النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: التوطئة لانتصار الإسلام ونشأة الإمبراطورية الإسلامية

  1. افتراضي التوطئة لانتصار الإسلام ونشأة الإمبراطورية الإسلامية

    التوطئة لانتصار الإسلام ونشأة الإمبراطورية الإسلامية

    عندما يتناول المؤرخون أي ظاهرة تاريخية فهم يحاولون تفسيرها بالنظر إلى السياق الذى نشأت فيه. و السياق هو الأطر الجيوغرافيةو السياسية و الاقتصادية و البيئية و الثقافية للظاهرة محل الدراسة.
    و في تناولهم لنشأة الإسلام و دولته في الربع الأول من القرن السابع الميلادي و باعتبارها حدثا استنثائيا لم يكن سعيهم في ذلك استثناءا فحاولوا أن يفسروا هذه الظاهرة التي غيرت وجه العالم من خلال استقصاء العوامل التي ساهمت في نشأتها بالأساس و تلك التي ساعدت على نموها و تمددها.
    وأنا لا أختلف على كون هناك في الجملة أسباب دعت لظهور رسالة الإسلام ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم و عوامل ساعدت على انتشاره و غلبته فالتاريخ له سنن وليس أمرا عبثيا ولا اعتباطيا. لكن قد اتفق وقد اختلف مع هؤلاء المؤرخين في في طبيعة هذه العوامل و تلك الأسباب وحجم الدور الذى لعبه كل منها.
    وما أعنيه بالأسباب ليس كونها ذات طبيعة غيبية محضة لأن الأسباب في حقيقتها ذات طبيعة مزدوجة. بمعنى أن الإسلام منبعه هو الإرادة الإلهية التي اقتضت إرسال الرسول و إنزال الكتاب لكن باعتبار أن الظرف القائم كان يقتضي ذلك أيضا وإلى ذلك دعت الحاجة. كذلك ما أعنيه بالعوامل ليس بالضرورة عوامل خارقة للعادة لكن العوامل التي ليست من قبيل خرق العادات إذا نظر إليها كل على حدة فاجتماعها على ذلك النحو الذى يسر انتشار الإسلام وظهوره على سائر الأديان وفى وقت وجيز يشكل حدثا استثنائيا ويدل على التدخل الإلهي للتوطئة و تهيئة الظروف لهذا الحدث الجلل.
    وأنا في هذا المقال أتناول جانب من العوامل وأوضح كيف أن اجتماع تلك العوامل و توافرها لهو بحد ذاته دليل على أن الإسلام حق. وهذه العوامل تنقسم إلى داخلية و خارجية.
    فأما العوامل الداخلية تنقسم إلى:
    1- كيف أصبحت المدينة بيئة حاضنة و ما الذي ساعد على ذلك
    2- كيف أن نفوذ قريش السياسي و الاقتصادي ساهم في إخضاع الجزيرة العربية
    وأما العوامل الخارجية تنقسم إلى:
    1- تصور الحكم الألفي الذى كان شائعا بين اليهود و النصارى
    2- أزمة منتصف القرن السادس الميلادي و تضعضع القوى العالمية
    وسأبدأ أولا بالعوامل الخارجية

    العوامل الخارجية

    الحكم الألفي
    تصور الحكم الألفي كما نشأ بين مجموعات يهودية قديمة و مسيحية مبكرة في الفترة ما بين 200 قبل الميلاد و 200 ميلادية وهو تصور ينتمي إلى "علم الأخرويات" يتعلق بالملاحم وأحداث النهاية وهو في مغزاه يشير إلى أن التاريخ البشري قد آذن بنهاية تمثل ذروة الأحداث حيث سيتدخل الرب بشكل حاسم ليستهل عهد من السلام و العدل و الصلاح على الأرض.
    لكن الشروط و العلامات التي تسبق هذا التدخل الإلهي وكذلك طبيعة ذلك الحكم الإلهي تتفاوت بحسب تنوع الأدبيات التي تعالجها و التي تعود في تاريخ تدوينها إلى تلك الحقبة. فتتفاوت بحسب هل الألفية ألف عام حرفيا أم لا وهل "المسيا" (المُشْيَاح أو المسيح أو الملك المخلص) له دور محوري في استهلال ذلك العهد أم لا وهل الحكم الإلهي ينتمي إلى عالم الدنيا أم يسمو عنه إلى العالم السماوي.
    ويرى طائفة من المؤرخين أن أصول المسألة ترجع إلى أعمال الغزو التي تعرضت لها مملكة إسرائيل قبل العصر الهيليني (الإغريقى) كالغزو الآشوري لمملكة "إسرائيل الشمالية" و الغزو البالبلي لمملكة "يهوذا" و التي بدورها شكلت تربة خصبة لنشأة هذه الوعود و الآمال في مستقبل مثالي. و بالرغم من أن الأنبياء العبرانيين قد وبخوا بني إسرائيل على انحرافاتهم الأخلاقية و ردتهم الدينية إلا أنهم اتفقوا على رسم تصور لهذا المستقبل المشرق وجعلوه في كثير من الأحيان مشروطا بالتوبة. و كذلك يرى هؤلاء المؤرخون أن السياق التاريخي لنشأة التصور الألفي لدي اليهود هو القمع الواسع الذى مارسه الإمبراطور السلوقي "أنطيوخس إبيفانيوس" ( حكمه ما بين171 – 164 ق.م.) للديانة اليهودية وتشجيعه للثقافة "الهيلينية". وهذا الأمر بدوره أدى إلى ثورة المكابيين التي تمكنت من التخلص من حكم "أنطيوخس" عام 165 قبل الميلاد. وقد شكل المكابيون سلالة ملكية كهونتية عرفت باسم "الحشمونيين" و الذين بالرغم من التزامهم بالقوانين و العادات اليهودية إلا أنهم بدورهم أيضا كانوا متأثرين بالثقافة الهيلينية ولم يدم حكمهم طويلا فقد اجتاح الرومان الشام عام 63 قبل الميلاد و جعلوا من فلسطين وسوريا مستعمرة رومانية.
    ويرى هؤلاء أن المسيحية المبكرة هي تيار ضمن تيارات يهودية ملحمية متعددة في تلك الحقبة وأن إعلان المسيح : تُوبُوا، فَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ! (متى 3:2) هو في هذا السياق وإن اختلفوا في فهم المقصود من العبارة آنفة الذكر على وجه التحديد. لكن المسيحيون بشكل متزايد عبر القرون رغبوا عن التصور الدنيوي "للحكم الألفي" أو "ملكوت السماء" إلى تصور رمزى معتبرين أن التفسير الحرفي للحكم الألفى إنما هو تصور دوني يخص اليهود الذين كانوا ينتظرون "مملكة أرضية" وقد بلغ هذا التحول ذروته في كتاب أوغسطين "مدينة الرب" في القرن الخامس الميلادي.
    لكن التصور كان لايزال حاضرا عند ظهور الإسلام حتى في أوساط المسيحيين و يشهد لذلك قول المقوقس (سيروس) في رده على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيّا قد بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك. إلخ
    وقول المقوقس : كنت أظن أنه يخرج بالشام. هو انعكاس لآراء عدد من آباء الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى مثل "يوستينيوس الشهيد" و "ترتليانوس" ممن كانوا يقولون بالحكم الألفي كمملكة أرضية وأنها تكون في أورشاليم.
    أما اليهود في فلسطين فهناك ما يشهد أنهم استقبلوا الفتح الإسلامي على أنه تحقيق لنبوءة الحكم الألفي و النبي المنتظر. فقد جاء في "تعاليم يعقوب" وهي وثيقة ترجع للعام 634 ميلادية وقد عاصر كاتبها فتح العرب للشام – و بالرغم من أن كاتبها نفسه لم يعتنق الإسلام - : عندما قتل سرجيوس قائد الجيش البيزنطي في فلسطين على يد العرب كنت فى "قيسارية" و أبحرت منها في قارب إلى تل شيكمونة. وكان الناس يقولون أن قائد الجيش البيزنطي في فلسطين قد قتل و نحن اليهود كنا في غاية الفرح. وقد كانوا يقولون أن النبي قد ظهر, قادما مع العرب وأنه كان يعلن مجىء المسيح الذى كان يُنتظر مجيئه.
    ولا شك أن تصور الحكم الألفي لدى اليهود و المسيحيين كان له بالغ الأثر في اعتناق الإسلام بعد غلبة المسلمين على الساسانيين و البيزنطيين.
    المصادر
    The Oxford Handbook of Millennialism. pp. 254 – 264
    Robert G. Hoyland. Seeing Islam As Others Saw It: A Survey and Evaluation of Christian, Jewish and Zoroastrian Writings on Early Islam (Studies in Late Antiquity and Early Islam). Darwin Press, Incorporated, 1998. pp. 57,58
    يتبع ..



    الإضمحلال العالمي
    أو أزمة منتصف القرن السادس كما عبر عنها روبرت هويلاند فينقل عن معاصرين الإحساس العام أن الأحوال تتجه نحو الإضمحلال فممالك صغرى مثل "الحبشة" و "جورجيا" آلت الأحوال فيها إلى حالة من السبات صوب نهاية القرن السادس. و حركة التجارة من خلال الموانئ العربية على الخليج العربي/الفارسي و التي شهدت رواجا كبيرا في العصرين الإغريقي و الروماني تباطأت إلى حد الركود. وكذلك أراضى شمال سورية التي اشتهرت بانتجاها الغزير لزيت الزيتون شهدت تراجعا حادا في النشاط الإقتصادي في نهاية القرن السادس. و كذلك اليمن القديم بالرغم من تاريخه الذى يمتد في الماضي إلى ألف وخمسمائة عام انتهى به المطاف ليمسي دمية في يد الحبشة ثم الفرس.
    وبحسب المعاصرين فهناك عاملان حاسمان خلف حالة الإضمحلال تلك أولهما نوبات متكررة من وباء الطاعون بدءا من عام 542 م "و التي كادت تؤدي إلى فناء الجنس البشري" و ثانيهما تسارع وتيرة و حدة المواجهات بين الدولة الساسانية و الدولة البيزنطية. فكما يصف أحد المؤرخين في العام 580 ميلادية : لقد تم استئصال أمم ووقعت مدن فريسة للاستعباد وتم اقتلاع مجتمعات بشرية و تهجيرها حتي طال الانقلاب البشرية بأجمعها .
    وقد أدت الظاهرتان إلى انخفاض حاد في تعداد السكان وهو ما له تأثير بدوره على الاقتصاد حيث في تلك العصور التي سبقت العصر الحديث كان الاقتصاد حساسا للتقلبات الديموغرافية.
    وقد افترض أيضا أن للكوارث البيئية أثر في أزمة منتصف القرن السادس تلك. فالسرديات من أيرلندا إلى الصين تتحدث عن تلف المحاصيل و برودة غير معتادة و انخفاض مطول في ضوء الشمس في الفترة ما بين 536 و 537م ويرجع ذلك إلى سحب الرماد الناشئة من الانفجارات البركانية أو من نشاط النيازك التي ترتطم بالأرض.
    و الانخفاض الكبير و المطول في المحاصيل أدى بدوره إلى اضطرابات و قلاقل اجتماعية ويمكن النظر لذلك باعتباره يقف خلف الانقلاب الحاد في الأوضاع الذى شهدته نهاية القرن السادس و بداية السابع ما دفع شعوب الأمبراطوريات و السهول كالترك و الآفار على حد سواء إلى التقاتل على الموارد المتضائلة.
    و مهما يكن من أمر فلا شك أن انخراط الامبراطوريتان العظميان في ذلك الوقت كرد فعل على الكوارث البيئية في حرب واسعة النطاق كان استجابة خاطئة.
    و بغض الطرف عن الأسباب فقد فشلت القوتان في السيطرة على شعوب السهول داخل و فيما يلى حدودهما. وقد عانت الإمبراطورية الفارسية بشكل أكبر فعاصمتها "طيشفون" تقع بالقرب من مناطق شعوب السهول و الجبال و الصحارى داخل منطقة سيطرتها شجعت على الحكم الذاتي و مقدار محدود من المركزية كما فت في عضدها الهزيمة المذلة على يد هرقل وما تلا ذلك من حرب أهلية أضعفت قدرة النظام الفارسى على مواجهة الغزو العربي.
    و هذا بخلاف عاصمة بيزنطة فقد كانت بعيدة عن السهول و محصنة بشكل جيد وبالرغم من أنها تعرضت لهزائم متتالية على يدل شعوب السهول إلا أنها استطاعت أن تتجاوز العاصفة. ومن الواضح أنه كان لدى الترك و الأفار طموحات للتغلغل في الامبراطوريتين الفارسية و البيزنطية إلا أن كونهم قادمين من الجهتين الشمالية و الشرقية للدولتين فقد واجهوا عقبات كبيرة طبيعية و من صنع البشر غير أن دوافعهم كانت اقتصادية بحتة. وهذا بخلاف العرب الذين كانوا مجاورين للجبهة الجنوبية اللينة للدولتين وهذا ساعد بشكل كبير على الظفر بمبارة القرن السابع العظمية تلك في نهاية المطاف. وعلى خلاف شعوب السهول فالعرب كانوا يبشرون بدين جديد و يحملون مشروعا حضاريا يسمو على المشاريع القائمة ولذلك كتب لهم البقاء في البلاد المفتوحة و ثبتت أقدامهم ولم يقتصر انتصارهم على الجانب العسكري بل الحضاري و الثقافي أيضا حتى اعتنقت تلك الشعوب الإسلام بشكل عام و اصطبغت بصبغته.
    المصادر
    In God’s Path: The Arab Conquests and the Creation of an Islamic Empire, pp: 27-30

    يلي ذلك العوامل الداخلية

    العوامل الداخلية
    إيلاف قريش ومكانتها
    لقد أصبحت مكة بحلول نهاية القرن السادس الميلادي مركزا تجاريا كبيرا. وأصبح لسادات مكة تجارة مزدهرة وأصبح في حوزتهم ما يشبه احتكارا لحركة التجارة بين المحيط الهندي و أثيوبيا من جهة و البحر المتوسط من جهة أخرى. و قد سيرت قريش قوافل للتجارة شتاءا إلى اليمن و في الصيف إلى غزة و بصرى و دمشق. وكونت شبكات تجارية مع التجار في تلك المدن الشامية. كما عقدت تحالفات سياسية و اقتصادية مع كثير من القبائل البدوية في صحاري وسط و شمال الجزيرة العربية لضمان سلامة القوافل التي تسيرها وقد تقاسمت الأرباح مع حلفائها من القبائل لتترجم الربح المالي إلى نفوذ سياسي في منطقة الحجاز. وفضلا عن المؤرخين المسلمين تحظى هذه المسألة باتفاق أغلبية المؤرخين من غير المسلمين.
    وقد وفر تعظيم القبائل العربية للكعبة و تقديسهم لها والذى تجلى في صورة الحج إليها كل عام نعمة الأمن لقريش في بلدهم فلا يخشون غارة ولا سبيا ولا نهبا في حين أن ضيق العيش و شح الموارد في صحاري الجزيرة العربية حمل القبائل البدوية على أن تتقاتل فيما بينها على تلك الموارد الشحيحة وأن يغير بعضهم على بعض.
    وقد أشار القرآن إلى الأمرين بقوله تعالى في سورة "قريش" : لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ( 1 ) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ( 2 ) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ( 3 ) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ( 4 )
    وكذلك امتن عليهم بنعمة الأمن بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ. (العنكبوت :67)
    وقوله تعالى: وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ۚ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. (القصص: 57)
    وقد جعل ذلك لقريش مكانة في نفوس العرب باعتبار أنهم أهل الحرم ولذا كان فتح مكة و الغلبة عليها إضافة إلى فتح الطائف حدثا محوريا في انتصار دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فقد يسر ذلك انتشار الإسلام بين القبائل العربية و جاءت القبائل العربية لتبايع النبي صلى الله عليه وسلم في عام الوفود في رجب سنة 9 هجرية بعد فتح مكة فى رمضان 8 سنة هجرية و الطائف في شوال من نفس السنة. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم. رواه البخارى(3395) و مسلم (1818). وقال أبو بكر في سقيفة بني ساعدة : ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش. رواه البخاري (6830)

    وبالرغم من أن بعض قريش اعتذر عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم بالقول : إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا بالقتل والأسر ونهب الأموال، فإن الناس قد عادوك وخالفوك، فلو تابعناك لتعرضنا لمعاداة الناس كلهم، ولم يكن لنا بهم طاقة. فقد اتضح في نهاية المطاف فساد هذا العذر وبطلانه وقد رد القرآن عليهم بأن هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل ; لأن الله جعلهم في بلد أمين ، وحرم مُعَظّم آمن منذ وضع ، فكيف يكون هذا الحرم آمنا في حال كفرهم وشركهم ، ولا يكون آمنا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق؟
    و على الرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم ود أن لو تكف قريش عن قتاله إلا أن قريشا أصرت على حربه لأنها رأت أن تهديد المسلمين لقافلة القرشيين في بدر سابقة خطيرة لا يمكن أن تتسامح معها و تشكل تهديدا لنفوذها و سيادتها وخرجت بطرا ورئاء الناس لقتال المسلمين بحدها وحديدها ولذلك قال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم عليها ثلاثا، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فامضوا. وإن كان ذلك لم يخل من معارضة من قبل بعض القرشيين الذين آثروا العودة على بلوغ بدر و قتال المسلمين. وقد كان غرض النبي صلى الله عليه وسلم من الإغارة على القافلة بالأساس إشعار قريش أنهم مهددون مما قد يضطرهم إلى موادعته و التخلية بينه و بين الناس و بينه و بين الحرم و بالتالي يتم تحييدها بديلا عن أن تناصبه العداء على غرار ما حصل بعد صلح الحديبية. لقد اقتضت حكمة الله ان تقع المواجهة وتلحق الهزيمة بقريش و تفقد طغمة من سادتها الذين تولوا كبر العداء للنبي صلى الله عليه وسلم و دعوته. و قد بلغ الأمر ذروته في غزوة الأحزاب التي باءت فيها قريش وحلفاؤها بالفشل . ولذلك لما كان عام الحديبية أى السنة السادسة من الهجرة وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاصدا مكة بالعمرة وسَمِعَتْ قُرَيْشٌ بمَسِيرِه ، فَخَرَجَتْ يُعَاهِدُونَ اللَّهَ أَنْ لَا يدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ ، لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ ، فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا ، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، دَخَلُوا فِي الْإِسْلاَمِ وَهُمْ وَافِرُونَ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ، قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ ، فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ ، وَاللَّهِ إِنِّي لَا أزالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ لَهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ. رواه أحمد (18527)
    لكن اقتضت إرادة الله أن تحسم المواجهة مع قريش أولا لأن إلحاق الهزيمة بقريش و الغلبة على مكة و الحرم ثم الطائف بعدها هو مفتاح سائر الجزيرة العربية ويجعل من إخضاعها أهون بكثير من محاولة إخضاعها ولا تزال مكة و الحرم خارج سيطرة المسلمين. ولذلك نقضت قريش شرطا من شروط صلح الحديبية وهو ما سوغ فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة. حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة و التي دخلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
    وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه أنه يدخل المسجد الحرام و يطوف بالكعبة وأخبر أصحابه بذلك فلما خرج قاصدا مكة للعمرة عام الحديبية ظن المسلمون أنه يكون ذلك العام تحقيق الرؤيا فلما عادوا دون أن يصلوا المسجد الحرام وقع في نفوس بعض الصحابة من ذلك شيء ، حتى سأل عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه في ذلك ، فقال له فيما قال : أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا " قال : لا قال : " فإنك آتيه ومطوف به ". و في ذلك نزل قول الله تعالى: لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا . (الفتح: 27) و الظرف وقتها لم يكن قد بلغ حدا من النضج بعد لدخول مكة عسكريا وكان من فوائد ذلك الصلح على ما ذكره العلماء أن الناس أمن بعضهم بعضًا، واختلط المسلمون بالكفار في مكة، وبادؤوهم بالدعوة وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان مختفيًا بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل، ولهذا سماه الله فتحًا مبينًا وسهل بعد ذلك فتح مكة عسكريا إذ لم يلق المسلمون مقاومة تذكر. وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي، قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. [النصر: 1-2] وفي غضون فترة الصلح آمن كل من خالد بن الوليد و عمرو بن العاص وعثمان بن طلحة العبدري رضي الله عنهم سنة 8 هجرية وحينها قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها".
    ولعل من أسباب ذلك أن فتح مكة عسكريا بحاجة إلى تعبئة عامة و كان النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى أن يخرج بمعظم الجند و يشكل ذلك تهديدا للمدينة في ظل وجود وكر للتآمر و التحريض في خيبر شمالي المدينة وقد كانت بها حصون منيعة وكانت قد لجأت إليها بنو النضير لما أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة و منها انطلق حيى ابن أخطب سيد بني النضير و دخل في حصون بني قريظة ليقنعهم بنقض العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب ولذلك لما فرغ من الحديبية وقد أمن من جهة قريش في الجنوب خرج إلى خيبر و أخضعها في المحرم من السنة السابعة للهجرة. وقيل أن هذا هو المقصود بقوله تعالى في سورة الفتح : فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا.
    المصادر
    Watt, W. Montgomery (1986). "Kuraysh". The Encyclopedia of Islam, New Edition, Volume V: Khe–Mahi. Leiden and New York: BRILL. pp. 434–435
    Donner, Fred M. (1981). The Early Islamic Conquests. Princeton: Princeton University Press. pp. 51,52
    Jews, Christians, and the Abode of Islam: Modern Scholarship, Medieval Realities. pp. 131
    Bukharin, M. D. (2009). "Mecca On The Caravan Routes In Pre-Islamic Antiquity". In The Qurʾan in Context. Leiden, The Netherlands: Brill. doi: https://doi.org/10.1163/ej.9789004176881.i-864.25
    يتبع...
    المدينة كبيئة حاضنة
    في خمسينيات القرن الماضي عثر عالم الآثار و مؤرخ الفن الإسلامي دايفيد س. رايس على "حجر رصف" في منطقة حوارن بسورية، و التي كانت قديما جزءا من شبكة تجارية ممتدة، مكتوبا عليه بالخط "المسماري" و يرجع إلى عصر الإمبراطورية البابلية الحديثة و التي يعود تاريخها إلى ألف عام قبل ظهور الإسلام. وعندما قاموا بفك شفرة النص وجدوا أنه يتكلم عن طريق تجارية و التي تضمنت إلى جانب أماكن عدة مكان يسمى "يثرب" . ولم يكن هناك ما يدعو للشك لدى المؤرخين أن المقصود بهذا المكان هو يثرب التي كان إليها مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إذ أن الدليل وافر في المصادر القديمة على توغل البابليين في الجزيرة العربية في عهد الملك "نبوخذ نصر" (605– 562 ق.م.)
    وقد أحيا هذا الاكتشاف الاهتمام بنظرية قديمة عن أصل الوجود اليهودي في "يثرب" مفادها أن أصل هذا الوجود هو إلجاء اليهود من قبل الملك البابلي "نبوخذ نصر" إلى الفرار إلى هذا المكان خلال فترة السبي البابلي لليهود من مملكة يهوذا ( حوالي عام 586 ق.م.).
    ولعل لجوء اليهود بقبائلهم المختلفة التي كانت منتشرة في شمال ووسط غرب الجزيرة العربية جاء في صورة دفعات عبر القرون نتيجة حوادث كبرى تعرضت لها فلسطين كالغزو الروماني في القرن الأول قبل الميلاد و الخراب الثاني للهيكل عام 70 ميلادية و ثورة "بار كوخبا" ما بين عامي 132 و 136 ميلادية.
    ثم لحق بهم قبيلة بَلِيٍّ ، ومنهم من تهود، ثم الأوس و الخزرج وكانت الأخيرتان تعرفان"ببني قَيْلَة"، وهي قبائل قحطانية مهاجرين من اليمن قبل سيل العرم، وزاحموهم في واحة "يثرب".
    و كانت الغلبة في البداية لليهود على الأوس و الخزرج إلى أن ملك عليهم شخصا من اليهود يسمى "الفِطْيَون" وكان رجلا فاجرا حتى قيل أنه جعل لنفسه "حق الليلة الأولى" على كل عروس من اليهود و الأوس و الخزرج. وقد ورد ذكر هذه الممارسة الخبيثة لأول مرة في التاريخ فى "ملحمة جلجامش" السومرية (حوالي 2100 ق.م.) ويرى بعض المؤرخين أنها كانت تمارس في أوروبا في العصور الوسطى. وظل الوضع كذلك حتى قتله "مالك بن العجلان الخزرجي" بتحريض من أخته ثم فر إلى الغساسنة و استنصرهم على اليهود فلما دخل على أحد أشرافهم، و يقال له أبو جبيلة، شكا إليه مالك ما كان من الفطيون وأخبره بقتله وأنه لا يقدر على الرجوع فعاهد الله أبو جبيلة ألا يمس طيبًا ولا يأتي النساء حتى يذل اليهود ويكون الأوس والخزرج أعز أهلها وقد أوفى بعهده ذلك حتى صارت الغلبة للأوس و الخزرج.
    وثارت في الجاهلية نزاعات بين الأوس و الخزرج كان آخرها و أكثرها دموية ما عرف بيوم "بُعاث" نسبة للموضع الذي دارت فيه رحا المعركة. وقد كانت قبل الهجرة ببضع سنين. و انتصرت فيها الأوس وحلفاؤها من بني النضير و بني قريظة على الخزرج.
    وقد أشار القرآن لهذه النزاعات بين الأوس و الخزرج من جهة و اليهود من جهة و للنزاعات بين الأوس و الخزرج. قال تعالى: وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ. (البقرة: 89) فعن عمر بن قتادة الأنصاري, عن أشياخ منهم قالوا: فينا والله وفيهم - يعني في الأنصار، وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نـزلت هذه القصة يعني: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) قالوا: كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية ونحن أهل الشرك, وهم أهل الكتاب فكانوا يقولون: إن نبيا الآن مبعثه قد أظل زمانه. ومعنى قوله تعالى: يَسْتَفْتِحُونَ. أي استنصروا بهذا النبي, وتوعدوهم بخروجه, وأنهم يقاتلون المشركين معه.
    وقال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. (آل عمران: 103). و قال : وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال: 63) وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج ، فإنه كانت بينهم كما تقدم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن.
    و لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذى قريش أخذ يعرض الإسلام على القادمين إلى مكة في موسم الحج من القبائل فلم يجبه أحد منهم حتى لقي ستة أشخاص من الخزرج منهم "أسعد بن زرارة" رضى الله عنه فعرض عليهم الإسلام فأجابوه. حتى إذا كان العام التالي، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلًا، فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة في منى، فبايعوه، وكانوا عشرة من الخزرج واثنين من الأوس وسميت بيعة العقبة الأولى. ثم بعث معهم "مصعب بن عمير" رضى الله عنه يقرئهم القرآن و يعلمهم الإسلام فأقام في دار أسعد بن زرارة وأخذ يدعو الناس إلى الإسلام و أسلم على يديه "سعد بن عبادة" الخزرجي. ثم أرسل "سعد بن معاذ" وكان سيد الأوس "أسيدا بن حضير" إلى مصعب يزجره فذهب أسيد إلى مصعب وقال له ولأسعد: «ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ فقبل منه ذلك و سمع حديثه فانشرح صدره للذى سمع و طلب منه أن يعرض الأمر على سعد بن معاذ وأخبره أنه لو أسلم لم يتخلف أحد من قومه ففعل فانشرح صدر سعد بن معاذ للإسلام وأسلم قومه من الأوس بإسلامه و انتشر الإسلام في المدينة. ثم رجع مصعب بن عمير إلى مكة، وخرج ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان من الأنصار في موسم الحج فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية وانتدب منهم اثني عشر نقيبا.
    يقول "مايكل ليكر" في "تاريخ كامبردج للإسلام" أن التقلبات السياسية و العسكرية في "يثرب" قبيل الهجرة ساهمت في نجاح "محمد" هناك بوسائل لم تتضح بشكل تام بعد.
    إلا أن القرآن أشار إلى عاملين على جانب من الأهمية في هذا الشأن. أولهما أن العقلاء من الأوس و الخزرج ربما وجدوا في شخص النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته عاملا لإزالة الخلافات فيما بينهم وإنهاء الصراعات القبلية التي أنهكتهم. وقد كانت هناك محاولة قبيل الهجرة في هذا السياق بتنصيب "أبي بن سلول" ملكا على الأوس و الخزرج إلا أن الأوس و الخزرج رغبوا عن ذلك إلى الإسلام و دعوة النبي صلى الله عليه وسلم . و في هذا يقول سعد بن عبادة رضي الله عنه، لما شكا إليه النبي صلى الله عليه وسلم مقالة "أبي بن سلول"، : أي رسول الله بأبي أنت اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحرة (يعني المدينة) على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق (أي غص) بذلك فذلك فعل به ما رأيت. رواه البخاري (5854). وقد امتن الله عليهم بذلك بقوله في سورة آل عمران: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. (آل عمران: 103).
    و العامل الآخر هو أن اليهود كما تقدم في تفسير قوله تعالى: وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. كانوا يقولون: إن نبيا الآن مبعثه قد أظل زمانه. فكانوا يَسْتَفْتِحُونَ أي يستنصرون بهذا النبي, وتوعدوهم بخروجه, وأنهم يقاتلون المشركين معه. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم و سمع به الأوس و الخزرج ساعد ذلك على المبادرة إلى الإيمان به. وإذا علمنا أن ما يعرف "بمجمع جامينا" و الذى عقده أحبار اليهود فيما يزعمون في القرن الأول الميلادي للاتفاق على قائمة "الأسفار القانونية" يرى كثير من المؤرخين أنه لا حقيقة له وأنه، بحسب "مارك برتلر"، بخلاف "الأسفار الخمسة" و أسفار الأنبياء فإن الأسفار اليهودية الأخرى تباينت بشأنها الطوائف المختلفة فكل طائفة كانت ترى موثوقية في بعض الأسفار لا تراها الطوائف الأخرى.
    و الذى يعنينا في هذا المقام هو السفر المعروف "بصعود موسى" أو " عهد موسى" وهو ضمن ما يعرف "بأسفار الأبوكريفا" . يرجع تاريخ تدوين هذا السفر إلى مطلع القرن الأول الميلادي بحسب جمهور الباحثين إلا أن البعض يرجعه إلى عصر "أنطيوخس إبيفانيوس" و يرى أغلب الباحثين أن النص اللاتيني المتاح يحمل دلالات الترجمة عن أصل دُوِّن بلغة سامية إما بالعبرية أو الآرامية.
    وتكمن أهمية هذا السفر في مضمون الفصلين التاسع و العاشر منه لأنه يشي بعلم يهود المدينة بهذا السفر واعتقادهم بما فيه. حيث ورد في الفصل التاسع من السفر نبوءة بشأن أحد اللاويين (من سبط لاوي أحد أبناء يعقوب )الذى آوى هو و سبعة من أبنائه إلى "كهف" فرارا بدينهم. ويعتبر السفر تحقق هذه النبوءة علامة على المرحلة الأخيرة قبل مجىء "الرسول" و الانتقام من أعداء بني إسرائيل و التي يتناولها في الفصل العاشر.
    ويحدد السفر على لسان موسى الفترة بين وفاته ومجىء الرسول بـ 1750 عاما. و الكلمة الواردة في السفر في النسخة اللاتينية وهي أقدم نسخة متاحة للتعبير عن هذا الذى يجىء هي كلمة nuntius و التي تعني حرفيا "رسول" أو مبعوث. و كذلك العبارة الواردة في شأن "الرسول" : implebuntur manus تعني حرفيا "تُملأ يده" ويقصد بها : يعطى له منصب الكهانة أي يصير حبرا. و كذلك ورد في وصفه أنه ينصب قائدا.
    ولعل هذا يفسر سؤال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف لأنهم يعتقدون أن الرسول لا يظهر حتى تتحقق نبوءة أصحاب الكهف.

    المصادر

    THE NEW CAMBRIDGE HISTORY OF ISLAM. VOLUME 1. pp. 167-170
    Brettler, Marc Zvi (2005). How To Read The Bible. Jewish Publication Society. pp. 274–75
    Taxo" and the Origin of the "Assumption of Moses" Edna Israeli Journal of Biblical Literature Vol. 128, No. 4 (Winter, 2009), pp. 735-757
    Angels as Warriors in Late Second Temple Jewish Literature. pp. 118,119

  2. افتراضي

    تفصيل مسألة أصحاب الكهف
    أصحاب الكهف
    منشأ القصة
    هناك ثلاث أطروحات حول منشأ القصة و التي تعرف فى التقليد المسيحي بــ Seven Sleepers of Ephesus

    الأولى : أنها كتبت أولا باللاتينية ومنها ترجمت إلى اليونانية ثم لاحقا إلى السريانية وعن الأخيرة ترجم المؤرخ و القديس غريغوريوس التوري. و وفقا لهذه الأطروحة فالنسخة القبطية و الإثيوبية مترجمة عن اليونانية ( الأسطورة الذهبية ليعقوب دي فراغسي)
    الثانية: أنها كتب أولا باليونانية وهذا ما ذهب إليه المستشرق الهولندي" ميخيل يوهنا دى خويه" و " إرنست هونيجمان" وآخرون وأن مصدرها هو "ستيفانوس الأفسسى" أسقف أفسس حوالى منتصف القرن الخامس الميلادي (448م) ويؤيد ذلك المصدر المذكور فى الحاشية وأنها ربما نشأت فى "أفسس" بعيد مجمع أفسس الثاني.*
    الثالثة: أنها كتبت أولا بالسرياينة و أنها تطورت إلى نسخ يونانية ولاتينية وإلى هذا ذهب " ثيودور نولدكه " و آخرون. وهناك العديد من المؤرخين السريان الذين كتبوا عن القصة منهم زكريا الفصيح و يوحنا الأفسسي. كما دون يعقوب السروجي قصيدة من 72 بيتا عنها.
    و يدل تعدد المصادر و تعاصرها على أن للقصة أصل وليس أنها مجرد أسطورة كما يزعم الزاعمون حتى ذهب إرنست هونيجمان بناءا على الأدلة الأدبية و الأثرية أنه في منتصف القرن الخامس لابد وأن مجموعة من الفتية من أهل أفسس كانوا مقتنعين أو أقنعوا أهل أفسس أنهم كانوا نائمين بأحد كهوفها لمئات السنين. وتمكن باحثون أثريون من الجمعية النمساوية الأثرية عام 1927 من الكشف عن أطلال كاتدرائية بنيت على الكهف في مدينة أفسس التاريخية على بعد ثلاثة كيلومترات إلى الجنوب الغربي من مدينة سلجوق الحالية في محافظة أزمير بتركيا مصدقا لقول القرآن : فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا.

    الفترة المفترضة لحدوث القصة
    وفق يعقوب السروجي فإن الاضطهاد الذى دفع الفتية إلى الاختباء في الكهف هو الاضطهاد الذى وقع في عهد الأمبراطور دقيانوس (ديكيوس) منتصف القرن الثالث (250م) لكن القرآن يذكر أن الفتية لبثوا في الكهف ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا وهذا يرجع الأمر على أقل تقدير إلى الاضطهاد الثالث في عصر "تراجان" واستمر في عهد ابنه " هادريان" إذا علمنا أن القصة كانت متداولة منتصف القرن الخامس الميلادي.

    كلبهم أم كالئهم؟
    قراءة "و كلبهم باسط ذراعيه" هذه قراءة متواترة قرأ بها قراء الأمصار كافة على اختلاف بلدانهم بالأسانيد إلى الصحابة دون تواطؤ منهم ولم يقرأ أحد "كالئهم" على الأطلاق ولا حتى في القراءات الشاذة المخالفة للرسم العثماني فلا معنى للزعم بأنها تصحيف كما يزعم الملاحدة قبحهم الله. أما قراءة جعفر التى أوردها بعض المفسرين فهي" وكالبهم " أى صاحب كلبهم.

    هل الذى صحبهم ملاك أم كلب؟
    في قصيدة يعقوب السروجي اكتفى بالقول بأن الرب أخذ أرواحهم إلى السماء وترك "حارسا" ليحرس أطرافهم.
    بينما ذكر "ثيودوسيوس" في مطلع القرن السادس و يلقب بالزائر أو الحاج – و قد زار الكهف الذى اختبأ فيه الفتية في سياق رحلة حج ودون تفاصيل الرحلة في كتاب– أن الذى صحبهم كان كلبا وذكر أن إسم الكلب "فيريكانوس". *
    وهنا فلا مكان للزعم بأن النبي يمكن أن يكون قد اطلع على ما دونه ثيودوسيوس – بلغته اللاتينية- وما ذكره من اصطحاب الفتية لكلب معهم فقد غابت هذه الجزئية عن الكنيسة نفسها حتى تجد الأيقونات و الرواية المعتمدة لديهم لا ذكر لكلب فيها !
    سبب النزول
    سبب النزول المذكور فى قصة أصحاب الكهف رواه ابن اسحاق و في سنده رجل مجهول وآثار كهذه لا يصح الاستناد إليها قال ابن جرير الطبري : حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس .. إلخ
    و قال ابن إسحاق حدثني رجل من أهل مكة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، ... فذكر الخبر.
    إلا أنه وقع عند الطبري من طريق ابن اسحاق أيضا - كما تقدم - "شيخ من أهل مصر "
    قال ابن حجر العسقلاني فى "موافقة الخبر" : هذا حديث غريب لولا هذا المبهم لكان سنده حسنا لكن فيه ما ينكر وهو السؤال عن الروح ونزول الآية فيها وأن ذلك وقع بمكة والثابت في الصحيحين أن ذلك كان بالمدينة وقع مصرحا به في رواية ابن مسعود.

    كما أن كونها ليست من التراث اليهودي لا ينفي علم اليهود بها لاسيما وأن اليهود ربما رأوا فيها تحقق لأحد النبوءات المنسوبة إلى موسى الواردة فى أحد أسفار الأبوكريفا و الذى يسمي " صعود موسى" أو " عهد موسى" كما تقدم و الذى يرجع تاريخ تدوينه للقرن الأول الميلادي فى الفصل التاسع منه وفيها : وصف لرجل لاوي وأبنائه السبعة الذين اختبؤوا في كهف. (كما تقدم)
    و فى الفصل العاشر ربما بشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم و يحدد موسى الفترة بين وفاته و مجيء الرسول بـ 1750 عام فإذا علمنا أن موسى كان فى عهد رمسيس الثاني (ت 1213 قبل الميلاد) أو ابنه مرنبتاح، استنادا لكثير من القرائن ليس هذا موضع بسطها، فضلا عن الفترة التى عاشها موسى بعد هلاك فرعون - أقل من 40 عام فترة التيه - و إذا علمنا ان النبى صلى الله عليه وسلم ولد عام 571 ميلادية هذا يجعل وفاة موسى قبل ميلاد النبى بـ 1213 ( هلاك رمسيس الثاني أو فرعون موسى) - أربعون عام (كحد أقصى لوفاة موسى بعد هلاك فرعون) + 571 = 1744 عام أى تقريبا الفترة التى حددها موسى بحسب النبوءة وربما كانت وفاة موسى كانت قبل انتهاء التيه ببضع سنوات بما يجعل وفاته بالضبط قبل ميلاد النبي بـ 1750 عام.


    * المصادر : ص 496 و 1365 من قاموس :
    Oxford dictionary of late antiquity

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء