الوسائل والمسوغات الشرعية لتنظيم النسل وحكم تحديده
إعداد:بوودن دحمان حذيفة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
لا شك أنّ كثرة النسل من أسباب قوة الأمة وهيبتها واستغنائها عن غيرها، وقد أخبرنا الله تعالى عن الأقوام المترفة أنها كانت تتفاخر بكثرة أولادها، قال تعالى: "وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ" سبأ: 35، وفي المقابل فإنّ قلّة النسل يُفضي إلي ضعف الأمة وفنائها، لأنّ ذلك مدعاة إلى استباحة بلادهم وتجرؤ الأعداء عليهم. بخلاف كثرة العدد فإنه يرد بأس الأعداء كما جاء في قوله تعالى: "وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ" آل عمران: 167، فمعنى قوله "ادْفَعُوا" أي كثروا سوادنا وإن لم تقاتلوا معنا؛ فإنّ السواد إذا كثر حصل دفع العّدو، وقد جاء في الجامع لأحكام القرآن -4/266- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "رأيت يوم القادسية عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وعليه درع يجر أطرافها، وبيده راية سوداء؛ فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى! ولكني أُكثِّر سواد المسلمين بنفسي" فكثرة النسل من نعم الله العظيمة على عباده, حتى إنّ الله امتنّ بذلك على بني إسرائيل حيث قال: "وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا" الإسراء:6.
لكن ومع دخول البشرية عصر الثورة الصناعية وزيادة مشاغل الناس، بدأت أشكال الحياة تأخذ صوراً معقدة عمّا كانت عليه في السابق، فقد بدأت بعض الموضوعات تأخذ بعداً فلسفيا لطبيعة الحياة، ومن بين هذه الموضوعات قضية تنظيم وتحديد النسل، ففي الوقت الذي يرى فيه بعض الناس أنّ هذه القضية قديمة قدم الإنسانية يرى آخرون أنها فكرة حديثة، وأنها مرتبطة بالاستعمار الحديث لبلاد العالم الإسلامي الهادف إلى تقليص نسل المسلمين حتى تكون له القدرة على استعماره، فما هو مفهوم تنظيم النسل؟ وما الفرق بينه وبين تحديد النسل؟ وما هو موقف الإسلام من كليهما؟ وإذا كان الأمر مباحا فما هي الوسيلة المتبعة في ذلك؟ وهل نفهم من الأحاديث التي ترغب في الإنجاب أن نجعل الزوجة آلة للإنجاب والرضاع؟ وهل يتنافى تنظيم النسل لقلة الدخل مع التوكل على الله في جلب الرزق؟ وهل سيباهي النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة أطفالنا يوم القيامة إن لم يكن دينهم سليما؟
قبل أن نجيب عن هذه التساؤلات يجب أن نعرف ابتداء أنّ الحفاظ على النسل البشري من المقاصد الضرورية للشريعة الإسلامية، ولهذا حرمت شريعتنا كافة أنواع الاعتداء عليه، سواء بالقتل والإجهاض أو الانتحار ووأد البنات وغير ذلك. ومن جهة أخرى فقد رغبت الشريعة الإسلامية في النكاح والإنجاب تكثيراً للأمة الإسلامية وتحقيقاً لمباهاة النبي صلى الله عليه وسلم سائر الأمم يوم القيامة، حيث قال عليه الصلاة والسلام في ما رواه أبو داود وابن حبان والحاكم عن معقل بن يسار قال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ". ففي هذا الحديث حث صريح على تزوج المرأة التي تنجب الأولاد، ولكن لا دلالة فيه على تحريم تنظيم أو تحديد النسل كما يدعي البعض. إلاّ أننا نقول أنّ السعي للحصول على الذرية أمر فطري، فقد فطر الله العباد علي محبة الأولاد، حتى إنّ الأنبياء دعوا الله أن يرزقهم الذرية الصالحة، فقد ذكر الله تعالى عن نبيه زكريا عليه السلام: "وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ" الأنبياء:89، ومن دعاء عباد الله الصالحين قولهم: "رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً" الفرقان:74.
ولهذا حضّ الإسلام على الزواج وذم التبتل، فقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود قال: قال رسول الله: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغُضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" وفيه أيضا عن سعد بن أبي وقاص قال: "رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا". وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ: أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ كَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ" ومعلوم أنّ الجماع يتولد عنه الحمل والإنجاب. وقد جاء في السنن الكبرى للبيهقي - 7/79 - عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "والله إني لأُكره نفسي على الجماع رجاء أن يُخرجَ اللهُ مني نسمة تسبِّحُ اللهَ".
ولما كان الحكم عن الشيء فرع عن تصوره، كان لزاما أن نبيّن المراد بقولنا تنظيم النسل، فهذا المصطلح يطلق على عملية المباعدة لفترة الولادة بين كلّ طفل وآخر لمصلحة يتّفق عليها الزوجان، ولهذا لمصطلح مرادفات أخرى مثل: تنظيم الأسرة، والأبوّة المنظمة، أو التّحكّم في الخصوبة.. ونحن وإن لم نجد مصطلح "تنظيم النسل" في كتب الفقه القديمة إلا أنّ له ما يقابله وهو العزل.
وقد أشار الله تعالى إلى إباحة تنظيم النسل في القرآن الكريم حيث قال تعالى: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ" البقرة: 233. ففي هذه الآية إشارة لطيفة إلى إباحة تنظيم النسل بترك فترة بين الحمل والآخر حتى يفطم الولد الأول، إلا أنّه قد ورد في السنَّة ما يدل على إباحة وطء الزوجة في فترة الإرضاع، وهذا الوطء قد يتولد عنه حمْلٌ، فقد روى الإمام مالك في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد هممتُ أنْ أنهى عن الغِيلة حتى ذكرتُ أنَّ الرومَ وفارسَ يصنعون ذلك فلا يضرُّ أولادَهم" والغيلة هي مجامعة الرجلُ امرأتَه وهي مرضع. لكن النبي صلى الله عليه وسلم راعى المشقة التي تحصل باعتزال الرجل زوجة في حالة الرضاعة لمدة قد تصل إلى سنتين فأباح الوطء.
وأمّا تحديد النّسل فيقصد به وضع حد أعلى لعدد الأولاد الذين ينجبهم الزوجان، فإن كان هذا التحديد بقرار عام من الحكومة فلا يجوز طاعتها في ذلك؛ لأنه يعارض توجيه الإسلام إلى تكثير النسل؛ وأمّا إن كان القرار خاصا بزوجين معينين فينظر سببه، فإن كان السبب طبيا كتضرر المرأة من الحمل، وثبت ذلك من قبل طبيب حاذق أمين فلا بأس بذلك. وأما إذا لم توجد حاجة حقيقية، وإنما قصد الزوجان الاكتفاء بعدد محدد من الأولاد وكان هذا عن تراض منهما، فهذا لا يخلو من كراهة شديدة كما قال علماءنا عليهم الرحمة؛ لأنه يقوم على مبدأ رفض ما أنزل الله تعالى من نعمة الأولاد، ثم إنّ هذا الذي يحدد نسله لا يدري عاقبة الأمور، فقد يموت ما عنده من الأولاد ويبقى بلا أولاد، لكن الذي اتضح لي من خلال هذا البحث أنّ تحديد النسل ليس حرام إن كان على المستوى الفردي؛ لأنّ الزواج في أصله غير واجب، ومادام ترك الزواج وإيثار العزوبة ليس بمحرم، فلا نحكم على فرع متولد عنه وهو تحديد النسل بالحرمة، ولكنه يبقى ترك للأفضل وخلاف للأولى.
وبخصوص وسائل تنظيم النسل فهي كثيرة ومتنوعة، وقد كانوا قديما يستعملون العزل، وهو إراقة المني خارج الفرج لئلا تحمل المرأة، وهذا لا محذور فيه على أصح أقوال العلماء، فقد ثبت في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: "كُنّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ فَبَلَغَه ذَلِكَ فَلَمْ يَنْهَنَا" فعدم إنكار الرسول الله عليهم دلّ ذلك على جوازه، ويقاس على العزل وسائل التنظيم الأخرى، ومنها: طريقة الحساب: حيث يتم تحديد أيام الإباضة، ويتجنب الزوجان الجماع ثلاثة أيام قبلها وثلاثة أيام بعدها، ولكن هذه الطريقة لا تجدي نفعا إلا مع النساء ذوات الدورة المنتظمة فقط.
ومن الوسائل: الواقي الذكري والأنثوي حيث يوضع قبل الجماع على العضو الذكري للرجل أو داخل المهبل للأنثى، مما يمنع إفراز الحيوانات المنوية داخل المهبل ويعيق وصولها إلى عنق الرحم. ومن الوسائل الحديثة لتنظيم النسل: اللولب الرحمي، وهو آلة مصنوعة من البلاستيك، يتم زرعها داخل الرحم، وذلك لمنع الأجنة من الانغراس فيه، حيث تعيق التصاق البويضة بجدار الرحم، ويمكن إزالتها بسهولة عند الرغبة بالحمل. ومن وسائل التنظيم أيضا: حبوب منع الحمل، حيث تعمل هذه الحبوب على إبطاء عملية الإباضة وإيقافها، وذلك عن طريق أخذ جرعة من هرموني البروجيسترون والإستروجين من أجل تثبيط هرمونات الغدة النخامية، وبالتالي إيقاف نمو البويضات. ولكن هذه الطريقة قد تحمل معها أضرارًا جانبية، فقد تسبب تغييرات في الحالة النفسية للزوجة وزيادة وزنها وكذلك حدوث اضطرابات في الدورة الشهرية وارتفاع احتمالية الإصابة بسرطان الثدي، بالإضافة إلى انتفاخ في المعدة ووجع في الرأس وارتفاع في مستويات هرمون الحليب. وعليه فيجب الأخذ بأسهل الوسائل وأقلها ضررًا، فلا يصار إلى اللولب أو الحبوب مع وجود البديل؛ لأنّ الاطلاع على العورة من غير ضرورة محرم.
وأما تنظيم النسل أو تحديده باستعمال دواء أو عمليات تقطع النسل بالكلية، كتعقيم المرأة عن طريق استئصال الرَّحِمِ أو استئصال المبايض أو قطع الطريق الواصل بين البويضة والحيوان المنوي، أو تعقيم الرجل عن طريق الاستخصاء "اسئصال البروستات" أو بقطع القناة الناقلة، مما يمنع الحيوانات المنوية من الخروج إلى السائل المنوي، فهذا لا يجوز قولا واحدا عند العلماء، لأنّ الإنسان مؤتمن على هذه الأعضاء التي أعطاه الله إياها وليس مالكاً لها، كما أنَّ في ذلك تغييرٌ لخلقِ اللهِ تعالى، وهو محرَّمٌ كما قال تعالى في بيانِ ما يدعو إليه إبليسُ:"وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ" النساء:119. وهو أيضا من كفران النعمة التي أنعم بها الله على عباده، وهي اعتداء صارخ على مقصد مهم من مقاصد التشريع وهو "حفظ النسل". ولكن إذا قرَّر الأطِبَّاءُ أنه يُخشى مِن الحمل الهلاك أو إذا كان بقاء تلك الأعضاء مُؤدِّيًا إلى هلاك البَدَن، فيجوز نَزْعِها بناء على الأخذ بأخَفِّ الضررين.
وبناء على ما سبق فقد اعتبر العلماء حالات كثيرة تسوّغ للمسلم تنظيم نسله، فمن ذلك: استبقاء حياة المرأة خوفا من خطر الولادة وذلك لضعفها وتضررها بالحمل، أو لكون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء ولادة قيصرية لإخراج الجنينن، أو أنها تحمل قبل فطام طفلها الأول فيحصل بذلك ضرر على طفلها، ففي مثل هذه الحالات يكون تنظيم النسل جائزا بل مستحبا لأنه من باب الوقاية والعلاج.
ومن النيات الصالحة في تنظيم النسل رغبة الزوج في الاسمتاع بزوجته فترة من الزمن دون أولاد، وكذلك رغبة المرأة في المحافظة على جمالها لتستمتع بحياتها ويستمتع بها زوجها في الحلال، لأنّ المرأة التي تلد كثيرا تفقد الكثير من رشاقتها. وأما إذا كان الدافع لتنظيم النسل هو الافتتان بطريقة عيش المجتمع الغربي حيث تقتصر الأسرة على أب وأم وولدين ثم تصور مسلسلاتهم التلفزيونية على أنّ الأسرة المثالية هي تلك التي تكون على هذا الحال! فإن كان هذا هو الباعث لتنظيم النسل فلا شك في عدم جوازه لعموم النهي عن التشبه بالكفار. كما لا يجوز وقف النسل خوفا من إنجاب البنات، لأنّ هذا من فعل أهل الجاهلية، فإن قال: أنا أعيش في مجتمع أوروبي وأخاف على بناتي من الفساد، فقد قال العلماء أنّ الهجرة من تلك البلاد واجبة في حقه إن كان مستطيعا وإلاّ فليتق الله قدر المستطاع. وأمّا من علم من نفسه أنّه لن يستطيع القيام بتربية الأبناء إن أنجبهم، فقد قال العلماء بوجوب العزل قياساً على تحريم الزواج على من علم أنّه لن يقوم بحقوق الزوجة ولن يعاملها بالمعروف، لأنّه لا ضرر ولا ضرار.
وأما تنظيم النسل خوفاً من ضيق الرزق، فهذا يشبه من بعض الوجوه ما كان يفعله أهل الجاهلية من قتل أولادهم خشية الفقر، فالعلة واحدة، قال تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ" الأنعام: آية 151. وفيه إساءة ظن بالله عز وجل، لأنّ الرزق بيد الله عز وجل، فما من مولود يولد إلا وقد قدر له رزقه. ونحن لما نقول هذا الكلام يجب أن ندرك بأنّ الرزق لا ينال إلا وفق سنن الله، نعم تقوى الله كفيلة بفتح أبواب الرزق على العبد، لكن التقوى لا تعمل بشكل تلقائي، بل تستلزم الأخذ بالأسباب، كما قال عمر رضي الله عنه:" لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة" وعليه فإنّ من ينظم نسله بحجة أنّه لا يريد أن يرهق نفسه في طلب المعيشة، أو أنه يخاف أن يدخل مداخل السوء، حيث إنّ ضيق الرزق يؤدي به إلى أن يتساهل في أمور دينه ويقبل الشبهات.. فقد توصلت من خلال هذا البحث أنْ ليس في ذلك بأسا لأنّ قلة الحرج معين على الدين، وقد أرشد الله تعالى الرجل إلى الاكتفاء بزوجة واحدة حتى لا تكثر عياله إن كان لا يقوى على النفقة، قال تعالى: "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا" النساء:3. وقديماً قالت العرب:" قلة العيال أحد اليسارين" يعني اليسار إما أن يكون من كثرة المال أو من قلة العيال.
وتجدر الإشارة هنا إلى النظرية التشاؤمية لروبرت مالتوس في القرن التاسع عشر، هذه النظرية التي تقول إنّ النسل يتزايد ومع مرور الزمن ستقل الموارد وتنتشر المجاعات حتى يقتل الناس بعضهم بعضاً! والحق أنّ الله تعالى حينما خلق هذه الأرض بارك فيها وقدر فيها أقواتها، وضمن الرزق لكل حي، قال تعالى:"وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا" هود: 6، فالمشكلة ليست في ندرة الموارد، وإنما في ظلم الإنسان لأخيه، فكلما تقدم العلم اكتشفنا وسائل أخرى للمعيشة أحسن من السابق كمّا ونوعا، فبعد أن كان الإنسان يزرع مرة في السنة صار يزرع مرتين، وهذا من دلائل حكمة الله وعظيم عنايته بمصالح عباده. والغريب في الأمر أنّ الدول التي تدعو إلى تحديد النسل بدعوى عدم كفاية الغذاء هي ذات الدول التي ترمي بالمواد الغذائية في البحر لئلا ينزل سعر هذه المواد عن القيمة التي حددتها هذه الدول. فلماذا نفكر بتقليل النسل ولا نفكر بزيادة إنتاج المواد الغذائية؟.
وختاما نقول: إنّ تنظيم النسل هو مصلحة للأسرة جميعا، فهو مصلحة للأب حيث أنّه يستمتع بزوجته، ومصلحة للأم حيث أنها تجد فرصة لترتاح فيها بين حمل وآخر، وكذلك هو مصلحة للولد القديم حيث أنه يأخذ حقه من الحنان والاهتمام، ثم هو مصلحة للمولود الجديد حيث يجد الوالدين متلهفين على حضوره، فالمهم أن تكون الغاية شريفة والوسيلة مشروعة، وأن يكون قرار تنظيم النسل ناتجًا عن تشاورٍ وتراضٍ بين الزوجين، على اعتبار أنّه حقّ مشترك بينهما. ونحن لما نقول أنّ الأمة الإسلامية بحاجة إلى تكثير النسل بهدف الحفاظ على وجودها، فلا ينبغي أن يكون ذلك على حساب النوع الفاضل، فالشريعة الإسلامية لا تريد نسلاً ضعيفاً لا قيمة له بين الأمم، بل تريده نسلاً قوياً في إيمانه، قوياً في جسمه، فقد أخرج أحمد وأبو داود بإسناد حسن عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: "تُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كثير ولكنكم غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وكراهية الموت" وعليه فإنّ الدعوة إلى الإكثار من النسل لابد من تقييدها بصورة تُمكّن الأبوين من تربية الأولاد حسب مقاييس الإسلام، لأنّ المباهاة والمفاخرة لن تكون إلاّ بالكثرة الصالحة.
فأسأل الله تعالى أن يرزقنا الذرية الصالحة السوية وصلى الله وسلم على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.