدخل في الفلسفة والعقل.. فالكلام عن الدين عندهم مهما جاء فيه من نظرية ومن تصور فإنه يعتبر من الدين وليس من الفلسفة في شيء، وهم إنما يخوضون في الفلسفة.
    وكل الجامعات العربية فيها أقسام خاصة بالفلسفة، مثل كلية الآداب في جامعة مصر؛ فإن فيها قسماً كبيراً للفلسفة، وقد تخرج منه أمثال الدكتور فؤاد زكريا، والدكتور زكريا إبراهيم، والدكتور علي سامي النشار، وفي جامعة الكويت قسم كبير ونشيط للفلسفة، فعند هؤلاء إذا أردت الكلام فلا تقل: قال الله وقال رسوله، ولو قلت: قال الله وقال رسوله، لقالوا: هذا دين فاذهب به إلى الأزهر!! فلا يبحثون في الدين، ولا يرون فيه أيّ فائدة، بل إن المهم عندهم هو الفكر المجرد، وعندما يتكلمون عن علم النفس الإسلامي، والنظريات الإسلامية، يأتون بكلام ابن سينا، والرازي وهو أبو زكريا الطبيب، والفارابي، ونصير الكفر الطوسي، فيوردون كلامهم على أن هذا هو كلام المسلمين، لكن لو تناول أحد موضوع: الإسلام والنفس. وقال: قال الله تعالى: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا))[الشمس:7-10]، وقال تعالى: ((إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا))[المعارج:19]* ((إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا))[المعارج:20]، أو ذكر أي آية تتكلم عن نفس الإنسان وطبيعته، وأكثر ما في القرآن هو الكلام عن نفس الإنسان، حتى الحديث عن التوحيد والإيمان في القرآن المقصود به هو إصلاح النفس، فموضوع القرآن هو إصلاح النفس بالإيمان والتوحيد والعبادة، لكن هؤلاء الملاحدة لا أحد منهم يقبل منك هذا الكلام، وكلام النظريات الإسلامية عن النفس هو عندهم ما يقوله ابن سينا وأتباعه، أي: ما ليس فيه رائحة الدين، إنما هو فلسفة محضة، فإذا تجرد الكلام من الوحي ومن نور الإيمان، أصبح عندهم راقياً وعالياً ومعتبراً به، فإذا قيل فيه بالوحي الذي هو النور أعرضوا عنه، وحالهم هذه مماثلة لما كان عليه الجاهليون من قبل : ((وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ))[الزمر:45].
    يقول: "فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك" أي: يكفر بهذه الأصول الخمسة، "فليس بفيلسوف في الحقيقة. وإذا رأوه مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، متقيداً بشريعة الإسلام، نسبوه إلى الجهل والغباوة". وذلك كما كان ابن سبعين يقول عندما يرى المسلمين يطوفون عند بيت الله الحرام، كان يقول والعياذ بالله: كالحمر تطوف حول الطاحون!! وهذا كلام من الكفر الشنيع والعياذ بالله! لقد كان يرى أن هذا الفعل غباوة، فيحتقرهم ويرميهم بالغباوة مهما تكن عقولهم.
    يقول: "فإن كان ممن لا يشكون في فضيلته ومعرفته، نسبوه إلى التلبيس والتنميس بناموس الدين استمالة لقلوب العوام"، فإذا وجدوا من لا يستطاع أن يشك في علمه وفي عقله وذهنه، لكنه متقيد بالدين، متبع للشريعة والإيمان، قالوا: هذا يضحك على الناس ليستدرجهم؛ لأن أكثر الناس -حسب زعمهم- عوام بهائم، فلو خاطبهم بالعقل لما فهموا، فيخاطبهم بالدين، ومن أعظم من يصفونهم بذلك الرسل صلوات الله وسلامه عليهم؛ لأنهم لو قالوا: إن الرسل لا عقل لهم -عياذاً بالله- لَقَتَلَهَم أتباعُ الرسل، لكنهم يقولون: إن الرسل لبسوا على الناس. فهذا دليل على كفرهم بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله. قال: "فالزندقة والإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفضيلة أو شرط"، فلكي يكون الإنسان فاضلاً عندهم فعليه أن يكون زنديقاً، وهذه هي نظرتهم.
    ثم يأتي ابن القيم رحمه الله بالإنصاف فيقول: "ولعل الجاهل يقول: إنا تحاملنا عليهم في نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله إليهم، وليس هذا من جهله بمقالات القوم وجهله بحقائق الإسلام ببعيد، فإن الذي يقول هذا الكلام هو من يجهل كلام القوم ويحسن الظن بهم، دون أن يسمع منهم شيئاً، وكثير من الناس يقول: لا يعقل أن يقول فلان مثل هذه الأقوال! مع أنه لم يقرأ ولم يسمع له شيئاً، فهو يحسن الظن بهم من غير دليل ولا بينة، فالذي يدافع عنهم إما أنه يجهل ما عليه القوم، أو أنه يجهل الإسلام، بالرغم من إقراره بنسبة هذه الأقوال إليهم، وهكذا الناس: إما أن يجهلوا ما عليه أعداء الإسلام وأهل البدع، وإما أن يجهلوا السنة والإيمان، وما أكثر من يجهلهما معاً! فهو لا يعرف الأعداء ولا يعرف الإسلام، وإنما تراه يدافع بغير علم.

    عقيدة الفلاسفة في الله تعالى

    ثم يشرع ابن القيم في بيان إيمانهم بالتفصيل، فيقول رحمه الله: "فاعلم أن الله -سبحانه وتعالى عما يقولون- عندهم"، أي: عند الفلاسفة "، كما قرره أفضل متأخريهم، ولسانهم، وقدوتهم الذي يقدمونه على الرسل أبو علي بن سينا : هو الوجود المطلق، بشرط الإطلاق"، فالله تعالى عندهم وجود مطلق بشرط الإطلاق، أي: لا نقيده بأي صفة من الصفات، إنما وجود مطلق هكذا، "وليس له عندهم صفة ثبوتية تقوم به"، أي: لا نقول: حي ولا قيوم ولا عليم ولا سميع ولا بصير، "ولا يفعل شيئاً باختياره ألبتة"، فينفون عنه الأفعال، فلا نقول: خَلَقَ، ولا رَزَقَ، ولا أعطى ومنع، ولا أضحك وأبكى، ولا أمات وأحيا، ولا أغنى وأقنى، فهم لا يؤمنون بهذا الكلام أبداً، "ولا يعلم شيئاً من الموجودات أصلاً"، وكما هو معلوم أن أكفر القدرية هم الذين ينكرون العلم، وهؤلاء يوافقونهم في إنكار العلم، وهذا من أوضح ما يكفَّر به الفلاسفة ؛ لأنهم ينكرون العلم، ابتداءً من أرسطو وانتهاءً بمن جاء بعده، قال: "لا يعلم عدد الأفلاك، ولا شيئاً من المغيبات، ولا له كلام يقوم به ولا صفة"، وهذا هو حال الله سبحانه وتعالى عندهم.

    الفرق بين الوجود الحقيقي والوجود الذهني

    يقول ابن القيم : "ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر في الذهن، لا حقيقة له، وإنما غايته أن يفرضه الذهن ويقدره، كما يفرض الأشياء المقدرة".
    وهنا قضية مهمة جداً، وهي: الفرق بين الوجود الحقيقي والوجود الذهني، فالوجود الحقيقي: هو كل ذات موجودة في الخارج، مثل: فلان من الناس، أو جبل، أو شجر، أو بحر، فهذه ذوات موجودة في الخارج.
    والوجود الذهني: هو ما يفترض الذهن وجوده، وليس له وجود خارج الذهن ولا حقيقة له، مثل: قواعد العلوم، أو المعادلات الرياضية، والكيمائية، فهذه كلها أشياء تقدر في الذهن، ولا يوجد شيء منها في الخارج، فمثلاً: يقولون في النحو: الفاعل والمبتدأ والخبر مرفوعات، فما الذي جعلها مرفوعة؟ وما الذي نصب المنصوب؟ فنجد أنهم قدروا العامل ذهنياً، وقالوا: هذه كلها أشياء ذهنية وليس منها شيء حقيقي موجود.
    فهؤلاء الملاحدة جعلوا الله تبارك وتعالى، وجعلوا أمور الغيب أموراً ذهنية فقط وليس لها وجود؛ ولذلك كانوا أكفر الناس، وكانوا أبعد الناس عن الإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ لأنهم جردوه عن كل صفة، فهو -عندهم- لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا يمينه ولا شماله؛ لأنه عندهم لا يوصف بشيء؛ بل هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق.
    ثم بين ابن القيم أن الفرق بين هذا الرب الذي تخيلوه، وبين الرب الذي دعت إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، هو الفرق بين الوجود والعدم، والنفي والإثبات، ثم قال: "فأي موجود فُرِضَ كان أكمل من هذا الإله الذي دعت إليه الملاحدة، ونحتته أفكارهم؛ بل منحوت الأيدي من الأصنام له وجود، وهذا الرب ليس له وجود، ويستحيل وجوده إلا في الذهن" فحتى الأصنام المنحوتة لها وجود، أما هذا الرب الذي يقدرونه فليس له وجود عندهم إلا في الذهن، وعليه فإن من عبد الأصنام أفضل منهم؛ لأن لها وجوداً على الأقل، وعبادها عبدوا شيئاً ما، أما هذا فليس له وجود أبداً.

    التعديل الأخير تم 06-05-2017 الساعة 03:30 PM

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Mar 2013
    الدولة
    مغرب العقلاء و العاقلات
    المشاركات
    3,002
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي


    الفلسفة (الحلقة الثانية)


    كتبه الدكتور صالح حسين الرقب

    مميزات المنهج السلفي في إثبات وحدانية الله تعالى
    1- يمتاز منهج السلف في تقسيم التوحيد إلى توحيدي الربوبية والألوهية بموافقته لما دلت عليه النصوص الشرعية. وبذلك يكون السلف أعرف الناس بالتوحيد الذي أنزل الله به كتبه وبعث به رسله، ألا وهو توحيد الألوهية، أما توحيد الربوبية فقد كان يقر به المشركون كما أخبر الله تعالى عنهم في القرآن الكريم.

    أما الفلاسفة والمتكلمون فقد أخطأوا في بيانهم لأنواع التوحيد كما أخطأوا في معرفة حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسله، وقد أجهدوا عقولهم في تقريره والاستدلال عليه.

    2- إن السلف لم يخرجوا في تصورهم للوحدانية عما جاء في الكتاب والسنة، فهو إذاً تصور إسلامي صحيح، بينما ذهب الفلاسفة الإسلاميون في تصورهم للوحدانية مذهب الفلاسفة اليونانيين لواجب الوجود، وفسروا وحدته على نحو تفسير أرسطو.

    3- إن منهج السلف في تقرير التوحيد والقضايا المتعلقة به يدل على أنهم أعرف الناس بالله تعالى، واتبعهم للطريق الموصل إليه، وأصدقهم في التعامل مع نصوص وحيه، وفي السير على صراطه المستقيم.

    4- إن مفهوم التوحيد عند السلف يتضمن إثبات أسماء الله الحسنى وصفاته الجليلة العلى كما جاءت في الكتاب والسنة، وإمرارها على ظاهرها كما يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا يشتغلون بالتأويل الذي يفضي إلى التعطيل.

    بينما نجد أن مفهوم التوحيد عند الفلاسفة والمعتزلة يفضي عندهم إلى تجريد الصفات الذات الإلهية من صفاتها، حيث ذهبوا إلى نفي الصفات. ونجد مفهوم التوحيد عند الأشاعرة يتضمن تجريد الذات الإلهية من معظم الصفات، لأنهم قالوا بتأويل الصفات- ما عدا الصفات السبع – تأويلا يؤدي إلى تعطيل الذات عن صفات الكمال.

    5- من ميزات المنهج السلفي اتفاق أهله على مسائل الاعتقاد المتعلقة بالتوحيد رغم اختلاف زمانهم، وتباعد ديارهم وأمصارهم. وبيان ذلك: أنا نجد أقوالهم في باب الأسماء والصفات واحدة، لا تناقض فيها ولا اختلاف. فمثلا اتفقوا جميعا على إثبات الصفات لله تعالى على الوجه الذي يليق بجلاله وكماله، وإمرار نصوص الصفات على ظاهرها، ولم يرد عن أحد منهم أنه اشتغل بتأويل الصفات، أو الخوض في معناها وكنهها، بل آمنوا بالمعنى المتبادر من ظاهرها، وفوضوا كنهها إلى الله تعالى يقول أبو القاسم التيمي الأصبهاني في ذلك:" ومما يدل على أن أهل الحديث على حق، أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى أخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم من الديار، وسكون كل واحد منهم قطر من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، يجرون على طريقة لا يجيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولوهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافا، ولا تفرقا في شيء ما وان قل،بل لو وجهت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء عن قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟".

    وأما الفلاسفة والمتكلمين فإن التناقض والاضطراب سمة بارزة في منهجهم وأقوالهم. يقول ابن تيمية:" فالمتكلمة والفلاسفة تعظم الطرق العقلية، وكثير منها فاسد متناقض، وهم أكثر خلق الله تناقضا واختلافا، وكل فريق يرد على الآخر فيما يدعيه قطعيا".

    ومن أمثلة التناقض في أقوال الفلاسفة:" أنهم قالوا إن الذات الإلهية إذا استلزمت الصفات كان ذلك افتقاراً منها إلى الغير، فلا تكون واجبة، وذهبوا إلى نقيض ذلك في مسألة قدم العالم، حيث قالوا: إن الذات مستلزمه لمفعولاتها، المنفصلة عنها، ولا يجعلون ذلك منافياً لوجوب وجودها بنفسها مع العلم بأنه إذا كان استلزام الذات للمفعولات لا ينافي الوجوب، فإن استلزام الذات للصفات أَوّلى ألا ينافيه.

    وأما الأشاعرة فنحدهم مختلفين في مسالكهم، ففي مسألة الصفات نجد مشايخهم المتقدمين كالأشعري والباقلاني يثبتون كثيراً من الصفات الخبرية.

    بينما نجد الأئمة المتأخرين كالجويني والرازي والآمدي يقولون بالتأويل في معظم الصفات. ونجد من الأشاعرة من هو أقرب إلى السلف في ذلك، كالبيهقي مثلاً.

    6- من ميزات المنهج السلفي الوسطية بين المناهج الفلسفية والكلامية.

    فالفلاسفة ومن سلك مذهبهم ينفون صفات الله وأسماءه، والمعتزلة ينفون الصفات ويثبتون الأسماء، والأشاعرة يثبتون الأسماء والصفات العقلية، يؤولون الباقي. بينما السلف يثبتون الأسماء والصفات جميعا، ولا يردون شيئا ثبت بالكتاب والسنة. يقول ابن تيمية في بيان هذه الميزة:" وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق. فهم في باب أسماء الله وآيات وصفاته: وسط بين أهل التعطيل الذي يلحدون في أسماء الله وآيات، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال، ويشبهونه بالمخلوقات. فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف وتمثيل".

    7- من ميزات المنهج السلفي انه يجعل سالكه معظما لنصوص الكتاب والسنة، لأن السلف يعتقدون أن كل ما جاء فيها حق وصواب، بيد أن المذاهب الأخرى- التي سلكت طريق التعطيل والتأويل – أَفقدت النصوص هيبتها وعظمتها عندما جنت عليها بالتأويل والتعطيل.

    وأيضاً فإن المنهج السلفي يربط المسلم بجيل السلف الفريد من الصحابة والتابعين الذين هم خير القرون، فيزداد المسلم عزةً وافتخاراً بانتسابه لذلك الجيل القرآني. بينما المناهج الأخرى تربط أتباعها والسائرين على طريقها بالمبتدعة وأهل الشكوك والشبهات والأوهام.

    8- من ميزات المنهج السلفي في باب الأسماء والصفات التزامه بطريقة القرآن الكريم وطريقة الرسل عليهم السلام في إثبات صفت الكمال لله تعالى على وجه التفصيل، ونفي صفات النقص التي لا تصلح له لما فيها من التشبيه والتمثيل على وجه الإجمال، على عكس مما سلكه الفلاسفة والمعتزلة، حيث سلكوا التفصيل في مجال النفي، والإجمال في مجال الإثبات. يقول الإمام أحمد:" لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث". ويقول ابن تيمية:" القول الشامل في جميع هذه الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث".

    يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل في بيان ميزة ومكانة المنهج القرآني وأفضليته على المناهج الفلسفية والكلامية :" ولا أظن مسلماً أنه يجروء على القول بأن جدل الفلسفة، وسفسطة علم الكلام يهديان إلى يقين، أو بأن ابن سيناء والفارابي، والباقلاني والجويني أقدر من الله لإقامة الآيات البينات والحجج الساطعات التي تثبت أنه واحد لا شريك له، أو بأن ما في ( الإشارات)، أو (المواقف)، أو (العقائد النسفية) من ترهات أَجلّ مما في كتاب الله من براهين تبده بقهر الحق عقول الفلاسفة وغير الفلاسفة، فتقهرها على الإذعان والتسليم... ومن يتدبر ما ابتدعته الفلسفة من أدلة مزعومة، وما لفقته علم الكلام من أباطيل، ويتدبر أدلة القرآن العقلية يتجل له في إشراق أن أتم الأدلة العقلية وأعظمها وأفضلها هي أدلة القرآن، لا جدل الفلسفة ولا سفسطة علم الكلام، وليتدبر كل مسلم هذه الآية:" هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"(سورة الجمعة:2).

    ولا ريب أن هذه الآية تقطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين الأدلة العقلية والسمعية التي بها يهتدي الناس إلى الاعتقاد الصحيح، والإيمان الكامل، والدين لاحق، وإلى ما فيه النجاة والسعادة في الأولى والآخرة.....".

    9- من ميزات المنهج السلفي في مسالة الصفات وغيرها من مسائل الاعتقاد عدم الخروج عما جاءت به النصوص الشرعية، وعد تقديم قول أحد أو رأيه مهما كانت منزلته ومكانته، فقدم السلف النقل على العقل، ولم يقل واحد منهم بتعارض المعقول مع المنقول، وقد صنف أئمتهم الكتب في بيان تهافت دعاوى الفلاسفة والمتكلمين في هذا المجال. وبينوا أن قضايا التوحيد – سواء التي تتعلق بالصفات أم التي تتعلق بدلائل ربوبية الله وألوهيته – قد نبه الله تعالى عليها في كثير من سور القرآن الكريم على أكمل وجه وأحسنه. وليس في شيء منها ما يخالف العقل الصريح، بل العقل الصريح يؤكد ويعاضد الدلائل السمعية التي نص عليها الشرع، وأما السمعيات التي يقال أن العقل عارضها – كمسألة الصفات مثلا – فهي أمور قد علم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء بها من عند ربه تعالى، وقد نقلها عنه الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم التابعين، ولم يثبت عن أحد من نقلتها أو غيرهم من أئمة السلف وعلمائهم أنه قال": إن هذه الآية أو تلك يعارضها صريح العقل، بل أجمعوا بلا منازع على إثبات الصفات على ظاهرها كما جاءت دون تأويل أو تعطيل.

    بينما ذهب مخالفو المنهج السلفي إلى أن نصوص الصفات التي في ظاهرها التشبيه يجب تأويلها لكونها معارضة بالدلائل العقلية، وأن الدلائل النقلية لا تفيد اليقين، فلا يستدل بها في المطالب الإلهية. بل ذهب أحد المتكلمين إلى أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر.

    يقول ابن القيم واصفا حال هؤلاء:" ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين: أن ألقى على ألسنتهم أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، وأوحى إليهم أن القواطع العقلية والبراهين اليقينية في المناهج الفلسفية والطرق الكلامية، فحال بينهم وبين اقتباس الهدى واليقين من مشكاة لقرآن، وأحالهم على منطق اليونان، وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العَرِيَّة عن البرهان، وقال لهم: تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان، وَمَرَّتْ عليها القرون والأزمان، فأنظر كيف تَلَطَّف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان، كإخراج الشعرة من العجين".

    ومما يبين بطلان مزاعم متكلمين الذين أفنوا أعمارهم بحثا في العقليات، أنهم لم يصلوا فيها إلى معقول صحيح يمكن اعتباره معارضاً للسمع، بل انتهى الأمر بكثير منهم إلى الحيرة والارتباك والندم والاعتراف بالخطأ.

    يقول الفخر الرازي في آخر عمره في كتابه "أقسام اللذات" :"لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن الكريم، أقرأ في الإثباتلرحمن على العرش استوى)(سورة طه:5)، (إليه يصعد الكلم الطيب)(سورة فاطر:10)، وأقرأ في النفيليس كمثله شيء)(سورة الشورى:11)، (ولا يحيطون به علما)(سورة طه:110)، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي". وقال في وصيته التي أملاها على تلميذه أبي بكر إبراهيم بن أبي بكر الأصبهاني:" ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعال، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا ليعلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية...".

    10- من ميزات المنهج السلفي الفهم الصحيح لدور العقل في مجال الاستدلال به في إثبات التوحيد والقضايا المتعلقة به، فدروه هو دور الرضا والاطمئنان والتقدير والمعاضدة للنصوص الشرعية المثبتة للأسماء والصفات الإلهية، والدالة على وحدانية الله تعالى، وليس من دوره أن يتقدم النصوص الشرعية أو يعارضها، بل يدعم هذه النصوص ويزيد في تثبيت عقيدة التوحيد في النفس البشرية، ولقد جنى الفلاسفة و المعتزلة وأتباعهم على العقل حينما أقحموه في غير مجاله، فاعتدى على الذات الإلهية المقدسة، فجردوها من صفات الكمال الثابتة لها بنصوص الكتاب والسنة، وبذلك ضعفت عقيدة التوحيد في نفوس الكثيرين ممن أعطوا العقل هذا الدور.

    11- من ميزات المنهج السلفي الاعتصام بالكتاب والسنة، والتسليم المطلق لنصوصها، وما تدل عليه من معان وأحكام، فالسلف لا يردون منها شيئا، ولا يعارضون منها بشيء، بل يقفون حيث تقف بهم. ولم تثبت عن أحد منهم معارضة النصوص برأيه، أو يذوقه، أو بقياسه، أو بمعقوله، أو بوجده، ملتزمين في ذلك بقوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله...الآية"(سورة الحجرات:10). يقول ابن عبد البر:" ليس في الاعتقاد كله، في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء في أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه".

    بينما امتازت المناهج الفلسفية الكلامية والصوفية بنقيض ذلك تماما حيث رد أصحابها كثيرا من النصوص بالتأويلات الفاسدة وبالرأي والهوى. فالفلاسفة زعموا أن القرآن الكريم ليس فيه إشارة إلى التوحيد، ولم يقبلوا شيئا من نصوص الصفات، وكثير من المتكلمين زعموا أن أدلة القرآن ظنية، وأن أدلة العقل برهانية يقينية، وجمهور المتكلمين ردوا أحاديث الآحاد، وزعموا عدم دلالتها اليقينية على مسائل الاعتقاد، ورد المعتزلة بعض الأحاديث الصحيحة بحجة ضعفها، وأولوا – هم والأشاعرة – كثيراً من النصوص بحجة مخالفتها لقواعدهم الكلامية. وذهب بعض الصوفية إلى أن القرآن الكريم كله شرك، وأن التوحيد في كلامهم هم.

    12- إن منهج السلفي في الاستدلال على وحدانية الله تعالى هو منهج القرآن الكريم نفسه، فأدلتهم العقلية مستمدة من آيات الكتاب الكريم التي نبهت العقل عليها. فهي أدلة عقلية شرعية فطرية، مناسبة لجميع العقول وملائمة لكل الفطر، تمتاز بوضوحها وبداهتها في نفسها، وقد بلغت من الإحكام والقوة والوضوح مبلغا عظيما بحيث لا يمكن مقارنتها بأدلة أخرى، ولا يمكن معارضتها لكونها برهانية يقينية قطعية.

    وقد بين الله تعالى هذه الأدلة في القرآن الكريم بأعذب الألفاظ وأحسنها، لا ترى فيها غموضاً، ولا تطويلاً ولا تقصيراً، ولا نقصاً ولا زيادةً، وقد بلغت من الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز ما لا تجده في غيرها، ففصاحة القرآن الكريم وبلاغته أعجزت فصحاء العرب وبلاغة البلغاء.

    أما أدلة الفلاسفة والمتكلمين فهي في مجملها تمتاز بغموضها وعدم وضوحها بنفسها، لما فيها من التطويل، وكثرة المقدمات، والتكلف، ولكثرة الاعتراضات، والشكوك التي يمكن أن تثار نحوها، لكونها تعتمد على العقل المجرد، والخيال الذهني البعيد عن الواقع والمشاهدة. ولذا فإن العقل لا يمكن أن يصل إلى فهمها بيسر وسهولة، وإن وصل إليها وجدها غير ملائمة لما استقر في الفطر والنفوس.

    وقد زعم المتكلمون أن دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين بمجرد الخبر، بينما ذهب السلف إلى أنهما قد دلا الناس أيضا – على أصول الدين – بأنواع من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية، وبذلك قد جمعا بين ما تصادق عليه العقل والسمع.

    يقول ابن تيمية:" وإنما الحق ما تصادق عليه الأدلة السمعية والعقلية، وهو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، كتلقين له عن الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة خبره، ومن جهة تعليمه وبيانه للأدلة العقلية".

    ويقول:" وليس تعليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقصوراً على مجرد الخبر كما يظنه كثير، بل هم بينوا من البراهين العقلية التي بها تعلم العلوم الإلهية ما لا يوجد عند هؤلاء ألبتة، فتعليمهم صلوات الله عليهم جامع للأدلة العقلية والسمعية جميعا، بخلاف الذين خالفوهم فإن تعليمهم غير مفيد للأدلة العقلية والسمعية".

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء