النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: ماوراء الفيزياء..إيديولوجيا الحداثة ومابعد الحداثة

  1. #1

    افتراضي ماوراء الفيزياء..إيديولوجيا الحداثة ومابعد الحداثة

    نزعم في هذا المقال بأن المشروع الفكري للحداثة ومابعد الحداثة وما قام عليه الفكر الغربي الحديث برمته ليس إلا تجسيدا لإيديولوجيا العلمية scientism ونعني به ذاك التحليل الإيديولوجي لقوانين الفيزياء الذي يتم إسقاطه على العلوم الإجتماعية والإنسانية وتقديمه كما لو أنه إنتاجًا أصيلاً لمفكرين كبار ذاع صيتهم في مشارق الأرض ومغاربها وباتوا نماذج تحاكى ومراجع تُحَكَّم في علم النفسِ والإجتماع والسياسة والانثربولوجيا واللسانيات وعلم الأخلاق ونحوه. والحال أنها إيديولوجيا متحيزة تعادي الإنسان قائمة على فكرة يتيمة تتكرر هنا وهناك نماذج أشبه ما تكون بالماتريوشكا الروسية تلك الدمية الشهيرة التي تتضمن داخلها عدة دمى أخرى بأحجام متناقصة نماذج لا يختلف بعضها عن بعض إلا من حيث اللون والحجم بحيث أن الأكبر تحوي الأصغر منها وهكذا.
    إن فترة الحداثة والتي تمتد منذ الثورة العلمية والصناعية التي شهدتها أروبا في القرن السابع عشر والثامن عشر واستمرت إلى حدود الربع الأخير من القرن العشرين وما أنتجته هذه الثورة من علوم اجتماعية وسياسية كانت جميعها حبيسة للإبستيمولوجيا النيوتونية ولم تفارقها هذه الإبستيمولوجيا بتاتا رغم الإختلاف الظاهري الذي قد يبدو من الوهلة الأولى جذريا بين مدرسة فكرية وأخرى..إذ أن جميع الأطروحات الحداثية تقوم على فكرة أن مخ الإنسان يطيع قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا. وبالتالي كانت مبادئ الحداثة في اتساق مع الفيزياء الكلاسيكية ونظرتها الميكانيكية الحتمية للكون استنادًا إلى قانون اطراد الطبيعة. بمعنى أن ظواهر الطبيعة تجري بشكل مطرد على وتيرة واحدة لا تتغير ما حدث اليوم سوف يحدث غدًا وإلى الأبد فهو مثال لقانون عام لا يعرف الإستثناء مادام وقوعه محكومًا بتوفر كل الشروط الفيزيائية..فكانت السِّمة البارزة في الأطروحات الحداثية دونمَا استثناء هو غياب الذات الفرد الإنسان -الإرادة والقصدية- وحضور النظرية العامَّة التي تنطبق على كلِّ الأحوالِ في الزمانِ والمكانِ والقائمة على الحتمية الضبط والتحكم والتنبؤ إسوة بالقوانين الفيزيائية والبيولوجية. أطروحات ينحصر فيها دور الإنسان بحتمية الإنصياغ لتلك النظريات ومحاولة التكيف مع الواقع فهو مجرد شيء من الطبيعة يسري عليه ما يسري على غيره. وهي الأطروحات التي يسميها فروانسوا ليتوتار أبرز مفكري مابعد الحداثة بالسرديات الكبرى أو الميتا-حكايات والتي أُعْلِنَ سقوطها وتآكلها في الربع الأخير من القرن العشرين وحَلَّت محلها السرديات الصغرى لما بعد الحداثة أو مايُعرَفُ حديثًا بمصطلحِ التنمية البشرية. ومن أدبيات هذه السرديات أنها تُعنى بالذات إلى حد المغالاة ترفضُ النظرية العامَّة الضَّبط التحكم والتنبؤ في العلوم الإجتماعية والإنسانية. تبشر بالتعددية باللاَّمركزية بالنسبية. بمعنى أنها ابستيمولوجيا جديدة على نقيض الإبستيمولوجيا النيوتينية التقليدية..وهي نزعة لانراها تعبر عن صحوةِ الضمير الإنسانيِّ في رفضِه النزعة العلموية والدعوة إلى العودةِ والتمركزِ حول الذات بقدر ماهيَ تعبيرٌ عن ظهورِ منظومةٍ مفاهيميةٍ جديدةٍ فَرضت على الفِكرِ الغربيِّ تجاوُزَ المنظومةَ المفاهيميةَ القديمة. هذه المنظومة لا نراها تَحيدُ عن إيديولوجيا العلمية scientism التي كانت سائدة من قبل..فمنتجات مابعد الحداثة نراها بدورها تجسيدًا للمفاهيم التي أنتجتها ثورة الفيزياء الجديدة وهي النظريات الثلاث النظرية النسبية لآنشتاين نظرية الكوانتم ونظرية الفوضى كايوس (الشواش) وتعرف أيضا بأثر الفراشة..ومن أهم المفاهيم التي جاءت بها هذه النظريات هو قولها بتدخُّلِ الإنسانِ كمحدِّد في الظواهرِ الفيزيائية. فالنظرية النسبية قالت بتغير النتيجة الفيزيائية حسب المكان والزمان الذي يتواجد فيه الراصد وفي هذا إعادة هيبة للذات الراصدة بأن أصبحت طرفًا في موضوع البحث وهو ماكان مفقودًا في الفيزياء التقليدية التي اعتبرته مجرِّد مشاهد لا يؤثر تواجده على النتائج الفيزيائية((اتجدر الإشارة إلى انه لا علاقة بين النظرية النسبية لآنشتاين والنظرية النسبية في المعرفة فالأولى تقوم على حقائق ثابتة مُحكَمَة وآنشتاين يعتقد بأن العالم محكوماً بقوانين صارمة حتمية لا يمكن خرقها أبداً وتكفي مقولته الشهيرة "الله لا يلعب النرد"))..ثم تدعمت الفكرة مع نظرية الكوانتم والقائلة بأن الراصد له تأثيرٌ على طبيعة الجسيمات تحت الذرية والتي لا تبدو جسيمات إلا عند ملاحظتها..ثم جاء دور مبدأ عدم التعيين لهايزنبورغ indeterminacy principle لينفي إمكانية التنبؤ بمسار الجسيمات وأنه لم يتبقَ أمام الإنسان إلا الإشتغال على الإحتمالاتِ والترجيحِ. وتوجد أيضا فكرة أن الجسيم يمكن أن يُنْظَر إليه في الوقت نفسه بطريقتين مختلفتين وتكون كلتاهما صحيحة أو أن يتواجد في مكانين في ذات اللحظة. أما النظرية الثالثة أو الثوة الثالثة كما يصفها جيمس غليك فهي أثر الفراشة والتي كانت تُعْنَى أوَّلَ الأمرِ بالتغيرات المناخية وجاءت بفكرة أن رفرفة جناح فراشة فوق بيكين من الممكن أن يكون له تأثير بعيد المدى يؤدي إلى حدوث إعصار مدمر فوق نيويورك أو واشنطن وطفت على السطح فكرة أو حقيقة أنه لا يمكن التنبؤ بتغير المناخ بعيد المدى نظرًا لعدم قدرة الإنسان على الإحاطة بالظواهر الصغيرة التي قد تبدو هامشية والتي يصعب الإحاطة بها وتحديدها. وقد دخلت جميع هذه الأفكار إلى مجالاتٍ عِدّة كعلم النفس والسياسة والإجتماع وأصبحت هي المحدد لكل ما ينتجه الفكر الغربي وقد سبق أن تحدثنا في مقالٍ سابقٍ عن فلسفةِ المعنى في اللغة التفكيكية المابعد حداثية والتي تفترض وجود المعنى ونقيضه في الجملة الواحدة كما تنعدم فيها معاني الألفاظ بلعبة عدم التحديد أو مايسمى الإختلاف والإحالة كما أن تحديد معنى ما لا يتحدد إلا عندما يتصل القارئ (الراصد) بالنص وقد ينتج عن ذلك اختلاف وتناقض رؤى حسب زمان الإتصال بالنص ومكانه -راجع مقال التفكيكية- ..ولا يقتصر هذا التحليل على حقلٍ دون آخر فبالكاد نجد مجالاً لم تطله هذه المنظومة المفاهيمية الجديدة..وهو ما سنتعرض له في المحاور القادمة..

    /في علم النفس
    يتسم علم نفس "الحداثة" بالنزعة الميكانيكية، الحتمية، والميل نحو الضبط، التحكم والتنبؤ. وهي نزعة تشمل المدارس الوضعية، العقلية، والإستبطانية على حد سواء والتي تزامنت مع حقبة الحداثة فالمدرسة السلوكية أو ما يعرف بعلم نفس الغائب تنظر للإنسان ككائن سلبي سلوكه - سواء أكان حركيًّا أو إيمائيًّا أو اجتماعيًّا اوعقليًّا أو لغويًّا- ماهو إلا تعبير عن ردود أفعال تجاه ما يقع عليه من مثيرات بيئية خارجية، فأحداث البيئة هي من يحدد سلوك الإنسان، تتحكم به ومن ثم تمكننا دراسة تلك المثيرات البيئية من التنبؤ بسلوك الإنسان قبل حدوثه بعيدا عن لعبة الإحتمالات أو عدم الدقة واللاتعيين. ثم بانتقالنا إلى الإتجات الإستبطانية وأبرزها الفرويدية سنجد كذلك غياب كلي للإنسان –الشعور، الإرادة، والقصدية- مقابل حضور كلي لنزعة ميكانيكية آلية لا يلعب فيها الإنسان سوى دور المشاهد. وهي الفكرة القائلة بأن القسم الأكبر مما يفكر به الإنسان عن وعي وإدراك يتأثر بقِوًى تفعل فعلها من غير علم منه وهو اللاشعور. وتلك القوى في جوهرها ذات طبيعة فيزيولوجية وطبيعة بيولوجية هي من يتحكم، يضبط، ويوجه وبالتالي لا يكون سلوك الإنسان غير نتيجة حتمية كانت قد قررته تلك القوى سلفًا. ثم نجد النموذج العقلاني المثالي النظريات التقليدية rationality theory تتكون من عدة نظريات تنسب أهما لماكس فيبر وقوله بفكرة القرار الرشيد أو العقلاني دون الأخذ بالإعتبار العوامل الضاغطة العديدة التي تقلل من قدرة الفرد على اتخاذ قرار رشيد.. ومثله مثل هنري فايول الذي يرى بأن جوهر الإدارة يكمن في قوة التنبؤ قبل حدوث الأشياء، فلابد أن يكون لدى القائد بُعْد نظر وقدرة على توقع المستقبل بحيث يُقَدِّر كل الاحتمالات، جميع الإختيارات والبدائل تكون معروفة لديه، يُقَدِّر أن أصعبها قد يقع ومن ثم يستعد له.
    هذا ماساد في حقبة الحداثة وبانتقالنا إلى مابعدها سنجد انقلابًا جذريًّا في المفاهيم. سنستخدم مفهوم الإحتمالات بدلاً عن الدقة، اللاتعين بدلاً عن التعين، نقص المعلومات بدلاً عن الصورة الكاملة وسنتحدث عن "أثر الفراشة" الذي سيحيي مفهوم الأنا، الإرادة، الذات ويجعل من الإنسان سيدًا لا يقبل الضبط أو التحكم أو التنبؤ بسلوكه أو حتى الدراسة العلمية الدقيقة..هذه المفاهيم يجسدها اليوم علم النفس المعرفي ويسمى أيضًا علم النفس النفس الإدراكي cognitive psycology وهو علم قائم على احترام الذات self-esteem يستبعد ما أغفلته الإبستيمولوجيا الكلاسيكية الميكانيكية ويتجاوز قصورها وتسطيحها للظاهرة النفسية ليُصوِّب الإنتباه على الطريقة التي يفكر بها الناس ومعرفتهم وتصوراتهم كمحددات أساسية للشعور، الفعل، والسلوك وعدم خضوع الظواهر الاجتماعية لمبدأ الحتمية وأن سلوك الإنسان تحكمه الذاتية التي يصعب تحديد عواملها يقول د.رافع و د عماد الزغول في كتابهما علم النفس المعرفي: «يعتقد العاملون في هذا الإتجاه أن الإنسان يستقبل معلومات هائلة من البيئة ويختار بعضا منها ليعالجها ثم يدمج أجزاء من المعلومات التي نتجت عن المعالجة ضمن بناءه المعرفي أي يخزنه في الذاكرة ثم يقوم بفعل ما بناء على ما توصل إليه نتيجة معالجته لهذه المعلومات فاستجابات البشر مبنية على معالجتهم للأحداث والمعلومات وليس بناء على اقتران بسيط أو تعزيز تقدمه البيئة.»[1] ولكن هنا يبقى السؤال في هل تلك المعالجة قابلة للرصد، الضبط، والتوقع. تقول يمنى الخولي في كتابها ثورة العلم في القرن العشرين: «نحن لا نشاهد كل وقائع الرؤية ولا نسمع كل وقائع الصوت..الإنتباه انتقائي إلى حد كبير مما يجعل وقائع معينة دون غيرها تدخل حيز الإدراك وليس من الضروري أن تكون هي الأقوى في إثارتها للأعصاب الحسية ..فالبرنامج المعرفي للشخص أقوى في توجيه الإنتقاء في الإنتباه.»[2] وهي الظاهرة التي يصفها دانكان duncan بحالة عدم التأكد كون بيئة القرار معقدة ومتغيرة أي أنها تحوي عددًا كبيرًا من العوامل التي تؤثر في عملية اتخاذ القرار. وأن هذه العوامل تتفاعل مع بعضها بطريقة غير متوقعة وهي الفكرة التي باتت قبلة كافة المشتغلين بهذا المجال فقد أشار نورثكرافت ونيل Northcraft and Neal أن هناك مجموعة من العوامل التي تقدح في مبدأ التوقع منها أننا لا نستطيع أن نحدد بصورة واضحة ما سيحدث في المستقبل فأهداف الإنسان وحاجاته متغيره ومعقدة تخضع لعوامل شخصية وبيئية غير معروفة فكثير من الظواهر السلوكية تكون معنوية أو قيمية أو متعلقة بالأهواء وهي دوافع خفية خارج نطاق الملاحظة والتجربة. كما نجد أيضا نظرية المسح المختلط Mixed scaning..وتنسب لأتزيوني Etzioni ينتقد هذا النموذج المدرسة التقليدية القائمة على فرضية الرشد الكامل كما عند ماكس فيبر وهنري فايول ويرى أن اتخاذ قرار راشد غير ممكن في ظل ما يعانيه الفرد من عدم امتلاك قدرات مثالية وما تضعه البيئة من قيود وعراقيل ويوافقه في ذات النهج أصحاب نظرية العقلانية المقيدة Bounded Rationality theory حيث يرون أن متخذ القرارات لا يستطيع أن يكون عقلانيًّا بسبب محدودية نظام معالجة المعلومات لديه وأن إعطاء وصفة لكيفية صناعة القرار المثالي أو الراشد لا تساعد في فهم القرارات التي يتخذها الأفراد أو التنبؤ بها.[3]
    وفي ضوء هذه المتغيرات تم إسقاط أنموذج السرديات أو النظريات الكبرى في علم النفس وهي السرديات القائمة على الإبستيمولوجيا الميكانيكية المحرك الإيديولوجي للحداثة وحلت محلها دراسة الفروقات الفردية individual differences والتمايز النفسي psychological defferentiation حيث أظهرت نتائج الدراسات وجود فروق بين الأفراد في طريقة تناول المعلومات ومعالجتها وأن مثل هذه الفروق ترتبط بجوانب شخصية إلى حد ما.[4]

    //في علم الاجتماع وعلم الإناسة
    تُكَرِّس السوسيولوجيا التقليدية والمرتبطة بابستيمولوجيا الحداثة سيطرة النظام الإجتماعي على الفاعلين (الأسرة، المدرسة، المصنع، الدولة ) وتُغْفِل دراسة الجانبَ الآخر من المجتمع وهم الفاعلون نتيجة التأثر بالقوانين الفيزيائية والبيولوجية أين يكون فيها الفرد تابعًا خاضعًا محتَّم عليه أن يمتثل ويتكيف. وعلى هذا الأساس وُضِعَت النظريَّات والقوانين الإجتماعية أُسوةً بالنظريَّات والقوانين في العلوم الطبيعية حيث يُعتبر أوجست كانت رائد الفلسفة الوضعية أول من صكَّ كلمة سوسيولوجيا sociology وكان قد أسماه أوَّل الأمرِ بالفيزياء الاجتماعية ثم غيره إلى علم الاجتماع.[5] ويَنظُر كانت إلى جميع الظواهر الاجتماعية على أنها خاضعة لقوانين طبيعية لا تتغير وفق ما أسماه بقانون "الحالات الثلاث" وهو قانون يزعم وجود سيرٌ آليِّ للإنسان والمجتمعات وفق مراحل ثلاث هِيَ دينية فلسفية ووضعية، ليعلن بذلك ولادة علم اجتماع ولادة بيولوجية تنادي بضرورة محاكاة علم الاجتماع للعلوم الطبيعية ويميل إلى أن يكون أداة للمحافظة على النظام ويبدو هذا متمثلاً في المنطوق الأساسي لكلمة وضعية positivism والتي تعني الوقوف إيجابًا من النظام الإجتماعي القائم وثمَّةَ شواهدَ كثيرةٍ على هذا التوجه منها تأكيده على السلطة المركزية في كل الميادين ومناداته بالحد من حرية التفكير لقد فرح وهلل عندما قبض نابليون على ناصية السلطة بيد من حديد.[6]..وهي النقطة التي يختلف فيها جذريًّا مع عالم الاجتماع الآخر كارل ماركس الذي يعتبرها فلسفة تبريرية. إلا أنهما يشتركان في الإبستيمولوجيا الميكانيكية للحداثة وهو ما يعنينا في هذا المقال حيث أن الماركسية تقدم نفسها كصورة ثابتة للنظام الميكانيكي للعالم حيث ترسم للتاريخ والمجتمعات مسارًا تطوريًّا حتميًّا وتعاقبًا مرحليًّا إلزاميًّا ميكانيكيًّا وفقَ أنموذجِ المراحلَ الخَمْس وتؤكد بدورها على القدرة على التنبؤ بل إن المراكسية قدمت نفسها أخيرًا كعلم التنبؤات الفاشلة –راجع مقال الماركسية-
    ثم يأتِ عالم الاجتماع دوركايم بتأثره الواضح بأوجست كانت وقوله بالفكر العضوي والمماثلات البيولوجية «ويتبدى هذا بوضوح في تأكيده على ضرورة تناول الظواهر الإجتماعية كأشياء وهو مايعني صراحة أو ضمنًا محاكاة العلوم الطبيعية وتطبيق نظرتها وتصوراتها للظواهر الطبيعية على الظواهر الإجتماعية»[7]..لتبدأ إثر ذلك تشكل النظرية الوظيفية البنائية في علم الاجتماع والتي يُعتبَر أوجست كانت واميل دوركايم مؤسسيها الأوائل إضافة لهربرت سبنسر الذي شبه المجتمع بجسم الكائن الحي. «وتقوم البنائية الوظيفية على نفس مسلمات النموذج العضوي في البيولوجيا وعلم وظائف الأعضاء من حيث رؤية المجتمع كنظام مكون من أجزاء مترابطة له وظائف معينة متستمدة من وظائف الجسم يؤديها لاستمرار وجود النظام والحفاظ على بقاءه واستمرار تحقيق تكيفه وتوازنه تماما مثل النظم البيولوجية والطبيعية»[8].. ثم جسدها في الانثربولوجيا كل من راد كليف براون ومالينوفسكي مؤسس المدرسة الوظيفية في الأنثروبولوجيا والتي كانت تبتغي بناء علم اجتماع قائم على المشابهة مع علوم البيولوجيا، الحياة، الكيمياء والميكانيكا تُركِّز على الجوانب الثابتة من النسق أكثر من الأبعاد الدينامية المتغيرة.
    وفيما يخص الإتجاهات العقلانية نجد عالم الاجتماع ماكس فيبر وقد تأثر بدوره بإنجازات العلوم الطبيعية وما صاحبها من ثورة صناعية وانتشار المناخ العقلاني في التفكير. فقد اهتمَّ فيبر بالفردية والتعميم في آن واحد من خلال قوله بما يسميه "النموذج المثالي" وهو نموذج يبدو كآلة صماء تعمل بانتظام ونسق وميكانيكية دقيقة. وضع نموذجه التنظيمي بأسسه وقواعده معتقداً أنها ستلاءم أي بيئة أو أي مجال إداري ليخلص في النهاية بالقول أن المجتمع بكامله يتجه نحو التنظيم البيروقراطي في تكريس مفضوح لمبادئ الرأسمالية وأنظمتها القائمة. وبالتالي كانت الحداثة تعبيرًا عن قيود أكثر من كونها تحريرًا وعلى هذا الأساس رفض مفكرو مابعد الحداثة السوسيولوجيا الكلاسيكية رفضا تامًّا ووضعوا حدا للإبستيمولوجيا التقليدية التي وصفوها بالتبريرية وأقاموا على أنقاضها ابستيمولويوجيا جديدة تقوم على التشكيك والتكذيب والتفنيد وتفرِّق بين المجال الطبيعي والمجال الإجتماعي وهي الإبستيمولوجيا التي جسدها كارل بوبر الذي يرى بأن ما يحول دون تطبيق المناهج العلمية في العلوم الاجتماعية هو اختلاف العلوم الطبيعية عن العلوم الإجتماعية فالقوانين والتعميم والتجربة والتنبؤات الدقيقة والموضوعية. كلها أمور تأخذ شكلاً مغايرًا في العلوم الاجتماعية ففي هذه الأخيرة القوانين تتميز ببنية تاريخية والتصميم أقل إمكانية والتجربة اكثر صعوبة والتنبؤ غير مضمونة نتائجه.[9]
    فلم يعد علم الاجتماع أسير الحتمية الميكانيكية التي حكمت منظور علم اجتماع "الحداثة" حيث ظهرت مدارس تستوعبها وتتجاوزها وتدرس الظواهر الاجتماعية من خلال مفهوم "أثر الفراشة" فالظواهر الاجتماعية تتعلق بالأفراد والجماعات وهؤلاء يختلفون فيما بينهم من النواحي النفسية والإجتماعية والطبيعية وهي متغيرات variables في غاية التعقيد يصعب من خلالها التعميم أو الضبط أو التنبؤ. فظهرت بذلك سوسيولوجيا جديدة تركز على فاعلية الأفراد كما في سوسيولوجيا الفعل أو سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية لدى ألان تورين الذي اشتهر بتطويره مفهوم مجتمع ما بعد الصناعي وكذلك علم الجغرافيا انتقل من النظرة الحتمية التي ترى المسألة نتاجا آليا للعوامل البيئية إلى نظرة لاحتمية تنطلق من أن العامل البشري أكثر حسمًا صاغتها بقوة مدرسة الإمكانات possibilism وهذا المصطلح قدمه لوسيان فيفر L.Fibvre في كتابه مقدمة جغرافية للتاريخ مؤكدًا على تحالف الإنسان مع عوامل البيئة وكان فيفر متطرفًا في تأكيده على دور الإنسان فهي نظرة تنطق من أنه لا يوجد في الطبيعة ضرورات أو حتميَّات بل توجد إمكانات تنتظر فعالية الإنسان ..وقد بلغت ذروتها بنشأة علم الجغرافيا الإرادية وهي مبحث يقوم على معلومات تتقاطع فيها تحليلات الاجتماع والإقتصاد والسياسة. لقد تغير المشهد وأصبح المجتمع كما صورته وشبَّهته السيسيولوجيا الكلاسيكية بقصر من حجر إلى أشبه مايكون بمشاهد طبيعية متحركة مجتمعات متشظية حروب تحولات تقنية متسارعة هجرات..

    ///في علم السياسة
    كغيرها من العلوم الاجتماعية -وإن كانت متأخرة نسبيا- تأثَّر علم السياسة بفيزياء نيوتن وحاول أن يرسم علماً مضبوطاً بقوانين صارمة من خلال استعارة بعض التشبيهات والمفاهيم من علوم الفيزياء والأحياء. صاغتها بقوة جامعة شيكاغو بظهور المدرسة السلوكية في السياسة والتي تمثل امتدادا لأفكار جون واطسون مؤسس علم النفس السلوكي القائم على منهج بافلوف في الإنعكاس الشرطي. وكانت البداية الفعلية لهذا الإتجاه والإنتقال من علم النفس إلى السياسة سنة 1925 عندما نشر تشارلز ميريام " الأوجه الجديدة للسياسة" وطالب فيه باعتماد أكبر على الإحصائيات والمراقبة والتجارب وإعادة بناء أسس المنهج في التحليل السياسي مقترِحًا أن "السيطرة الاجتماعية الذكية" قد تتمخض عن علوم السياسة والطب وعلم النفس. وفي تلك الحقبة قوِيَ الإتجاه نحو استخدام علم النفس لسبر دوافع وخلفيات المواقف السياسية والإجتماعية بما في ذلك النوازع الباطنية وغير العقلانية وعرف أنصار هذا المنحى بمدرسة شيكاغو.[10] وفي عام 1930 عمد هارولد لاسويل إلى المغالاة في هذا الإتجاه في كتابه "علم الأمراض النفسية والسياسية" 1930 الذي أعقبه بكتاب "القوة والشخصية" 1948 حيث طبَّقَ الفرويدية على دراسة القوة والسلطة السياسية. كذلك حاول ميريام ولاسويل "تطبيق المناهج الوضعية في دراسة "ظاهرة السلطة" فنشر ميريام كتابه "القوة السياسية" عام 1934 ولاسويل "السياسة : من يحصل على ماذا..متى وكيف" عام 1936 وقد تمخض عن دراسة مدرسة شيكاغو للسلوك الإنتخابي والنتائج الانتخابية بروز مبادئ أساليب الإستفتاء واستطلاعات الرأي العام.[11]
    وإلى جانب مدرسة شيكاغو توجَّهَ العديدُ من علماءِ السياسة في الولايات المتحدة إلى دراسة العوامل المحرِّكة للفعل السياسي مثل جماعات الضغط و"اللوبي" و"الحكومة الخفية" التي تحرك الحكومة المعلنَة أو الرسمية ودور الزعاميَّة والأحزاب السياسية والمؤثرات الإثنية في سلوك الهيئة الناخبة وفي القرار السياسي.[12]
    وتمخض عن هذه التطورات تحويل السياسة إلى علم الفيزياء الاجتماعية تدرس وتفسِّر تصرفات الأشخاص والجماعات والتنظيمات من خلال ردود أفعالهم فيما يتعلق بشؤون الحكم ومن ثم تتنبأ بالسلوكات السياسية وفق نظرية عامة وأساليب تعتمد على التراتب السبرنطيقي cybernetics أينَ يتلاشى الإنسان في حتمية كونية حيث ان أي نسق اجتماعي أو سياسي يجب أن يتكيف مع بيئته وهي محاولة لإخضاع المعايير القيمية التي تميز السلوك البشري للحتمية والعقلانية بشكل لا يتناسب مع النوازع المعقدة للظواهر السياسية...
    ثم جاء التحول الجذري والإنقلاب السياسي على الإبستيمولوجيا النيوتونية في السياسة بمؤتمر "من أجل علم سياسة جديد" عام 1967 والذي بشر بحركة ما بعد السلوكية وهو إعلان تزامن مع صعود ما بعد الحداثة وبالتالي «ارتبطت مابعد السلوكية بما آل إليه التفكير البشري في أواخر القرن العشرين وركونه إلى ما بعد الحداثة»[13]
    الشيء الذي يفسر تركيز حركة ما بعد السلوكية في السياسة على «الفردانية والذاتية التشتيت والإختزال التفكيك وحل الإرتباطات الإدراكية. التفريق بين القيم والواقع وهي تقريبًا نفس المبادئ التي قامت عليها ما بعد الحداثة في أواخر القرن العشرين فكل تفسيرات السلوك البشري يجب أن تُبنى على تفسيرات السلوك الفردي وهذا على عكس السلوكية»[14] ومن ثمَّ تجاوزت التحديد والكلية الضبط والتنبؤ وشاعت المدرسة التفسيرية التي ترى أن كل ظاهرة حالة منفردة في ذاتها وبذاتها وبالتالي تحتاج إلى فهم وتفسير مستقل. وطبقًا لرأي أنجلهارت فإن الحقل يتجه لتفسير الأحداث بصورة تختلف من مجتمع لآخر بفعل اختلاف الثقافات. وركزت على دراسة المتغيرات التي من شأنها التأثير على تشكيل الأنظمة السياسية المختلفة واعتبرت أن تلك المتغيرات إنسانية يعني تتعلق بالسلوك البشري الغير قابل للضبط ..وأنها عوامل ومتغيرات يصعب ضبطها والسيطرة عليها. فأصبح الحقل أكثر تجزؤا وتشظيًا ألغيت النظريات العامة ووقع الإكتفاء بنظريات جزئية بسبب تناقص القدرة على التنبؤ..ويمكن القول أن مابعد الحداثة قد أفرزت ثلاث اتجاهات أساسية في حقل السياسة.. اتجاه قبول آثار الحداثة postmdernism of acceptance وهو تيار يدرك مشاكل الحداثة ويقبلها أحيانا نظرا لعدم وجود بديل له في نظرهم.. اتجاه مقاومة آثار الحداثة postmedernism of resistance وهؤلاء يرفضون مبادئ الحداثة ولا يمجدون التاريخ ولا يبحثون عن الرجوع لما قبل الحداثة بعكس التيار الثالث تيار المحافظون الجدد وإن كانوا يرفضون مبادئ الحداثة إلا أنهم يطمحون إلى العودة إلى الماضي واستمداد القيم منه حيث الماضي بالنسبة إليهم مصدر إلهام وطموح[15]..وتيار المحافظون الجدد هو التيار الأكثر نفوذًا في الواقع الأمريكي والدولي يعرف في السياسة الأمريكية بمثلث الرعب يجمع الجمهوريين مع أتباع الفكر المحافظ مع أنصار اليمين الديني المتطرف. وهذه الإيديولوجيا متغلغة بشدة داخل الحزب الجمهوري وهي الإيديولوجيا الأكثر نفوذا وتأثيرا على الإدارة الأمركية. وبغض النظر عمن سيكون جالسًا على كرسي البيت الأبيض سواء ديمقراطيًّا كان أو جمهوريًّا فإن تأثير هذه المجموعة سيظل قائمًا بحكم سيطرتهم التامة على الرأي العام فهم يملكون مجلة الويكلي ستاندرد وهي من أكثر المطبوعات نفوذًا في واشنطن صاحبة الغلاف الشهير عام 1997 "يجب على صدام ان يرحل"! ويملكون أيضًا ذي ناشيونال إنترست ..الواشنطن تايمز..ذي نيو ربيبلك أو الجمهورية الجديدة ..ذي ناشيونال ريفيو ..كومنتري ..ول ستريت جورنال ..لوس أنجلس تايمز وغيرها..وترجع أصول تأسيس هذا التيار إلى الستينات والسبعينات لليو ستراوس بجامعة شيكاغو وهو زمن صعود مابعد الحداثة. يعرِّفون أنفسهم باختلافهم عن الآخر لا بما يمثلونه كما هي معاني الأشياء في فلسفة اللغة التفكيكية ولهذا هم لا يتقبلون الوافدون على أراضيهم من قوميات أخرى أو أصحاب الرؤى الجديدة على الساحة الثقافية أو الممارسات الدينية فرفضهم لهؤلاء يعتبرونه تعريف لهم..من أدبياتهم الفوضى الخلاقة كما جاء على لسان كونداليزا رايس فالستراوسيون يرون أن السلطة لايمكن ممارستها إلا بعد تكسير كل أشكال الثبات والاستقرار.. من أدبياتهم كذلك الإنتقال من دعم الأنظمة الشمولية إلى دعم فكرة الأنظمة المفكَّكَّة.. سياسة خارجية تقوم على اللاعقلانية وتجعل من الحرب وسيلتها في تحقيق الأهداف..تؤكد على سقوط النهائيات فالشيء يبدأ ولا ينتهي. فالنظام الدولي الجديد بدأ ولكنه لم يتشكل بصورته النهائية بعد ولا تعرف ما هي حدوده و أثاره ومعطياته..حربهم على الإرهاب بدأت ولا تدري إلى أين تسير..تؤكد على مبدأ التفكيك من خلال تعزيز الصراعات الاثنية والثقافية الداخلية في العديد من دول العالم من أجل تفكيكها بالشكل الذي يخدم مصالحها كما تعمل على تفكيك التوازنات الدولية..وللإطِّلاع أكثر على أدبياتهم يكفي إلقاء نظرة على مقال الديبلوماسي البريطاني روبرت كوبر أحد المقربين من توني بلير أكبر الداعمين لسياسة المحافظين الجدد وهو مقال بعنوان "دولة مابعد الحداثة"..وقد نشر في مجموعة مقالات نشرها مركز السياسة الخارجية أحد أهم مراكز الفكر البريطانية والمجموعة بعنوان "إعادة تشكيل العالم: التأثيرات بعيدة المدى لأحداث الحادي عشر من سبتمبر"..-أثر الفراشة-

    تآكل السرديات الصغرى طريق العودة نحو البدايات
    يجبُ التفريق مابين التداخل بين الحقول المعرفية أين تتقاطع حقول معرفية متعددة نظرًا لتعقُّدِ الظاهرة متعددةِ الأبعاد اجتماعية سياسية أو ثقافية وهو ما يسمى inter- disciplinary studies وبين نقل المفاهيم والنظريات من حقل معرفي وإسقاطها على آخر Intra-disciplinary studies. فالحالة الأولى ضروريَّة نظرًا لتعدد الإختصاصات نتيجة تعقد الظاهرة أما الحالة الثانية فهي قد تفيد وقد لا تفيد وهي في غالب الأحيان لا تفيد نظرًا للإختلاف الجذري في المنهجية المتبعة بين الحقلين. وهذا الإسقاط هو مايسمى بالعلموية والذي أدى في نهاية المطاف إلى تآكل السرديات الكبرى بتعبير ليوتار لتحلَّ محلها السرديات الصغرى، ونعني بها تلك التي رسمتها تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP المُصْدَرَة بدءًا من 1990 حيث وضعت حدًّا لمفاهيم التقدم الكبرى وذلك من خلال إعادة تعريف التقدم الإنساني وربطه بمفهوم التنمية البشرية أي السير نحو الوفرة والحرية والسعادة..فالتقدم البشري في بعده المابعد-حداثي يتجسد في مفهوم تحرير الذات رعايتها والعناية بها (استهلاك-أكل-شرب-جنس-مثلية جنسية) يتجسد أيضا في مفهوم السعادة، إيجاد وظيفة، في الصحة، في توفير الضمان الاجتماعي، في اللهو، الترفيه، الرياضة..ولهذا سميت سردياتٍ صغرى لتمحورها حول الذات ولا شيء غير الذات.
    لكن باشتراكها في المنهجية المتبعة مع الأطروحات الحداثية المتآكلة ونعني هنا تلك النزعة العلموية الوضعية كان أمرا طبيعيًّا أن يزحفَ هذا التآكل على السرديات الصغرى لتلقى بدورها المصير ذاته، حتى أنَّ هذا القرن والذي كان يُراد منه أن يكون عصرَ التقدُّمِ يُنظرُ إليه اليومَ في أروبا وبتعبير ألان تورين بأنه قرن الأزمة، قرن الإنحطاط، أو الكارثة..لقد تحولت تلك اليوتوبيا المنشودة وبلمح البصر إلى ديستوبيا وتحول المستقبل الذي كان بمثابة الفردوس الموعود ومستودع أحلام الذات إلى مستودع للكوابيس. فالجهات الصحة الدولية والمحلية لا تكف عن تذكيرنا وبشكل متكرر بأن المستقبل الصحي لا يبعث على الإطمئنان: دراسة حديثة تقول أن أعداد المصابين بمرض السرطان ستتضاعف في أنحاء العالم كافة من 12.7 مليون حالة خلال 2008 إلى 22.2 مليون حالة بحلول 2030 بسبب أسلوب الحياة غير الصحي أي بنسبة تزيد عن 75 بالمائة. ويشير تقرير منظمة الصحة العالمية لسنة 2012 وهو يتضمن بيانات من 194 دولة إلى أن عدد المصابين بارتفاع ضغط الدم والسكري في ازدياد في الدول النامية والمتقدمة على حد سواء، وأن شخصا من بين كل ثلاث أشخاص في العالم مصاب بارتفاع ضغط الدم، وواحد من كل عشرة مصاب بالسكري ..وفي تقرير أعدته شركة united health group وهي شركة دولية تعمل في مجال الصحة والرفاه أن عدد مرضى السكري سيرتفع بأكثر من 54 في المائة في العشرين عاما المقبلة. وتشير توقعات اليونسكو إلى أن نحو نصف سكان العالم سيعانون نقصًا في مياه الشرب بحلول عام 2030 وذلك في ظل النمو السكاني وزيادة الإستهلاك وتغير المناخ، وأن الطلب على الماء في العالم ازداد بشكل غير مسبوق. وبحلول 2020 سيصبح النقص المائي ملموسا حتى في وسط وجنوب أروبا حيث سيؤثر في 44 مليون نسمة من سكانها وأكد المنتدى الاقتصادي الدولي أن هذا سيؤدي إلى أزمة غذاء عالمية طاحنة. وتشير التقارير الدولية أن الموارد الغذائية والمائية أصبحت شحيحة وتتضاءل بما لا يكفي لسد حاجات عالم يتزايد سكانه ويتمددون حضريا بشكل غير مسبوق[16]..وليس الصحة والغذاء بأفضل حال من سردية الوظيفة والمناخ فالأزمة العالمية وأزمة اليورو بلغت مستويات قياسية حتى أن سياسات التقشف طالت مجمل بلدان أروبا تقريبًا فقد ارتفعت معدلات البطالة بأرقام مهولة والذي بلغ 27 بالمائة في كل من اسبانيا واليونان و13 بالمائة في إيطاليا وال11 بالمائة في فرنسا..انخفاض مستوى دخل العائلة الواحدة..كلها عوامل أدت إلى وقوع أعمال شغب ومظاهرات في كل من مدريد واليونان وفرنسا إيطاليا والبرتغال وغيرها.وجميعها مؤشرات تؤكد أننا نعيش مرحلة تلاشي وانهيار السرديات الصغرى لمجتمع مابعد الحداثة وأن الدعامة (دولة الرفاه) التي كانت تحمي النظام والفكر القائم بحسب تحليل ماركوز بدأت تنهار عالميًّا..وقد بلغ التهديد أقصاه لا حِيال مستقبل البشر الصحي والوظيفي والغذائي وحسب بل حيال كوكب الأرض برمته. مخاطر تهدد بقاءه وبقاء الجنس البشري برمته. التلوث البيئي وتغير المناخ فبحسب تقرير أعدته منظمة دارا dara الذي يضم أكثر من خمسين متخصصا في المناخ والإقتصاد ورسم السياسات وبتكليف من منظمة vulnerable forum climate فإن اكثر من 100 مليون شخص سيموتون خلال 20 سنة بدءا من 2010 وانتهاءا بالعام 2030..وأن خمسة ملايين إنسان سيموتون سنويًّا بسبب تلوث الهواء والجوع والأمراض نتيجة تغير المناخ والإعتماد على الاقتصاد الكربوني (القائم على احتراق الكاربون ) وأن العدد قد يرتفع إلى 6 ملايين سنويا خلال 2030...إضافة للفياضانات وارتفاع مستوى مياه البحر وزيادة حدة الأعاصير المدارية[17]..ولعل المزاج المعاصر يمكن اقتناصه على نحو أفضل من كتابات الصحافي روبرت دي كابلان في تقريره عن الفوضى والتفكك في كل أنحاء العالم والمنشور بعنوان "نهايات الأرض" انتهى إلى القول "بأننا خارج نطاق السيطرة" فأروبا وأمريكا الشمالية خاضتا حربين عالميتين ثم حربًا باردة ليجدا أنهما تجتاحهما أمراضا وبائية مثل "الإيدز" وكوارث بيئية وجريمة منظمة..وأحوال متردية إضافة إلى تزايد بشري على مستوى العالم واشتداد الكوارث في كل أرجاء العالم يهدد بأن يُغرق الرخاء والحريات في الغرب ..إن الحقيقة المبتذلة هي أن المستقبل سيكون قاسيًا ومؤلمًا وعنيفًا وغير مؤكد...وقال كابلان أن الديمقراطية ذاتها أصبحت منظورًا مشكوكًا فيه لمعظم أرجاء العالم[18]
    لقد وصل الغربُ أخيرًا إلى آخر الطريق حيث لم يجد ذاك الفردوس المنشود لم يجد غير ديستوبيا أو يوتوبيا مقلوبة.. لكن المفارقة أن هذه الديستوبيا تحولت اليوم إلى سردية كبرى تمثلت في مشكلة المعنى لماذا الألم ؟ لماذا الموت ؟ لماذا الشر ؟ حالة اليأس هذه من الواقع ومن المستقبل باتت قضية عالمية تتجاوز حدود الفردية. إن الإنسان بات في حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى إلى المعنى في عالم اللامعنى عالم فقد سحره بتعبير ماكس فيبر ولهذا تعلو الأصوات في الغرب اليوم منادية بإعادة السحر إلى العالم كما هو عند الفيلسوف الكندي الشهير شارلز تايلور ومفكرون آخرون يدعون صراحة إلى إعادة هذا السحر إلى العالم ويقصدون به الدين. كما نلاحظ عودة كبرى للقوميات والخصوصيات والأصوليات الدينية وغيرها التي تتقدم في كل مكان في البلاد الأكثر تحديثا.. لقد أصبح هناك مزيدًا من الإحترام لحكمة المجتمعات التقليدية التي استمرت لآلاف السنين مقابل مجتمع حداثي أصبح وجوده حتى لقرن واحد موضع شك لقد باتت تتشكل اليوم رؤية وتزاداد النقاشات حول موضوع مابعد العلمانية ..


    [1]- علم النفس المعرفي ص24 //د.رافع و د. عماد الزغول
    [2]- ثورة العلم في القرن العشرين ص225 // يمنى طريف الخولي
    [3]- علم النفس المعرفي من ص334 إلى ص343 // د.رافع و د. عماد الزغول
    [4]- المرجع السابق
    [5]- اتجاهات نظرية في علم الاجتماع ص59 // د.عبد الباسط عبد المعطي
    [6]- المرجع السابق ص63
    [7]- المرجع السابق ص80
    [8]- ابستمولوجيا السياسة المقارنة ص171 //د. محمد نصر عارف
    [9]- المنهج العلمي وتطبيقاته في العلوم الاجتماعية ص84 //إبراهيم ابراش
    [10]- موسوعة السياسة المجلد3 ص369 //د. عبد الوهاب الكيالي
    [11]- المرجع السابق ص369
    [12]- المرجع السابق
    [13]- أبعاد التموجات الإبستيمولوجية على دينامية البناء والتفكيك المعرفي في حقل السياسة المقارنة ص20وص193 //بلخضر طيفور رسالة ماجستير
    [14]- المرجع السابق ص20
    [15]- ابستيمولوجيا السياسة المقارنة ص293 //د.محمد نصر عارف
    [16]- نهاية السرديات الصغرى في تجاوز أطروحة ما بعد الحداثة نادر كاظم
    [17]- نهاية السرديات الصغرى في تجاوز أطروحة ما بعد الحداثة نادر كاظم
    [18]- نهاية اليوتوبيا السياسية والثقافية في زمن اللامبالاة ص186// راسل جاكوبي
    التعديل الأخير تم 03-23-2023 الساعة 03:42 PM
    التعقيد في الفلسفة بمثابة أوثان مقدسة يُحرَّمُ الإقتراب منها بالتبسيط أو فك الطلاسم
    فمن خلال التبسيط يتكشَّف المعنى السخيف -لبداهَتِه أو لبلاهَتِه- المُتخفي وراء بهرج التعقيد وغموض التركيب..

    مقالاتي حول المذاهب والفلسفات المعاصرة


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء