النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: معنى الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم

  1. Arrow

    ###بعد تكرر السؤال عن معنى الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم: فقد قرر الإشراف نقل هذه المشاركات التي هنا من موضوع المستشار سالم عبد الهادي الذي حاور فيه المستشرف الألماني د.ميكلوش موراني.
    على هذا الرابط:
    http://70.84.212.52/vb/showthread.p...61&page=4&pp=15

    ولهذا سيجد القارئ إحالات في المشاركات على الموضوع الأصلي تركناها كما هي ولم نتصرف فيها ومن أراد الوقوف على الموضوع كله ومتابعته فليرجع لرابطه الأصلي المذكور سابقًا.

    ونرجو أن ينفع الله بهذه المشاركات التي نقلناها هنا وينفع بها كاتبها وقارئها وناشرها.
    شاكرًا تفهمكم جميعا.
    مشرف###







    (7)
    نزول القرآن على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ


    وهذا يجرُّنا للكلام عن الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ..
    وقد صَرَّحَ البيان السابق، في الأحاديث المذكورة آنفًا بأَنَّ القرآن الكريم قد نزل على سبعةِ أَحْرُفٍ، ولم ينزل على حرفٍ واحدٍ، وبأيِّ هذه الحروف قرأتِ الأمةُ أصابت.

    وأفادتِ الروايات أَنَّ هذه الأحرف مُتَلَقًّاة عن الوحي الإلهيِّ، وليس اختيارًا ولا مذهبًا بشريًّا في القرآن، وإنما هي امتنانٌ من الله عز وجل على هذه الأمة الضعيفة بالتيسير والتخفيف، كما مضى صريحًا في لفظِ الحديث المذكور آنفًا في هذه المسألة..

    وقد سبقت الإشارة إلى أَنَّ هذه الأحرف السبعة هي بمثابة المترادفات السبعة للمعنى الواحد، وليست سبعة اختلافات متباينة أو متضادة..

    فالخلاف هنا من جنس ((الخلاف اللفظي)) أو سَمِّهِ إِنْ شئتَ ((اختلاف التنوِّعِ)).. فليس اختلافًا حقيقيًّا أو اختلاف تضادٍّ.. وإنما اختلافًا لفظيًّا أو سمِّه اختلافَ تَنَوُّعٍ.

    فهي سبعة أوجهٍ متوافقة متوائمة من حيثُ المعنى، مختلفةً من حيثُ اللفظِ، يُستفاد منها تقرير المعجزة بأكثرِ من لفظٍ عربيٍّ صحيحٍ، كما يستفاد منها التخفيف على هذه قبائل العرب جميعًا بمخاطبتِها بلسانها الذي تقدر على النطق به، مع زيادة الإعجاز في المعجزة الواحدة..

    فهي معجزاتٌ متعدِّدةٌ في صورةِ معجزةٍ واحدةٍ اسمها ((القرآن الكريم))..

  2. Arrow

    (8)
    معنى الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ


    وهذا يجرُّنا للكلام عن مَعْنى الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ

    ولنبدأ بنصٍّ واضحٍ في المسألة، ثم نذهب إلى أقوال العلماء لنرى الراجح منها في ذلك.

    رَوَى البخاريُّ (4992)، ومسلمٌ (818) من روايةِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ (الْفُرْقَانِ) فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ (الْفُرْقَانِ) عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ))، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ))، ثُمَّ قَالَ: ((اقْرَأْ يَا عُمَرُ)) فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ))أهـ

    ولنُلْقِ نظرةً الآن على اختلاف الناس في ذلك، مع المعنى الراجح بأدلَّتِه إن شاء الله عز وجل..

    وقد اختلف الناسُ في بيان الأحرف السبعة اختلافًا عظيمًا: فأوصلها بعضهم إلى خمسةٍ وثلاثين قولاً، كما نُقِلَ هذا عن ابن حبان، نقله ابن الجوزي في ((فنون الأفنان)) (67)، والقرطبي في ((تفسيره)) (1/42)، والسيوطي في ((الإتقان)) (1/138)، وغيرهم.

    ولَمَّا أشارَ ابنُ حجرٍ في ((فتح الباري)) (4992) إلى كلام ابن حبان؛ قال ابن حجرٍ: ((وقال الْمُنْذِرِيُّ: أكثرُها غيرُ مختارٍ))أهـ

    ونقَّح ابنُ الجوزي الأقوال فاختار منها أربعة عشر قولاً، بينما اختار غيره عشرة أو سبعة أو ستةً..إلخ.

    وأحجمَ بعضهم عن الكلام في المسألة، وزعم أنها من المتشابه أو المشكل.

    وسنقتصر هنا على أشهرِ الأقوال في المسألةِ، وبعد البحث والتمحيص وردِّ النَّظير إلى نظيره: رأيتُ أن أشهر الأقوال في المسألة: قول أبي عبيد ومَنْ معه القائلين بأن المراد بالأحرفِ هنا اللغات، والقول الثاني: قول مَنْ قال: إِنَّ المراد بالأحرفِ السبعة في الحديث تأدية المعنى باللفظِ المرادف ولو كان مِنْ لغةٍ واحدةٍ.

    وهذا المشهور في المسألةِ، عند تحرير الأقوال وتمحيصها، وما سواه فعلى نوعين:

    النوع الأول: فإما لا عبرة به كقولِ مَنْ قال: إن المقصود بها الخلاف في الحلال والحرام؛ وهذا من أبطلِ الباطلِ، وسيأتي تزييف أبي عبيدٍ له، وقد زَيَّفَه أيضًا أحمد بن أبي عمران فيما رواه الطحاوي عنه، وقال: وهو كما قال، نقل ابن عبد البر في ((التمهيد)) (8/276) ذلك عن ابن أبي عمران والطحاوي وأَيَّدَهما.

    والنوع الثاني: يرجع إلى ما سبق عند التمحيص والتحريرِ، كقول مَنْ يقول: المراد بالأحرفِ: التصريف، أو الجمع والتوحيد، أو التذكير والتأنيث، ونحو هذا مما حكاه ابن حبان وابن الجوزي والقرطبي والسيوطي وغيرهم.

    ووقع ذلك أيضًا في كلام ابن قتيبة، الذي لَخَّصَ الرازي معناه، وزاد عليه، ثم انتصر له الزرقاني في آخر أمره في كتاب ((مناهل العرفان)).

    وعبارة الرازي في ((اللوائح)) في الوجه الأول مثلاً: ((اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث))، وهذا الذي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وجهًا واحدًا ذَكَرَهُ ابن الجوزي تبعًا لابن حبان مثلاً وجهين..

    وهكذا أكثر الوجوه التي ذكرها البعض وجهين وثلاثة، جمعها غيرهم في وجهٍ، وهذه إحدى أسباب الاختلاف في وجوه الأحرف السَّبْعَةِ بين ظاهر كلام العلماء، والتي يمكن عند التمحيص والتحرير أن نجمع بين كثيرٍ منها، ونزيل عنها إشكال وجود الخلاف فيما بينها.

    ومِنْ جهةٍ أخرى، فقد ذكر الرازي وغيره أشياءً بألفاظٍ ذكرها غيرهم بألفاظٍ أخرى، وبإمكاننا إرجاع كلامه المذكور، والذي هو تنقيحٌ لكلام ابن قتيبة كما ذكر ابن حجر، (بل وزاد عليه النصّ على اللهجات)، يمكننا إرجاع الكلام المذكور إلى القول الثاني السابق في أَنَّ المراد بالأحرف السبعة تأدية المعنى باللفظ المرادف حتى وإن كان مِن لغةٍ واحدةٍ، (وسيأتي).

    وبهذا يمكن الجمع بين الأقوال التي ظاهرها الاختلاف، وطرح ما يخالف الصواب، لتعود الأقوال بعد ذلك إلى ما قرَّرَهُ أهل اللغة العارفين بها، والتي بها نزل القرآن، وهي التي بها يُفْهَمُ نصوص الإسلام الواردة.

    ولذا سأقتصر على القولين السابقين، وأنظر فيهما لاستخلاص الراجح منهما بأدلَّتِه إن شاء الله تعالى كالتالي:

    القول الأول: قول أبي عبيدة ومَنْ معه في أَنَّ المقصود بالأحرفِ في الحديث: اللغات.

    ولو رجعنا إلى مادة ((حرف)) من كتب اللغة، فسنجد المراد بالأحرف السبعة: سبع لغاتٍ من لغات العرب، وإلى هذا ذهب أبو عبيد في كتاب ((الغريب)) له (2/11، 3/159).

    فقال أبو عبيدٍ بعد أَنْ ذَكَرَ اختلافَ الْقَرَأَة من الصحابة في بعض الحروف، وعرضهم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نزول القرآن على سبعة أحرُفٍ، (وقد مضى حديث اختلاف عُمَر وهشام في هذا)؛ قال أبو عبيد عقب ذلك: ((فهذا يُبَيِّنُ لك أَنَّ الاختلافَ إِنَّما هو في اللَّفْظِ، والمعنى واحدٌ، ولو كان الاختلاف في الحلالِ والحرام لما جازَ أَنْ يُقال في شيءٍ هو حرامٌ: هكذا نزلَ، ثم يقول آخر في ذلك بعينه: إِنَّه حلالٌ فيقول: هكذا نزلَ، وكذلك الأمر والنهي; وكذلك الأخبار لا يجوز أَنْ يُقال في خَبَرٍ قد مضى: إِنَّه كان كذا وكذا فيقول: هكذا نزل، ثم يقول الآخر بخلاف ذلك الخبر فيقول: هكذا نزل; وكذلك الخبر المستأنف؛ كخبر القيامة والجنة والنار، ومَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ في هذا شيئًا مِن الاختلافِ فَقَدَ زَعَمَ أَنَّ القرآنَ يُكَذِّبُ بعضُه بعضًا ويتناقض، وليس يكون المعنى في السبعة الأحرف إلا على اللغات لا غير، بِمَعْنًى واحدٍ لا يُخْتَلَفُ فيه في حلالٍ ولا حرامٍ ولا خَبَرٍ ولا غير ذلك))أهـ

    وقد ذكر أبو عبيد وعنه ابن الأثير وغيرهما نحو هذا المعنى في مادة ((مرر)) أيضًا، وتُراجع من ((الغريب)) لأبي عبيد، و((النهاية)) لابن الأثير، و((اللسان)) لابن منظور.

    وإلى هذا ذهبَ أبو العباس النحوي، وقال الأزهري: ((فأَبو العباس النحْويّ -وهو واحد عصْره- قد ارتضى ما ذهبَ إليه أَبو عبيد واستصوَبه، قال: وهذه السبعة أَحْرُفٍ -التي معناها اللغات- غير خارجةٍ مِن الذي كُتِبَ في مصاحفِ المسلمين التي اجتمع عليها السلَف المرضيُّون والخَلَف المتبعون، فمن قرأَ بحرف ولا يُخالِفُ المصحف بزيادةٍ أَو نقصان أَو تقديم مؤخّرٍ أَو تأْخير مُقَدَّم وقد قرأَ به إمامٌ من أَئمةِ القُرّاء المشتهرين في الأَمصار فقد قرأَ بحرفٍ مِن الحروف السبعة التي نزل القرآن بها، ومِن قرأَ بحرفٍ شاذٍّ يخالف المصحف وخالف في ذلك جمهور القرّاء المعروفين فهو غير مصيبٍ، وهذا مذهب أَهل العلم الذين هم القُدوة ومذهب الراسخين في علم القرآن قديماً وحديثاً، وإلى هذا أَوْمأَ أَبو العباس النحوي وأَبو بكر بن الأَنباري في كتابٍ له أَلَّفَهُ في اتِّباع ما في المصحف الإمام، ووافقه على ذلك أَبو بكر بن مجاهد مُقْرِئ أَهل العراق وغيره من الأَثبات المتْقِنِين، قال: ولا يجوز عندي غير ما قالوا، واللّه تعالى يوفقنا للاتباع ويجنبنا الابتداع))أهـ

    وإلى هذا ذهبَ ابنُ الأَثير في مادة ((حرفٍ)) أيضًا من كتابه ((النهاية))، وقال: ((وفيه أَقوال غير ذلك هذا أَحسنها)).

    وعبارة ((القاموس المحيط)): ((ونَزَلَ القُرْآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ: سَبْعِ لُغاتٍ من لُغَاتِ العَرَبِ، ولَيْسَ مَعْنَاهُ أن يكونَ في الحَرْفِ الواحِدِ سَبْعَةُ أوْجُهٍ وإنْ جاءَ على سَبْعَةٍ أو عَشَرَةٍ أو أكْثَرَ؛ ولكنِ المَعْنَى: هذِهِ اللُّغَاتُ السَّبْعُ مُتَفَرِّقَةٌ في القُرْآنِ))أهـ

    وإلى هذا القولِ ذهب أيضًا: ابن عطِيَّة، والطبري في ((تفسيره)) (1/51)، وابن الجوزي في ((فنون الأفنان)) (85)، وغيرهم.

    فالمراد بالحديث على هذا القول: ((أُنْزِلَ القرآنُ على سبعِ لغاتٍ))، وهو الوجه الرابع عشر والأخير عند ابن الجوزي في ((فنون الأفنان)) ذَكَرَهُ ابن الجوزي ثم قال: ((وهذا هو القول الصحيح، وما قبلهُ لا يثبُت عند السَّبْكِ، وهذا اختيارُ ثَعْلَب وابن جرير))أهـ

    لكن اختلف أصحاب هذا القول في اللغات المقصودة هنا على التعيين، فقيل: لغة لقريشٍ ولغة لليمن ولغة لتميم ولغة لجُرْهُم ولغة لهوازن ولغة لقُضاعة ولغة لطَيٍّ.. وقيل غير ذلك.

    قال ابن الجوزي: ((والذي نراه أَنَّ التعيين من اللغات على شيءٍ بعينه لا يصح لنا سنده، ولا يثبت عند جهابذةِ النَّقْلِ طريقه؛ بل نقولُ: نزلَ القرآن على سبعِ لغاتٍ فصيحةٍ مِنْ لغات العرب، وكان بعض مشايخنا يقول: كله بلغة قريشٍ، وهي تشتمل على أصولٍ من القبائل هم أرباب الفصاحة، وما يخرج عن لغة قريشٍ في الأصل لم يخرج عن لغتِها في الاختيار))أهـ

    وعلى هذا القول عِدَّة إشكالات، منها: أَنَّه لم يحصر لغات العرب التي فوق السبعة؛ لأنَّ لغات العرب أكثر مِن سبعةٍ؛ ولكنهم أجابوا بأَنَّ المراد هنا مِن لغات العرب أفصحها.

    لكنَّ أقوى الإشكالات على هذا القول أَنه مخالفٌ لظاهر الحديث السابق؛ لأن كلا المختلفين هنا (وهما عُمَر وهشام رضي الله عنهما) كان يقْرَأُ بلغةِ قريشٍ، فلا وجه هنا لِمَنْ يقول: إِن المراد بالأحرف السبعة: سبع لغات.

    ومِمَّا يرد هذا القول أيضًا: ما ثبتَ قطعيًّا مِنْ حرْقِ عثمان رضي الله عنه للمصاحف بعد نسخ المصحف الإمام، المعروف والمتداول باسم المصحف العثماني، وقد نَسَخَ منه عثمان رضي الله عنه نسخًا وأرسلها إلى الأقطار الإسلامية، دون خلافٍ بينها، وقد ثبتَ قطعيًّا أَمْر عثمان رضي الله عنه لزيد بن ثابتٍ ومَنْ معه مِنْ كَتَبَةِ المصحف العثماني أن يكتبوه بلغة قريشٍ فإنما نزل بها القرآن، (وقد مضى ذلك في مداخلة سابقة في الموضوع عن عثمان رضي الله عنه، ولعلي أعيده ثانية في مداخلةٍ لاحقةٍ).

    وعُلِمَ قطعيًّا (كما سبق) مِنْ قولِ عثمان رضي الله عنه أَنَّه لم يُغَيِّر شيئًا في القرآن من مكانه؛ إِذْ قدِ التزم الواردَ المسموع مِن لفظِ النبي صلى الله عليه وسلم، ونسخَ منه المصحفَ العثماني المعروف بالمصحف الإمام، فَعُلِمَ مِنْ ذلك أَن الأحرف السَّبَعْةِ المذكورة في الحديث لابد وأَنْ تكون موجودةً في لغة قريشٍ نفسها..

    قال ابن حجرٍ في ((فتح الباري)): ((وقال أبو حاتم السِّجِسْتَانِيُّ: نَزَلَ بلغةِ قُرَيْش وَهُذَيْل وَتَيْم الرَّبَاب وَالأَزْد وَرَبِيعَة وَهَوَازِن وَسَعْد بْن بَكْر وَاسْتَنْكَرَهُ اِبْنُ قُتَيْبَة وَاحْتَجَّ بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فعلى هذا فتكون اللُّغَات السَّبْع في بُطُون قُرَيْش, وبذلكَ جَزَمَ أبو عليٍّ الأَهْوَازِيّ)).

    وقال ابن حجر: ((ومِنْ ثَمَّ أَنْكَرَ عُمَر على ابن مسعود قراءَته (عَتَّى حِين) أَيْ: (حَتَّى حِين) وكتبَ إليه: إِنَّ القرآن لم ينزل بلغةِ هُذَيْل فَأَقْرِئِ النَّاس بلغةِ قُرَيْش ولا تُقْرِئهُمْ بلغة هُذَيْل))أهـ [وانظر: التمهيد لابن عبد البر 8/278].

    ولكن خالف ابنُ قتيبة –كما نقل ابن حجرٍ عنه- في أول ((تفسير الْمُشْكِل)) له فقال: ((كان مِن تيسير الله أَنْ أمر نَبِيَّه أَنْ يَقْرَأ كُلُّ قَوْمٍ بلغتهم, فَالْهُذَلِيّ يَقْرَأ (عَتَّى حِين) يُرِيد {حَتَّى حِين}، وَالأَسَدِيّ يَقْرَأ (تِعْلِمُونَ) بِكَسْرِ أَوَّله, وَالتَّمِيمِيُّ يَهْمِز، وَالْقُرَشِيّ لا يَهْمِز)). قال ابن قتيبة: ((ولو أراد كلُّ فريقٍ منهم أن يزول عن لُغتِه وما جرى عليه لسانُه طفلاً وناشئًا وكهلاً لَشَقَّ عليه غاية المشقَّةِ، فَيَسَّرَ عليهم ذلك بِمَنِّهِ, ولو كان المراد أَنَّ كلَّ كلمةٍ منه تُقْرَأ على سبعةِ أوجُهٍ لقال مثلاً: (أُنْزِلَ سَبْعَة أَحْرُف), وَإِنَّمَا المراد أَنْ يَأْتِي في الكلمة وجهٌ أو وجهانِ أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعةٍ))أهـ

    وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (8/280): ((قول من قال أن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي: في الأغلب والله أعلم؛ لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراآت من تحقيق الهمزات ونحوها وقريش لا تهمز)).

    ولكن إذا كان هو الأغلب كما يقرر ابن عبد البر فالحكم للأغلب، والنادر لا حُكم له، فلا إشكال في وجود بعض الكلمات بغير لغة قريشٍ؛ لأنها ليست الأصل فيه، ولا غالبة عليه..

    وما ذهب إليه عُمر بن الخطاب رضي الله عنه، هو الموافق لعمل عثمان رضي الله عنه الذي أجمع عليه الصحابةُ فيما بَعْدُ، بل أجمعتْ عليه الأمة قاطبةً.

    ولذا قال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (8/280): ((وأنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أُنْزِلَ القرآن على سبعة أحرفٍ): سبع لغاتٍ، وقالوا: هذا لا معنى له؛ لأنه لو كان ذلك لم يُنْكر القوم في أولِ الأمر بعضهم على بعضٍ؛ لأنه من كانت لغته شيئًا قد جبل وطبع عليه وفطر به لم يُنْكَر عليه، وفي حديث مالكٍ عن ابن شهابٍ المذكور في هذا الباب [وهو الحديث السابق في اختلاف عُمَر وهشام] رَدُّ قولِ مَن قالَ: سبع لغاتٍ؛ لأن عمر بن الخطاب قرشي عدوي وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي، ومُحَال أَنْ يُنكر عليه عُمر لغتَه؛ كما محال أن يُقْرِئَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واحدًا منهما بغيرِ ما يعرفه مِن لُغَتِه، والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدلّ على نحوِ ما يدل عليه حديثُ عُمَرَ هذا، وقالوا: إنما معنى السبعة الأحرف: سبعة أوجهٍ من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظٍ مختلفةٍ؛ نحو: أَقْبِلْ وتَعَالَ وهَلُمَّ، وعلى هذا الكثير مِنْ أهلِ العلمِ)).

    وذكر ابن عبد البر بعض الروايات ثم قال: ((وهذا كله يعضد قول مَن قال: إِنَّ معنى السبعة الأحرف المذكورة في الحديث: سبعة أوجهٍ من الكلام المتفق معناه، المختلف لفظه؛ نحو: هَلُمَّ وَتَعَالَ وَعَجِّلْ وَأَسْرِعْ وأَنْظِرْ وَأَخِّر، ونحو ذلك، وسنورد من الآثار وأقوال علماء الأمصار في هذا الباب ما يتبين لك به أَنَّ ما اخترناه هو الصواب فيه إن شاء الله، فإنه أصح من قول من قال: سبع لغات مفترقات؛ لما قدمنا ذكره، ولما هو موجود في القرآن بإجماعٍ من كثرةِ اللغات المفترقات فيه، حتى لو تقصيت لَكَثُرَ عددها، وللعلماء في لغات القرآن مؤلفاتٌ تشهد لما قلنا)).

    وأوردَ ابنُ عبد البر الروايات الشاهدة لذلك، ونقل موافقة الطحاوي له فيما ذهب إليه.



    القول الثاني: قولُ مَنْ قال: المراد بالأحرفِ السبعةِ تأدية المعنى باللفظ المرادف ولو كان مِن لغةٍ واحدةٍ:

    فلننظر قول عمر: ((فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))، فهو قد عَرِف الحروف بمجرد سماعه لها، وعَبَّرَ عنها بالحروفِ، كما عَبَّر الحديث بالأحرف السبعةِ، فلزم علينا أَنْ نفهمَ المراد بالحروف مِن خلال لغة العرب الفصيحة الواضحة الظاهرة التي تكلمت بها نصوص الإسلام، مع الالتزام بظاهر لغة العرب دون تأويلٍ؛ إلا لقرينةٍ تُخْرِجنا من الظاهر الصريح الواضح إلى غيره.. لأَنَّه لابد وأَنْ نرجع إلى اللغة التي نزل بها النص عندما لا نجد تفسيرًا للنصِّ من خلال النصِّ، ففي عدم التفسير إحالةٌ على المعهود المعروف مِن لغةِ العرب، وهي التي فَهِم منها عُمَرُ رضي الله عنه معنى الأحرف السبعة الموجودة في الحديث؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد خاطبَ بها عُمر وغيره، ولم يُفَسِّر المراد من الأحرف السبعة؛ فدلَّ ذلك على أنَها كانت معروفة ومفهومة لديهم من لُغَة العرب الظاهرة الواضحة..

    وهذا يؤكد أنها ليست هي ((سبع لغات)) كما سبق في القول الأول؛ لأن تأويلها بـ (سبع لغات) خروجٌ عن ظاهر اللفظ لغةً إلى معنًى آخر يحتاج في إثباته إلى قرينة، ولا قرينة هنا تؤيِّد الخروج عن الظاهر إلى التأويل، كما ترى؛ لأنَّ كلا الْمُخْتَلِفَيْن هنا (عُمر وهشام) كانا يتبعان لغةً واحدةً، وقد نَبَّه على ذلك ابنُ عبد البر وغيره..

    إِذن ما المراد بالحرف هنا؟
    المراد بالحرفِ هنا: القِراءة التي تُقرأُ على أَوجُه، هذا ما نجده في لغةِ العرب، مختصًّا بموضوعنا، ويُطلق الحرف أيضًا على الجهةِ والطَّرَف، كما يطلق على حَرْفِ الهجاء المعروف، وله إطلاقات أخرى، لكن الذي يهمنا هنا معناه الخاص بموضوعنا في الأحرف السَّبْعة.

    ((قال الخليل بن أحمد: معنى قوله سبعة أحرفٍ: سبع قراءات. والحرف هاهنا القراءة))؛ نقَلَهُ ابنُ عبد البر في ((التمهيد)) (8/274).

    وحكى ابنُ منظور في مادة ((حرف)) هذا المعنى عن ابن سيدة أيضًا.

    وقال الأزهري: ((وكلُّ كلمة تُقْرَأُ على الوجوه مِن القرآن تُسَمَّى حَرْفاً، تقول: هذا في حَرْف ابن مسعود؛ أَي: في قراءةِ ابن مسعود))أهـ

    وفي ((الْمُغْرِب في ترتيب الْمُعْرِب)) للمطرز (1/196): ((وأما قوله: (نزَل القرآن على سبعة أحرفٍ) فأحسنُ الأقوال أنها وجوه القراءة التي اختارها القُراء، ومنه فلان يقرأُ بحرفِ ابنِ مسعود))أهـ

    قال ابن حجر: ((قَوْله : (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)؛ أَيْ: مِنْ الْمُنْزَل. وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى الْحِكْمَة فِي التَّعَدُّد الْمَذْكُور, وَأَنَّهُ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى الْقَارِئ, وَهَذَا يُقَوِّي قَوْل مَنْ قَالَ: الْمُرَاد بِالأَحْرُفِ تَأْدِيَة الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ الْمُرَادِف وَلَوْ كَانَ مِنْ لُغَة وَاحِدَة؛ لأَنَّ لُغَة هِشَام بِلِسَانِ قُرَيْش وَكَذَلِكَ عُمَر, وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ اِخْتَلَفَتْ قِرَاءَتهمَا. نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ اِبْن عَبْد الْبَرّ, وَنَقَلَ عَنْ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَاد بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَة)).

    وقد مضى كلام ابن عبد البر بنصِّه قبل قليل في التعقيب على القول السابق، فلا داعي لإعادته هنا.

    وإلى هذا ذهب الطحاوي وغيره أيضًا كما مضى.

    ومما يُبَيِّن ذلك: قول ابن مسعود: ((إِنِّي قد سمعتُ الْقَرَأَةَ فوجدتُهم متقاربين فاقرأُوا كما عُلِّمْتِمْ، إنما هو كقولِ أَحدِكم: هَلُمَّ وتَعَالَ وأَقْبِلْ)).

    وقولُ ابن مسعودٍ هذا ذكره ابن حجر وغيره مُعَلَّقًا بدون إسناد، وقد أسندهُ الطبري في ((التفسير))، وغيره، بإسنادٍ صحيحٍ عنه.

    وهذا القول يوافق ظاهر الحديث السابق في قصة عُمَر مع هشام رضي الله عنهما، واختلافهما في القراءة، رغم أنهما يتبعان لغةً واحدةً، وكذا ينتظم أكثر الأقوال الأخرى، ولا يعارضها.

    لأَنَّ اللفظ المرادف الدالَّ على المعنى مع اختلاف اللفظ: ينتظم الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث والتصريف والإعراب وغير ذلك من الوجوه التي ذكرها جماعةٌ من العلماء، فترجع إليه عدة أقوالٍ مِن أقوال العلماء في هذا الباب.

    ومِمَّا يمكن إرجاعه له مثلاً: قول ابن قتيبة، ثم تنقيح الرازي له وزيادته عليه، وهو الرأي الذي انتصر له الزرقاني في ((المناهل))، وقد ذكره ابن حجر بشيءٍ من التعقيب، فأردتُ أن أنقله مِن عنده.

    قال ابن حجر: ((وَقَدْ حَمَلَ اِبْن قُتَيْبَة وَغَيْره الْعَدَد الْمَذْكُور عَلَى الْوُجُوه الَّتِي يَقَع بِهَا التَّغَايُر فِي سَبْعَة أَشْيَاء: الأَوَّل: مَا تَتَغَيَّر حَرَكَته وَلا يَزُول مَعْنَاهُ وَلا صُورَته, مِثْل: {وَلا يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيد} بِنَصْبِ الرَّاء وَرَفْعهَا. الثَّانِي: مَا يَتَغَيَّر بِتَغَيُّرِ الْفِعْل مِثْل: (بَعُدَ بَيْن أَسْفَارنَا) وَ {بَاعِدْ بَيْن أَسْفَارنَا} بِصِيغَةِ الطَّلَب وَالْفِعْل الْمَاضِي. الثَّالِث: مَا يَتَغَيَّر بِنَقْطِ بَعْض الْحُرُوف الْمُهْمَلَة مِثْل: (ثُمَّ نُنْشِرُهَا) بِالرَّاءِ وَالزَّاي. الرَّابِع: مَا يَتَغَيَّر بِإِبْدَالِ حَرْف قَرِيب مِنْ مَخْرَج الْآخَر مِثْل: {طَلْح مَنْضُود}، فِي قِرَاءَة عَلِيٍّ: (وَطَلْع مَنْضُود). الْخَامِس: مَا يَتَغَيَّر بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِير مِثْل: {وَجَاءَتْ سَكْرَة الْمَوْت بِالْحَقِّ}، فِي قِرَاءَة أَبِي بَكْر الصَّدِيق وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف وَزَيْن الْعَابِدِينَ: (وَجَاءَتْ سَكْرَة الْحَقّ بِالْمَوْتِ). السَّادِس: مَا يَتَغَيَّر بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَان كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِير عَنْ اِبْنِ مَسْعُود وَأَبِي الدَّرْدَاء: (وَاللَّيْل إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَار إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَر وَالْأُنْثَى)، هَذَا فِي النُّقْصَان, وَأَمَّا فِي الزِّيَادَة: فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِير {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب}، فِي حَدِيث اِبْنِ عَبَّاس: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتك الْأَقْرَبِينَ, وَرَهْطك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ). السَّابِع: مَا يَتَغَيَّر بِإِبْدَالِ كَلِمَة بِكَلِمَةٍ تُرَادفهَا مِثْل: {الْعِهْن الْمَنْفُوش}، فِي قِرَاءَة اِبْنِ مَسْعُود وَسَعِيد بْن جُبَيْر: (كَالصُّوفِ الْمَنْفُوش).

    وَهَذَا وَجْهٌ حَسَن؛ لَكِنْ اِسْتَبْعَدَهُ قَاسِمِ بْن ثَابِت فِي (الدَّلَائِل)؛ لِكَوْنِ الرُّخْصَة فِي الْقِرَاءَات إِنَّمَا وَقَعَتْ وَأَكْثَرهمْ يَوْمَئِذٍ لا يَكْتُب وَلا يَعْرِف الرَّسْم, وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحُرُوف بِمَخَارِجِهَا. قَالَ: وَأَمَّا مَا وُجِدَ مِنْ الْحُرُوف الْمُتَبَايِنَة الْمَخْرَج الْمُتَّفِقَة الصُّورَة مِثْل: (نُنْشِرُهَا) وَ (نُنْشِرُهَا) فَإِنَّ السَّبَب فِي ذَلِكَ تَقَارُب مَعَانِيهَا, وَاتَّفَقَ تَشَابُه صُورَتهَا فِي الْخَطّ.

    قُلْت [القائل ابن حجر]: وَلا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ تَوْهِين مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ اِبْنُ قُتَيْبَة, لاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الانْحِصَار الْمَذْكُور فِي ذَلِكَ وَقَعَ اِتِّفَاقًا, وَإِنَّمَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالاسْتِقْرَاءِ, وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَة الْبَالِغَة مَا لا يَخْفَى. وَقَالَ أَبُو الْفَضْل الرَّازِيَُّ: الْكَلام لا يَخْرُج عَنْ سَبْعَة أَوْجُهٍ فِي الاخْتِلاف: الأَوَّل: اِخْتِلاف الأَسْمَاء مِنْ إِفْرَاد وَتَثْنِيَة وَجَمْع أَوْ تَذْكِير وَتَأْنِيث. الثَّانِي: اِخْتِلاف تَصْرِيف الأَفْعَال مِنْ مَاضٍ وَمُضَارِع وَأَمْر, الثَّالِث: وُجُوه الإِعْرَاب, الرَّابِع: النَّقْص وَالزِّيَادَة, الْخَامِس: التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير, السَّادِس: الإِبْدَال, السَّابِع: اخْتِلاف اللُّغَات كَالْفَتْحِ وَالإِمَالَة وَالتَّرْقِيق وَالتَّفْخِيم وَالإِدْغَام وَالإِظْهَار وَنَحْوِ ذَلِكَ. قُلْت [القائل ابن حجر]: وَقَدْ أَخَذَ [يعني الرازي] كَلامَ ابْنِ قُتَيْبَة وَنَقَّحَهُ))أهـ

    والرازي لم يُنَقِّح كلام ابن قتيبة فقط، وإنما زاد عليه اختلاف اللهجات أيضًا.

    لكن لا يَغِيِّبَنَّ عن بالك أَنَّ توهين قاسم بن ثابت لكلام ابن قتيبة وجيهٌ جدًَّا من حيثُ حصر الأحرف السَّبْعَة في الوجوه التي ذكرها ابن قتيبة؛ لأنَّه بإمكان غيره أن يزيد عليها أو ينقص منها، كما زاد الرازي عليه مثلاً اختلاف اللهجات في النطق باللفظِ الواحدِ، وقد اعترف ابن قتيبة بهذا الاختلاف وكذا ابن الجزري، لكنهما لم يعتبراه من وجوه الأحرف السَّبْعَةِ، في الوقت الذي اعترفا بتأثيرِه على النطق باللفظ الواحد.

    بل لم يذكر ابن قتيبة غير هذا الفارق في أول ((المشكل)) كما سبق النَّقْل عنه قبل قليل، وحصر غيره الأحرف السَّبْعة في اختلاف اللهجات فقط..

    ولا يَغِيْبَنَّ عنك أنَّ القرآن قد نزل على أُمَّةٍ أُمِّيَّة لا تقرأ ولا تكتب، وإنما كانت تعرف الفصاحة والبلاغة نطقًا وسماعًا، فهي إنما تعرف مخارج الحروف لا رسمها وطريقة كتابتها، هذا هو الأصل في الأمة آنذاك، ولذا فقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف مرارًا عن هذه الأمة الأُمِّيَّة، حتى أوصلها إلى سبعةِ أحرُفٍ يمكن للقارئ أن يقرأ بها، يعني سبع وجوهٍ يمكن للقارئ أن يَقْرَأَ بها..

    هذا هو المتبادر الظاهر في معنى الأحرُف من لغة العرب، ثم هو الموافق لظاهر الحديث كما سبق، وإليه ذهب الخليل بن أحمد والطحاوي وابن عبد البر وغيرهم كما سبق.

    وهذه الوجوه: يمكن أَنْ تكون اختلافًا في اللهجة، أو في التصريف، أو الإعراب، أو التذكير والتأنيث، وغير ذلك من الوجوه المقبولة مِمَّا ذَكَرَهُ العلماء من حيثُ تحليل اللفظ والنَّظَر إلى كيفية الاختلاف بين اللفظين المقروء بهما..


    ولكن ينبغي التفريق هنا بين أمرين:

    الأول: بين الأحرف السبعة الواردة في الحديث.

    الثاني: وجوه اختلاف الأوجه السبعة، وكيفية الخلاف فيما بينها.

    فالثاني هنا مترتِّبٌ على الأول، وأثرٌ له، وليس سابقًا عليه، ولاشكَّ أنَّ حصر الأحرف السبعة في وجوه اختلافها خطأٌ عظيم؛ لأنَّه يعني الخلط بين الأحرف السبعة نفسها، وبين الأثر المترتِّب عليها، من البحث في وجوه اختلافها وفائدتها وكيفيتها وغير ذلك، فهذه الأبواب كلّها آثارٌ مترتِّبةٌ على وجود الأحرف السبعةِ، وليست فصولاً ولا مُقَدِّماتٍ سابقةٍ على وجودها..

    نعم وليس تفسيرًا للأحرف السبعة؛ لأنَّه لابد في التفاسير والحدود في مثل هذا أن تكون شاملةً لكافة وجوه الْمُفَسَّرِ وبيان جوانبه؛ وهذا ما تفتقده التفسيرات آنفة الذِّكْر وكثير مما يشبهها؛ لخلوِّها عن تعريف الأحرف السبعة على الحقيقةِ..

    ومِن هنا نستطيع أن نقول: إِنَّ تعريف الأحرُف السبعة والمراد منها لم يُخْتَلَف فيه على الحقيقةِ، وإِنَّما وردَ الاختلاف في كيفية التفريق بين الأحرُف السبعة، وما يميِّز كلَّ حرفٍ منها عن مثيلِه في موضعٍ بعينه، فالأول مُذكَّر والثاني مؤَنَّث، أو الأول جمع والثاني مُفْرد، أو الأول مرفوع والثاني منصوب، وهكذا سائر وجوه التفريق والتمايز بين الأحرف السبعة..

    ومِمَّا يُؤْسَفُ له حقيقةً أن تنتقلَ المعركة في التفريق بين الأحرُف أو التمييز بينها في موضعٍ بعينه إلى مجال بيان الأحرف السبعة تعريفًا من حيثُ المراد منها، بحيثُ صار الخلاف محصورًا وعبر سنواتٍ في أثرٍ من آثار الأحرف السبعة، في الوقت الذي اختفى فيه البحث في تعريف الأحرف السبعة إلا نادرًا!!

    وهذا الذي ذكرتُه لك هو خلاصة ما مَنَّ الله عز وجل به على العبد الضعيف كاتب هذه السطور، وآمل أَنْ يفتح الله عز وجل القلوب والأبصار له فتعي ما أردتُه وتنصح فيه..

    ويمكنني أَنْ أُلَخِّصَ لك نتائجُ ما سبق هنا في الآتي:

    أولاً: أن الراجح في تعريف الأحرف السبعة هو: سبعة وجوه أو سبعة قراءات بألفاظٍ مختلفةٍ للمعنى الواحد، أو هو تأدية المعنى الواحد بأكثر من لفظٍ، نحو أَقْبِلْ، هَلُمَّ، تَعَالَ.

    ثانيًا: اختُلِفَ في صورة المخالفة والتمييز بين وجوه الأحرف السَّبْعَةِ على وجوهٍ يمكن الجمع بينها، لكنها جميعًا ليست تعريفاتٍ للأحرفِ السبعة، وإنما هي أثرٌ من آثارِ البحث في الأحرف السبعة، وتمييز بعضها مِن بعضٍ..


    لكن لابد من التنبيه هنا على أمور:

    الأول: أَنَّ هذه الوجوه هي بمثابة المترادفات لمعنًى واحدٍ، وليست اختلافًا حقيقيًّا أو اختلاف تضادّ، وإنما هي اختلاف تنوُّع في اللفظِ للتعبيرِ عن مَعْنًى واحدٍ، زيادةً في البلاغة والفصاحة وتقرير المعجزة القرآنية..

    الثاني: أنها وحي، وليست من اختيار البشر، بل هي جزءٌ مِن الوحي، تلقَّاها النبي صلى الله عليه وسلم وحيًا، وعَلَّمَها أصحابُه صلى الله عليه وسلم، فبلَّغوها مَنْ بعدَهم..

    الثالث: أنها متفرِّقة في القرآن الكريم كله، ولا يعني نزوله على سبعة أحرفٍ أن كل كلمة منه تُقْرأ على سبعةِ أوجهٍ، فهذا مما لم يقل به أحدٌ قط، وقد أنكره العلماء ونبهوا عليه، وقد مضى تنبيه أبي عبيد وابن عبد البر وغيرهما على هذا.

    الرابع: لا يصح اعتقاد الزيادة في القراءة على سبعةِ أوجهٍ؛ لأنَّه لم يزد في الحديث على سبعةٍ، وما ذكروه في نحو {أُفٍّ} زيادةً على ثلاثين وجهًا كما حُكِي عن الرماني فلا يصح، فإما أنْ يعود إلى سبعةِ أوجهٍ، أو يُؤْخَذ منه الأوجه السبعة الموافقة للمصحف، ويُتْرَك ما سواها.

    الخامس: أَنَّ الأحرف السبعة شيءٌ والقراءات السبعة التي صنَّفها بعض القُرَّاء شيءٌ آخر، وليسا واحدًا، وقد نَبَّه على ذلك الجماعات من أهل العلم قديمًا وحديثًا، كابن عبد البر وابن حجر وغيرهما..

    وقد صنَّفَ ابن مجاهد والشاطبي وغيرهما قراءة سبعةً من الأئمة، ففهم بعضهم من ذلك أنها الأحرف السبعة، أو أنه لا يصح غيرها، وليس كذلك، بل ربما كان في القراءات العشر ما هو أكثر شهرةً مما ذكره ابنُ مجاهد وغيره في تصنيفهم قراءات سبعة من الأئمة، ومَرَدّ ذلك كله على الِعلْم والاطلاع وطريقة التصنيف، وليس المراد لابن مجاهد ولا الشاطبي ولا غيرهما من أئمة القراءات توهين قراءة غير هؤلاء الأئمة السبعة الذين صنَّفوهم، وإنما المراد جمع قراءات سبعة أئمة، كما جمع غيرهم قراءات عشرة أئمة، لكنها جميعًا سواءٌ كانت لسبعةٍ أو لسبعين أو لسبعمائة لا تخرج عن الأحرُفِ السَّبْعَة التي نزل بها القرآن الكريم..

    فالحديث يتكلَّم عن وجوهٍ سبعةٍ في القراءة، وأما ابنُ مجاهد ونحوه فمرجع الكلام عندهم عن سبعة أئمة..

    وبعبارةٍ أخرى: الحديث يتكلم عن وجوهٍ قرآنيةٍ، وابن مجاهد وأمثاله اختاروا سبعةَ أئمةٍ مِمَّن نقلوا هذه الوجوه القرآنية، فقيَّدوا ما نقلوه..

    فالأئمة السبعة المذكورون عند ابن مجاهدٍ مثلاً هم من نَقَلَةِ الوجوه القرآن الذي نزل على سبعة أحرُفٍ، كما أن غيرهم من العشرة أو غيرهم قد شاركهم في نقل القرآن الكريم، وإِنَّما عُنِيَ العلماء بهؤلاء الأئمة نظرًا لدقَّتِهم وعنايتهم وتفرُّغهم لإتقان النَّقْل والرواية والسماع للقرآن الكريم.

    فهذا كما ترى ليس اختلافًا ولا ترادفًا، وإنما هو قرآنٌ نزل على سبعةِ أحرُفٍ، ونقلَهُ الكافَّةُ من الناس إلى مَنْ بعدَهم، فبرزَ من بين النَّقَلَةِ أئمة كبار، اختار ابنُ مجاهدٍ مثلاً سبعةً منهم، فصنَّفَ رواياتهم وسماعهم في كتابه، بينما اختار آخرون غير زيادة على ما اختاره ابنُ مجاهدٍ من أئمةٍ، لكنَّهم جميعًا يدورون في فلك نقل القرآن الكريم الذي نزل على سبعةِ أَحْرُفٍ..

  3. Arrow

    (9)

    وبهذا القَدْر نكتفي في الكلام عن الأحرف السَّبعةِ، والقراءات القرآنية.. إِذْ لم يكن قصدنا الاستفاضة في هذا الموضوع، وإنما أردنا الردَّ على مَنْ لم يفهم أبعاد المعجزة القرآنية، فزعم أن اختلافات القراءات من جِنس التحريف والتَّخْطِئَةِ للقرآن الكريم، (وقد سبق كلامه).. فبان مِمَّا سبق أنه قد تكلَّمَ بغير علمٍ ولا هدًى، وإنما حطبَ بليلٍ..
    كما سبق بحمد الله عز وجل أَنَّ اختلاف القراءات ناتجٌ عن وحي أَنْزَلَهُ الله عز وجل على نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبَلَّغَهُ رسولُه صلى الله عليه وسلم لأصحابهِ، فنقَلُوه إلى مَنْ بعدهم، وهلم جرّا..
    ثم هو جزءٌ من المعجزة القرآنية الخالدة..
    وقد مضى بيان هذا وغيره بحمد الله عز وجل، فلا نُعيده.




    ....... وإلى لقاءٍ جديدٍ قادمٍ في موضوعنا هذا إن شاء الله تعالى....

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2005
    المشاركات
    741
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    ###بعد تكرر السؤال عن معنى الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم: فقد قرر الإشراف نقل هذه المشاركات التي هنا من موضوع المستشار سالم عبد الهادي الذي حاور فيه المستشرف الألماني د.ميكلوش موراني.
    على هذا الرابط:
    http://70.84.212.52/vb/showthread.p...61&page=4&pp=15

    ولهذا سيجد القارئ إحالات في المشاركات على الموضوع الأصلي تركناها كما هي ولم نتصرف فيها ومن أراد الوقوف على الموضوع كله ومتابعته فليرجع لرابطه الأصلي المذكور سابقًا.

    ونرجو أن ينفع الله بهذه المشاركات التي نقلناها هنا وينفع بها كاتبها وقارئها وناشرها.
    شاكرًا تفهمكم جميعا.
    مشرف###

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الأحرف السبعة للقرآن كتاب الكتروني رائع
    بواسطة Adel Mohamed في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-11-2013, 05:05 PM
  2. إعلان: هل القراءات السبع هي الأحرف السبعة؟ وما القول الراجح فيها؟
    بواسطة مشرف 10 في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 06-27-2012, 04:54 PM
  3. إزالة الشبهات حول مسألتي الأحرف السبعة والقراءات
    بواسطة أبو وليد الأثري في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 22
    آخر مشاركة: 05-24-2007, 11:01 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء