الاستذهان L'intellectualisation، وشخصيّاً أفضل لها تسمية عقلنة الأفكار، أو بصفةٍ أدق عقلنة المشاعر، هي آليةٌ دفاعيةٌ يستعملها الملاحدة بشدّةٍ لضمان عقلنةِ أساطيرهم التأسيسيّة حتى تكون لها وجاهةٌ منطقيّةٌ لقبولها نفسيّاً ! بمعنىً آخر هو محاولةُ بناء منطقيّ للمشاعر والصراعات المنبثقة عن الأفكار من أجل التحكّم بها، وتبريرها نفسيّاً.


وليسَ شرطاً أن يكون البناءُ فعلاً منطقيّاً لا غبار عليه عند العقلاء، بل يكفي توهّم تلك المنطقيّة نفسيّاً وتصديقها وإن كانت في حقيقة أمرها أبعد عن المنطق السويّ والعقل السليم!


ويعرّفها عالم النفس سربان إيونيسكو Serban IONESCUكـ " استخدام التجريد والتعميم أمام حالة صداميّة تؤرق كثيرا الإنسان .. " -1-


فيكون للاستذهان حالتين معيّنتين تتمظهر فيهما بشكلٍ ظاهرٍ : محاولة إعطاء الصبغة العقلانيّة لمجموعة من المعتقدات والمشاعر والأحاسيس، والثانيّة كتعميمٍ لمعالجة حالةٍ صداميّةٍ، وكذا حواريّةٍ !


ونحنُ لا يعنينا في مقالاتنا هذه إبراز كل جوانب هاته الآلية الدفاعيّة في كافّة مناحي حياة الإنسان، بقدر ما يعنينا في هذا المقام إبرازها كصارفٍ من صوارف الحقّ التي يستعملها الملاحدة أثناء حواراتهم كما بناء تصوّراتهم.


هاته الآليّة الدّفاعيّة لا تظهر إلا حينما تكون معتقدات الملحد مهدّدةً من طرف عقله الشاكّ من جهة، أو من طرفِ شخصٍ آخر خارجيٍّ، فبالتالي حينما يبدأ الملحد بالتساؤل والنّظر في معتقداته، تكون هاته المعتقدات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع مختلف مشاعره التي يشعرها، فلا شكّ أنه ما اعتنق معتقده إلا وقد شُغف به حبّاً، وقلبَ حياته رأساً على عقبٍ من أجله، وبدأ ينظر إلى الكون والحياة ومختلف الملذّات والأديان بمنظار هذا الفكر الإلحاديّ، فحينما سيكون هذا المنظارُ -الذي عاش ولا زال يعيشُ من خلاله- محطّ خلخلةٍ تهدّد ذاك التكيّف النفسيّ، وأنّ النظرة الدينيّة قد تكون هي الحقّ الذي لا غبار عليه، يأتي الاستذهان كميكانزمٍ دفاعيٍّ لا شعوريّ، فيهدّ أو يعدّل من بنيان معتقده بشكل – منطقيّ- بالنسبة له هو، لكيّ يضمن استمرار ذاك الروتين الحياتي الذي ألفه وشبّ عليه!


فمثلاً حينما نسأل أهل الإلحاد: ما الأدلة على عدم وجود الله تعالى ؟ يبادرونك بالجواب : لأنّه لا توجد أدلّةٌ على وجوده ! فجوابهم هذا هو جوابٌ استذهانيّ بالدرجة الأولى، فمنطقيّاً لا يمكنك أن تؤمن بشيءٍ دون وجود شيءٍ دالٍّ عليه، ولا يمكنك اعتناق نقيضه لغياب دليلٍ في الطّرف الآخر، فالموقف المنطقيّ العاقل حينها : أن يكون الملحد "لاأدريّاً" بمعنى متوقّفٌ لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك ، لكنّه في الحقيقة أغمض عينيه عن النظر – مجرد النظر – في أدلة أهل الإيمان الكثيرة والقوية في إثبات وجود الله، واعتنقَ معتقده كنعامةٍ تضع رأسها في التّراب وتحسب أن الشمس قد غربت!


فهنا بالنسبة للملحد جوابه منطقيٌّ في حين أن لا وعيه النّفسي هو الذي تقبّل هذا التبرير، لكي يحصّن نفسه مما يتوهمه باطلاً، أي نحن أمام توّهم التمنطقIllusion dialectique، وليس أمام بناءٍ منطقيّ حقيقيٍّ لا غبار عليه. ويمكننا في هذا الصدد أن نعطي أمثلةً كثيرةً، كيفَ أن كثيراً من الأفكار الإلحاديّة اللامنطقيّة؛ تخضع لآلية الإستذهان، حتى تصطبغ بهاته الصبغة. ومثاله آخر صيحات الإلحاد في الغرب، وهو ادّعاءُ أن هناكَ كائناتٍ فضائيّةٍ متطورّةٍ جدّاً وعالية الذكاء قد تكون سبباً في وجود الحياة على الأرض !
هذا الموقف جاءَ حينما بدأت الأنساق العلميّة المغلّفة للباطل الإلحادي في التهاوي، وأصبح العلماء يثبتون يوماً بعد يوم وجود إحكام في الخلق وليست فوضىً عبثيّةٍ، وأنه من الاستحالة أن تؤدي تلك العبثيّة إلى هذا الإحكام الكوني والتعقيد الخِلقيّ، فكان أن كبيرهم Richard Dawkins لم يستح في أن يعلنها للملأ من قومه، فبضربةٍ نفسيّة استذهانيّةٍ خرج من المأزق الذي سيسقطُ الإلحاد جملةً وتفصيلاً، بالقول بذكاءٍ فضائي أسمى ! -2-


وما آلية الإستذهان إلا منفذٌ échappatoire للاوعي، عساه يحافظُ على أفكاره وأباطيله !


أما الحالة الثانيّة التي تتمظهر فيها هاته الآلية عند الملحد، فهو ذاك التعميم الذي يلجأ إليه كحيلةٍ تناظريّة أثناء الحوار، حينما يجيب عن عشرين سطراً من الحجج القويّة، بجملتين تعميميّتين يهرب فيها من الإلزام، متوهّماً أنه فعلاً قد أجاب عن تلك الحجج بجملتيه تلك، فيتم اختزال قضيّة كبرى مع حجّة قاطعةٍ في كلمةٍ ضعيفةٍ متهافتةٍ، وكم من ملحدٍ أثناء الحوار مثلاً حينما تبيّن له أن سيارةً بديعة اللون محكمة الصنع يستحيل أن تأتي بدون صانعٍ، فكذلك الكون الفسيح الشاسع الأعقد والأحكم، والذي لا تضاهيه سيارةٌ في الإحكام والإتقان، والتعقيد، والأحجام ! فيجيبُ الملحد تحت ضغط تلك الآليّة الدفاعيّة دونما أن يشعر : " ليس الكون كالسيارة"، " أو رأينا صنع السيارة ولم نرَ خلق الكون " ...


فكل هاته الإجابات وأضرابها من التعميمِ في ردّ الحجة، والهروب من مواجهتها، والتي لن تجد لها أدلة بل يلقيها على عواهنها دونما مشكلٍ، لأن العيب ليس في طريقة حجاج محاوره، بل العيب فيه هو حيث يتمسّك بتهافته ويحاول استساغة باطله عبر التوهّم الاستذهانيّ!


فتكون هاته الآليّة أيضاً صارفاً من الصوارف عن الحقّ، وجداراً يحتاج منك أيها الشاك، ويا أيها الملحد أن تسقط بنيانه بفأس الإنصاف، والتجرّد، والتعقلن الحقّ.


-----------------------------
-1- Serban IONESCU et collaborateurs, Les mécanisme de défense, Nathan Université, 2003
-2- التصريح جاء في وثائقي بعنوان “No Intelligence Allowed”