مسألة صلب المسيح



النص القرآني الوارد في شأن صلب المسيح وهو قوله تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (سورة النساء).

يشير لمسألتين الأولى هي افتراء اليهود على السيدة مريم و الثانية هي زعمهم أنهم قتلوا المسيح.

وافتراءهم على مريم وارد في "التلمود". Sanh. 67a

وادعوا زورا وبهتانا فيه أن مريم لم تكن مخلصة "لزوجها" وحملت به من غيره ووصفوها بأنها مريم مضفرة (مجدلة) شعور النساء و بالآرامية Miriam megaddela [sei'ar] neshaiya

وهو ما يشي بحسب البعض إلى الخلط (المتعمد!؟) بين مريم ومريم المجدلية وعلم الكاتب أن المجدلية كانت عاهرة (قبل أن تتوب). لأن المجدلية نسبة إلى قرية المجدل و التي يعني اسمها حرفيا البرج ܡܰܓ݂ܕ݁ܠܳܐ MGDLA وفعل جدل و لفظ مجدل من نفس الجذر ܓܕܠ gdl و في العربية المِجْدَل : القصر العالي.



والنصارى لم ينتبهوا إلى تلك الفرية إلا في العام 1240 ميلادية فيما يعرف بمحاكمة التلمود.‏ هي محاكمة جرت في فرنسا في عام 1240 في عهد الملك لويس التاسع. جاءت هذه المحاكمة نتيجة لسعي نيكولاس دونان، وهو يهودي اعتنق المسيحية. وقام بترجمة التلمود مبينا مواضعا منه تسيء إلى مريم وعيسى عليهما السلام وإلى الديانة المسيحية. وعرض هذا اليهودي عمله على البابا غريغوري التاسع.

كما أن افتراءهم عليها وارد في سيرة بديلة للمسيح دونها بعض اليهود وتسمى Sefer Toledot Yeshu وفيها زعم اليهود قبحهم الله أنه ابن سفاح من أحد جنود الرومان.

أما عن قتله فكان جواب القرآن: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ. وكون ذلك رد على زعم اليهود يعني أن قتله وصلبه هو ما قصده اليهود بأنهم قتلوه رجما ثم علقوه على خشبة لأنه مارس السحر وضلل الشعب. وقد نادى مناد في الناس لأربعين يوما قبل إدانته إن كان أحد لديه سبب لتبرئته فليتقدم لكن المحكمة لم تجد مبررا لتبرئته. والمناداة لأربعين يوما كانت استثناءا لانه في زعمهم كان على صلة وثيقة بالسلطات و التي كانت لديها رغبة في تبرئته كما ورد في التلمود Sanh. 43a

وإلى هذا أشار القرآن بقوله: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (المائدة)

وبحسب الأناجيل فقد تم القبض على المسيح وحوكم أمام مجمع السنهدريم وكان بمثابة المحكمة العليا لليهود ووجهت إليه تهم التجديف و السحر والتهديد بتدمير الهيكل وانتهاك حرمة السبت. ولكون التهمة التي أدين بها وفق الشريعة اليهودية وهي "التجديف" لا يأخذ بها القانون الروماني، كان عليهم أن يقدموا تهمة سياسية لقتله، لذلك عمدوا خلال لقائهم مع بيلاطس الحاكم الروماني للتأكيد على كون المسيح إنما هو ثائر ومعادي للقيصر.

لكن التساؤل ههنا لماذا يسلم أصلا إلى الحاكم الروماني في حين أنه كان من صلاحيات السنهدرين حتى خراب الهيكل إيقاع عقوبة الإعدام على المدانين بها من اليهود. خاصة أن الرومان لا ناقة لهم ولا جمل في قتله. والأناجيل نفسها ذكرت أن بيلاطس قالها صراحة: لا أجد ذنبًا في هذا الإنسان. ولكونه جليليًا أرسله إلى هيرودوس أنتيباس ملك الجليل وأعاده أنتيباس إلى بيلاطس مجددًا دون أن يبدي حكمًا فيه. وبعد أن اتضخ لبيلاطس براءة المسيح من التهم التي ألصقها به اليهود أخذ بيلاطس ماءً وغسل يديه أمام الجمع وقال: أنا بريء من دم هذا البار. والتلمود نفسه زعم أنه قتل رجما أولا ثم علق على خشبة بما يتوافق مع وسيلة الإعدام في الشريعة اليهودية. فهذا يلقي بظلال من الشك على الروايتين. قال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا

معنى وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ:

لم يرد نص صحيح ألبتة في تفسير قوله تعالى "شبه لهم" وكل ما يذكر في هذا الباب أخبار أهل الكتاب من النصارى على ما ذكر المفسرون. لكن المقطوع به وفقا للقرآن أن المسيح لم يقتل ولم يصلب وأن اليهود ظنوا أنهم فعلوا ذلك على تشككهم.

لكن هناك شواهد من خارج الأناجيل و التلمود على صلب المسيح و هي شهادة المؤرخ اليهودي يوسيفوس والتي ترجع للعام 93 ميلادية و شهادة المؤرخ الروماني تاسيتوس 116 ميلادية.

وهذا يدل على أنه على الأقل قد شاع بين الناس أن بيلاطس قام بصلب المسيح. لكن النص القرآني لا يدع مجالا للقول بصلب المسيح ولا لقتله بأي طريقة على الحقيقة لكنه يدع مجالا للقول بأن ذلك قد شاع بين الناس لدرجة أن اليهود ظنوا ذلك، لكن ذلك لا حقيقة له.

والذي يبدو لي مما يتضح من المصادر المسيحية و اليهودية أن السلطات الرومانية ليس فقط لم يكن لها ناقة ولا جمل في قتل المسيح بل لم يكن لديها رغبة في ذلك بل رغبت في تبرئته وإطلاق سراحه لكن الحاكم بيلاطس البنطي تعرض لعملية ابتزاز ويشهد لهذا ما ورد في إنجيل يوحنا من أن الْيَهُودَ لما طلب أن يطلقه كَانُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ: إِنْ أَطْلَقْتَ هذَا فَلَسْتَ مُحِبًّا لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَلِكًا يُقَاوِمُ قَيْصَرَ.

لكن هل من الراجح أن بيلاطس استجاب لابتزاز اليهود وقام بصلب المسيح حقا؟ أم أنه دبر الأمر ليبدو هكذا؟ خاصة في ضوء كلام التلمود عن "الصلات الوثيقة بين المسيح والسلطات الرومانية" ؟ وهو ما يمكن ترجمته إلى التعاطف من قبل السلطات المحلية.

وما يعطي لهذا الافتراض معقولية هو زعم أحد آباء الكنيسة في القرن الثاني"ترتليانوس" أنه شاهد بنفسه تقارير رفعها بيلاطس للإمبراطور الروماني "تيبيريوس" بشأن محاكمة المسيح فيها ما يشي بأن "بيلاطس في ضميره كان مسيحيا" وقد أشار "يوستينيوس الشهيد" من قبله إلى تلك التقارير المتعلقة بمحاكمة المسيح. إلا أنه إذا صح ما ذكره ترتيليانوس يمكن أن يستشف من ذلك أن السلطات الرومانية المحلية ممثلة في "بيلاطس" كانت متعاطفة بالفعل مع المسيح ضد اليهود ولذلك ربما هم من دبر الأمر كي يبدو وأنه صلب على أن يطلق سراحه فيما بعد.

ولا يمكن أخذ جميع التفاصيل التي سردتها الأناجيل في سير المحاكمات وتنفيذ الصلب على أنها تاريخية وواقعية وإلا لزم من ذلك التسليم بأن المسيح بعد أن صلب قام من الأموات وشاهده تلاميذه وكلمهم وكلموه. وتفسيرها بأن تلك فبركات يعنى أن بقية التفاصيل لا تسلم من الفبركة أو تفسيرها بأنها رمزية يعني أن بقية التفاصيل يمكن أن تفهم بمعنى رمزي و تفسيرها بأنها "هلوسة جماعية" الأولى منه تفسيرها بأن المسيح أصلا لم يقتل ولم يصلب وأنهم شاهدوه بعد أن أطلق سراحه سرا وأنه ظل متخفيا من وقتها ولا يظهر لعوام الناس بل لخاصته منهم فقط.

وأنا وإن كنت لا أجزم بأي شيء من ذلك إلا أنه طرح معقول ويتوافق مع النفي القرآني البات لقتل المسيح وصلبه.

وللأستاذ أحمد ديدات كتاب يعرض فيه لرؤية ما يعرف بفرضية الإغماء لتفسير ظهور المسيح بعد صلبه المفترض. وهي بمعنى أنه وضع على الصليب لكن أصيب بفقدان الوعي حتى أوهم ذلك من حوله أنه مات فأنزلوه وكفنوه ووضعوه في قبره وهو لا يزال حيا. وأنه يشهد لذلك أن يوسيفوس ذكر أنه على علم بثلاث أشخاص وضعوا على الصليب وتم إنزالهم أحياء ونجى واحد ومات اثنان منهم فيما بعد. غير أن هذا الطرح يتعارض مع ظاهر القرآن من أنه لم يصلب فضلا عن كونه لم يقتل.