يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

وقوله صلى الله عليه وسلم {ثم يعود غريبا كما بدأ} يحتمل شيئين: أحدهما أنه في أمكنة وأزمنة يعود غريبا بينهم ثم يظهر كما كان في أول الأمر غريبا ثم ظهر. ولهذا قال {سيعود غريبا كما بدأ} . وهو لما بدأ كان غريبا لا يعرف ثم ظهر وعرف فكذلك يعود حتى لا يعرف ثم يظهر ويعرف. فيقل من يعرفه في أثناء الأمر كما كان من يعرفه أولا.
ويحتمل أنه في آخر الدنيا لا يبقى مسلما إلا قليل. وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة. وحينئذ يبعث الله ريحا تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ثم تقوم القيامة. وأما قبل ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم {لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة} . وهذا الحديث في الصحيحين ومثله من عدة أوجه. فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق أعزاء لا يضرهم المخالف ولا خلاف الخاذل. فأما بقاء الإسلام غريبا ذليلا في الأرض كلها قبل الساعة فلا يكون هذا. وقوله صلى الله عليه وسلم {ثم يعود غريبا كما بدأ} أعظم ما تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال تعالى {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} . فهؤلاء يقيمونه إذا ارتد عنه أولئك. وكذلك بدأ غريبا ولم يزل يقوى حتى انتشر. فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة ثم يظهر حتى يقيمه الله عز وجل كما كان عمر بن عبد العزيز لما ولي قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر. فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريبا. وفي السنن: {إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} . والتجديد إنما يكون بعد الدروس وذاك هو غربة الإسلام. وهذا الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام كما كان الأمر حين بدأ. قال تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} إلى غير ذلك من الآيات. انتهى.