إضاءات قرآنية ..!!
" مع يوسف عليه السلام ،، في أحسن القصص "
قال جل شأنه { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يوسف 110 - 111

نزلت سورة يوسف بمكة في عام الحزن ( تلك الفترة الحرجة الموحشة من عمر الدعوة ومن حياة رسولنا الكريم ، وحياة الفئة المؤمنة الصابرة معه ) ،، وهي السورة الوحيدة في القرآن التي تقص قصة كاملة بكل لقطاتها .. لذلك قال الله تعالى عنها : أنه سيقص { أحْسنَ القَصَص } الذي يبدأ بحلم وينتهي بتفسير هذا الحلم ..

ومن طرائفها أن قميص يوسف ،، استُخدم كأداة براءة لإخوته .. فدل على خيانتهم ، ثم استُخدم كأداة براءة بعد ذلك ليوسف نفسه مع امرأة العزيز فبرَّأه ، ثم استخدم للبشارة .. فأعاد الله تعالى به بصر والده ..

نلاحظ أيضاً ،، أن معاني القصة متجسِّدة .. وكأنك تراها بالصوت والصورة .. وهي من أجمل القصص التي يمكن أن تقرأها ومن أبدع ما تتأثر به .. لكنها لم تجيء في القرآن لمجرد رواية القصص .. وهدفها جاء في آخر سطر من القصة وهو : { إنَّهُ مَن يتَّقِ ويَصبر، فإنَّ اللهَ لايُضيعُ أجرَ المُحسِنين } 90 ، فمحور القصة الأساسي هو : ثق في تدبير الله .. اصبر .. ولا تيأَس ..

بالتأمل ،، نلحظ أن السورة تسير بوتيرة عجيبة .. مفادها أن الشيء الجميل ، قد تكون نهايته سيئة والعكس ، فيوسف أبوه يحبه ، وهو شيء جميل ، فتكون نتيجة هذاالحب أن يُلقى في البئر .. ثم الإلقاء في البئر شيء فظيع ، فتكون نتيجته أن يُكرَم في بيت العزيز.. ثم الإكرام في بيت العزيز شيء رائع ، فتكون نهايته أن يدخل يوسف السجن .. ثم أن دخول السجن شيءٌ بَشِع ، فتكون نتيجته أن يصبح يوسف عزيز مصر..!!

نستخلص أن الهدف من ذلك : أن تنتبه أيها المؤمن ،، إلى أن تسيير الكون شيءٌ فوق مستوى إدراكك .. فلا تشغل نفسك به ودعه لخالقه يسيِّره كما يشاء .. وفق عِلمه وحِكمته ؛ فإذا رأيت أحداثاً تُصيبُ بالإحباط ولم تفهم الحكمة منها فلا تيأس ولا تتذمَّر .. بل ثِق في تدبير الله ، فهو مالك هذا المُلك وهو خير مُدبِّر للأمور .. كما نستفيد أيضاً ، أن الإنسان لا يجب أن يفرح أو يحزن بشىء قد يكون ظاهره رحمة لكنه يحمل في طياته العذاب أو العكس ..

العجيب أنك في هذه السورة الكريمة ، لا تجد ملامح يوسف النبي ، بل تجد الإشارة لنبوته ورسالته في سورة "غافر" { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا } 34 ،، أما هنا فقد جاءت ملامح يوسف الإنسان .. الذي واجه حياة شديدة الصعوبة منذ طفولته ولكنه نجح ؛ ليقول لنا : إن يوسف لم يأتِ بمعجزات ، بل كان إنساناً عاديّاً ولكنه اتَّقى الله فنجح .. وهي عِظة لكل شاب مُسلم ابتلي بغربة الإسلام في هذا الزمان ، وبوحشة الطريق إلى الله ، وهي أمل لكل مَن يريد أن يتزود للثبات في وجه هذا الواقع المرير ..

سورة يوسف ،، هي أكثر السور التي تحدَّثت عن اليأس .. قال تعالى { فلمَّا استَيأسوا منهُ خَلَصوانَجِيَّا } 80 ، وقال سبحانه { ولا تيأسوا مِن رَوحِ الله ، إنَّهُ لا ييأسُ مِن رَوحِ الله إلا القومُ الكافِرون } 87 ، وقال عزوجل { حتى إذا استيأس الرسلُ وظَنُّوا أنَّهُم قد كُذِبوا جاءَهُم نَصرُنا } 110 .. وكأنها تقول لك أيُّها المؤمن : إن اللهَ قادر ،، فلِمَ اليأس ..!؟

إن يوسف رغم كل الظروف الصعبة التي أحاطت به ؛ لم ييأس ولم يفقد الأمل .. فهي قصة نجاح في الدنيا ، حين استطاع بفضل الله ثم بحكمته في التعامل مع الملِك ، أن يُصبح عزيز مصر .. وفي الآخرة حين تصدَّى لامرأة العزيز ورفض الفاحشة ونجح ..

لقد نزلت هذه السورة المكية - كما مر معنا - في عام الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في أشد أوقات الضيق ، وهو على وشك الهجرة إلى المدينة ومفارقة مكة المكرمة .. هذه السورة كما قال العلماء : ما قرأها محزونٌ إلا سُرِّي عنه ..

لقد تولى الله أمر يوسف عليه السلام ،، فأحوج القافلة في الصحراء للماء ليخرجه من البئر .. ثم أحوج عزيز مصر للأولاد ليتبناه .. ثم أحوج الملك لتفسير الرؤيا ليخرجه من السجن ..ثم أحوج مصر كلها للطعام ليصبح عزيز مصر ..
والدرس هنا ،، يجب أن تتيقن أنه إذا تولى الله أمرك ؛ هيأ لك كل أسباب السعادة ..

فقط قل بصدق وبحضور قلب { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ } غافر 44 .. فوّض أمرك لله سبحانه فى كل شيء ،، في سلمك وفي حربك ، وفي معاشك وصحتك ، وفى أولادك ورزقك وفى كافة همومك واحتياجاتك .. ثم تأكد أن الله معك طالما أنت موفي الله حق العبودية ، وملتزم بشروط العهد الذي أخذه الله على المؤمنين .. قال سبحانه { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } الرعد 20
منقول بتصرف يسير ..

يقول سيد قطب رحمه الله في مقدمة السورة ( ففي الوقت الذي كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ؛ يعاني غربة الانقطاع في جاهلية قريش ، كان الله سبحانه يقص على نبيه الكريم قصة أخ له كريم ، وهو يعاني صنوفاً من المحن والابتلاءات ( محنة كيد الإخوة ، ومحنة الجب والخوف والترويع فيه ، ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه ، ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة ، وقبلها ابتلاء الإغراء والشهوة والفتنة ، ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز ، ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم وفي يديه لقمة الخبز التي تقوتهم ، ومحنة المشاعر البشرية وهو يلقى بعد ذلك إخوته الذين كانوا السبب الظاهر لهذه المحن والابتلاءات كلها ) ،، هذه المحن والابتلاءات التي صبر عليها يوسف عليه السلام وكيف زاول دعوته إلى الإسلام من خلالها وخرج منها كلها متجرداً خالصاً ; جعلت آخر توجهاته وآخر اهتماماته في لحظة الانتصار ; وفي لحظة لقاء أبويه ولم شمله ; وفي لحظة تأويل رؤياه وتحققها كما رآها ؛ هي التوجه المخلص المتجرد المنيب إلى ربه منخلعاً من هذا كله بكليته فتلخص طلبه الأخير أن يتوفاه ربه مسلماً وأن يلحقه بالصالحين ،، فلا عجب أن تكون هذه السورة بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم ومن التعقيبات عليها ؛ تسليةً وتسريةً وتطميناً ، وتثبيتاً للمطاردين المغتربين المتوحشين ، لا بل أن الخاطر ليذهب بي إلى الإحساس بالإيحاء البعيد بالإخراج من مكة إلى دار أخرى يكون فيها النصر والتمكين ; مهما بدا أن الخروج كان إكراهاً تحت التهديد كما أخرج يوسف من حضن أبيه ليواجه هذه الابتلاءات كلها ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين والسؤدد ..

وقد أختتمت السورة بتعقيب أخير على ما ورد فيها فقال سبحانه { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } 109 - 111 ..

إنه الإيحاء بمجرى سنة الله عندما يستيئس الرسل كما استيأس يوسف في محنته الطويلة ، والتلميح بالمخرج المكروه الذي يليه الفرج المرغوب ؛ هذا الإيحاء والتلميح اللذان تدركهما القلوب المؤمنة وهي في مثل هذه الفترة تعيش وفي جوها تتنفس ،، فتتذوق وتستشرف وتلمح الإيحاء والتلميح من بعيد )

فلنكن على يقين وثقة ،، بأنه مهما ادلهمت الخطوب ، واشتد الحصار ، وضاقت السبل .. فإن الله ( غالبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) يوسف 21

محمد عمر حسين
13 رمضان 1439 هـ