النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: مابعد الماركسية، بين التجديد والتجاوز

  1. #1

    افتراضي مابعد الماركسية، بين التجديد والتجاوز

    يتساءل بعض الماركسين اليوم عن السبب وراء إصرار الكثير من ذوي المرجعية الماركسية على زيادة السابقة "مابعد" للماركسية والحال أن الرأسمالية مثلاً لم تكف عن تغيير جلدها دون أن ينتقل أنصارها إلى مرحلة المجاوزة فكرًا أو لفظًا. يمكن تقسيم الإجابة عن هذا السؤال إلى ما هو ذاتي وما هو موضوعي، فما هو ذاتي يتعلق بالسياق الذي أعلنت فيه الماركسية عن نفسها بوصفها علمٌ موضوعيّ بمسارات التاريخ وحتمياته وبالتالي كان للنواقص والفراغات التي طبعت تكهناتها النظرية وإخفاقاتها على صعيد الممارسة والتطبيق دورٌ كبير في حصول أزمة حادة أصابت قلب الماركسية ولم تجعلها مجرد أزمة عارضة يمكن تجاوزها بمجرد تغيير الجلد. أما ما هو موضوعي فيتعلق بالتحول الثوري الذي شهده البحث العلمي في العقود الأخيرة وبروز تيارت فكرية كبرى كاللسانيات والأنثربولوجيا والتحليل النفسي ومدارس فلسفية مؤثرة كالبنيوية وما بعدها، ما بعد الفرويدية إضافة إلى مدارس ذائعة الصيت تمزج بين فروع معرفية متعددة كمدرسة فرانكفورت النقدية. وجميعها تيارات تلغي الحدود الفاصلة بين فروع المعرفة وتزيد من التداخل بين الفروع المعرفية interdisciplinary والتفاعل العابر للفروع المعرفية transdis-ciplinary interaction. في محاولة للإحاطة أكثر بالظواهر التي أثبت الواقع أنها أكثر تعقيدًا، إن الظاهرة الاجتماعية أو السياسية لم تعد كينونة مغلقة كما كان يعتقد في السابق بل بات لها أبعاد نفسية، سوسيولوجية، واقتصادية وأنثربولوجية ولسانية وفيزيولوجية وبيولوجية وقد تكون لها علاقة بتاريخ الأديان والشعر والفلسفة وما إلى ذلك. وبالتالي لم يعد عالم الاجتماع أو المفكر أو الفيسلوف اليوم ذا معرفة حقيقية إذا كان لا يعرف شيء إلا اختصاصه. ومن هذا المنطلق تم إعلان انهيار أنموذج النظريات الذاتية والفردانية أو لنقل النظريات أحادية التفسير التي تم إدراجها في ما اصطلح عليه بحداثة المتاحف. وبالتالي عوضت القراءة الماركسية التقليدية بقراءات متعددة تمزج بين مختلف فروع المعرفة فبتنا نرى قراءة تحليلية نفسية وأخرى لسانية مابعد حداثية وقراءة نقدية تمزج بين مختلف الفروع كما في عقلانية هابرماس التواصلية. هي قراءات يعتبرها أوفياء ماركس تجديدا للماركسية ويستشهدون بعبارات الثناء والتمجيد التي يكلها هؤلاء الفلاسفة لماركس ويعتبرها آخرون إعلان وفاة نظرا لتناقضها الجذري مع الأطروحات المركزية الماركسية وأن عبارت الثناء والتمجيد لا تزيد عن كونها طقوسا بروتوكولية فرضها واجب الحداد.

    القراء اللغوية للماركسية يتبناها كل من المنظر السياسي الأرجنتيني أرنستو لاكلو Ernesto Laclau وزميلته في مدرسة اسكس لتحليل الخطاب University of Essex المنظرة السياسية البلجيكية شانتال موفي Chantal Mouffe. وهي قراء تحليلية للظواهر السياسية تمَّ فيها إخضاع الماركسية لنظرية تحليل الخطاب عند كل من دريدا، فوكو، لاكان، رولان بارت يعني مفكري ما بعد الحداثة وبالتالي هي مقاربة تتبنى فلسفة اللغة التي تعلن موت المؤلف وقراءته المعتمدة وتدعو إلى إحلال منطق القراءات المتعددة. فهي إذن قراءة تعلن ومنذ البدء موت ماركس من حيث هو مؤلف الماركسية وصاحب القراءة النهائية وتعلن الحق في قراءة نصوص ماركس ولو بنقيض مفهوم ماركس لتلك النصوص أي بعبارة أوضح إعادة حكي الماركسية بطرق مغايرة.
    إن الماركسية الكلاسيكية بنظر هؤلاء تعتمد فلسفة اللغة القائلة بتطابق الدال والمدلول فلسفة المعنى الحرفي. ذلك أن المقولات الاقتصادية الطبقيّة تنتظر في كل مرحلة من مراحلها أن ينبثق التعبير السياسي والإجتماعي والثقافي المناسب لكي يعبر عنها وعن تناقضاتها ويجسدها وهو ما يعرف بنظرية الإنعكاس والذي هو تعبير حتمي تماما كما تمثل الكلمات الأشياء لدى القائلين بالتصور الحرفي في فلسفة اللغة واللسانيات. أما ما بعد الماركسية فهي تتجاوز هذه النظرة بالإعتماد على علم الكتابة grammatologie ولعب الدوال والإختلاف ولا يوجد شيء خارج النص (راجع مقالنا عن التفكيكية ).
    وبناء عليه تقرر أن الدال (الطبقة، أو الصراع الطبقي) لا يحمل في ذاته دلالة أو تعريف محدد مسبقا كما لا يمكن للطبقة أن تفسر بالرجوع إلى أساس يوجد خارج المجال السياسي كالبنية الإقتصادية تماما كما تقول اللسانيات أنه لا شيء خارج النص وأن النص هو من يصنع المفاهيم وبالتالي يصير المجال السياسي هو من يحدد مفهوم ومعنى الطبقة وشكل الصراع وهو مفهوم قابل للتبدل والتغيير حسب القراءة التي تفرضها الظروف والوقائع..يقول مصطفى الحداد: «إن الطبقة العاملة تصبح موجودة بمقتضى السياسة لا بمقتضى الاقتصاد تماما كما يقتضي التصور الرمزي حين يلح أصحابه على أن المعنى شيء يبنى بناء في قلب النسق اللغوي وبواسطته ولا يوجد في الخارج. فالصراعات السياسية ليست تمثيلا لمصالح العمال الإقتصادية. الصراعات السياسية هي ذاتها التي تبني معنى البروليتاريا عبر توحيد مطلب الفصائل المختلفة في صورة عامة موحدة»[1] وبناء عليه أيضًا تم استبعاد الأساس الطبقي في تعريف الهويات السياسية واقترح بدلا عنها هويات سياسية تقوم على المواطنة والديمقراطية والتعددية تتلائم والواقع المعاصر ورفضوا الحتمية التاريخية بمعنى رفضوا وجود ذات ترسم للتاريخ مساراته ومآلاته ونظَّروا بدلا من ذلك لما أسماه لاكلو بالدوال العائمة والفارغة أي تبقى مُشَرَّعة ومفتوحة على إمكان اقترانها بمشاريع سياسية مختلفة اختلافا جذريا فيما بينها..وقد لاقت هذه المقاربة رواجًا واسعا نظرا لشهرة مدرسة اسكس التي تتبنى هذا النوع من التحليل السياسي ولانتشارها الحاضر في العديد من الجامعات بأمريكا الشمالية والجنوبية وأروبا الغربية وأستراليا وجنوب افريقيا. وهي قراء تختلف اختلافا جذريا مع الأصول المقررة في النظرة الكلاسيكية «فالماركسية في الصيغة التي طورها ما بعد الماركسيون وخصوصًا لاكلو وموفي لم تعد تحيل على مجموعة من القضايا التي كانت مثبتة في هيئة أركان كأركان الإيمان بل أصبحت صورة من صور النقد وضربا من ضروب التطلع إلى المستقبل يخلوان تقريبا من كل الدعاوى المميزة التي رفعتها الماركسية وركز عليها ماركس وإنغلز والخلف من أتباعهما»[2]

    ثم نجد المقاربة التحليلية النفسية لإريك فروم Erich Fromm صاحب نظرية التحليل النفسي الإنساني والتي يصنفها البعض كثورة ثالثة في علم النفس.
    في كتابه ما وراء الأوهام سعى فروم للتقريب بين الماركسية والفرويدية فأشار إلى أن ماركس وفرويد لهما نفس الإعتقاد فيما يخص الشعور واللاشعور وهي الفكرة القائلة بأن القسم الأكبر مما يفكر به الإنسان عن وعي وإدراك يتأثر بقوى تفعل فعلها من غير علم منه وهو اللاشعور. وأن شعور الإنسان أو وعيه هو إلى حد كبير شعور كاذب[3] ويرى فروم أن الفرق الوحيد بين ماركس وفرويد هو في طبيعة تلك القوة المتحكمة في الإنسان: «ففي نظر فرويد هي في جوهرها ذات طبيعة فيزيولوجية (الليبيدو) وطبيعة بيولوجية (دافع الحياة ودافع الموت) وهي في نظر ماركس قوى تاريخية اقتصادية واجتماعية»[4] ..ويستشهد فروم بمقولة للمنظرة الماركسية روزا لوكسمبورغ Roza Luksemburg في محاولة لإضفاء مشروعية ماركسية تاريخية على مقاربته تلك يقول: «أما روزا لوكسمبورغ التي هي واحدة من أبرز الماركسيات في فترة ما قبل 1914 فقد عبرت عن النظرية الماركسية بمصطلح من علم التحليل لنفسي : يأتي اللاشعور قبل الشعور ويأتي منطق العملية التاريخية قبل المنطق الذاتي للكائنات الإنسانية التي تشارك في العملية التاريخية»[5]
    ومن هذا المنطلق مزج فروم بين المجتمع (الماركسي) واللاشعور الفردي (الفرويدي) ليطور مفهوما آخر أسماه اللاشعور الاجتماعي. وفي مؤلفه المجتمع السوي شَخَّص بناء عليه مشاكل الأنظمة القائمة سياسيًّا واجتماعيًّا واعتبر أن المجتمع يعيش حالة من الكبت ليس منشأها الملكية أو تقسيم الأرباح وإنما مردها العقلية الإستهلاكية ومضار التقنية التي أفقدت الإنسان حسه النقدي وجعلته يغيب في لاوعيه وخلقت له سبل فناءه المتمثل في الأسلحة ويعتبر فروم أن رهان اليوم ليس رهان الإختيار ما بين الشيوعية والرأسمالية وإنما هو رهان الإختيار بين البيروقراطية (شيوعية ورأسمالية) والإنسانية. وبذلك أعلن عن تخليه عن المهام التاريخية للبروليتاريا وقال بشل نظرية الإختفاء الطبقي رافضًا أن يكون المحرك نحو التغيير حتمية تاريخية أو نزعة جنسية أو بيولوجية متبنيا بدلاً عنهما نزعة تقترب من الفلاسفة الوجوديين في رفضهم الإمتثال لأي قوة أعلى من الإنسان وتعتبر الإنسان وحده والمجتمع القادر على التغيير يقول في ما وراء الأوهام: «ما من إله لا بالثوب اللاهوتي ولا بالثوب الفلسفي ولا بالثوب التاريخي أيضا ينقذ الإنسان او يلعنه. الإنسان وحده يستطيع أن يجد هدفا لحياته ويجد الوسائل لتحقيق هذا الهدف»[6] والنزعة الوجودية في فلسفة فروم فرضها الإعتقاد بأن قيام ثورات في عصر الأسلحة النووية يعني آليًّا هلاك البشرية وبالتالي لم يعد ممكنا بنظره قيام ثورة على الأنظمة المعاصرة وإحلال الشيوعية محلها وإنما الضغط على الرأسمالية لتكون أكثر إنسانية وغائية.

    ويرى غوران ثيربورن goran therborn أن النظرية النقدية الألمانية مثلت الإتجاه الأكبر الذي يمكن إدراجه في ما بعد الماركسية ابتداء من محاولات الجيل الأول هابرت ماركوز أدورنو وهوركهايمر وصولا إلى عقلانية هابرماس التواصلية أشهر فلاسفة العصر، وهي مقاربة تدمج بين الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس واللسانيات، وتكتسي النظرية النقدية أهمية بالغة في الفلسفة الغربية المعاصرة نظرا لانتشارها الواسع في شتى بلدان العالم حيث تدرس في ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، اسبانيا، النرويج، هولندا، المكسيك، البرازيل، الأرجنتين، أمريكا وتعتبر من أهم المراجع في السياسات الدولية المعاصرة.
    تسقط الماركسية من حسابات هابرماس في اللحظة التي يعلن فيها عن عدم إيمانه بقدرة ذات عارفة كتلك التي يقول بها ديكارت وأنه من غير السليم البحث عن أي حقيقة في أي كوجيتو مفكر ويستغني بشكل نهائي عن قدرة الذات ووعيها في افتراض حقيقة مطلقة مهما بلغ نفاذ بصيرتها ويعتبرها عاجزة عن تأكيد حقيقة ما سواء أكان كانط هيغل أو ماركس فكلها أفكار يعتبرها حبيسة لفلسفة الوعي الذاتي المرتبطة بأنموذج الشعور الذي أسسه ديكارت وقامت عليه الحداثة. وهو مشروع قد بلغ مداه بنظر هابرماس ولم يعد بالإمكان التعويل عليه ويقدم بدلا عنه أنموذج يعتبر الحقيقة متناثرة بين أكثر من ذات وأكثر من وعي ولا يمكن الوصول للحقيقة إلا عبر التواصل أو الحوار اللغوي السليم بين الأفراد. فبالحوار وحده يمكن المجتمع تشخيص أمراضه ومن ثم يسعى في علاجها..وبالتالي يستبدل هابرماس قيمة العمل والفعل الإنتاجي عند ماركس كمحرك للمجتمع بالفعل التواصلي اللغوي القائم على فلسفة اللغة التحليلية كأداة التواصل وعلى مبادئ وآليات التحليل النفسي الفرويدي..فالحوار هو بمثابة طاقة مُفَجِّرة لمخزون اللاَّوعي حتى يعيد المريض انتشال نفسه من الأوهام والعصاب. وبهذا المعنى يصبح الحوار كذلك في سياقه الاجتماعي أداة لفك المجتمع من الحالات المرضية التي تصيبه والنفاذ إلى العراقيل الباطنية في المجتمع وإصلاح أعطابه على حد سواء»[7]
    ومن هذا المنطلق يرفض هابرماس العامل الاقتصادي في تفسير الظواهر فاللبراليون لا يهتمون إلا بإشباع رغبات الفرد ومصالحه متبنين فكرة أسبقية الفرد على الجماعة والماركسيون لا ينظرون للمجتمع إلا كطبقات متناحرة اقتصاديًّا متبنين فكرة أسبقية الجماعة على الفرد. ويقدم هابرماس العامل التواصلي اللغوي بدلاً عن عامل الإنتاج والإقتصاد الذي لم يعد يكتسي بنظره أهمية كبرى في ميدان الحياة المعاصرة فمجتمع الوفرة والإستهلاك لم يعد خاضعًا فقط لحكم العمل ذلك أن مفهوم الإنتاج والعمل العضلي الشاق اندثر كقيمة مركزية من حياة الإنسان المعاصر بالإضافة إلى تلاشي ساعات العمل والذي نقل مركز الإهتمام من العمل إلى أوقات الفراغ يقول هابرماس : «لقد غدا التواصل الصوت الوحيد القادر على توحيد عالم فقد كل مرجعياته»[8]..وبالتالي يتجاوز هابرماس كل من الرأسمالية المتوحشة والماركسية الدوغمائية معلنا عن طريقا ثالثا يطلق عليه الديمقراطية التداولية démocratie délibérative قائمة على الحوار العقلاني في فضاء عمومي خال من العنف تبنى فيه السلطة على الحوار والتوافق بديلاً عن الصراعات المجتمعية والتناحر.
    تيار آخر لا يقل أهمية عن تيار فرانكفروت يتخذ من الهوية بما في ذلك الدين قاعدة أساسية في مشروع التجاوز. إن مقولة الدين أفيون الشعوب لها مكانتها في نظرية الإنعكاس الماركسية. إن ماركس لا يرى في الدين سوى إيديولوجيا تضلل الإنسان عن حقيقة وجوده فالدين بنظره صناعة الطبقة الحاكمة بغية جعل المجتمع مغتربا عن واقعه ويراه متواطئا مع الأنظمة المتسلطة يحيل دون قيام الثورات وبالتالي عليه أن يزول عندما تحل مرحلة اللاطبقية فهو كالدولة في الفلسفة الماركسية عليهما أن يزولا بزوال الأسباب التي أوجدتهما. إن مثل هذه الرؤى كانت من بين عوامل التي أدت إلى ارتداد الفيلسوف الجماعاتي ومنظر السياسة الكندية الحديثة شارلز تايلور Charles Taylor عن الشيوعية بعد أن كان ماركسيا في الخمسينات والستينات شأنه شأن فلاسفة جماعتين آخرين إثر تعرض المفهوم الماركسي للدين للنقض من شتى الواجهات فبعد عجزها عن تفسير تديُّن الطبقة البرجوازية المترفة حتى زمن ماركس تم نقضها من جانب تاريخي سواء في التاريخ القديم ودعوة الأنبياء التي تتفق جميع الأديان على أنها قادت ثورات ضد الظلم والقهر المسلط من شرار البرجوازية (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون)-سبأ- أو في التاريخ الوسيط كما في الثورات التي خاضتها جماهير الفلاحين في العصور الوسطى إذ كان الدين هو الحافز على الثورة والمطالبة بالتغير أو في التاريخ الحديث حيث العامل الديني والثقافي عموما كان قد ألغي تقريبا في المجتمعات الرأسمالية ما بعد الصناعية. بل إن السمة البارزة في الرأسمالية هي معاداة الأديان والأخلاق والخصوصيات الثقافية خاصة بعد إدخال الأخلاقي في ميدان السلع والإستهلاك وبالتالي تحول الدين إلى عدو الرأسمالية اللدود فحاربت ما كانت تعتبره الماركسية من عوامل الإغتراب ومن عوامل استمرار الرأسمالية. ومن هذا المنطلق اعتبر شارلز تايلور فشل مشروع الحداثة برمته والذي يشمل الماركسية واللبرالية والسبب راجع لكونها أخفقت -أي الحداثة- في جعل مكتسباتها تتصالح والموروثات الثقافية القديمة المتمثلة في تصورات الخير الدينية والممارسات التقليدية[9] .ومن ثم دعا تايلور إلى تأسيس المجتمع والسياسة على الهوية الثقافية ونصر شأنه شأن الفلاسفة الجماعتيين الفدرالية السياسية أو اللاَّمركزية السياسية كصيغة للحكم السياسي للمجتمع متعدد القوميات وبالتالي يرفض هذا التيار التصورات الأحادية الإقتصادية سواء كانت ماركسية أو رأسمالية ويقر بحق الجماعة في تميز مشروعها السياسي والمجتمعي الذي ينطوي على أصالة المعاني الروحية التي تحويها خصوصيتها الثقافية وتقاليدها ومن حقها أن تركن إليها في المسائل الأخلاقية والتشريعات السياسية وهذه الفكرة بدورها تتناقض وأطروحة الصراع الجدلي المجتمعي في الماركسية من جهة ونظرية الإغتراب والإنعكاس من جهة أخرى.

    أخيرا تجدر الإشارة إلى أن بعض أوفياء ماركس يحاولون إدخال هذه التيارات الفكرية في الدائرة الموسعة للماركسية معتبرينها محاولات تجديدية وامتداد لأفكار ماركس مستندين في ذلك على مقولات منعزلة لهؤلاء المجددين كمقولة هابرماس بأنه الماركسي الأخير أو ليفي ستروس مؤسس البنيوية وتصريحه الذي يعتبر فيه نفسه ماركسيا كما يعتبر نفسه بنيويا والإنتساب للماركسية المصرح به من فلاسفة آخرين أمثال إريك فروم وهاربرت ماركوز وغيرهم. هي تصريحات في الحقيقة لا تعني قطعا الإنتساب للماركسية إلا في كونها حاملة لمشروع الحداثة الغربية المشروع الداعي للتحرر ونبذ التسلط على الشعوب. وهي شعارات لا تحتكرها الماركسية فهي من النقاط المشتركة حتى مع أشد التيارات عداءا للماركسية وبالتالي فإن محاولات أوفياء ماركس توجيه بعض العبارات المنعزلة هي محاولة للسطو الفكري بل لن نبالغ إن قلنا أنها محاولة للجمع بين متناقضات فأفكار ليفي ستروس البنيوية الأنثربولوجية هي على نقيض الأطروحات المركزية الماركسية. فالبنيوية تفرق بين محورين رئيسسين محور التطور التاريخ أو عبر زمني Diachronic ومحور الدراسة الآنية synchronic مؤكدة أن الجانب الآني أكثر أهمية من الجانب التاريخي وهو الجانب الحقيقي والواقعي..وأولولية المعالجة الآنية على المعالجة التاريخية باتت اليوم قاعدة معرفية انتقلت إلى مجالات معرفية أخرى ومن ثم تكون البنيوية كما الوظيفية كبريات المدارس الأنثربولوجية لا تعترف بالتناقضات الجدلية في العملية التاريخية (حركة الوصل بين البنى والتاريخ) فستروس يرى أن التاريخ هو مجرد تعاقب أحداث عرضية ويرفض أن يكون عملية تطور متعاقب للمجتمع البشري (راجع مقال علم الإجتماع الإستعماري) وأن التغيرات التاريخية ناتجة عن انفجار في البنية نتيجة تصادمها مع ظروف خارجية لا كما تقول الماركسية أن التغير ينتج عن ميكانيزمات متناقضة داخل البنية فتحولها إلى ميكانزمات جديدة. إن ثناء ستروس على الماركسية لا ينفي كما يقول أحمد القصير أنه: «توجد في واقع الأمر اختلافات جذرية بين الماركسية والبنيوية»[10] وتجدر الإشارة هنا إلى محاولة لوسيان جولدمان Lucien Goldman في المزج بين الماركسية والبنيوية تحت عنوان البنيوية التكوينية وذلك من منطلق أن للعوامل الاقتصادية والاجتماعية تأثيرًا كبيرًا علي الإبداع الأدبي، وهي نظرة واضح ما بها من تأثر "بالماركسية"، لكنه يتمايز عنها في أنه يحذر من خطر المغالاة في أثر هذه العوامل، فهذا التأثير لا ينظر إليه على أنه "عقيدة"، وإنما هو فرضية تكتسب صلاحيتها بمقدار ما هنالك من تأييد لها في الوقائع. [11]
    أما الماركوزية فقد هوجمت من قبل الماركسيين بحجة وقوفها خارج معسكر إيديولوجيا الطبقة العاملة واتهم هاربرت ماركوز بالهرطقة والتحريفية وبالنزعة المثالية والذاتية والخروج على التصورات الأساسية للنظرية فماركوز آمن بأن التحرر الاجتماعي سيتم عن طريق الإشباع الجنسي كما بين ذلك في كتابه: "الحب والحضارة". وقد برهن فيه سيكولوجيا : "بأن تجاوز الندرة المادية في المجتمعات الصناعية المتقدمة، سيخلق الشروط المناسبة لإحراز البشر هدفهم في السعادة من خلال التحرر الجنسي، وتفوق مبدأ المتعة، الذي تصوره كأساس للانعتاق الشامل المؤثر في كافة العلاقات الاجتماعية. وهي رؤية مستمدة من ليبيدو فرويد نوقشت باستفاضة في مقالنا عن الفرويدية. وعن إبتعاد إريك فروم عن الماركسية تلخصها مقولته في المجتمع السوي «ماركس وإنجلز كانا مخطئين في الإعتقاد أن التغيير القانوني في الملكية والإقتصاد المخطط له كافيان لإحداث التبدلات الاجتماعية والإنسانية التي كانا يرغبان بها»[12] ويقول حسن حماد في مؤلفه الإنسان المغترب عند إريك فروم: «وعلى الرغم من أن فروم يعلي من مكانة كارل ماركس ويعترف بتأثره به...وموقف فروم ينطبق أيضا على هاربرت ماركوز الذي يصف نفسه بالماركسية على الرغم من أنه لم يأخذ من الماركسية إلا اسمها. لذا فإننا نؤكد مرة أخرى على أهمية الحذر في التعامل مع التصريحات التي يقول بها المفكرون والفلاسفة»[13]
    وبالنسبة لهابرماس فتوجد مداخل كثيرة لبيان خروجه أو إعراضه عن الأطروحات المركزية تكفي أن فلسفة التواصل النابذة للعنف والداعية لإتيقا المناقشة هي على نقيض فلسفة البراكسييس أو فلسفة الممارسة الثورية فلسفة التغيير الثوري الذي تدعو إليه الماركسية بل تكفي الإشارة إلى أن هابرماس اتجه سياسيا نحو يسار الوسط أي نحو الديمقراطية اللبرالية واتجه آخرون أمثال لاكلو وموفي ورانسير نحو الديمقرطية الجذرية يعني قطيعة سياسية جذرية مع المشروع الماركسي.
    وبالتالي فإن عبارات الثناء على الماركسية في التيارات الفكرية المعاصرة لا تعني الدفاع عن الماركسية فألان باديو وهو من المشتغلين بالخط ما بعد الماركسي يعتبر أن الدفاع عن الماركسية اليوم هو توقيع لآخر مراحل موتها وبالتالي لا يمكن لأي كان أن يكون ماركسيا اليوم إلا بوصفه يساهم في تدمير الماركسية يقول «ليس ثمة من ماركسي إلا وهو على وعي تام بأنه ينتمي إلى إيديولوجيا وقع تدميرها»[14] وأن تتماسك داخل هكذا بناء يعني حسب تعبير باديو «أن تسكن مكان غير قابل للسكن أصلا» ويعتبر باديو أن الماركسي اليوم هو ذاك الذي يعلن من داخل التدمير عما مات في الماركسية وما مات فيه ويقترح باديو إعلان نهاية ماركسية مؤلفات ماركس وماركسية الثورات ويقترح إعادة البدء..وإعادة البدء عند باديو شأنه شأن تيار التجاوز تعني نسيان مكاسب الماركسية[15]...ومن هنا نفهم أن عبارات الثناء والإنتساب هي ليست شيء آخر غير ذاك التعبير عن الوفاء والإنتساب التاريخي يقول أحدهم بعبارات أوضح: إن من يدينون بالبنوة لماركس والوفاء لماركس أصبح طقسا بروتوكليا يفرضه عليهم واجب الحداد.
    ....
    1- الماركسية الغربية وما بعدها ص133 // مجموعة مؤلفين
    2- الماركسية الغربية وما بعدها ص141/
    3- ما وراء الأوهام ص109// إريك فروم
    4- ما وراء الأوهام ص109-114// إريك فروم
    5- ما وراء الأوهام ص108 // إريك فروم
    6- ما وراء الأوهام ص174// إريك فروم
    7- يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت النظرية النقدية التواصلية ص142-141// حسن مصدق
    8- يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت النظرية النقدية التواصلية ص139// حسن مصدق
    9- مدخل إلى أعمال شارلز تايلور ص18
    10- منهجية علم الاجتماع بين الماركسية والوظيفية والبنيوية ص137-138// أحمد القصير
    11- تلقي "البنيوية" في النقد العربي: نقد السرديات نموذجا// رسالة ماجستير لوائل سيد عبد الرحيم سليمان ص65
    12- المجتمع السوي ص399// إريك فروم
    13- الإنسان المغترب عند إريك فروم ص279// د.حسن حماد
    14- الماركسية الغربية وما بعدها ص19
    15-المرجع السابق
    التعديل الأخير تم 04-20-2017 الساعة 05:10 PM
    التعقيد في الفلسفة بمثابة أوثان مقدسة يُحرَّمُ الإقتراب منها بالتبسيط أو فك الطلاسم
    فمن خلال التبسيط يتكشَّف المعنى السخيف -لبداهَتِه أو لبلاهَتِه- المُتخفي وراء بهرج التعقيد وغموض التركيب..

    مقالاتي حول المذاهب والفلسفات المعاصرة


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء