لماذا يلجأ بعض الملاحدة و المستشرقون الى التشكيك فى التاريخ الإسلامى حتى وصل ببعضهم الشطط إلى إنكار وجود النبى صلى الله عليه وسلم كشخصية تاريخية أو إلى اختلاق روايات من وحى الخيال تضعه فى سياق آخر غير سياقه التاريخى أو الإدعاء بأن القرآن تم تأليفه فى مرحلة لاحقة على عصر النبى صلى الله عليه وسلم وأن تنوع الأسلوب فيه يشى بتنوع المؤلفين؟
فى تقديرى ذلك يرجع إلى أمرين ; أولهما هو مجرد الرغبة فى التشكيك بطريقة لا عقلانية وهذا داء مستحكم فى عقول البعض وبعضهم صاغه فى قوالب فلسفية تتراوح ما بين إنكار إمكانية المعرفة على الإطلاق - بمعنى أنه لا سبيل الى معرفة أى شىء عن أى شيء - إلى إنكار المعرفة اليقينية - بمعنى أنه لا سبيل إلى معرفة شىء على وجه اليقين- وهؤلاء لاسيما الصنف الأول تتملكه رغبة قهرية فى التشكيك بحيث لا يهدأ له بال إلا إذ ألقى بالشكوك فى حتى فى آكد الثوابت.
وبعضهم يفعله رغبة فى إثارة البلبة و الشكوك فى قلوب السذج و البسطاء حتى وهو يعلم أنه تشكيك لا عقلانى. الأمر الثانى و فى تقديرى هو الأهم أن شخصية النبى صلى الله عليه وسلم فى سياقها التاريخى الحقيقى ينظر إليها الملاحدة و المشككون على أنها المعجزة الحقيقية التى تشهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا أعنى بذلك أخبار انشقاق القمر و الإسراء و المعراج و تكثير الطعام القليل ونبع الماء من بين أصابعه ونحو ذلك بل الإسلام نفسه بتعاليمه ودقائق تشريعه وإنجازاته الواقعية التاريخية و تأليفه – صلى الله عليه وسلم - من بدو همج رحل و قبائل متنازعة أمة كانت فى وقت من الأوقات أعظم الأمم بأسا وأكثرها تحضرا وفى ظرف عقدين من الزمان وما اجتمع فيه من مزيج مذهل من الكفاءات فهو خطيب مفوه و مشرع حكيم و خبير استراتيجى و عسكرى من الطراز الأول وعليم بفنون إدارة الدول و قيادة الشعوب ومربى أخلاقى رفيع المستوى و هذا كله مع كونه ولد يتيما فقيرا محروما من أدنى حظ من التعليم - كونه يتيما فقيرا - فلم يتعلم القراءة ولا الكتابة فضلا عن كونه نشأ فى وسط يسود فيه الجهل و التخلف.
وعندما أقول ذلك لا أعنى أن هؤلاء الملاحدة و المستشرقون يجعلون من الإسلام شيئا يضاهى الحضارة الغربية الحديثة المفتونين بها وبقيمها و علومها لكنهم ينظرون للإسلام ودولته فى سياقه التاريخى و بناءا على المعطيات التى يقدمها التاريخ الإسلامى على أنه أمر معجز أو من خوارق العادات وكأنهم يستكثرون هذا كله على موهبة شخص واحد مهما بلغ فضلا عن أن يكون حاله كحال محمد صلى الله عليه وسلم كما يصوره التاريخ الإسلامي. و الدراسات الغربية وإن كانت قد نشأت في جانب منها جانحة نحو الغلو في إهدار التاريخ الإسلامي برمته و محاولة إعادة صياغته على نحو يجعل منه أمرا اعتياديا غير خارج عما يألفونه من حوادث التاريخ إلا أن هذا الغلو هدأت حدته شيئا ما.
ومن ذلك مزاعم باتريشيا كرونه ومايكل كوك حول كون مكة ليست هى مهد الإسلام حيث تقول كرونه :" من الصعب أن لا نتشكك في كون التقليد الإسلامى جعل من مكة مهدا للإسلام لنفس سبب إصراره على كون محمد كان أميا .... فمكة كانت أرض عذراء لا وجود للمجتمعات اليهودية و المسيحية بها". إلا أنها بالرغم من ذلك تقر بكونه شخصية تاريخية دون شك معتمدة على كون جيرانه من البيزنطيين في بلاد الشام سمعوا به خلال عامين من وفاته ومن ذلك نص يونانى يرجع للعام 632 م إبان "الغزو العربى" لبلاد الشام و فيه أن " نبيا زائفا ظهر بين العرب" جاعلا منه مدعيا للنبوة على أساس أن الأنبياء " لايأتون بالسيف و المركبة" فضلا عن وثيقة أرمينية ترجع للعام 661 تذكره بالإسم و تعطى نبذة عن عقيدته التوحيدية. ثم تستطرد قائلة بالرغم من أن محمد لم يظهر في النقوش و العملات العربية و الدلائل الوثائقية الأخرى بنفس اللغة إلا في العام 680 م وهو ما دفع البعض مثل "يهودا د. نيفو و جوديث كورين" إلى التشكيك في تاريخيته إلا أن القليل سيقبل بالمعطى الذى يتضمنه هذا الاستنتاج من كون التاريخ يكتب فقط بناءا على الدليل الوثائقى. أما بخصوص القرآن فتقول " يمكننا أن نكون متيقنين على نحو معقول من أن القرآن يمثل مجموعة من أقواله التي نطق بها على اعتقاد منه أنها وحى أوحى به إليه من الله". و على جانب آخر تناول إيرا م. لابيدوس أستاذ تاريخ الإسلام و الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا (بركلى) في كتابه تاريخ المجتمعات الإسلامية "النظريات" التي تمخضت عنها الدراسات الحديثة بشأن أصول القرآن فمنها إلى جانب النظرية التقليدية التي تقول بان محمد هو مؤلف القرآن أو المستقبل له من طريق الوحى فهناك النظرية القائلة بأن القرآن هو نتاج للمجتمع الإسلامى فى وقت متأخر - ربما القرن التاسع أو العاشر - فى سياق احتكاكه بغير المسلمين و قصد به توثيق مسوغات نبوة محمد. ثم يعلق على تلك النظريات – بخلاف الأولى التي تجعل منه االمصدر الوحيد للقرآن - بالقول أنها لا تحظى بقبول واسع وأن الرؤيا الأكثر إقناعا من وجهة نظره - و كما ترى أنجليكا نيورث - أن الدراسات الحدثية فشلت في أن تنال من موثوقية القرآن و أن السجع و البنية الأدبية للآيات و السور تدل على أنه نتاج صوت واحد.
Bookmarks