قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه ''
إعلام الموقعين عن رب العالمين '' :

القسم الأول : الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى ما هو محرم في نفسه ، بحيث لا يحل بمثل ذلك السبب بحال ، فمتى كان المقصود بها محرم في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين ، وذلك كالحيل على أخذ أموال الناس وظلمهم في نفوسهم وسفك دمائهم وإبطال حقوقهم وإفساد ذات بينهم ، وهي من جنس حيل الشياطين على إغواء بني آدم بكل طريق ، وهم يتحيلون عليهم ليوقعوهم في واحدة من ستة ولا بد ; فيتحيلون عليهم بكل طريق أن يوقعوهم في الكفر والنفاق على اختلاف أنواعه ، فإذا عملت حيلهم في ذلك قرت عيونهم ، فإن عجزت حيلهم عن من صحت فطرته وتلاها شاهد الإيمان من ربه بالوحي الذي أنزله على رسوله أعملوا الحيلة في إلقائه في البدعة على اختلاف أنواعها وقبول القلب لها وتهيئته واستعداده .

فإن تمت حيلهم كان ذلك أحب إليهم من المعصية ، وإن كانت كبيرة ، ثم ينظرون في حال من استجاب لهم إلى البدعة ; فإن كان مطاعا متبوعا في الناس أمروه بالزهد والتعبد ومحاسن الأخلاق والشيم ، ثم أطاروا له الثناء بين الناس ليصطادوا عليه الجهال ومن لا علم عنده بالسنة ، وإن لم يكن كذلك جعلوا بدعته عونا له على ظلمه أهل السنة وأذاهم والنيل منهم ، وزينوا له أن هذا انتصار لما هم عليه من الحق ، فإن أعجزتهم هذه الحيلة ومن الله على العبد بتحكيم السنة ومعرفتها والتمييز بينها وبين البدعة ألقوه في الكبائر ، وزينوا له فعلها بكل طريق ، وقالوا له : أنت على السنة ، وفساق أهل السنة أولياء الله ، وعباد أهل البدعة أعداء الله ، وقبور فساق أهل السنة روضة من رياض الجنة ، وقبور عباد أهل البدع حفرة من حفر النار ، والتمسك بالسنة يكفر الكبائر ، كما أن مخالفة السنة تحبط الحسنات ، وأهل السنة إن قعدت بهم أعمالهم قامت بهم عقائدهم ، وأهل البدع إذا قامت بهم أعمالهم قعدت بهم عقائدهم ، وأهل السنة هم الذين أحسنوا [ ص: 256 ] الظن بربهم إذ وصفوه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ووصفوه بكل كمال وجلال ونزهوه عن كل نقص ، والله تعالى عند ظن عبده به ، وأهل البدع هم الذين يظنون بربهم ظن السوء ; إذ يعطلونه عن صفات كماله وينزهونه عنها ، وإذا عطلوه عنها لزم اتصافه بأضدادها ضرورة ; ولهذا قال الله تعالى في حق من أنكر صفة واحدة من صفاته وهي صفة العلم ببعض الجزئيات : {
وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } وأخبرهم عن الظانين بالله ظن السوء أن عليهم دائرة السوء ، وغضب الله عليهم ، ولعنهم ، وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ، فلم يتوعد بالعقاب أحدا أعظم ممن ظن به ظن السوء ، وأنت لا تظن به ظن السوء ، فما لك وللعقاب ؟ وأمثال هذا من الحق الذي يجعلونه وصلة لهم ، وحيلة إلى الاستهانة بالكبائر ، وأخذه الأمن لنفسه .

وهذه حيلة لا ينجو منها إلا الراسخ في العلم ، العارف بأسماء الله وصفاته ، فإنه كلما كان بالله أعرف كان له أشد خشية ، وكلما كان به أجهل كان أشد غرورا به وأقل خشية .

فإن أعجزتهم هذه الحيلة وعظم وقار الله في قلب العبد هونوا عليه الصغائر ، وقالوا له : إنها تقع مكفرة باجتناب الكبائر حتى كأنها لم تكن ، وربما منوه أنه إذا تاب منها - كبائر كانت أو صغائر - كتب له مكان كل سيئة حسنة ، فيقولون له : كثر منها ما استطعت ، ثم اربح مكان كل سيئة حسنة بالتوبة ، ولو قبل الموت بساعة ; فإن أعجزتهم هذه الحيلة وخلص الله عبده منها نقلوه إلى الفضول من أنواع المباحات والتوسع فيها ، وقالوا له : قد كان لداود مائة امرأة إلا واحدة ثم أراد تكميلها بالمائة ، وكان لسليمان ابنه مائة امرأة ، وكان
للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان من الأموال ما هو معروف ، وكان لعبد الله بن المبارك والليث بن سعد
من الدنيا وسعة المال ما لا يجهل ، وينسوه ما كان لهؤلاء من الفضل ، وأنهم لم ينقطعوا عن الله بدنياهم ، بل ساروا بها إليه ، فكانت طريقا لهم إلى الله .

فإن أعجزتهم هذه الحيلة - بأن تفتح بصيرة قلب العبد حتى كأنه يشاهد بها الآخرة وما أعد الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته ، فأخذ حذره ، وتأهب للقاء ربه ، واستقصر مدة هذه الحياة الدنيا في جنب الحياة الباقية الدائمة - نقلوه إلى الطاعات المفضولة الصغيرة الثواب ليشغلوه بها عن الطاعات الفاضلة الكثيرة الثواب ، فيعمل حيلته في تركه كل طاعة كبيرة إلى ما هو دونها ، فيعمل حيلته في تفويت الفضيلة عليه ; فإن أعجزتهم هذه الحيلة - وهيهات - لم يبق لهم إلا حيلة واحدة ، وهي تسليط أهل الباطل والبدع والظلمة عليه يؤذونه ، وينفرون الناس عنه ، ويمنعونهم من الاقتداء به ; ليفوتوا عليه مصلحة الدعوة إلى الله وعليهم مصلحة الإجابة .
فهذه مجامع أنواع حيل الشيطان ، ولا يحصي أفرادها إلا الله ، ومن له مسكة من العقل يعرف الحيلة التي تمت عليه من هذه الحيل ، فإن كانت له همة إلى التخلص منها ، وإلا فيسأل من تمت عليه ، والله المستعان .