إخبار القرآن بظهور الروم على الفرس في ظرف بضع سنين من آيات نبوته صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ.. وفيها إشارة للحرب الساسانية البيزنطية Byzantine–Sasanian War of 602–628 التي دارت رحاها على إثر انقلاب الإمبراطور "فوكاس" Phocas على سلفه "موريس" Maurice و الذى كان قد ساعد ملك الفرس "خسرو الثانى" Khosrow II في استعادة ملكه من المغتصب "بهرام جوبين" Bahrām Chōbīn فتذرع باستنجاد أحد جنرالات موريس - و هو "نارسيس" Narses - به الذى لم يعترف بفوكاس و استولى على مدينة الرها Edessa و حاصره فيها "فوكاس" ليغزو الإمبراطورية البيزنطية. وقد تمكنت الفرس بعد سلسلة من الانتصارات من الاستيلاء على بيت المقدس عام 614 م - أي قبل الهجرة بثمانى سنوات ( الهجرة كانت عام 622 م) - على إثر هزيمة البيزنطيين بالقرب من أذرعات (درعا) Adhri'at جنوب سوريا وهذا هو الحدث الذى تشير إليه الآية و فرح به المشركون في مكة. قال السيوطى روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في "الكبير"، والحاكم وصححه، وابن مردويه ، والبيهقي في "الدلائل"، والضياء عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، في قوله تعالى : ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) قال : غلبت وغلبت . قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ; لأنهم أصحاب أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ; لأنهم أهل كتاب ، فذكر ذلك لأبي بكر ، ، فذكره أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما إنهم سيغلبون " فذكره أبو بكر لهم ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا . فجعل أجلا خمس سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ألا جعلتها إلى دون " أراه قال : " العشر " . " قال سعيد بن جبير : البضع ما دون العشر . ثم ظهرت الروم بعد .. و فى رواية ابن جرير فى تفسيره عن ابن مسعود رضى الله عنه : فمضى السبع سنين ولم يكن شيء، ففرح المشركون بذلك وشق على المسلمين، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : «ما بضع سنين عندكم؟» . قال : دون العشر . قال : «اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل» . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس، ففرح المؤمنون بذلك . وتجدر الإشارة ههنا إلى المقصود من قوله تعالى "أدنى الأرض" فهناك من يفسرها بأقرب أرض الشام إلى مكة وهناك من يفسرها مؤخرا بأخفض نقطة على سطح الأرض مفترضا أن المعركة دارت رحاها على شاطئ البحر الميت حيث بالفعل أخفض مكان على سطح الأرض حيث تقع هذه المنطقة تحت مستوى سطح البحر بأربعمائة و ثلاثة عشر مترا (- 413) (انظر مادة البحر الميت فى دائرة المعارف البريطانية). ثم كانت الكرة للروم على الفرس فكانت باكورة انتصارتهم على الفرس سنة 622 م – أي في ظرف بضع سنين من سقوط بيت المقدس - بقيادة الامبراطور هرقل Heraclius و الذى كان قد قام هو و أبوه – هرقل الأكبر Heraclius the Elder قائد إكسرخسية قرطاج Exarchate of Africa - بانقلاب عسكرى على فوكاس و استولى على القسطنطينية عام 610 م غازيا إياها من طريق البحر و نصب نفسه إمبراطوا وقد أضعفت هذه الحرب الأهلية الدولة البيزنطية وسمحت بتمدد الفرس. و قد قام بهزيمة الفرس في أسيا الصغرى في خريف عام 622م في شرقى المنطقة التي كانت تعرف بهيلينوبونتس Helenopontos على الساحل الجنوبى للبحر الأسود وهو ما شكل انتصارا حاسما للبيزنطيين ثم استمرت حملته على الدولة الساسانية حتى انتهت بانقلاب شيرويه (قباد الثانى) Kavadh II على أبيه "خسرو الثانى" وقتله و الذى مال للسلام مع الدولة البيزنطية و انسحب من كل الأراضى التي احتلها الفرس بما فيها بيت المقدس عام 628م وبذلك استمرت سلسلة انتصارات الروم أيضا بضع سنين أي ما بين عامي 622 م و 628 م. وقد بعث النبى صلى الله عليه وسلم إلى "خسرو" بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام حمله إليه عبد الله بن حذافه كما ذكر ابن سعد في الطبقات – وأورده الألبانى في " السلسلة الصحيحة " 3 / 414- قال : و بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي و هو أحد الستة إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام و كتب معه كتابا : قال عبد الله فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرئ عليه ، ثم أخذه فمزقه ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم مزق ملكه. .. . و كتب كسرى إلى باذان عامله في اليمن أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز فليأتياني بخبره ، فبعث باذان قهرمان و رجلا آخر و كتب معهما كتابا ، فقدما المدينة ، فدفعا كتاب باذان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم و دعاهما إلى الإسلام و فرائصهما ترعد ، و قال : ارجعا عني يومكما هذا حتى تأتياني الغد فأخبركما بما أريد ، فجاءاه من الغد فقال لهما : " أَبْلِغَا صَاحِبَكُمَا أَنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّهُ كِسْرَى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِسَبْعِ سَاعَاتٍ مَضَتْ مِنْهَا " ، وَهِيَ لَيْلَةُ الثُّلاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ – أي من الهجرة وهو ما يوافق 14 / 9 / 628 م- : " وَأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَلَّطَ عَلَيْهِ ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ فَقَتَلَهُ " ، فَرَجَعَا إِلَى بَاذَانَ بِذَلِكَ فَأَسْلَمَ هُوَ وَالأَبْنَاءُ الَّذِينَ بِالْيَمَنِ.و يعلق جوستاف لوبون فى حضارة العرب (113) قائلا :وقد قبلت دعوة النبى، فمزق خلفاؤه ملك كسرى كل ممزق من فورهم...
المصادر:
Kaegi, Walter Emil (2003), Heraclius: Emperor of Byzantium,pp. 78, 115