لو قدر لامرئ أن ينظر إلى سيرة محمد صلى الله عليه وسلم نظرًا مستوعبًا من جميع الأنحاء متجردًا في نظره من الأهواء ،فإنه سيخلص حتمًا إلى أن هذا الإنسان لا يمكن أن يكون إلا نبيًّا موحى إليه ورسولًا من رب العالمين، وذلك من وجهين عريضين :
الأول –تتبع السيرة في تفاصيلها.. في السلم والحرب، في الرخاء والشدة، في الصحة والمرض، في الحل والترحال، في الحياة الخاصة البيتية والحياة العامة الاجتماعية..إلخ

فإن من يسبر هذه الجزئيات الحيوية ويقف عليها وقوف المراقب وهو يراعي صيرورة الأحداث سينتهي إلى تبيّن نبوته لا محالة وأنه ليس محض عظيم من العظماء، بل رسول يُوحى إليه من السماء..

والثاني- الوقوف على جملة من الآيات المستفيضة التي أجراها الله تعالى على يديه مما لا يمكن أن يقع في قوانين الطبيعة إلا بخرق إلهي لهذه القوانين.

أما بيان الأول فغير مقدور هنا، لأنه يعني سرد كتاب من كتب السيرة المعتبرة مع العناية بنفي الأحاديث المكذوبة ،وأما بيان الثاني ففي ذلك كتب كثيرة صنفها أهل العلم تحت عنوان دلائل النبوة.
غير أنه يمكن الإيماء للوجه الأول بطرق خاطفة يتعظ بها أولو الألباب :

1-يقول الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية: "دلائل صدق النبي الصادق، وكذب المتنبي الكذّاب كثيرة جداً، فإن من ادّعى النبوة وكان صادقًا، فهو من أفضل خلق الله وأكملهم في العلم والدين ؛ فإنه لا أحد أفضل من رسل الله وأنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه، وإن كان بعضهم أفضل من بعض كما قال تعالى : {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} وقال تعالى : {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض}

وإن كان المدعي للنبوة كاذبا فهو من أكفر خلق الله، وشرهم، كما قال تعالى {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله }. وقال تعالى {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين}، وقال تعالى :{ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}

فالكذب أصل للشر، وأعظمه الكذب على الله عز وجل، والصدق أصل للخير، وأعظمه الصدق على الله تبارك وتعالى.

وفي الصحيحين : عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال : "عليكم بالصدق ؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا".

ولما كان هذا من أعلى الدرجات، وهذا من أسفل الدركات، كان بينهما من الفروق، والدلائل، والبراهين التي تدل على صدق أحدها وكذب الآخر ما يظهر لكل من عرف حالهما. ولهذا كانت دلائل الأنبياء وأعلامهم الدالة على صدقهم كثيرة متنوعة، كما أن دلائل كذب المتنبئين كثيرة متنوعة". انتهى من كتاب "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " نقلته بطوله لأهميته..في إيضاح المعنى، وإذا أردت فهم ما سبق بكلمة مقتضبة، تدبر هذا المثل : كما أنك ترى المرء لا يلتبس عليه بياض الصبح في رابعة النهار من سواد الليل البهيم، بل يميز بينهما بيسر حتى وإن كان بصره ضعيفًا، فإن تمييز مَن بلغ في معدنه الطيّب منتهاه (النبي) عن البالغ في خبثه أقصاه (مدّعي النبوة الكذاب) : أمر يسير في الجملة لعموم الناس..مهما كانت مراتبهم في الثقافة والعلم ودرجاتهم في الذكاء والفهم.

2-شهادة بعض المنصفين من المستشرقين ونحوهم..
واعتبر في ذلك بعض الأمثلة اليسيرة..أسوقها على عجالة لتبيّن الأمر..

يقول واشنطن إيرفنج
كانت تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم في أعقاب فتح مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر
بلاشير :
".. أما عن انتصار الإسلام فثمَّة أسباب تداخلت وفي طليعتها القرآن والسنة وحالة الحجاز الدينية، ونصح وبيان وأمانة الرجل المرسل لإبلاغ الرسالة المنزلة عليه.."

مارسيل بوازار
".. لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا لا مصلحًا اجتماعيًا. وأحدثت رسالته في المجتمع العربي القائم آنذاك تغييرات أساسية ما تزال آثارها ماثلة في المجتمع الإسلامي المعاصر..

إميل درمنغم
".. ولد لمحمد صلى الله عليه وسلم، من مارية القبطية ابنه إبراهيم فمات طفلاً، فحزن عليه كثيرًا ولحده بيده وبكاه، ووافق موته كسوف الشمس فقال المسلمون: إنها انكسفت لموته، ولكن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان من سموّ النفس ما رأى به ردّ ذلك فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد..) فقول مثل هذا مما لا يصدر عن كاذب دجال..".

3-أن من الناس من أسلم قديمًا ويسلم حديثًا عند مطالعة السيرة لا غير
وتأمل ما يقول السموءل المغربي مثالا وقد كان يهوديا فأسلم وهم صاحب كتاب "بذل المجهود في إفحام اليهود"، يقول في معرض بيان أسباب إسلامه " طلبت الأخبار الصحيحة.. فكانت تمرّ بي في هذه التواريخ أخبار النبي وغزواته، وما أظهر الله له من المعجزات، وما خصّه به من الكرامات، وحباه به من النصر والتأييد في غزوة بدر وغزوة خيبر وغيرهما، وقصة منشئه في اليتم، وظهور الآية العجيبة في هزيمة الفرس ورستم الجبار معهم، في ألوف كثيرة على غاية من الحشد والقوة بين يدى سعد بن أبي وقاص، وهم في فئة يسيرة على حال من الضعف، ومدائن كسرى أنو شروان وانكسار الروم وهلاك عساكرهم على يدي أبي عبيدة بن الجراح رحمة الله عليه".

وأما من العصر الحديث فكثير كثير*، بل إن كثيرًا من الدعاة ينطلق في دعوته من بيان السيرة النبوية.

والسر في ذلك كما تقدم في طليعة المقال أن المرء يستطيع إذا تجرّد في الحكم أن يميّز بيسر بين الخير والشر العظيمين، فلا تجد أحدًا يلتبس عليه فضل العسل على السم، أو اللبن على الخمر، وإن تخيّر لنفسه الشرّ، لكنه إذا لم يكن مجنوناً، انماز في حسّه الحق الجلي من الباطل الجلي، فإن كان عاقلًا انحاز إلى خندق الحق، وإلا آثر الهوى، وثوى حيث الباطل، وعلى هذا يقوم امتحان البشرية، ومن هنا تفهم قول الله تعالى مسليا نبيه { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك}.

وأنت ترى إذا مر بك أن كنت طالبًا في الجامعة مثلاً وقت الفتوّة، بأن عامة الطلاب يميزون بيسر بين الدكتور الجامعي المتقن، وغيره المُلَقّن دون كبير هضم للمادّة التي يدرّسها لهم، ولا يشكّل على عوام الناس في أصل فطرتهم النقية المَيْز بين الخيّر والشرير بعامة، بين الصادق والكذوب، بين الطبيب الحاذق والمشعوذ، بين العالم والجاهل، بين التقي والفاجر..ومن باب أولى وأظهر لا يشكل عليهم الميز بين النبي الصادق المخبر عن الله، والمتنبئ الكذاب المفتري عليه الكذب، فالبوْن في هذه الحالة بينها عظيم كما رأيت في كلام ابن تيمية، وهو مما يفسر لك دخول الناس في دين الله أفواجا، وكثير منهم لم يطلب من رسول الله إقامة دلائل معينة سوى أن سمع منه، أو رآه، أو عرف سيرته، أو خبر مسيرته، وعاين بركته ولاحت له نجوم الدلائل علامات ٍ تهديه أن هلم .ّ