النبي في ضوء تقليد و أسفار بني إسرائيل
هذا المقال ليس الغرض منه إقناع غير المسلمين بأن أسفار بني إسرائيل تنبأت بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم فضلا عن إقامة الحجة على نبوته بذلك لكن لتوضيح أن الطرح القرآني بأن النبي صلى الله عليه سلم تنبأت به أسفارهم لا يمكن نفيه لوجود إشارات تنطبق عليه وأنه لا يوجد في تراثهم ما يتعارض - بما لا يدع مجالا للتوفيق - مع نبوته.
أولا: في معنى النبي المذكور في الثنية 18.
يظن البعض أن النبي المقصود في سفر التثنية 18 هو نبي بعينه، لكن السياق يدل على خلاف ذلك وإلى هذا ذهب الحاخام "شلومو يتسحاقي" Shlomo Yitzchaki - وغيره - في تفسير الفقرة 15 من نفس الإصحاح من أن المقصود أنه نبي يخلف نبي وهكذا دواليك.
فهو يقول أولا: إِنَّ هؤُلاَءِ الأُمَمَ الَّذِينَ تَخْلُفُهُمْ يَسْمَعُونَ لِلْعَائِفِينَ وَالْعَرَّافِينَ. وَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ يَسْمَحْ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هكَذَا.
فلأجل هذا الغرض : يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ.
ثم لأنه فِي حُورِيبَ يَوْمَ الاجْتِمَاعِ قال شعب إسرائيل: لاَ أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِي وَلاَ أَرَى هذِهِ النَّارَ الْعَظِيمَةَ أَيْضًا لِئَلاَّ أَمُوتَ.
لذلك قال الرب: أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ.
فقوله وسط إخوتهم لا يختص ببني إسرائيل كما في التثنية 2 : أنتم مارون بتخم إخوتكم بني عيسو (التثنية 2/4)
وعليه فهذا النبي قد يكون منهم أو من غيرهم ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: كَانَت بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي، وسَيَكُونُ بَعدي خُلَفَاءُ فَيَكثُرُونَ. متفق عليه
والنبي عليه الصلاة و السلام أولى بالمقارنة بموسى عليه السلام من أنبياء بني إسرائيل كافة والذين لم يكن فيهم نبي مثل موسى بحسب سفر التثنية ( 34 في الفقرة العاشرة).
تقول دائرة المعارف البريطانية Britannica تحت مادة "اليهودية" Judaism : مثل "محمد" في صدر الإسلام فقد تقلد موسى وظائف التنبؤ و التشريع و التنفيذ و قيادة العمليات العسكرية.
ثانيا: في الأمة التي تخلف بني إسرائيل.
لأجل أن بني إسرائيل أغضبوا الرب وعبدوا من دونه آلهة مصنوعة فقد توعدهم أن يستبدلهم بأمة أخرى يرونها أدنى منزلة منهم فقد ورد في الثنية 32 : هَيَّجُوا غَيْرَتِي بِعِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ، وَأَسْخَطُونِي بِأَصْنَامِهِمِ الْبَاطِلَةِ. لِذَلِكَ سَأُثِيرُ غَيْرَتَهُمْ بِشَعْبٍ مُتَوَحِّشٍ، وَأُغِيظُهُمْ بِأُمَّةٍ حَمْقَاءَ.
وفي تفسير "الأمة الحمقاء" أو الغبية يزعم الحاخام "شلومو يتسحاقي" أن هؤلاء يقصد بهم "المهرطقون" !
إلا أن مفهوم الاستبدال هو ما يوحي به النص. ويشهد لذلك أن اللفظ المستخدم في التعبير عن "الأمة" في قوله الأمة الغبية هو גֹּי gôy والذي بحسب معجم Brown-Driver-Briggs يعنى أمة من "الأممين" من غير الإسرائليين لاسيما الأمم المنحدرة من إبراهيم.
وبالنظر إلى الواقع فلا يوجد أمة أولى تنطبق عليها تلك الأوصاف من العرب في الجاهلية. ومن هذا الباب قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ.
ثالثا: في أن النبي غير المسيح.
اليهود كانوا ينتظرون نبيا يختلف عن المسيح ومن شواهد ذلك الآتي:
1- النص الذي في الثنية 18 الذي يتكلم عن وعد الرب بإرسال نبي مثل موسى.
2- ما ورد في إنجيل يوحنا من أن بعض الكهنة سألوا يوحنا المعمدان : «مَنْ أَنْتْ؟» فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ، بَلْ أَكَّدَ قَائِلاً: «لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ». فَسَأَلُوهُ: «مَاذَا إِذَنْ؟ هَلْ أَنْتَ إِيلِيَّا؟» قَالَ: «لَسْتُ إِيَّاهُ!». «أَوَ أَنْتَ النَّبِيُّ؟» فَأَجَابَ: «لا!».
أما قولهم " هل أنت إيليا" فهو استنادا لسفر ملاخي الإصحاح 3 العدد 23 من أنه قبل مجىء المسيح يأتي إيليا أولا. أما "النبي" يدل على أنهم في زمان عيسى عليه السلام كانوا ينتظرون نبيا قبل مجىء المسيح ويؤيد ذلك النقطة التالية.
3- فقد جاء في "تعاليم يعقوب" في الكتاب الخامس الفقرة 16 وهي وثيقة ترجع للعام 634 ميلادية وقد عاصر كاتبها فتح المسلمين للشام: عندما قتُل "سرجيوس" قائد الجيش البيزنطي في فلسطين على يد العرب كنت فى "قيسارية" و أبحرت منها في قارب إلى تل شيكمونة. وكان الناس يقولون أن قائد الجيش البيزنطي في فلسطين قد قتل و نحن "اليهود" كنا في غاية الفرح. وقد كانوا (أي اليهود) يقولون أن النبي قد ظهر, قادما مع العرب وأنه كان يعلن مجىء المسيح الذى كان يُنتظر مجيئه. ويؤيد ذلك النص المدراشى " أسرار الحاخام شمعون بن يوحاي" الذي يرجع للقرن الثامن والذي يصور مجىء النبي – مع إقراره بنبوته - و الفتح العربي على أنه خلاص لبني إسرائيل. وظل هذا التصور حتى أيام "موسى بن ميمون" والذي وإن كان لا يسلم بنبوة النبي إلا أنه يرى في ظهوره تمهيد لمجىء المسيح. (Melachim uMilchamot - Chapter 11)
وإن كان موسى بن ميمون يرى أنه لا يحق لأي أحد يضيف وصايا أو يغير شىء في شريعة التوراة وأن من يدعي ذلك ليس بنبي، فرأي موسى بن ميمون هذا لا اعتبار له بل هو مجرد تنطع وتحكم في مقابل الإسلام ليس أكثر.
إذا كيف لا يمكن إضافة وصايا؟ هل أصلا الشريعة المنصوص عليها في سفر توراة موسى تفي بحاجة اليهود في كل زمان ومكان؟ ألم يكن الأحبار ومنهم ابن ميمون نفسه يضعون لهم قواعد وقوانين تعالج الأمور المستجدة التي لم تتعرض لها شريعة التوراة؟
وعلى خلاف ما زعمه من أن التقليد اليهودي ليس منفتحا على تعديل بعض شرائع التوراة فذهب طائفة من أحبار اليهود أن الطعام الذي حرم على بني إسرائيل لدى دخولهم إلى الأرض المقدسة سيأتي اليوم الذي يباح فيه مستقبلا (Midr. Teh. to Ps. cxlvi. 7)
رابعا: في أن الأنبياء لا يلزم أن يكونوا من بني إسرائيل.
حتى بحسب التقليد اليهودي لا يلزم لصحة النبوة أن يكون من بني إسرائيل ووما يدل على ذلك أن النبي "أيوب" في أحد الرأيين في التقليد اليهودي - وإن كان خطأ في نفس الأمر - هو من أنبياء الأمم على ما ورد في كتاب " سدر أولام رباح" Seder 'Olam R. xxi. ويشهد لذلك ما تقدم أيضا في الفقرة السابقة. ومن ذلك أيضا اعتبار ناتانئيل الفيومي في كتابه "بستان الحقول" أن النبي هو نبي للعرب باعتبار أن الله يرسل أنبياء بأديان للأمم الأخرى.
Bookmarks