النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: الماركسية..علم التنبؤات الفاشلة

  1. #1

    افتراضي الماركسية..علم التنبؤات الفاشلة

    تنتمي الماركسية إلى ما يعرف بعصر الأنوار وتعتبر أفكارها تمثلاً من تمثلات مشروع الحداثة الغربية كغيرها من الفلسفات وإن تناقضت. إن مشروع الحداثة يهدف في جوهره إلى تحقيق التحرر الجذري للإنسان بعيدا عما كانت تمارسه الكنيسة باسم هذا التحرر والذي كان يتمثل في الخلاص الإلهي والجنة التي في السماء..وفي سعيها لتحقيق هذا المشروع انزلقت التيارات الفلسفية على اختلافها وتناقضها أحيانا إلى نوع من التبشير الخلاصي يسميه البعض بلاهوت الفكر الوضعي أو الوجه الآخر للفكر الديني "جنة في السماء تقابلها جنة على الأرض". فادعت التيارات الوجودية بأن الإنسان هو من يخلق جنته على الأرض وأنه حر وفاعل بمرتبة "إله"، واعتقدت التيارات العلموية الوضعية بأن هذا "الإله" يكمن في التقنية لا في الإنسان وأن "آلهة التقنية" هي من بيدها تحقيق حلم الحداثة الغربية وبناء جنة الإنسان في الأرض، واعتقد أصحاب المنهج اللَّذِّي بأن إله الإنسان هواه أو نوازعه البيولوجية وأن جنته تكمن في الإستهلاك والمتع التي تفرضها الميولات كما هو الحال في الرؤية الرأسمالية الإستهلاكية أو في الجنس كما هو عند فرويد. والرؤية التطورية الداروينية تبشر بجنة الإنسان السوبر مان والمجتمع الأعلى، والفلسفة الماركسية لم تكن الإستثناء، فالمجتمع الشيوعي الذي سيكسر فيه الإنسان أغلال القمع والإضطهاد وتنعدم فيه الطبقية وتوزع الخيرات بعدالة "آلهة التاريخ" هي بدورها جنة هذا الإنسان في الأرض، فالمجتمع الشيوعي أو هذه المحاكاة الساخرة لحياة النعيم هي إذن جوهر الحداثة الغربية وهي الفكرة الأم في الماركسية لا يمثل فيها الجدل المادي أو الجدل التاريخي والبروليتاريا سوى مبررات وصفت بالعلمية والحتمية لفكرة كانت قد تقررت على نحو مسبق في لاوعي الفكر الغربي.
    يَنظُر ماركس إلى تاريخ البشرية نظرة تطورية مادية تلتقي إلى حدٍّ كبير مع الداروينية الاجتماعية التي تُعتبر انعكاسا للتطور الطبيعي والبيولوجي، ولهذا عند الحديث عن المادية التاريخية Historical materialism يجب التفريق بين تطورين. الأول هو وسائل الإنتاج (المادة) أي تطور الوسائل التي يستخدمها الإنسان في إنتاج حاجاته المادية. فقد كان الإنسان في مرحلته "البدائية" يستخدم يده وذراعه ثم تطورت تلك الوسائل نحو الإستفادة من الحجارة كأداة ثم تطورت أكثر فظهرت المطرقة والفؤوس والسكاكين إلى أن وصلت إلى مرحلتها التاريخية الحاضرة آلات متطورة وكهرباء. أما التطور الثاني فهو تطور أشكال الإنتاج الذي يعتبر إنعكاسا للتطور الأول إذ في كل مرحلة من مراحل تطور وسائل الإنتاج نجد شكلاً من أشكال الإنتاج، فنمط الإنتاج القائم على الأدوات الحجرية يختلف عن نمط الإنتاج القائم على المطرقة والفؤوس والسكاكين وهذا يختلف بدوره عن نمط الإنتاج القائم على الآلات الكهربائية وهكذا تصبح لكل مرحلة من مراحل التاريخ أسلوبه الخاص في الإنتاج..وعلى هذا الأساس تم تقسيم تاريخ المجتمعات إلى مراحل أساسية ينبثق بعضها من بعض في نسق تصاعدي حتمي. تبدأ مرحلته الدنيا بنمط الإنتاج المشاعي أو الشيوعية البدائية ثم نظام الرق يليه نمط الإنتاج الإقطاعي فالرأسمالية وصولا إلى نمط الإنتاج الإشتراكي في مرحلته الدنيا والشيوعي في مرحلتها العليا والذي يمثل ذروة تطور التاريخ والمجتمع..والإنتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى لا يمر إلا عبر جدليات أو صراعات ثنائية: طبقية مالكوا العبيد/العبيد...الإقطاعيون /الأقنان...البرجوازية/البروليتاريا، وفي كل مرة يبلغ فيه الصراع ذروته بين الطبقات المتناحرة والوصول إلى نقطة حرجة critical point يتم الإنتقال إلى نمط إنتاج جديد وهكذا إلى أن يصل إلى الرأسمالية التي توقع لها ماركس أن تتطور وتطورها سيخلق أزمات وعقبات جديدة حتى تصل إلى نقطة يتعذر أمامها تجاوز عقباتها فيكون الحل بالإنتقال إلى المجتمع الشيوعي الجديد كنتيجة حتمية للعلاقة الجدلية ما بين البروليتاريا والبرجوازية لأن النصر سيكتب في كل مرة للطبقة حليفة وسائل الإنتاج التي يتطلب تطورها الإنتقال إلى نمط إنتاج جديد تعارضه الطبقة المسيطرة والمستفيدة من النظام السائد والمستنفد.

    « مشاعية..رق..إقطاع..رأسمالية..شيوعية »
    لم يكن ماركس مؤرخًا ولامتخصصًا في تاريخ تطور المجتمعات، إن المغامرة التي أقدم عليه ماركس استندت بالأساس إلى مادة فقيرة من الناحية العلمية. معلومات كان مصدرها المسكتشفين الأوائل في افريقيا ومدن الشرق كالرحالة الفرنسي فرونسوا برنييه الذي اتخذه ماركس مرجعا حول تشكيل المدن الشرقية وجيوشها العسكرية. وفي بنية المجتمع استند إلى إنجازات المؤرخين الفرنسيين عن الطبقات الاجتماعية أمثال منتسكيو وبعض المصادر الأخرى كالمؤرخ غروتيوس وهيغل. وجميعها دراسات تنحصر بالأساس في دراسة المجتمع الفرنسي والإنجليزي دراسات استخلص منها ماركس قانونًا في بنية المجتمع والتاريخ وُصِفَ بالعلمي والحتمي والعام، الشيء الذي جعل النظرية تسقط في فخ المركزية أو الأنوية الغربية حيث يعتبر المجتمع الغربي في مرحلة تطورية متقدمة مقارنة بالأنظمة المجتمعية الأخرى ولهذه النظرة استتباعات استعمارية سنأتي عليها لاحقا. كما أن استخلاص قانونًا عام من معطيات جزئية يجعل من النظرية تغرق في بحر من التجريد وبالتالي يتعلق مصير النظرية بما ستسفر عنه الدراسات الحديثة التي تعنى بتاريخ تطور الحضارات القديمة وبنيتها المجتمعية وهو ما لم يدرسه ماركس بالشكل الكافي. فرهنت علمية تنبؤاتها التاريخية المستقبلية بما سيسفر عنه التاريخ نفسه واقعا ملموسا.
    إن نظرية المراحل الخمس الإلزامية والتي ترسم للتاريخ مسارًا تطوريًّا حتميًّا وتعاقبًا مرحليًّا إلزاميًّا ينطلق من مشاعية أو شيوعية بدائية ثم نظام الرق ثم الإقطاع فالرأسمالية إلى الإشتراكية، لم تعد هذه الأفكار اليوم أكثر من مجرد دعاوى مفندة فالدراسات الحديثة أثبتت أن هناك تناثرًا في أنماط الإنتاج على نقيض ما تدعيه الماركسية حول تعاقب إلزامي لأنماط الإنتاج فنظام العبودية أو مرحلة الرق نشأت في اليونان وروما ولم تنشأ في بلدان أخرى بتاتًا مثل اليابان التي انتقلت للإقطاعية من دون ان تمر بذلك الطريق، وعلى النقيض لم تنشأ الإقطاعية لا في اليونان ولا في روما بل في المناطق الجرمانية ألمانيا القديمة فرنسا والجزر البريطانية وهناك أنماط لا حصر لها من الإنتقال إلى الرأسمالية لبقاع لم تشهد عبودية ولا إقطاعا..بل وهناك مناطق ما تزال مشاعية إلى يومنا هذا كقبائل استراليا الأصلية قبل الغزو الأروبي، والتنظيم المشاعي (عشائري قبائلي) لم يكن حالة بدائية إلا في بعض المجتمعات بينما في مجتمعات أخرى صاحب الحالة الحضارية وكان جزءا من الدولة المركزية والمجتمعات المتحضرة إلى يومنا هذا.

    « إن تاريخ المجتمعات كلها حتى يومنا هذا لهو تاريخ الصراع الطبقي » كارل ماركس
    اعتقد ماركس بأن الصراع الطبقي هو القانون والمحرك الأساسي للتاريخ البشري، وهذا الإعتقاد جعله يتورط في تنبؤات مستقبلية أحاطها أتباعه على مر السنين بهالة من التقديس النظري إلى أن جاء التاريخ وقدم وقائع مغايرة تنفي أن يكون الصراع الطبقي قانونا عامًّا ولا حتى نصف العام أو ربع العام.. فالسويد مثلا انتقلت للرأسمالية من دون صراعات أو ثورات داخلية وإنما حصل الإنتقال تدريجيًّا وعبر تسويات.. وفي اليابان تولت الميغي الإقطاعية بنفسها بناء الرأسمالية لأن البوارج الرأسمالية من أمريكا أرادت فتح أسواقها بقوة السلاح للتجارة فاضطرت إلى الإنتقال من منطلق حماية النفس ولم تكن هناك صراعات أو جدليات ثنائية داخلية يقول فالح عبد الجبار بأن: «الخلاصة اليابانية هي أن دولة اقطاعية تتولى الإنتقال وتخلق طبقة رأسمالية. وأن هناك أنماطا لا حصر لها من الإنتقال إلى الرأسمالية لبقاع لم تشهد عبودية ولا إقطاعا»[1]
    وحول تنبؤاته بسقوط الرأسمالية توقع ماركس نجاح الثورة الاجتماعية في كل من ألمانيا 1848 وفي فرنسا 1871 نظرًا لتطور وسائل الإنتاج في هذه البلدان مقارنة بغيرها وبالتالي هي مؤهلة أكثر من غيرها لبلوغ الــCritical point إلا أن هذا لم يحدث فألمانيا وفرنسا لا تزالان من بلدان الدائرة الرأسمالية القوية وغيرها من البلدان التي بلغت فيها وسائل الإنتاج تطورًا مهولاً ومع ذلك لم يُفرض عليها الإنتقال للإشتراكية، وبالتوازي نجد الاشتراكية قد قامت في دول لم يتجاوز فيها تطور وسائل الإنتاج مرحلته البدائية مقارنة بحالة الإنتاج في الرأسمالية مما يعني أنه لاعلاقة لوسائل الإنتاج وتطورها بتغير أنماط الإنتاج. ثم قيام هذه الإشتراكيات في بعض البلدان لم يكن نتيجة تطور وسائل الإنتاج أو الصراع الطبقي ونضج الطبقة العاملة ودورها التاريخي في الدفع نحو التغيير، فالثورة قامت في أضعف الحلقات من الناحية الصناعة روسيا القيصرية والبروليتاريا هناك كانت في أوائل مراحل تطورها وكانت متواضعة في عددها ولم تكن بروليتاريا أدوات الإنتاج المتقدمة. فالصورة كانت عملية قفز على السلطة من قبل حزب البلاشفة مستفيدا من ظروف سياسية واجتماعية محددة ومن بينها ظروف الحرب وهزيمة الجيش القيصري وشعور المجتمع الروسي بخطر ضياع الإمبراطورية الروسية نتيجة ذلك. وهكذا استطاع هذا الحزب أن يستولي على السلطة.[2] ..والثورة الصينية بدورها تنطق تناقضات إذ لم يكن لتطور وسائل الإنتاج أي دور في انتقالها للإشتراكية فالصين وإلى وقت قريب هي بلد زراعي تعتمد أساليب الزراعة التقليدية ولم تبدأ الثورة الصناعية في الصين إلا بتخليها عن مقومات الإشتراكية بعد وفاة ماو وانفتاحها على الغرب..والإشتراكيات التي قامت في تاجاخستان أو أذربيدجان أو أفغانستان بدورها لم تأت عبر تطورية داخلية كما حدثتنا النظرية وإنما هي استنساخ للإشتراكية السوفياتية تم فرضها بقوة الجيوش المتأتية من الخارج. وكذلك البلدان التي طبقت فيها الشيوعية تطبيقًا جزئيًّا كتشيكوسلوفاكيا والمجر وبولونيا لم تنبثق عن تناقضات داخلية وإنما فرضت بالغزو المسلح ولا ندري لماذا يلجأ الشيوعيون في كل مرة إلى فرض نظامهم على بلدان أخرى بقوة السلاح في الوقت الذي تقول فيه النظرية بحتمية قيام النظام الشيوعي عبر قانون الصراعات الداخلية! وأي قانون هذا الذي شق ألمانيا إلى نصفين أدرج قسمها الشرقي في الشق الإشتراكي وقسمها الغرب في الشق الرأسمالي! هل بتطور وسائل الإنتاج والصراع الطبقي أم شقت بقوة الجيوش الغازية؟.. وهل ما حطم في بلدان أروبا الشرقية هو الإشتراكية أم الرأسمالية فإذا كان ما حطمته الشعوب هو الإشتراكية فمعنى ذلك أنه لم يمكن هنالك من تناحر عدائي ابتداءا! إن هذا التنوع والتناقض في أنماط التطور والإشكاليات الكثيرة المتعلقة بالنظرية والتطبيق يعني تعذر وضع وصفة واحدة للتاريخ لمساره وأشكال تجليه. إن هذا التنوع في التاريخ وكما يقول فالح عبد الجبار «يسخر من أية محاولة لحبسه في ما يشبه جدول الضرب»[3]

    « لا يمكن للدولة أن تنشأ وأن تبقى إذا كان التوفيق بين الطبقات أمرا ممكنا » كارل ماركس
    على خلاف الرؤية الهيجلية للدولة والتي تراها جهاز لإدارة التناقضات والتوفيق بينها اعتقد ماركس بأن دور الدولة ينحصر في كونها أداة بيد الطبقة المسيطرة ماوجدت إلا لاضطهاد وسحق الطبقة الضعيفة والحيلولة دون قيام الثورة أو تغيير النظام السائد. وبالتالي ما كان لجهاز الدولة أن ينشأ لو لا الصراعات الطبقية وليس له أن يبقى في حال زوال الصراعات الطبقية. وبناء على هذه النظرة قامت الماركسية بالخلط بين الرأسمالية والدولة وجيشها الذي يسمى في العرف الماركسي بطفيليو الطبقة البرجوازية واعتبرتها كيانات عليها أن تزول بزوالها والإستعاضة عن هذا الجيش بالشعب المسلح.
    لو كانت الدولة كما في الرؤية الماركسية لم تنشأ إلا لقمع فئة من فئات المجتمع فإن هذه الرؤية عاجزة عن تفسير الحاجة إلى ضخامة الجيوش الجرارة التي عرفتها البشرية على مر التاريخ ابتداءًا من جيوش الإسكندر المقدوني ويوليوس قيصر انتهاء بجيوش الدول الإمبرليالية ومنها الجيش الأحمر السفياتي تحديدا. والحال أنه كان يكفي واحدا على الألف من تلك الجيوش إن كان الغرض قمع فئة ضعيفة داخل المجتمع الواحد وهو ما تؤكده دراسات المجتمعات القديمة يقول فالح عبد الجبار: «أوردت الدراسات الأنثربولوجية للحضارات القديمة أن الدولة نشأت جهاز حماية لدولة-المدينة أثينا، روما، بابل، ألانكا، الصين، مصر القديمة ضد البوادي أي ليس لقمع جزء اجتمعاعي داخلي بل لصد جماعات خارجية. بتعبير آخر أي الشكل المنظم ضد الشكل المترحل ..ولم تقم الدولة بوظيفة قمعية ضد العبيد إلا بعد فترة طويلة، بعد نقل العبيد من الإنتاج المنزلي إلى الإنتاج الزراعي والمنجمي ولم يحصل هذا التحول إلا بعد قرابة ثلاثة آلاف عام من نشوء دولة المدينة !»[4]..ولم تكن هذه الدراسات غائبة عن ذهن ماركس بشكل كلي لأنه تحدث عما أسماه نمط الإنتاج الآسيوي لمجتمع لم يعرف الملكية الفردية ولم يعرف الطبقات ولا الصراعات واعتبر أن لهذا النظام دولة دورها تنظيم الريّ على ضفاف الأنهار الكبرى وهي دولة لها جيش ضخم مجند من القرى مهمته الدفاع عن الدولة ولها تنظيم إداري يحكم الأقاليم وينظم التجارة والحياة العامة. ولكن ماركس كان انتقائيا ينتقي شواهد في مجتمعات بعينها لإقامة البراهين على صحة نموذج مجرد قام باسخلاصه مسبقا، فنمط الإنتاج الآسيوي يتناقض مع الأطروحة الماركسية التي تعتبر وجود الدولة مقترن بوجود التناقضات الطبقية ومن ثم تم اعتبار هذا النمط من الإنتاج استثناءًا! والغريب أن هذا الإستثناء يغطي مجتمعات الشرق القديم والهند والشرق الأقصى والمجتمعات المماثلة إمبراطوريتا ألازتيك وألاتكاني بأمريكا الجنوبية والممالك الإفريقية التي كانت موجودة في المنطقة الإستوائية يعني الإنسانية تقريبا!. ولهذا يرى بعض الملاحظين أن هذا الإستثناء والإنتقاء نابع من نزعة أنوية متأتية من المركزية الغربية تجعل من الأنموذج الغربي مثالاً يُحتذى يعتلي عرش التطور وعلى باقي المجتمعات أن تسير في ركبه. لذلك كان النمط الآسيوي للإنتاج يحتاج إلى قوة خارجية رأسمالية تدمره لتلحقه بخط التطور ومن ثم تدمجه في مسار التاريخ الأروبي خاصة وأن ماركس يصف البلدان الأروبية والولايات المتحدة الأمريكية بالبلدان المتمدنة وهو يقصد هنا أن المجتمعات التي تعيش خارج هاته المجتمعات في آسيا وإفريقيا وامريكا اللاتينية هي مجتمعات خارج التمدن المعاصر الذي تتسم به مجتمعات الرأسمالية والإشتراكية وهذا ما يعكس انزلاق ماركس في أدلجة استعمارية توسعية يقول فؤاد خليل: «لكنها عندما تناولت التشكيلة المجتمعية الآسيوية رأت أن التغيير فيها يحتاج إلى قوة خارجية إحيائية. وتلك مفارقة تعني إما أن الماركسية لم تتعمق في دراسة نمط الإنتاج الآسيوي أو أنها حملت أثرًا من مركزية الذات الأروبية في التاريخ. وهي نزعة تبرر تدخل أروبا وسيطرتها على العالم غير الأروبي بذريعة تغييره ونمذجته على "صورتها الحضارية.»[5] .. ويقول منير شفيق في الدولة والثورة «ومن ثم لا يكون الإستعمار بالرغم من أنيابه الدامية وأياديه الملطخة بدماء الشعوب وبالرغم من نهب العالم الخارجي وإفقاره غير القاطرة التي تنقل تلك الشعوب إلى المرحلة الأرقى إلى مرحلة التمدن الأرقى مرحلة المجتمعات البرجوازية أو مرحلة أدوات الإنتاج الأكثر تقدما.»[6]
    وعن اندثار الدولة كيف يمكن للماركسية أن تفسر تشكل أكبر جيوش عرفها التاريخ في دول اشتراكية هي الإتحاد السفياتي والصين بل كيف تفسر وجود الشعب المسلح في دول رأسمالية كأمريكا وسويسرا ..لا يستطيع الماركسيون هنا تبربر عدم زوال الظاهرة بزوال أسبابها وهو الصراع الطبقي إلا إن اعتبرنا أن أسباب نشوء الدولة واستمرارها في الأسس الماركسية مبني على تحليل خاطئ.

    « بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي، تقع مرحلة تحول المجتمع الرأسمالي تحولا ثورياً إلى المجتمع الشيوعي...لا يمكن أن تكون الدولة فيها سوى الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا. » كارل ماركس
    نتيجة لتطور الرأسمالية المذهل والذي لم يحسب له ماركس أي حساب في أبعاده النظرية تعرضت البنية المورفولجية للبروليتاريا إلى تغير جذري. تغيرا بعثر صفوفها وزاد من انقساماتها بل وهدد وجودها إلى درجة أن بعض الماركسيين اليوم يتساءلون إن كان من الممكن الحديث عن طبقة عاملة أو تطور في حركة التاريخ..إن المخيال النظري الماركسي يحصر البروليتارليا في فئة العمال والفلاحين وأنها تكونت ووجودها كطبقة قائمة الذات بات أمرا منتهيا وأنها ستظل كذلك في المستقبل لتكمل مهمتها التاريخية المتمثلة في الثورة على الطبقة البرجوزية والإستيلاء على السلطة.
    إن البنية المورفولوجية لطبقة العمال في الوقت الراهن تبدو وكأنها انفلتت من براثن التاريخ وقوانينها المادية فقد انضافت إليها فئة المثقفين والطلبة وبعض الفئات ذات المهن البرجوازية كالمحامين والأستاذة والصحفيين ورجال الأعمال حتى أن السكريتيرة ترتدي ثيابا لا تقل أناقة عن ابنة مستخدمها وخارج أوقات العمل يصعب التفريق بين العامل البسيط ورب العمل فتشكلت بذلك طبقة عمالية أرستقراطية ذات مصالح لا تنسجم مع مصالح بقية العمال وبالتالي انتقل الصراع إلى داخل الطبقة العاملة نفسها مما أدى إلى تفتيت وتشتيت العمال وشق صفوفهم بالأجور المتفاوتة والترقيات والحوافز وخير مثال إضراب عمال المناجم في بريطانيا عام 1985 والذي دام لعشرة أشهر ولم تحرك فئات الطبقة العاملة ساكنا لتعارض الإضراب مع مصالحها الخاصة وهو اتجاه مضاد لما سطرته الماركسية. ولهذا يرى هاربرت ماركوز وهو ماركسي النشأة بأن المجتمع الصناعي ينتهج سياسة دمج متعاظم فقد تم استيعاب القوة الكلاسيكية للثورة (البروليتاريا) وتم استرضاؤها من خلال تحفيزات مادية استهلاكية فاندمجت نهائيا بالمجتمع وصارت قوة إيجابية على عكس ما تدعو إليه النظرية الثورية الماركسية ومثلت جدارا يحيل دون أي تبدل مجتمعي أو تحول بالمعنى الكيفي خوفا من أن تفقد مع الثورة امتيازاتها. ويرى زميليه أدورنو وهوركهايمر أن هناك تقهقرا في التاريخ فبدل أن يؤدي المجتمع الرأسمالي إلى إفقار متزايد في الطبقة العاملة فتتسع رقعتها وتتوحد وتتنظم وتقوى شوكتها حصل العكس تبعثرت وبات الوعي الطبقي والعصيان أبعد ما يكون عن البروليتاريا المعاصرة.يقول إريك فروم في مؤلفه ما وراء الأوهام «فبدلا من ان يؤدي المجتمع الرأسمالي إلى إفقار متزايد للعمال فإنه جلب بتقدمه الفني وتنظيمه فرجا كبيرا لعماله... طريقة الإنتاج تغيرت منذ بداية قرننا تغيرا كبيرا..وتنظم الإنتاج والتوزيع في مؤسسات كبيرة شغلت مئات الآلاف من العمال والموظفين والمهندسين والباعة وغيرهم. وتدير هذه المؤسسات بيروقراطية منظمة تنظيما متسلسل الرتب وكل واحد صار في هذه الآلية ترسا صغيرا أو كبيرا... والهدف هو الإطمئنان والأمان ويود المرء ان يكون جزءا من الجهاز القوي الكبير وان يكون محميا منه ويود ان يشعر بأنه قوي بالإرتباط التعايشي معه...والنتيجة هي أننا نستطيع ان نرى نقصا متزايدا في روح المبادرة والإقدام والفردية وروح العزم ولإستعداد للمخاطرة ....وأظهرت كل الأبحاث والملاحظات عند الجيل الأصغر الصورة نفسها : ففي كل مكان يسود الإتجاه إلى البحث عن عمل أضمن وليس المهم في أثناء ذلك أن يكون دخلا عاليا بل المهم معاش مرضي في سن العجز ويميل المرء أن يتزوج مبكرا...فالقاعدة هي التفكير وفقا لخطة..وإنسان المؤسسات لا يفطن على الإطلاق إلى أنه يطيع فهو يعتقد انه لا يسير إلا وفق ما هو معقول وعملي والحق أن العصيان قطع دابره تقريبا في مجتمع البشر المنظمين»[7]
    كما يعتقد فروم بأن التخفيض الهائل في ساعات العمل في السنوات المائة الأخيرة يعمل بدوره عكس الحتمية التاريخية وعكس نظرية فائض القيمة جوهر الاقتصاد السياسي الماركسي ويعتبر فروم أن تقليص ساعات العمل إلى أربع ساعات أو حتى ساعتين لا يبدو توقعا أخيوليا بالنسبة إلى المستقبل فنحن نشهد حاليا تغيرا شديدا في طرق العمل وتقسيم سير العمل إلى أجزاء صغيرة كثيرة وبالتالي ينتقل مركز إهتمام الأفراد من العمل إلى أوقات الفراغ التي باتت هي من يشغل الحيز الأكبر من حياة العمال. وبالتالي لم يعد لنظرية فائض القيمة أي قيمة فبعد تغيير نظام المجموعة الكلاسيكي بنظام المنظومة الإتصالية ونظم التحكم بعد إدخال علم السيبرنتيك في الصناعة cybernetics أصبح العقل البشري هو المنتج لفائض القيمة.
    ونتيجة لهذا الإدماج المتعاظم والتطور المذهل في طرق العمل اختفت الثنائية التقليدية برجوازية/بروليتاليا وظهرت بدلا عنها صراعات وثنائيات جديدة لم يسبق للنظرية الماركسية أن أشارت إليها أو أوكلت إليها دورا كثنائية الشمال والجنوب أو ظهور منظمات غير عمالية ذات دور وتأثير متعاظم داخل المجتمع والسياسة كالحركات النسائية والبيئية والجماعات المطالبة بالحقوق المدنية والحركات المناهضة للتمييز العنصري. كما أن انفجار مدن الصفيح (المناطق العشوائية) والتي يبلغ عدد سكانها أكثر من مليار نسمة لدرجة أن طبقة البروليتاريا قد تبدو برجوازية بالنسبة لهؤلاء..ظاهرة تحدث عنها الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك المشتغل بخط ما بعد الماركسي مؤكدا أن «هذه الظاهرة تنبئ بأن ثمة شكل آخر من الإنسان أكثر غموضا من ذاك الذي حدثنا عنه ماركس يوما. هو شبيه بالإنسان الملعون لأغامبن الذي لا يقع استغلاله بل يقع إقصاؤه..إن ظهور أرهاط من البشر في هذا المنطق الجديد للرأسمالية : الذين لا مسكن لهم والذين لا أوراق لهم والذين لا عمل لهم هو الذي يدفعنا إلى تجديد مفهوم الطبقة والرسومات السياسية التي تمثلها ماركس..لا يمكن على الأرجح فهم هذا المنطق وفق التعبير الخاص بالطبقات بالمعنى الماركسي.»[8] ..

    إن تاريخ الإنسان تكونه عوامل كثيرة وليس عامل الإقتصاد إلا عاملا من ضمن عوامل كثيرة والماركسية بنزعتها أحادية التفسير حشرت نفسها في زاوية ضيقة وسهلت محاكمتها، فعجزها عن التكهن بما آلت إليه الصراعات السياسية والإجتماعية المعاصرة جعلها تدخل في نفق مظلم لينتقل الصراع بذلك من الرأسمالية إلى المعبد الماركسي نفسه ولتعلو الأصوات مناديةً بحتمية إعادة النظر ليس في مفهوم الحتمية وحسب بل حتى في إمكان القيام الذي بات عند البعض مستحيلا حتى كاحتمال. وخيرت أصواتًا أخرى مواصلة الطبطبة على المقولات الأساسية رافضة التنازل عن الآلهة بالثوب التاريخ بمصطلح فروم والتي باتت في حكم المقدس وما أكثر هؤلاء في مجتمعاتنا العربية صدعوا رؤوسنا بمقولات المستنفد الماركسي «وكأن المقصود من استبعاد المقدس الحقيقي التحول إلى مقدس يصنعونه بأيديهم..تماما كما لو كنا إزاء ما كان يفعله عبدة الأوثان: ينحتون "الآلهة" بأيديهم ثم يخرون أمامها ساجدين عابدين»[9] وكأن مشرحة التاريخ لم تفعل فعلها بعد وكأن كبار فلاسفة الغرب لم تغير اتجاهها نحو رؤية تجاوزية اصطُلح عليها بما بعد الماركسية تاركين البعض ومن وراءهم الشيوعيون العرب في سبات عميق خارج سياق الماضي والحاضر والمستقبل..يقول فروم بتعبير وجيز وهو الماركسي النشأة: «سوف يستمر بعضهم في الإعتقاد بالإشتراكية ولكن عن افتخار أو عناد أكثر ما يكون عن اقتناع حقيقي.»[10]
    ------------
    1- ما بعد ماركس 67-68//فالح عبد الجبار
    2- الدولة والثورة 179//منير شفيق
    3- ما بعد ماركس67-68// فالح عبد الجبار
    4- ما بعد ماركس 82-83 //فالح عبد الجبار
    5- الماركسية في البحث النقدي: الراهنية التاريخ النسق87//فؤاد خليل
    6- الدولة والثورة 200//منير شفيق
    7- ما وراء الأوهام 142 و165//إريك فروم
    8- الماركسية الغربية وما بعدها 23//مجموعة مؤلفين
    9- الدولة والثورة 44//منير شفيق
    10- المجتمع السوي 402//إريك فروم
    التعديل الأخير تم 03-23-2023 الساعة 03:16 PM
    التعقيد في الفلسفة بمثابة أوثان مقدسة يُحرَّمُ الإقتراب منها بالتبسيط أو فك الطلاسم
    فمن خلال التبسيط يتكشَّف المعنى السخيف -لبداهَتِه أو لبلاهَتِه- المُتخفي وراء بهرج التعقيد وغموض التركيب..

    مقالاتي حول المذاهب والفلسفات المعاصرة


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء