النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: ما بعد العلمانية (3) : العَصرنَة والعَلمنَة -مفهوم التقدم-

  1. #1

    افتراضي ما بعد العلمانية (3) : العَصرنَة والعَلمنَة -مفهوم التقدم-

    عندما أقدم مثقفو عصر النهضة على ربط تقدم العلم بنقد عقائد الماضي كان قد تأسس في التصور الغربي اقترانٌ بين عملية التحديث وعلمنة الدولة..فتمَّ تعريف الحداثة أو التحديث على أنها بالضرورة علمانية تحررية ثائرة على عقائد الماضي..ونظر للعلمانية على أنها قرين لبعض القضايا مثل التنمية التقدم التطور السعادة والرفاه..وروج لهذا الأنموذج على أنه التمثيل الأوحد والأرقى لما يمكن أن ينتجه العقل البشري وعلى باقي المجتمعات أن تنقاد له وإن كان بصورة عنيفة في ادعاء فج لكونية وانطباق مطلق على كل شعوب الأرض على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم وأديانهم، بل لا يمكن أن تبلغ المجتمعات غير الغربية مرحلة النضج والتقدم التقني والتنموي إلا بتبنيها أنموذج المجتمع العلماني الحديث كما هو في التصور الغربي سواء أكان اشتراكيًّا أم رأسماليًّا، وهو التصور الذي صرَّح به مرجع الفلسفة الغربية الحديثة ادموند هوسرل Edmund Husserl بادعاءه أن أوربة كل البشرية هو مصير الأرض المحتوم وأن الفلسفة الغربية تعبير روحي متميز يمكن أن يشمل فكري الصين والهند ولكن لا يمكن لهذين الفكرين أن يشملاه.
    هذه الأعراف اصدمت بتحولاتٍ جذرية شهدها العالم بدايةً من الرُّبعِ الأخير من القرن الماضي، تغيرات زعزعت أركان هذا الأنموذج بكل ما يدعيه من مطلقية وكونية واقتران. وتمثلت هذه التغيرات في عاملين رئيسيين ظهور نماذج تنموية غير غربية ناجحة مخالفة تمامًا لمسار النهضة الغربية، نماذج واعية، نابعة من القيم الخاصة بالمجتمع، تنطلق منه ولا تعاديه، وفي ذلك ضربٌ للمطلقية والكونية التي ادعاها النموذج الغربي بالإضافة إلى تدهور جاذبيتة كأنموذج تنموي بالنسبة لبقية دول العالم. أما العامل الثاني فقد تجسد في أزمة الحداثة الغربية ذاتها، في النتائج الكارثية التي قاد إليها الأنموذج الغربي في التحديث مما جعل وجود الإنسان والعالم موضع شك لتعلو الأصوات من قلب الحواضر العلمانية منادية بالتحجير على العقل ووضعه تحت الوصاية.
    نماذج حداثية موازية
    مثَّل ظهور تيار مابعد الحداثة أواخرَ القرن الماضي نهاية السيطرة الأروبية على مجمل العالم، فتيار مابعد الحداثة وبتركيزه على النسبية الثقافية قام بنقض أوهام الحداثة الغربية ذاتها في ادعاءات الكونية والإطلاقية، وتيقنت الثقافة الغربية أنها مجرد واحدة من ثقافاتٍ متعددة وأن ادعاءات المركزية وتجسيدها لمرحلة متقدمة ليس إلا أسطورة من أساطيرَ متعددة. الشيء الذي انعكس على مجال السياسة ليشهد بدوره تحولاتٍ جذرية على مستوى النظرية والممارسة فظهر ما يعرف بالجزر النظرية island of theory بمعنى أن كل إقليم قادر أن يطور نظريات أكثر مناسبة له من خلال المفاهيم المستخدمة في تلك المنطقة، ليلغى بذلك مفهوم النظرية الواحدة والحداثة الواحدة القابلة للتعميم ويحل محلها مفهوم جديد..مفهوم حداثات تأخذ بعين الإعتبار الخصوصية الثقافية لكل منطقة كالشرائحية في الهند والقبلية في إفريقيا والكوربراتية في أمريكا اللاتينية. فكانت النتيجة أن ظهرت نماذجَ حداثية ناجحة لا تعادي ماضيها بل وتجعل منه جسرًا نحو التقدم التنموي والغد الأفضل، واقعًا يصفُه عالم الإجتماع الفرنسي آلان تورين بقوله أن «عددا كبيرًا من طرائق التحديث الحالية يجمع في الغالب بين مكوناتٍ دينية وأشكالٍ قديمة من التنظيم الاجتماعي والحياة الثقافية. هكذا ينجرُّ إلى الحداثة أفرادٌ وجماعات فيهم/فيها مزيجٌ من التصرفات الدينية وغير الدينية المؤتلفة أو المتضاربة لذا كان من الإعتباطي وطبعا من الخطأ إعلان تعارض الحداثة مع إرثٍ ثقافيٍّ معين لا يعتبر نفسه مناهضا للحداثة»[1] وتعتبر البلدان الآسيوية على وجه التعيين نماذج حية في تطويع الحداثة من خلال إنتاجها نماذجَ حداثية واعية تمزجُ قيم العصرنة والتقدم بالخصوصية الثقافية النابعة من المجتمع..فاليابان على وجه الذكر لا الحصر قهرت بصناعاتها التكنولوجية الصناعات الأمريكية في عقر دارها وبلغت درجة من التحديث التقني والثقافي والحضاري دون أن يعني ذلك قطيعة مع إرثها الثقافي والديني والذي أقل ما يمكن وصفه بأنه بدائي. لقد عاد المصلحون اليابانيون والسياسيون والمنظرون إلى عقيدة الشنتو وإلى الكتابين المركزيين الكُجِكي والنيهونشوكي وأعادوا قراءتهما وتأويلهما في مشروعٍ ديني سياسي إيديولوجي متماسك ومتناسق وبنو عليه مقاربتهم التحديثية[2]..وتستند النظرية السياسية اليابانية في جملتها إلى نظرية الخلق كما يصورها كتاب كوجِكي، وقوامها أن الإمبراطور الياباني الأول جيمو هو حفيد آلهة الشمس آماتيراسو وقد بعثته إلى الأرض بعد أن عم الفساد وقد ظلت سلالته الإمبراطورية تحكم اليابان إلى اليوم وتواصلت ذات النظرية بذات الأسس الدينية والمسوغات السياسية في الفكر السياسي الياباني الحديث[3]
    فنظام الحكم في اليابان قائم برمته على الأسرة اليابانية الإمبراطورية وهي أقدم أسرة حاكمة على وجه الأرض دون انقطاعٍ في الحكم ولو كان جزئيًّا، ومغامرة التحديث اليابانية قامت على ابتكار رؤية دستورية حداثية تمزج متطلبات التقدم والتحرر بالنظام الإمبراطوي باعتباره روح الأمة. والجيش الياباني وبالرغم من تقدمه على المستوى التقني والعلمي والعسكري إلا أنه يحمل عقيدة بدائية تحمل نوع من القداسة الدينية تجاه الإمبراطور والأرض اليابانية، فعقيدة الشنتو تَعتبر أن "الإلهين" إزاناغي izanagi وإيزانامي izanami قد تزاوجا فأنجبا الجزر اليابانية المقدسة ثم خرجت من عين إيزانامي اليمنى آلهة الشمس أماتيراسو أومي كامي amatiratsu وهي أعظم الآلهة عند اليبانيين ويرمز إليها بالدائرة الحمراء في العلم الياباني اليوم ومن عينه اليسرى خرج إله القمر تسوكي يومي وبعد فترة عم الفساد في الأرض فأرسلت "الآلهة" حفيدها ليحكم ويصبح أول امبراطور لليابان، وقد عان الأمريكان كثيرا من هذه العقيدة في حربها ضد اليابان وهو ما أشارت عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية روث بنيدكت في دراستها الانثربولوجية المعنونة بــ "زهرة الكريزتنم والسيف" The Chrsyanthenum and the sword. كما يتم أيضا تربية الناشئة في اليابان على مثل هذه العقائد بطرق عصرية وكذلك تسويقية ربحية لتفرضها لا على الناشئة في اليابان وحسب وإنما في أروبا وأمريكا والعالم الإسلامي من خلال أفلام الكرتون والإنمي وتستهلك على أنها بضاعة حداثية تقدمية قادمة من كوكب اليابان ولا أحد يتجرأ على وصفها بالرجعية أو المخالِفة لقيم الحداثة، شأنها شان اللغة اليابانية والتي هي كتابة بدائية قائمة على طريقة الرموز التصويرية تماما كما كان يفعل الإنسان قديما إذا ما أراد أن يعبر عن شيء كان يرسمه وكذلك عصي الأكل اليابانية والتي هي عادة بدائية تتزاحم اليوم أشهر المطاعم العالمية على توفيرها في محاكاة لطريقة أكل اليابانيين، وكذلك حصير التاتامي الذي مايزال يستخدم في البيوت اليابانية وفي الفنادق اليابانية ذات الطراز الياباني العريق والتي تُسمّى "ريوكان" حيث لا يوجد بها أسرّة إذ أن غرفها مفروشة بالتاتامي وينام نزلاءها حتى ولو كان الامبراطور على الأرض فوق التاتامي. يقول الدكتور مبروك الشيباني المنصوري: «هذا المشروع النهضوي الياباني في استناده إلى بنى دينية مفصلة يبين تهافت رأي كل من يريد إقصاء الدين عن أي مشروع فكري أو حضاري أو ثقافي أو سياسي أو اقتصادي متبعا في ذلك النموذج الغربي في التحديث ومتغاضيًا عن غيره من النماذج جهلاً أو معاندة.»[4]
    ومن باب الذكر أيضا يوجد الأنموذج الهندي، إذ تعتبر الهند من أكبر دول العالم في مجال التحديث دون أن يعني ذلك القطيعة التامة مع إرثها الثقافي والديني، فالزي «البنجابي» الهندي هو أساس الأزياء في الهند سواء تقليدية أو حديثة، ترتديه النساء في الهند من الأثرياء إلى الطبقة المتوسطة. ولا تزال الهند رغم التحديث متمسكة بعاداتها الدينية التي لا تقل بدائية عن عادات اليابان كحرق الجثث وجمع رماده وإلقائه في النهر إلى تقديس الأبقار مع تقنين ذلك نصًّا حيث ومنذ وصول حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسي القومي إلى السلطة شددت بعض الولايات الهندية القوانين المتعلقة بذبح الأبقار وحظرت غالبية الولايات الهندية ذبح الأبقار التي يعتبرها الهندوس حيواناً مقدساً ويشكّل ركناً من أركان العقيدة الهندوسية. والأمثلة على هذا النوع من الحداثات كثير وهو في ازدياد من يوم إلى يوم لا يتسع المقال لذكرها أو حصرها...
    فشل الأنموذج الغربي
    هذا النجاح التنموي النوعي يقابله فشل ذريع في المشروع الغربي التنموعلماني حيث نتج عن محاولة تعميمه ويلات حروب واحتلالات تحت شعار التحديث وحارسته العلمانية. وهو شعار اهتز كثيرًا نتيجة فشل الإستراتيجيات التنموية في العالم الثالث، فأمريكا احتلت الفلبين لمدة خمسين عامًا ولم يظهر أي نموذج ديمقراطي أو تنموي بل الفلبين تعتبر من أقل مجموعة الدول الآسوية آسيان تطورا، كذلك تدخلها في الصومال وهايتي ودول الكاريبي والنتيجة إفلاس تنموي وفقر ثقافي وحضاري مدقع..كذلك فرنسا باحتلالها رقعة جغرافية كبيرة خصوصًا في إفريقيا والنتيجة علمنة جوفاء على مستوى القوانين والإقتصاد واللغة والتعليم والثقافة دون أن يفرز ذلك أي نقلة ولو بسيطة على مستوى التنمية والتقدم التقني والحضاري بل على النقيض فقد أدى هذا المسار إلى الفساد والتفكك السياسي، التضخم، الإحباط، فقر، مجاعات، جريمة منظمة، استيلاب روحي فكري وثقافي.
    أسباب هذا الفشل ليس مردها فشل في التطبيق نتيجة اختلاف البيئات أو مجتمع الآخر الغير متقبل لأنموذج غريب عنه وعن موروثه الثقافي. حيث نفس هذا الفشل قد أطل برأسه من قلب الحواضر العلمانية الأروبية نفسها، فمغامرة الحداثة الغربية في تأكيدها على اكتفاء العقل بنفسه وانعتاقه من الإيمان انعتاقًا متعجرفًا أدى إلى ظهور جيل جديد من المثقفين والمنظرين السياسيين يَعتبِرُ الحداثة المعلمنة انحرافًا وزيغًا aberration ويَعتبر انعتاق العقل من الإيمان واكتفاءه بنفسه السبب الأول والعلة الأولى لكافة شرور وآفات القرن العشرين. إذ أن الإيمان الكلي بالعقل أفضى إلى توتاليتاريات لم يعرف لها التاريخ مثيل ابتداءا من البونابرتية التسلطية إلى النازية في ألمانيا والفاشية الإيطالية والستالينية السفياتية والعسكرية اليونانية، ديكتاتورية فرانكو في اسبانيا وأنطونيو سالازار ومارشيلو كاتيانو في البرتغال وغيرها من الأنظمة التي قادت العالم إلى ويلات واحتلالات وأدت إلى انزلاقه إلى حربين عالميتين ساد بعدها الإعتقاد أن الحرب العالمية الثالثة قد تنهي وجود كوكب الأرض برمته ما دفع الإنسانية إلى التساؤل عن عوائد التحديث والتكنولوجيا، فتطور إمكانيات الإنسان التقنية للفعل والهدم قد يؤدي إلى القضاء على العنصر البشري إذا استمر تطور العلم بهذه الوتيرة خاصة مع تبني نظرية تدعو إلى اكتفاء العقل بنفسه وانعتاقه من المسؤولية الأخلاقية والدينية بحيث لا يأخذ بعين الإعتبار هذه الإشكالية أي إشكالية وجود العنصر البشري. وقد نطق بهذه المقاضاة الجذرية أبناء ونخبة هذه الحداثة المعلمنة نفسها فهاربرت ماكوز اعتبر أن «عقلانية المجتمع المعاصر وتقدمه وتطوره هي في جوهرها لا عقلانية»[5] واعتبر في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد أن الحرب وإبادة الأبرياء هي فكرة مرفوضة عقلا بينما تتحول إلى مشروع عقلاني بامتياز عندما تقرن الحرب بالإزدهار وحياة الرفاه. ثم وبحجة التقدم وحياة الرفاه لا يبارك هذا الضمير قتل الأبرياء وحسب وإنما لا يمانع في اقتناص سبل إزالته هو وكأنه يعيش فصولاً من مسرحية رقصة الموت لسترندبرغ إذ لا يمانع في ابتلاعِ قوتٍ مشبعٍ بالإشعاعات النووية والكيمايائية لا يمانع في عقلنة إبادته بشرعنة تقليص عدد سكان العالم مستقبلاً سواء بتحديد النسل أو بفوائد انتشار الأمراض والأوبئة أو شرعنة التجارب على البشر تحت ذريعة الإكتشافات العلمية. ولهذا يرى ألان تورين وهو أحد أبناء العلمانية الغربية بأن القرن العشرين الذي سمى بقرن التقدم نظر إليه في أروبا اليوم بأنه قرن الأزمة قرن الإنحطاط أو الكارثة[6] .
    وفي هذا السياق تنافذت اليقينيات المتولدة من عوائد التحديث ومفاهيم التقدم الكبرى وقد حاول خطاب مابعد الحداثة تجاوز هذا المفهوم نحو إعادة تعريف التقدم الإنساني وربطه بمفهوم التنمية البشرية: تحرير الذات، رعايتها والعناية بها وفق ما تم رسمه في تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP المُصْدَرَة بدءًا من 1990[7] ولكن هذا المنظور الجديد للتقدم اصطدم بمخيلة قيامية لمستقبل الذات والعالم رسمتها حواجز الفقر والمرض والإستلاب المتولد عن العمل، الإنفجار السكاني وانتشار الأوبئة والآفات في العالم، تلوث كوكب الأرض، الإحتباس الحراري واشتداد حدة الأعاصير المدارية، أزمات الطاقة والمياه، ارتفاع معدلات البطالة، الأزمات المالية والإقتصادية المتجددة وغياب البديل السياسي الاجتماعي كل ذلك أدى إلى وقوع الذات في شراك غياب الأمل وانسداد الأفق وشعور متنام بالخذلان واليأس فلم يعد التاريخ الإنساني يسير مستقيما نحو الرخاء والتقدم سواء بالرسم الحداثي أو مابعد الحداثي بل أصبح يسير متسارعًا نحو الكارثة وبات الجزم كما يقول آلان تورين: «بأن التقدم هو السير نحو الوفرة والحرية والسعادة وبأن هذه الأهداف الثلاث وثيقة الصلة ببعضها البعض ليس إلا إيديولوجيا يكذبها التاريخ باستمرار.»[8]

    وفي ضوء هذا الفشل حققت حركات تأكيد الهوية الدينية والثقافية طفرة عظيمة في الغرب باستغلالها أزمة الحداثة ومابعد الحداثة ولتقدم مشروعًا ليس لملء الفراغ الروحي الذي حلَّ بالروح الأروبية بل لتقدم المسيحية والكنيسة الكاثوليكية كبديل وإعادة بناء العالم بناء على ما تجده في النصوص المقدسة، حيث تبدو الحركات الدينية اليوم بمثابة حركات احتجاجية على وضع الإنسان في العالم، فإذا كانت العلمانية بوقت ما قد اعتبرت الدين بمثابة لحظة عفى عليها الزمن فها هو الخطاب الديني اليوم يضع العلمانية موضع تساؤل وشك واتهام ومقاضاة ويحملها مسؤولية الكوارث والحروب والظلم، ففي حواره الشهير مع ممثل العقلانية النقدية يرغن هابرماس بالأكاديمية الكاثولوكية بميونخ سنة 2004 نادى الكاردينال الألماني جوزيف راتسنغر بضرورة التحجير على العقل ووضعه تحت الوصاية يقول: «إن الشك في صلاحية العقل بعدما تقدم يطفو بقوة على السطح. في آخر المطاف فإن القنبلة النووية هي نتاج العقل كذلك والإختيار الجيني من خلق العقل نفسه. ألا يجب والحالة هذه أن نضع العقل تحت الوصاية الآن ؟ وإذا كان ذلك ممكنا فمن سيتكلف بذلك ؟ أم ألا يجب على الدين والعقل ان يتكاملا ويلنزم كل واحد منهما بحدوده للوصول إلى طريق إيجابي مشترك ؟»[9] ويعتبر الدكتور هوستن سميث أن اكتشاف الحداثة للصورة الحقيقة لما أسماه آلهتها التي عبدتها بكل حماس بوصفها أصناما – فشلت وثبت بطلانها- يعتبر أهم حدث ديني في القرن العشرين ويضيف «بعد أن نظفنا الأرض من تلك الأوهام (أوهام الحداثة) يمكننا أن نسبر الآن الأرض المحروقة لنرى فيما إذا كانت تبدي لنا أي علامات على حياة جديدة»[10]
    ويرى هابرماس أشهر فلاسفة القرن الحديث أن الحيرة التي بلغتها المجتمعات الإستهلاكية المعاصرة إن هي إلا ثمرة من ثمار النزعة العلمانية المتطرفة التي أبعدت العنصر الديني من مكونات السياسة والمجتمع. ويدعو إلى ضرورة مأسسة المجتمع ما بعد العلمانية حيث يأخذ الدين مكانته الطبيعية في الفضاء السياسي ويفتح له الباب أيضا في المجال المجتمعي بوصفه أحد جناحي الحياة ويرى هابرماس وهو من أبناء المدرسة العلمانية الماركسية بأن «"الدين" وحده هو الذي يمكنه أن يساعد الحداثة المتكسرة بتأسيسها على أساس متعال من أجل إخراجها من المأزق الذي توجد فيه...وعلى الدولة المشرعة للقوانين تمثلات..بما في ذلك التمثلات الدينية..كل الثقافات التي تعيش بين ظهرانيها بعين الإعتبار والإعتراف لها بفضاء خاص لها في إطار ماسماه بالوعي المابعد علماني للمجتمع»[11]
    لقد تيقن الغرب أخيرا أن هناك أمراضا تفتك بالإيمان والعقل على حد سواء ومجتمع مابعد العلماني ليس هو مجتمعًا دينيًّا ولا هو مجتمعًا علمانيًّا هو صورة لمجتمع هجين فقد الثقة في كلا الطرفين فاضطر لاتخاذهما أدوات رقابة كل طرف يراقب الآخر ليجد نفسه الغرب وهو يتجه نحو إعادة تحديد العلمانية وصوب إعادة إدخال الديني داخل الفضاء العمومي وحتى السياسي وليظهر الكثير من الكتاب والمنظرين السياسيين يعيدون عرض مفاهيم الدين وتفسيراته ويحاولون إيجاد صياغة جديدة تناسب العصر في تطبيع صريح للنخب العلمانية التقليدية مع العنصر الديني ...

    [1]- براديغم جديد لفهم عالم اليوم ص304 // آلان تورين
    [2]- الدين والحداثة والهوية والقيم دراسة في الفكر الديني الياباني والفلسفي الشرقي ص52 //دكتور مبروك الشيباني المنصوري
    [3]- نفس المرجع ص60
    [4]- نفس المرجع ص11
    [5]- الإنسان ذو البعد الواحد ص30 //هاربرت ماركوز
    [6]- نقد الحداثة ص139 //ألان تورين
    [7]- انظر مقال سابق: ماوراء الفيزياء إيديولوجيا الحداثة وما بعد الحداثة//تآكل السرديات الصغرى
    [8]- نقد الحداثة ص20 //ألان تورين
    [9]- جدلية العلمنة العقل والدين حوار ليرغن هابرماس وراتسنغر ص73-74 //ترجمة حميد الأشهب
    [10]- لماذا الدين ضرورة حتمية؟ ص199 // د. هوستن سميث
    [11]- جدلية العلمنة العقل والدين حوار ليرغن هابرماس وراتسنغر ص32 وص55 //ترجمة حميد الأشهب

    -------------------
    مواضيع ذات صلة:
    ما بعد العلمانية (1) : مفهوم الحياد
    ما بعد العلمانية (2) : غروب الدين -مفهوم التنبؤ-
    ما بعد العلمانية (4) : المثقفون الجدد والسياسة -مفهوم التجاوز-
    التعديل الأخير تم 03-23-2023 الساعة 03:37 PM
    التعقيد في الفلسفة بمثابة أوثان مقدسة يُحرَّمُ الإقتراب منها بالتبسيط أو فك الطلاسم
    فمن خلال التبسيط يتكشَّف المعنى السخيف -لبداهَتِه أو لبلاهَتِه- المُتخفي وراء بهرج التعقيد وغموض التركيب..

    مقالاتي حول المذاهب والفلسفات المعاصرة


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء